لماذا سيصبح حزب العدالة والحرية والتنمية التركى الزعيم القادم للشرق
سلطان العالم الإسلامي
سونر كاجابتاي[1]
مترجم للألوكة من اللغة الإنجليزية
ترجمة: شريف بهاء الدين
قد تكون " تركيا " أجدر دُوَل العالَم استحقاقًا لتوصيف مفهوم "دولة إسلاميَّة"؛ حيث خاضَتْ على مدى تاريخها الممتدِّ عديدًا من الْحُروب من أجْل المسلمين، وعلى يد المسلمين في سِيَاق تاريخيٍّ فريد لا يشابِهُها فيه إلاَّ باكستان ؛
فقد استقرَّ بِ تُركيا ملايين المسلمين من الأتراك وغيْر الأتراك الفارِّين من حَملات الاضطهاد والتَّعذيب التي تعرَّضوا لها في أوربا وآسيا والقوقاز، ومع سقوط الدَّولة العثمانيَّة بنهاية الحرب العالَميَّة الأولى، نزح الْمُسلمون من كافَّة أرجاء الإمبراطوريَّة للانضمام للأتراك في مواجهة العدوِّ المسيحي، والذي تشكَّل من قوَّات الْحُلفاء إضافةً إلى الأرمن واليونانيِّين، ومنذ ذلك الحين نَجح هذا التَّوازُن في الْهُويَّة التُّركية بين المكوِّنَيْن؛ الإسلاميِّ من جانب، والعلماني القوميِّ من جانب آخر، في توجيه دفَّة السِّياسة الخارجية التُّركية.
ظلَّ الدِّين يُمثِّل الْهُويَّة الوَطنيَّة البارزة المتدفِّقة إلى ما بعد الحِقْبة العثمانية.
على سبيل المثال:
ما حدث في عشرينيَّات القرن الماضي عندما قامتْ كلٌّ من اليونان و تركيا بإجراء عمليَّة تبادُلٍ للسُّكان الأقليَّة كجزء مِن تسوية الصِّراع اليوناني - التُّركي، حيث قامت تركيا بِتَسليم المسيحيِّين الأَرْثوذكس المتحدِّثين بالتركية من الأناضول في مُقابل المسلمين المتحدِّثين باليونانية من جزيرة كريت.
مع ذلك فإنَّ الْهُويَّة التُّركية ليستْ مبنيَّة فقط على الإسلام، فمنذ عشرينيَّات القرن الماضي، ومع وصول مصطفى كمال أتاتورك لسدَّة الحكم كأوَّل رئيسٍ ل تُركيا ، سعى الكماليُّون للتأكيد على البُعْد القوميِّ كَبُعد توحيديٍّ، وذلك بتأسيس نَمُوذج حضاري ديمقراطي غرْبِي، لا يقوم على الدِّين وحْدَه، بل يتَّسع لجميع الأتراك، وتَحوَّل النَّمُوذج الوطني التُّركي إلى العلمانيَّة بتحوُّل المواطنين إلى النَّموذج الغربي مع التمسُّك بدينهم إذا أرادوا ذلك.
وهكذا نَجَح الكماليُّون في توجيه السِّياسة الخارجيَّة ل تركيا شَطْر الغَرْب لِمدَّة امتدَّت من عشرينيَّات القرن الماضي حتَّى بدايات هذا القرن، تبنَّت فيها النُّخبة والأحزاب السياسيَّة التُّركية سياساتٍ خارجيَّةً مُوالية للغَرْب، وصارت عُضوًا في حِلْف (النَّاتو)، وقاب قوسَيْن أو أدنى من عضوية الاتِّحاد الأوربِّي.
ولكن اليوم بدأ الإرث الأتاتوركيُّ في التصدُّع، فمنذ عام 2002 بدأ حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلاميَّة في الكشف عن الْهُويَّة الإسلاميَّة ل تركيا ، وإذا كان البعض اعتقد في البداية أنَّ إبراز حِزْب العدالة والتنمية للمُكَوِّن الإسلاميِّ في الشَّخصية التركيَّة لن يأخذ البلاد بعيدًا عن الغرب، وإذا كان البعض الآخر قد ذهب أبعد من ذلك بإعلان تركيا نَمُوذجًا إسلاميًّا ديمقراطيًّا، فإنَّ التَّجاوُبَ مع فكرةِ ما يُعرف سياسيًّا بالعالَم الإسلامي في أعقاب أحداث الْحادي عشر من سبتمبر - جعل الدَّولة ذات الْهُويَّة الإسلاميَّة تتبنَّى نظرةً للعالَم، مُستوحاة من نظريَّات هنتنجتون عن صِدَام الحضارات.
وأدَّى ركوبُ حِزْب العدالة والتنمية لِمَوجة المشاعر الْمُعادية للغرب التي اجتاحَتِ العالَم الإسلاميَّ مع غزْوِ العراق عام 2003، إلى فُتور علاقاتتركيا مع الغَرْب، وسعَتِ الدَّولة التُّركية إلى إعادة وضْعِها كزعيمة للعالَم الإسلامي، وقامت بتشجيع وجهة النَّظر الشاملة الْمُنادية بـ: (نَحن "المسلمون" في مقابل هم "الغرب")، على حساب مُرونة تركيا التاريخيَّة.
وقد أجْملَ هذا الوضْعَ " أحمد داود أوغلو " وزير خارجيَّة تركيا ، المنتمي لِ حِزْب العدالة والتنمية، في كتابِه "العُمْق الإستراتيجي"، والذي أكَّد فيه على أن "علاقات تركيا الجيِّدة مع الغَرْب هي شكل من أشكال العزلة".
وبدون أدنى شكٍّ، لم تَجِد عدائيَّةُ حزب العدالة والتنمية تُجاه الغرب صدًى عند الشَّعب التُّركي، إلاَّ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والْحروب التي تلَتْ ذلك، ونَجَح حزْبُ العدالة والتنمية في التأطير لِغَزو العراق كهَجْمة غربيَّة على المسلمين، بِما فيهم الأتراك، والتَّجذير ل تركيا في مُعَسكر العالَم الإسلامي، كما نجح حزْبُ العدالة والتنمية بعد ثَماني سنوات من تولِّيه الحكم - والَّتي تعد مدَّة طويلة وغيْر مألوفة في الحياة السِّياسية التركيَّة، بل والأطول على الإطلاق في تاريخ الديمقراطية التُّركية، إذا ما تَمكَّن الحزبُ مِن تكرار الفَوْز بالانتخابات العامَّة الْمُقبلة في يونيو 2011 - في ترجمة أفكاره إلى سياسات واقعيَّة على الأرض؛ إذْ قام الحزب بزرع قُضاة متعاطفين معه بالمَحاكم العليا بعد فوزِه باستفتاء مَنْحه سُلْطة تعيين كبار القُضاة دون الحاجة إلى تصديقٍ مِنَ البَرلمان.
كذلك سعى الحزب إلى تقليص دور الجيش في شؤون الحكومة، ورغم أنَّ هذه الخطوة تبدو مفيدةً للعمليَّة الديمقراطية، إلاَّ أنه قد ثبت عكْسُ ذلك، فقد استغلَّت الحكومة قضيَّة "أرجينيكون"، وهي كلمة تَرْمز لِمُنظَّمة وطنيَّة زعم أنَّها كانت تدبِّر لانقلاب، كذريعة للانقضاض على المؤسَّسة العسكريَّة والقبض على المناوئين السياسيِّين وتَحْييد الْمُعارضة.
كذلك أدَّى استخدامُ الْحُكومة لأجهزة تنَصُّت غيْر قانونية ضدَّ المنتقدين لَها إلى بثِّ حالةٍ من الخوف في المناخ العامِّ للبلاد، وأصبح السجن هو المصيرَ المَحتوم لكلِّ مُعارض لسياسات الحزب الحاكم، وليس أدلّ على ذلك من إلقاء القبض مؤخَّرًا على حنفي أوسي رئيس الشُّرطة الذي اشتهر بنجاحاته في مدَّة الثمانينيَّات في استئصال شأفة الشُّيوعيِّين من منطقته، بِتُهمة الانتماء لخليَّة شيوعيَّة بعد أيَّام من نَشْر مذكِّراته التي انتقدت الأساليب الإرهابيَّة لِحِزب العدالة والتنمية.
ومنذ أمَدٍ غيْر بعيد توقَّع عديدٌ من المراقبين عودةَ المؤسَّسة العسكريَّة إلى سالف عهْدِها كحارسٍ للهُويَّة الوطنية العلمانيَّة التُّركية، بعد أن خرجَتِ السِّياسة التركيَّة عن السيطرة وتَجاوزَتْ كُلَّ الحدود، إلا أن حِزْب العدالة نجح في تعزيز سيادته لا سيَّما بعد نجاحه في تعديل تسلْسُل تولِّي السُّلطة للقيادة العليا بالجيش، وإخضاع المؤسَّسة العسكريَّة لِسُلطانه وسُلْطتِه بشكْل كاملٍ، بل ودعمه في تنفيذ مهمَّته القيادية الجديدة للعالَم الإسلامي.
ففي أكتوبر الماضي، وقفَتِ المؤسَّسة العسكريَّة صامتةً أمام مُعارضة حزب العدالة والتَّنمية لِمَشروعات حِلْف النَّاتو بإقامة دِرْع صاروخي لأغراض دفاعيَّة ب تركيا ، الأمر الذي يعنِي أنَّ إيران و سوريا أصبحا لا يُمثِّلان أيَّ تَهديد في نظَر الحِزْب، كذلك هناك العديد من الدَّلائل على تَخلِّي المؤسَّسة العسكريَّة عمَّا اعتادْتَ عليه لفترات طويلة من حرمان الضُّباط الإسلاميِّين من المراكز القياديَّة، مِمَّا يُمهِّد الطريق لأسْلَمَة قاعدةٍ عريضة لثاني أكبر جيشٍ في حلف الناتو.
وتَمضي عمليَّة التأييد الشعبِي حيثُ يَمضي حزب العدالة والتنمية ؛ فقد جرَتِ العادة منذ عهد التَّحديث الذي قاده سلاطين العثمانيِّين اضطلاع النُّخبة بِمَسؤوليَّة تَحديد الثَّقافة السياسيَّة الَّتِي ينبغي للشَّعب أن يتبنَّاها.
ولا شكَّ أن حزبَ العدالة والتنمية بِما يمتلكه من "كوادر" مؤلَّفة من مليارديرات الإسلاميِّين، والشخصيَّات الإعلامية البارزة، ومؤسَّسات الفِكْر والرأي والجامعات، هو المؤهَّل الأَوْحد على الساحة التُّركية للقيام بدور النُّخبة التي تُمْسِك بِمِقْوَد عقليَّة الشَّعب التُّركي؛ فقد أكَّد اقتراعٌ أجرَتْه مؤخَّرًا المؤسسةُ التُّركية للدِّراسات الاقتصاديَّة والاجتماعية TESEV - وهي منظَّمةٌ غيْرُ حكوميَّة، مقَرُّها إسطنبول - أنَّ عددَ الأتراك الذين يعرفون أنفسهم كمُسْلمين قد تزايد بنسبة 10 % بين عامَيْ 2002 و 2007 ، وأنَّ نصف هذا العدد يصنِّفون أنفسهم كإسلاميِّين، مِمَّا يعني اعتقادهم بأنَّ هذه الإيديولوجيَّة المتعصِّبة هي التي ستحلُّ مَحلَّ الديمقراطية العلمانيَّة في توجيه النِّظام السياسي التركي، ويُعدُّ هذا تَحوُّلاً مطلقًا عن رؤية أتاتورك التي تنظر إلى الأتراك باعتبارهم غربيِّين وعلمانيِّين سياسيًّا، وإسلاميِّين في نفس الوقت.
لقد كان العديد من الأتراك يعتقدون في الماضي أنَّهم يتَشاطرون القِيَم والْمَصالح مع الغرب، وأنَّ التعاون مع "الناتو" والولايات المتَّحدة والاتِّحاد الأوربي مفيدٌ لبلادهم، لكن بعد صُعود حزب العدالة والتنمية ، وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر وحَرْب العراق، طرأَتِ العديدُ من التغيُّرات، فطِبْقًا لتقرير التوجُّهات العابرة للأطلسيِّ لعام 2010، يَشْعر 55 % منَ الأَتْراك بأنَّ قِيَم تركيا تَخْتلف عن الغرب، لدرجةٍ أصبحت معها تركيا دولةً غيْر غرْبيَّة، ورغم أنَّ 73 % من الأتراك قد أكَّدوا عام 2004 بأنَّ عضويَّة الاتِّحاد الأوربي أمرٌ جيِّد، فقد تراجعَتْ هذه النِّسبة عامَ 2010 إلى 38 % فقط.
وبحسب "مشروع بيو للتوجُّهات العالَميَّة" الصَّادر مُؤخَّرًا، والْمُنذِر بالْخَطر، فإنَّ 56 % من الأتراك يَعْتبرون الولايات المتَّحدة تُمثِّل تَهْديدًا عسكريًّا، وتناسبَت الرغبة في التَّعاون مع الشَّرق الأوسط طرديًّا مع تنامي مشاعر التوجُّس ضدَّ الغرب، حيث يُشير تقرير التوجُّهات العابرة للأطلسي إلى أنَّ 20 % منَ الأتراك يرغبون في زيادة التَّعاوُن مع الشَّرق الأوسط مُقارنة بـ 10 % عام 2009.
ولكن يُثار تساؤلٌ في الوقت الحاضر: إذا كان حِزْب العدالة والتنمية يؤكِّد على الْهُويَّة الإسلاميَّة ل تركيا ، ويوطِّد نفسه داخليًّا كزعيمٍ للعالَم الإسلاميِّ، فهل العالَمُ الإسلاميُّ مستعدٌّ لقبول هذه الزعامة؟
الحقيقة أنَّ تركيا هي الأنسب والأمثل للقيام بِهذا الدَّور، فبالإضافة إلى مَكانتها التَّاريخية كمركز للدَّولة العثمانيَّة، الوريث الشَّرعي للخلافة الإسلامية، فإنَّها لا تَزال تَمْتلك أكبَر اقتصاد وأقوى جيشٍ في العالَم الإسلامي، ولكنْ يبقى الكثيرُ لدى حِزْب العدالة والتنمية للقيام به من أجْل إقناع الدُّوَل الإسلامية بأنَّ تركيا هي سلطانُهم الشرعي، فإذا كانت بعضُ النُّظُم كالنِّظام السُّوري المتطلِّع إلى مُسانِدٍ إقليميٍّ جديد وقوي، على استعدادٍ لقبول الزَّعامة التُّركية، فإنَّ دُولاً أخرى ك الْمَملكة العربية السُّعودية و مِصر قد تكون أكثر إحجامًا؛ لأنَّهما يَعْتبران نفسيهما مركزًا للعالَم الإسلاميِّ، ولكن بوجْه عامٍّ يَبْدو أنَّ حزب العدالة والتنمية يتمتَّع بشعبيَّة هائلة في القاهرة ودمشق.
وأخيرًا، هناك العديد من الدُّول الإسلاميَّة غيْر العربيَّة تروِّج لأشكالٍ أخرى من الإسلام السِّياسي، ولديها أفكارها الخاصَّة عمَّن يَمْتلك الْحقَّ في التحدُّث نيابةً عن العالَم الإسلاميِّ، ولكي يتمكَّن حزْبُ العدالة والتنمية من كَسْب تأييد هذه الدُّوَل، ودَعْم موْقفه في الشَّرق الأوسط المتوجِّس، فإنَّ القضايا الإسلاميَّة ستكون هي الأداة الْمُثْلى التي سيُعَوِّل عليها الحزب لتوطيد نفْسِه بين الشُّعوب الإسلاميَّة، فقد يُعلن مثلاً تضامُنَه مع حَماس - وليس السُّلطة الفلسطينيَّة العلمانيَّة - لتأجيج الْمشاعر تُجاه إقامة دولة فلسطينيَّة ذات سيادة.
كذلك قد يُهاجم الحزبُ بِعنفٍ السِّياساتِ الأوربيَّةَ تُجاه المهاجرين المسلمين، ويعترض صراحة على سياسات الولايات المتَّحدة الَّتِي لها علاقة بالمسلمين، مثل: الصِّراع الإسرائيلي الفلسطيني، والنِّزاع في السُّودان و إيران .
وحتَّى الآن لَم يُكتب النَّجاح للعديد من الْمجهودات التي يبذلُها حزب العدالة والتنمية من أجْل الدِّفاع عن القضايا الإسلاميَّة العالَميَّة، مثل: مُحاولته الفاشلة الصَّيف الماضي للقيام بِدَور الوسيط للتوصُّل إلى اتِّفاق نوويٍّ بين إيران والغَرْب، وإذا كانت تركيا حتَّى الآن لَم تُفْلِح في إقناع بقيَّة دول العالَم الإسلامي بِمَكانتها وقوَّتِها، فإنَّ الأتراك قد تبنَّوا ثُنائيَّة العدالة والتنمية القائمة على "نَحن" مقابل "هم"، أو الإسلام على حساب الْهُويَّة الوطنية.
وبعبارة أخرى: فإنَّ حزب العدالة والتنمية سوف يَرْبح في كلتا حالتين: ما لَم يتوقَّف الأتراك عن إيمانهم بالصِّدام الْهنتنجتوني بين العالم الإسلاميِّ والغرْب، وإنْ لَم تَعُد الكماليَّة من جديد للتأكيد على البُعْد الوطنيِّ العلماني للهُويَّة التُّركية، والفرصة القادمة لِتَحقيق ذلك ستكون انتخابات يونيو 2011 ، والتي ستمثل أكثر الْمَعارك أهَمِّية للرُّوح الوطنيَّة التُّركية على مدًى يزيد عن قرنَيْن من الزَّمن عندما وَلَّى سلاطين العُثمانيِّين وجْهَ تركيا شطْر الغرب للمرة الأولى.