غزة.. المحرقة والبطولات وداء النسيان
محتويات
غزة.. المحرقة والبطولات وداء النسيان
بربك بماذا يمكن تسمية ما يجري في غزة حالياً؟ شعب أعزل، محصور بين جدران فصل وقيود إذعان، مجوع بلا ماء ولا غذاء، ومحاط بعروبة خائبة، لا أمل فيها أو منها سوى مزيد من التبعية والانصياع، يتعرض لكل ألوان السحق والقهر، ومن كل النواصي والجهات.
مساجد، ومشافي، ومدارس، وجامعات، وبيوت آمنة، ومسعفون، وسيارات إسعاف، وأطفال رضع وصبية، وشيوخ ونسوة، حتى مقابر الأموات لم تسلم، الكل تهدم، وأصبح هدفاً لآلة حرب عنصرية لا ترحم، ولجيش "دفاع" بل دمار، منزوع الضمير الإنساني ومنزوع الأخلاق.
قنص، وسحل، وهدم، وحرق، وتفجير وتهجير، ومعاني وكلمات أصبحت مفردات أساسية في حديث أهل غزة اليومي، وما أكثر ما تم إبادته منهم أو دفنه حياً وعمداً تحت الأنقاض. أما قوت من بقى، فقد بقي في الحجارة والدموع ونداءات الاستغاثة لعالم أبكم وأصم، أصبح لا يقوى على شيء سوى الانفصام والازدواجية.
الحصيلة حتى لحظة كتابة هذه السطور، قرابة ألف شهيد وأكثر من أربعة آلاف جريح، لكن ماذا عن كم الأنفس المحطمة؟ ماذا عن كلفة الدمار وخيبة الأمل في عدالة القضية؟ وماذا عن بؤس الرجاء من عربان المنطقة ومن الأخوة الأشقاء؟
لا يمكن تسمية هذا بأنه مجرد "هجوم" أو "قتال" كما يحلو لبعض فضائياتنا وكتابنا، بل الأحرى أنه حملة تطهير عرقي منظمة، أو حرب إبادة جماعية، أو محرقة نازية جديدة، أو قل ما تشاء. وليس الهدف حماس، كما يشاع، بل هو شعب غزة وأرضها وقضيتها الأزلية، وإلا كيف نفسر، كون نصف الضحايا ونيف من الأطفال والنساء؟ وكيف نفسر استهداف المدارس والمشافي وبقية عناصر البنية الأساسية ومعالم المدنية على تلك الأرض الأبية؟
امتهان آلة الحرب الإسرائيلية لحقوق وحدود الأمة العربية، ليس بجديد على الإطلاق. فكم من مذبحة ومجزرة ومحرقة ارتكبتها تلك الآلة الغاشمة بحقنا من قبل؟ وكم من مرة أعيانا الضعف وقلة الحيلة والروح الانهزامية على دحر القائمين عليها أو حتى على استجلاء العبر منها؟
نرجو ألا يكون لمحرقة غزة نفس المآل، ونرجو أن تتوقف ذاكرتنا ولو قليلاً عند تفاصيلها وأحداثها، فهناك ثمة حقائق وذكريات، وإن كانت مريرة، يجب أن تؤرخ وتوثق، كي لا يطويها داء النسيان، ويتكرر بالتبعية نفس الحدث.
المحرقة.. حقائق وأرقام
أمامنا مجموعة من الحقائق المدعمة بالأرقام والإحصائيات تشير بما لا يدع مجالاً للجدل بأن ما جرى في غزة هو حرب إبادة حقيقية أو هولوكوست جديد، بل أقسى وأسوأ من هذا بكثير.
أولى هذه الحقائق استخدام آلة الحرب الإسرائيلية في عدوانها البري والجوي والبحري ضد المدنيين العزل لأسلحة وقذائف محرمة دولياً، واستخدامها كذلك مادة الفوسفور الأبيض وهي مادة حارقة كاوية، محظور استخدامها دوليا في المواقع المدنية بنص اتفاقية جنيف لعام 1980.
توحش جيش الاحتلال لم يقف عند هذا الحد، إذ تحول الأمر إلى نهج متعمد ومنظم بداية من اليوم الرابع عشر للمحرقة وربما قبل ذلك، يجرى فيه استخدام كل المحرمات الدولية، ومن ضمن ذلك غاز خانق جديد لم يسبق استخدامه من قبل، وهذا بشهادة مراقبي منظمة "هيومن رايتس ووتش" وعدد آخر من المنظمات الأخرى المعنية بحقوق الإنسان.
وثانيها تعمد مخالفة وانتهاك قوات الاحتلال وقادتهم لكافة الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، من خلال استهدافها للمدنيين الأبرياء والمنازل الآمنة والمشافي والمساجد ومدارس "أونروا" والجامعات، وأيضاً من خلال منع الطواقم الطبية والمسعفين من أداء عملهم، فضلاً عن تعمد قنصهم وتصفيتهم.
التقديرات حتى الآن تشير إلى استهداف 17 مسجداً، وقنص وجرح 51 من الطواقم الطبية، فضلاً عن قصف 11 عربة إسعاف، وكل هذا تحت مسمى حركي هو القضاء على المقار العسكرية والبنية التحتية لحماس.
الإدانة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان العالمي للانتهاكات الإسرائيلية "السافرة" (بنص القرار)، وموافقة أعضائه على تشكيل لجنة دولية لتقصي ما جرى وما يجري بقطاع غزة، لها دلالة واضحة وتعتبر إقراراً واضحاً ببشاعة الجرم الإسرائيلي.
وثالثها تعمد قوات الاحتلال الصهيوني منع وصول الإمدادات الغذائية والطبية اللازمة لسكان غزة المحاصرين، من خلال إقدامه على فصل شمال القطاع عن جنوبه، ومن خلال ممارسة ضغوط سياسية مباشرة وغير مباشرة على الموقف الرسمي لمصر، وبشكل دفع الأخيرة لتشديد الخناق على معبر رفح، حتى أمام المساعدات الغذائية والمؤن الطبية.
وقد كان من نتيجة ذلك، توحش الأزمة الغذائية في غزة بشكل كبير، واقتراب شبح المجاعة من عدد كبير من أهلها، وبدرجة دفعت عائلات كثيرة فيها للاقتيات على أوراق الشجر. يا إلهي هل هناك أقسى من ذلك؟ وهل بقي هناك بعد هذه المحرقة خضرة أو شجر؟
بيد أن كل ذلك لا يساوي قسوة وبشاعة المذابح والمجازر الوحشية التي أقدم على تنفيذها جيش الاحتلال الإسرائيلي، بتعمده هدم وسحق المنازل الآمنة على رؤوس من فيها، ليتم بذلك إبادة عائلات بالكامل من خريطة الوجود، ومنها عائلة الشهيد نزار ريان وعوائل بعلوشة في جباليا، وبكر في شرق غزة، وأبو عيشة في مخيم الشاطئ، والسموني في حي الزيتون، وغيرهم. لا يوجد بين أيدينا حالياً إحصاء دقيق بعدد المنازل المهدمة، ولا بإجمالي مساحة الأراضي أو المزارع التي تم قصفها وتبويرها، لكن قسوة القصف وتواصله، ينبئان على أية حال بأن الخراب قد استشرى في كل أجزاء القطاع.
أما الخسائر المادية الناتجة عن القصف والتدمير المتواصل، فتقدرها اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار في غزة بعد نهاية الأسبوع الثاني من بدء المحرقة، بنحو ملياري دولار أميركي، يضاف إليها مليار دولار آخر كلفة الحصار المفروض، فضلاً عن خسائر أخرى شهرية نتيجة توقف حركة الصناعة والتجارة وبقية القطاعات الأخرى في القطاع.
تلاحم شعبي وبطولات
إن المرء ليذهل حقا من مقدار التنكيل والترويع والسحق والتدمير الواقع على أهل غزة، كما يذهل من مقدار شيفونية وسادية قوات الاحتلال، وقدرتها على سفك الدماء وارتكاب كل هذه الانتهاكات والجرائم الإنسانية.
لكن الدهشة الأكبر تنبع حقيقة من ذلك الإباء والشموخ المشهود لشعب غزة، ومن تجاوزه لصدمة الرعب التى حاول "الرصاص المصبوب" تحقيقها، ومن قدرته على الصمود والتحمل والتحدي رغم نقص وانتقاص كل شيء من حوله، بدءاً من الماء والغذاء والدواء وحتى الأكفان وثلاجات حفظ الموتى.
بل إن المرء ليعجب أكثر وأكثر من تلاحم صفوف ذلك الشعب، ومن البطولات المتحققة على أرضه وبواسطة أبنائه العزل، رغم كل عوامل الشتات من حوله.
عمار أبو عاصي شاب نحيف (18 عاماً لا أكثر) من خان يونس، يجسد أحد هذه البطولات. لم يأبه عمار، ولم يرتعد أمام هدير الطائرات المتربصة بإخوانه من رجال المقاومة، ولا بحركة الآليات المدرعة المتأهبة لدك حصون أولئك الرجال، فأقدم مثل عشرات غيره من الصبية والشباب، في مشهد أصبح معتاداً، على إشعال بعض إطارات السيارات بغرض خلق سحابة من الدخان، تعمي عيون العدو، وتحول بينه وبين قنص أولئك المقاتلين الشرفاء، بيد أنه تم استهدافه -كما يحكي مراسل الجزيرة نت أحمد فياض- بقذيفة غادرة أدت في النهاية إلى جرحه ومن ثم بتر ساقيه.
لا يمكن أن نستوعب أيضاً ثبات تلك الأم الثكلى في أطفالها الخمسة، سميرة بو عسكر، حينما تقرر بعزة وجلد أن أولادها وروحها فداء للوطن، وأن العدو مهما فعل لن يستطع قهر إرادة غزة أو تركيع أهلها. ولا استيعاب كذلك مشهد ذلك المواطن الغزاوي المكلوم في أبنائه وعشيرته، حينما علق بإباء أمام كاميرات التصوير، بأن إسرائيل مهما فعلت لن تنال من الشعب الفلسطيني، وأنها لن تستطيع سوى القضاء على الحجارة، ولا أكثر.
نقطة أخرى لا أستطيع تجاهلها عند الحديث عن التلاحم الشعبي في غزة وصبر وجلد أهلها، وهي تتعلق بإيمان ذلك الشعب بالقدر، وبقناعة أفراده بحكامه وقياداته، إذ لم نر أو نسمع من أي من المنكوبين ممن أظهرتهم أو استضافتهم شاشات التلفزيون، تبرمه من الابتلاء الواقع أو تبرمه من سياسات حماس، رغم أن هذا أمر متوقع في مثل هذه المواقف.
ناهيك عن صور التلاحم الأخرى، من تقاسم كسر الخبز القليلة المتاحة، واستضافة أسر كثيرة، رغم ما تعانيه من ضيق وعوز، للعائلات المنكوبة، وغير ذلك من صور التلاحم الرائعة والشائعة بين أهل غزة.
لسنا هنا في مجال استعراض أو تقييم بطولات رجال المقاومة المسلحين، سواء من حماس أو الجهاد أو غيرها، لأن المخفي منها أكثر من المعلوم، ولأن تركيزنا منصب أساسا على المواقف البطولية لشعب غزة الأعزل، لكننا لا نستطيع مع ذلك إغفال الإشارة إلى تلك النقلة النوعية الحادثة في أسلوب المقاومة وفي تكتيكات العمليات المنفذة، وآخرها نجاح كتائب القسام بعتادها البسيط، في اليوم الرابع عشر من المحرقة، في قنص 12 جنديا إسرائيليا، دفعة واحدة، من خلال كمين محكم نصب لهم في بيت لاهيا.
كي لا تُنسى المحرقة
أخشى ما أخشاه أن تضعف ذاكرة الأمة مجدداً، لتنسى أو تتناسى عظم الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحق غزة، والتي لا تمثل حرب الإبادة الجماعية الدائرة ولا المحرقة المشتعلة فيها وفي أهلها حاليا سوى إحدى حلقاتها المستعرة والمتواصلة.
ستنتهي هذه الحرب من دون شك، إن عاجلا أو آجلاً، كمثل الاعتداءات والانتهاكات الواقعة علينا سابقاً، كما سيعاد يوما ما بناء وتعبيد الأبنية والطرق المهدمة، بحيث لا يبدو ظاهراً من أثر الجرائم المرتكبة شيء.
وسوف يستمر أيضاً نمط الحياة والإحساس العربي كأن شيئاً لم يكن، على الأغلب على نفس تبلده وغفلته الحالية، وهذا هو أبشع أنواع الظلم للنفس وللأجيال القادمة. لذا فليس أقل من العمل على تأريخ كل ما حدث وكل جرائم العدو، لا افتراضيا أو إلكترونيا فقط، بل عمليا وميدانيا من خلال جمع كل الشهادات والوثائق والصور المتاحة أمامنا، وليكن في متحف مستقل، يعرض ويوثق كل الجرائم الصهيونية المرتكبة. إسرائيل تبث لقطات لغاراتها على غزة على موقع "اليوتيوب" الشهير، في محاولة لتوجيه رسالة دعائية عن قدرة جيشها على سحق كل من يحاول تدميرها. لماذا لا نفعل شيئاً مشابهاً، وإن كان بطريقة موثقة ومنظمة؟
أعتقد أنه آن الأوان لأن نبحث تفعيل هذا الأمر، فما أقدم عليه العدو هذه المرة، أبشع كثيراً مما يحكى ومما تعرض له اليهود أنفسهم من قبل، بمحارق الهولوكوست النازية (بفرض حدوث ذلك فعلاً).
يجب ألا نكون أقل فطنة أو دهاء من قتلتنا الذين سوقوا كثيراً لمعتقلات الجيتو وللهولوكوست، محققين من وراء ذلك مكاسب تاريخية وإستراتيجية ومادية عديدة.
ليس هناك شك في أن دماء وأسماء ضحايانا من الشرفاء والأبرياء، أشرف وأعز كثيراً من تلك الدماء الممقوتة. لذا أكرر وأقول بأنه ليس أقل من تذكير العالم بما ارتكب بحقها، وليس أقل من تخليد عبق دمائها الطاهرة.
النصرة الواجبة
بعيداً عن فكرة توثيق جرائم المحرقة، لسنا بحاجة للقول بأن نصرة شعب غزة وفلسطين واجبة، بل تعد فرض عين في مثل هذا الظرف، الذي فاقت وحشية العدو الإسرائيلي فيه كل وصف.
وهذا لن يتأتى إلا بالجهاد سواء بالنفس أو المال أو الجهد، فإن لم يكن فبأضعف الإيمان، وهو الدعاء لأهل غزة ومد لهم يد العون، وحث الحكومات على اتخاذ موقف أكثر إيجابية، تجاه غزة وتجاه القضية عموماً. بيد أنه يجب ألا تتوقف جهودنا أبدا عند مجرد الدعاء أو مصمصة الشفاه أو ذرف الدمع. هذا جيد، لكن غزة محتاجة الآن ولا شك لكل عمل ثاقب وفاعل.
فإن لم يكن بمقدور أي منا هذا، فلا بأس حينئذ من تذكير الأخوة في غزة وفلسطين بدعاء المصطفى (صلى الله عليه وسلم) المعروف، حينما شعر في موقف مماثل بهوانه على الناس وتملك العدو منه، قائلاً "اللهم أنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ ربُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إَلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الكَرِيمِ".