غزة تحاصركم
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 4 - 9].
المشهد نفسه يَتَكَرَّر عبر العُصُور، والحرب هي هي، إن تغيَّرت في أشكالها ووسائلها وأشخاصها، فإنَّ مضمونها واحد، إنها حرب العقيدة، فئة مؤمنة بالله، ثابتة على الحق، يقابلها طغام كافرون، يجدون فيها تهديدًا لحكمهم، وقصْمًا لجبروتهم، وحربًا على الباطل، الذي تقتات منه، طغام يتَصَرَّفون في مقادير البلاد والعباد، وقد تناسوا أنَّ للكون خالقًا مدبِّرًا قويًّا عزيزًا، والله يشهد على هؤلاءِ وأولئك، وشهادة الله ترخي بظِلالها على المؤمنين، فتزيدهم يقينًا وطمأنينة، وتتوعَّد المجرمين بأنَّ انتقام الله قريب، وبَطْشه شديد.
فالمَلِكُ وأعوانه الذين قذفوا بالمؤمنين - في وقت منَ التاريخ بعد نبي الله عيسى ابن مريم - في الأخاديد المشتعلة، تَتَكَرَّر نسْختهم في الحمَم، التي تطلقها طائرات الصهاينة، مرتكبة أبشع المجازر في حقِّ شعبٍ أعزل؛ إلا من إيمانه بالله.
وفي الموقف العربي الرسمي المتواطئ، الذي استذلّت كبرى دوَلِه المجزَّأة صهيونيةٌ حاقدة - وزيرة الخارجية في حكومة الكيان الصِّهْيَوْني تسيبي ليفني - بإعلانها الحرب، وبإطلاقها التهديدات في عقر عاصمتها.
وأيضًا في الموقف الدولي الذي يطالب الضَّحيَّة بالكَفِّ عن إرهابها، علىحماس أن توقف إطلاق الصواريخ في الوقت الذي تغرق فيه غزة بدماء أبنائها، وفي التأييد الأمريكي الظالم اللامحدود.
وفي مشاركة السلطة الفلسطينية في هذا المهرجان الإجرامي بالتآمُر مع مختلف الأطراف العربية والدولية، وفي تخاذل رئيسها الذي لم تُؤلمه مشاهد الدماء والأشلاء، ولم تصبه الاستغاثات بالصمم؛ لأنَّ أمله باستعادة سيطرته على غزة - ولو على أشلاء شعبه ودمائهم - ما انقطع.
وكلهم يخشون ما خَشِيه "صاحب الأخدود الأول"، تحكيم شريعة الله، الجريمة العظمى التي ترتكبها حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، وقد حان الوقت لإسدال الستار على فصلٍ ظنّوا أنه ينتهي سريعًا، فخابت ظنونهم، وخافوا من تَكرار التجربة في الشرق الأوسط، فسعوا جميعًا لقَتْلها في مهدها، قبل أن تكبر ويتعاظم مدّها؛ ليقضي على عروشهم ومخططاتهم.
هذه هي القصَّة الكاملة، قصة غزة المحاصرة المحترقة، التي تَحَوَّل أهلُها إلى أشلاء مشتعلة، وإلى أرقام طالعتْنا الفضائيات بها، ففتَّت قلوبنا، وحمَّلتنا المسؤولية للقيام بما يعذرنا أمام الله، قصة شعبٍ لم تستذله التهديدات، ولم تُخضِعه المراهنات والمساوَمات، فأذاقه الطغيان المعاصر من العذاب أشكالاً وألوانًا.
وهنا يلح عليَّ سؤالٌ أوجِّهه لـ"شيخ الأزهر":
هل أتاك أيها "الإمام الأكبر" نبأ مجزرة غزة، بعدما غاب عنك حصارها؟ وهل ستصافح المجرم "بيريز" مرة أخرى إن قابلتَه "صدفة" في أحد أروقة مؤتمر آخر لـ"حوار الأديان"؟ وهل ما زلتَ تحتفظ بيدك التي صافحتْ مَن أُغرقت يده بدماء المسلمين؟ طهّر الله الأزهر، وهيّأ لقيادته إمامًا ترتعد من هيبته فرائص المعتدين.
فإلى تلك الجموع المحتشدة لمشاهدة حفل الإبادة الجماعية لأهالي غزة، نقول:
أردتم حصار غزة وإحراقها، فإذا بها تحاصركم، وتُريق مياه وجوهكم، وتحرق مواقفكم وهياكلكم، فتعرِّيكم بصمودها، وبثبات أبنائها على عقيدتهم، وعلى مبدئهم وتمسّكهم بحقِّهم وبخياراتهم، ألم ترَوا إلى الراحلين عن دُنياكم، كيف ارتفعتْ سبَّاباتهم بشهادة الإسلام، فقضتْ على كل أمل لكم بزعزعة إيمان هؤلاء؟ وما بدَّلوا تبديلاً، كلكم يَتَهاوَى، ويبقى صاحب العقيدة حرًّا شامخًا منتصرًا متعاليًا على جراحاته، لا يضرّه مَن خذله، ولا مَن تآمر عليه؛ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22]، يقول الشهيد - بإذن الله - سيد قطب: "فالحياة ليست هي القيمةَ الكبرى في الميزان، وليست هي السلعةَ التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلَبَة الظاهرة، إنَّ القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإنَّ السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإنَّ النصرَ في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الآلام، وانتصار الإيمان على الفتنة".
بفضْل الله، انتصر هذا الشعب المبدِع على المؤامَرات، وخرج من قلْب النار، ومن قيد الحصار؛ ليلتفَّ مجدَّدًا حول الحركة الإسلامية التي صُنِع على عينها، وردّ عمليًّا - بصورٍ كثيرة من ثباته وصبره - على مَن راهن على انهياره بتجفيف منابع الحياة ومقومات البقاء وبالموت والدمار، وأدهش العالَم وهو يعلنها مدوية: الله غايتنا، الرسول زعيمنا، الإسلام ديننا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فغاظ المتربِّصين، وصفع المراهِنين، وشفى صدور قومٍ مؤمنين؛ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30].
إِنِّي كَمِثْلِ النَّخْلِ يَبْقَى شَامِخًا *** لاَ يَنْحَنِي وَكَذَلِكَ الأَحْرَارُ
أَصْلِي فِلَسْطِينِي وَفَرْعِي بِالذُّرَى *** فَوْقَ النُّجُومِ وَدُونَهَا الأَقْمَارُ
وَطَنُ الصُّمُودِ وَمَا كَبَتْ فُرْسَانُهُ *** إِنَّ الجَوَادَ وَإِنْ كَبَا جَرَّارُ
إِنِّي فِلَسْطِينِي وَإِنِّي صَابِرٌ ** صَبْرَ الأُسُودِ وَحَسْبِيَ القَهَّارُ
هذا ما أنشده القائد المجاهد إسماعيل هنية - حفظه الله - في كلمة مهرجان انطلاقة حماس الـ21، التي نسأل الله لها أن تبقى خِنجرًا في خاصرة الصَّهاينة، وشوكةً في عيون المتواطئين، وأن تخرج من هذه الفتنة أكثر صلابة وشموخًا، وأقوى إيمانًا ويقينًا بالله، وثقةً بالمنهج الرباني الذي تُحارَبُ من أجله، وأشد رسوخًا في أرض "غزَّة"، وفي قلْب الأمة الإسلاميَّة.
فيا أيها المسلمون:
إنّ درس غزة مليءٌ بالعِبَر، وأهمها: أن صاحب القضية يسترخص الحياة في سبيل قضيته، ويعمل من أجلها، ويُضَحِّي كي تحيا وتسود، ولو على حساب حياته؛ الدرس عينه الذي تعلَّمناه من هجرة النبي وأصحابه، فِرارًا بدينهم إلى حيث التمكين، وبعد هذا العِلْم تبقى الترجمة العمليَّة تغييرًا جذريًّا للواقع على صعيد الفرد والأمة، يبدأ بإعادة النظر في أنماط تفكيرنا، ولا ينتهي إلا في المسجد الأقصى.
ويا أيها المسلمون:
مَن كان له سهمٌ في نُصرة هذه القضية الإسلامية، فسيحتفل فرحًا بانتصارها مع مَن قدَّم ونَصر، وسيجد حُجَّة يقدِّمها بين يدي الله، ومَن تخاذَلَ وقصَّر، فليس له بين المنتصرين مكان، وستأكله الحسرة، وسيُسأل يوم القيامة عن إخوانه، وكيف لبَّى نداءاتهم، فليجهِّز الجوابَ منَ الآن.