يوم هوى النجم.. في ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين
بقلم: الأستاذ عبد العزيز كحيل
إذا اجتمع الفكر النيّر والعاطفة الجياشة والعمل البصير كانت العبقريّة.. واجتمع كل ذلك في شيخ المجاهدين أحمد ياسين رحمه الله، فكان من عباقرة الإسلام.
فقد استقى أفكاره من القرآن والسنّة, وتعامل معها وفق منهج الاعتدال والحيوية الّذي تشبّع به في مدرسة حسن البنا، وكانت عواطفه مع دينه وشعبه المشرّد المظلوم, فدفعه ذلك إلى الانخراط في العمل الميداني من أجل فلسطين تحت راية الإسلام, لقد كان آيةً في فكره وعاطفته وعمله، فأحبّه أبناء فلسطين كما أحبّه كل عربي ومسلم.
واليوم إذ تمرّ ذكرى استشهاده, لا يجوز أن ننسى أنّه كتب له الخلود في القلوب وعلى الألسن وفي صفحات تاريخ البطولات، لأنّه قام وهو القعيد حين قعد الناس، وقال لا للمخطّطات الصهيونية عندما احتضنها بعض بني جلدتنا، وأصرّ على المقاومة يوم أفتى بحرمتها من كانوا يبشّرون بالسلام العربي اليهودي، وقاد الانتفاضة الأولى بالحجارة حين لم يتوافر لأتباعه السلاح..
فالشيخ أحمد ياسين لم يمنعه شلله من أن يكون سدّاً منيعاً أمام الهجمة الصهيونية سواءً المسلّحة أو المغلفة بشعارات السلام، فرفض الاستسلام وبثّ في الضفة والقطاع روح المقاومة, وربى جيلاً من القيادات عالية الكفاءة, حتّى لا تبقى الساحة الفلسطينية حكراً على دعاة التطبيع مع اليهود والتنازل عن الحقوق المشروعة.
وقد لاحظ العالم كلّه الانعطاف الّذي حصل في الأراضي المحتلّة منذ أنشأ الشيخ حركة المقاومة الإسلامية «حماس» عام 1987 وانتشارها الواسع وقوّة طرحها ومواقفها الّتي أعادت الأمل لأصحاب الحق بقدر ما أربكت الاحتلال الصهيوني وحلفاءه، واكتشف الرأي العام العالمي صورة غير معهودة هي صورة أطفال المساجد وهم يُرعبون الجنود الصهاينة بالحجارة!
وتكرّر المشهد ورفعت حماس التحدّي، وألهب الشيخ المجاهد المشاعر وكسر جدار الخوف، وعرف اليهود أنّهم أمام نمط جديد من الرجال ومن الساسة, فأبرموا اتّفاقيات أوسلو ليتفاهموا مع الفلسطينيين «المعتدلين» ويطوّقوا حماس «المتطرّفة»، وسجنوا الشيخ أكثر من مرّة وحكموا عليه بالمؤبّد زائد 15 عاماً, لكن هذا لم يزده إلاّ ثباتاً، وكتب الله له الفرج فخرج من سجون اليهود عالي الهمّة مصرّاً على نهجه، لكن المؤلم في القضيّة أن «السلطة الفلسطينيّة» وضعته تحت الإقامة الجبريّة مراراً، ووصفه زعماؤها بأنّه إرهابيّ إرضاءً للصهاينة ومن دار في فلكهم، وضايقته حتى يكف عن سقي شعبه رحيق الجهاد.
وأحبّ الفلسطينيّون الشيخ المجاهد والتفّوا حول حركته الّتي خرجت من رحم الحركة الإسلامية والتنظيمات الاجتماعيّة والمؤسّسات التربويّة الّتي أنشأها هو وإخوانه وتلاميذه منذ أواسط القرن الماضي، إذ كانت عبارةً عن محاضن لتكوين الرجال والنساء, العابدين لربّهم المتمسّكين بأرضهم المضحّين بكلّ شيء في سبيل غايتهم، وإذا كان العظماء يعرفون من غرس أيديهم فعظمة أحمد ياسين ندركها من خلال عبد العزيز الرنتيسي ومحمود الزهار وإسماعيل هنيّة وعشرات أمثالهم من القادة الّذين دوّخوا الصهاينة وعرقلوا بل أبطلوا مخطّطات الاستسلام وبيع القضيّة الفلسطينيّة.
وقد أحببناهم كما أحببنا معلمهم وقائدهم، وأعلن الاحتلال عزمه على التخلّص من الشيخ المجاهد, ولكنه نجا من محاولة اغتيال سنة 2003، لكنه لم يغير عاداته فضلاً عن سياسته ومنهجه، وبقي يؤدّي الصلوات الخمس في المسجد وهو مشلول، بالإضافة إلى أمراض عديدة أصيب بها في سجون الاحتلال، ورصد الصهاينة تحرّكاته حتّى اغتالوه فجر يوم 22 آذار 2004 وهو عائد من المسجد على كرسيّه المتحرّك.
وتنفّس شارون و «أحبابه» من العرب والفلسطينيّين الصعداء, لأنّهم تخلّصوا من عدوّ «السلام» وظنّوا أنّ المقاومة قد انتهت بموته.
وقرّرت الأنظمة العربية تأجيل قمّتهم الّتي كانت وشيكة الانعقاد حتّى لا يحرجهم موته.. والحق أنه كان يوماً عصيباً علينا وعلى الشعب الفلسطيني.. وهل يموت مثل الشيخ ولا يرتبك محبوه ولا يزلزلون؟
في ذلك اليوم العصيب هوى النجم الساطع، وترجّل الفارس المغوار، وانتهت حياة مباركة دامت نحو 66 عاماً.. ذهب الشيخ وقد نال الشهادة الّتي كان يتمنّاها، وبقيّت حماس وزادت مصداقيّتها في الساحة المحلّيّة والعربيّة والإسلاميّة والعالميّة، واستمرّت على نهج مؤسّسها بكلّ ثبات.
وممّا يذكر أن لقائد المقاومة وشيخ المجاهدين تأسيسه للموقف الذي يرفض أن تستدرج حماس إلى الاقتتال, وأوصى أتباعه بالصبر ورفع شعار «سنقاتل الناس بالحبّ»، ومات رحمه الله ولم تتلوّث يده بدم فلسطينيّ، وها هي حركته ثابتة على وصيّته لأنّها حركة مؤسّسات وليست حركة أفراد.
وفي المقابل أسّس الشيخ أحمد ياسين للعمليّات الاستشهاديّة الّتي استهدفت اليهود وأرعبتهم في الضفة والقطاع وفي أراضي 1948، فقد كان رحمه الله ذليلاً على إخوانه, عزيزاً على اليهود المعتدين، وهكذا هم الربانيون المخلصون لدينهم وأمّتهم.
كان الشيخ رحمه الله نموذجاً لرجل يحبّه المسلمون لصدقه ويلتفّون حوله لأنّه حامل لهمومهم محقق لآمالهم، فهو رمز يفخر به كلّ عربيّ وكلّ مسلم، ولو لم يكن له من المآثر إلاّ صمود «حماس» وأهل غزة في الحرب الأخيرة لكفاه، ومن واجبنا أن نبقي ذكراه حيّةً تتعلّم منها الأجيال، فهو بحقّ واحدة من معجزات الله وآياته في خلقه، رحمه الله وأغدق عليه شآبيب الرحمة والرضوان.
المصدر
- مقال:يوم هوى النجم.. في ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسينموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان