ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الإصلاح الحقيقي

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الإصلاح الحقيقي


بقلم: الشيخ د. محمد خير فرج

ولادة النبيّ صلى الله عليه وسلم مفتاح الإصلاح الحقيقي

لا خلاف في أنه وُلد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة في ربيع الأول، والأكثرون على أنه ليلة الثاني عشر منه كما قال ابن هشام، وأضاف خليفة بن خياط كما قال ابن كثير: والمجمع عليه أنه ولد عام الفيل, وذلك يوم الاثنين من حديث ابن عباس قال: «ولد النبي يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين»، فكان من السنّة صيامه.

روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري عن صوم يوم الاثنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه». فأين أبناء الأمة من الاحتفاء العلمي بإحياء سننه الشاملة لكل مسالك الحياة.

وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله جل علاه لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيراً من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصراً لا صنع للبشر فيه، إرهاصاً وتقدمة للنبي الذي خرج من مكة، وتعظيماً للبيت الحرام.

والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نسباً، وأكملهم خَلقاً وخُلقاً. روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

قال البغوي (519هـ): ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل، بل هو محل إجماع كما قال الذهبي (748هـ).

مما تبين يتضح لنا من نسبه الشريف دلالة واضحة على أن الله عز وجل ميَّز العرب على سائر الناس، وفضّل قريشاً على سائر القبائل الأخرى، ومقتضى محبة رسول الله، محبة القوم الذين ظهر فيهم، والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد والجنس، بل من حيث الحقيقة المجردة، ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها بانتساب رسول الله إليها، ولا ينافي ذلك ما يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين عن صراط الله عز وجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية، التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط، من شأنه أن يوُدِيَ بما كان من نسبة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ويلغيها من الاعتبار كحال أبي لهب عمّ الرسول الذي لم يشفع له نسبه لخلو قلبه من الإيمان، فخرج من دائرة آل البيت التي حصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بآل العباس، وعلي، والحارث، وحمزة، وجعفر.

وماذا نفعل بأبناء العروبة اليوم إثر تخليهم عن نصرة ذويهم في بيت المقدس وبيت لحم وبغداد الرشيد وفي كل أرض محتلة؟ هل نلغي نسبهم الموصل بسيد الخلق لأنهم تنكروا لبني العروبة والإسلام.

وعلى المحتفين بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة، كما قال السخاوي (902هـ) تلميذ السيوطي (911هـ)، أي: التي شهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بخيريّتها.

ولقد أطنب ابن الحاج (737هـ) -الفقيه الزاهد العارف بمذهب مالك- في «المدخل» في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد.

وتابعه الزرقاني (1122هـ) فقال: إنما ذمّ ما احتوى عليه من المحرمات مع تصريحه بأنه ينبغي تخصيص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الصدقات والخيرات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد المستحسن.

وأول من أحدث الاحتفال بشهر المولد بعمل الولائم والتصدق بلياليه وإظهار السرور بأنواع مختلفة هو الملك المظفر أبو سعيد (630هـ) صاحب إربل، قال ابن كثير (774هـ) في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول. وألف له الحافظ ابن دحية (633 هـ) كتاباً سمّاه «التنوير في مولد البشير النذير».

لقد بشّر الأنبياء بخاتم النبيين، فرأت أمه آمنة نوراً خرج منها حتى أضاءت منه قصور الشام، روى أحمد في مسنده والطبراني في معجمه عن أبي أمامة قال: «قلت يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي نوراً أضاءت منه قصور الشام».

وفي رواية العرباض بن سارية: «ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم».

وأجمع رواة السيرة على أنّ بادية بني سعد كانت تعاني إذ ذاك سنة مجدبة جفّ فيها الضرع ويبس الزرع، فما هو إلا أن صار محمد صلى الله عليه وسلم في منزل حليمة واستكان إلى حجرها وثديها حتى عادت منازل حليمة من حول خبائها ممرّعة مخضرّة، فكانت أغنامها تروح منها عائدة إلى الدار شباعاً ممتلئة الضرع.

لذا، أجمع جمهور الفقهاء والأئمة على أنه يستحب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره كما ذكر ابن قدامة وابن حجر.

ولكم تحبس السماء عنا المطر وتبلغ الأرض الماء ولا نجد من يذكرنا بصلاة الاستسقاء ولا بدعاء أهل التقوى والصلاح, حتى عندما يعمل الأعداء على إبادة شعب مسلم في غزة أو الشيشان أو السودان.

وهذا يجعلنا نؤكد أنه لكل أمة إنسانها الأمثل الذي أعطاها النور ومنحها الخير وأدخل على ربوعها السعادة، والمصلح الذي ألهمها فكرات نبيلة، والرسول الذي رفع من شأنها أخلاقياً وفق الفطرة الربانية التي رعتها كل الشرائع السماوية.

ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الرسول الأعظم، لأنه ليس رسولَ أمة واحدة، بل هو رسول أمم العالم كافة، ولأنه أعلن الإيمان بجميع رسل العالم جزءاً أساسياً من العقيدة التي بشّر بها.

وبذلك وضع الأساس لِسلم سَرْمدي بين مختلف الأمم، ليقول للعالم: إن الدين هو الذي يحوّل كل الأمم إلى أمة واحدة، وإن أسّ العلاقة بين الأخوة المودّة لا الجفاء والحب لا البغض والسلم لا الحرب.

لقد أنجز الرسول صلى الله عليه وسلم في مدى عشرين سنة ما عجزت عن إنجازه قرون من جهود المصلحين اليهود والنصارى برغم السلطة الزمنية التي كانت تساندهم.

حيث استأصل من بلد كامل تراث أجيال من الوثنية، والخرافة، والجهل، والبغاء، والقمار، ومعاقرة الخمر، واضطهاد الضعيف، والحرب الضروس، ومئات من الشرور.

«فلم يكن الإصلاح في أيما يوم من الأيام ميؤوساً منه أكثر مما كان» عند ظهور الرسول كما لاحظ «ميووير»، ولم يكن أكثر كمالاً منه عندما التحق بالرفيق الأعلى، وبكلمة أخرى: «كان ذلك ولادة من الظلمة إلى النور» كما يقول «كارلايل».

وإذا كان في سمات خلقة سمة أكثر تميزاً من غيرها، فتلك السمة هي حدبُه على اليتيم والأرملة وقد ولد يتيماً, وعاش يتيماً حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فتتلبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني. ولعل الأهم من ذلك أن لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريبة في القلوب أو إيهام للناس بأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم إنما رضع لبان دعوته ورسالته التي نادى بها منذ صباه، بإرشاد وتوجيه من أبيه وجده، ولمَ لا؟

وإن جده عبد المطلب كان صدراً في قومه، فلقد كانت إليه الرفادة والسقاية. وإن من أميز سماته صلى الله عليه وسلم الخُلقية نصرته للضعيف والمسكين وحبه للعمل والسعي من أجل إغاثة الملهوف والمظلوم، ولذا شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول الذي هدمت فيه قريش صرح الظلم ورفعوا به منار الحق، وهو يُعدّ من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان، إذ تحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة فتعاقدوا وتحالفوا بالله، ليكونُنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام (14 عاماً), فما أحب لي حُمر النَّعم وأني أنكثه» وفي خبر آخر: «ولو دعيت به في الإسلام لأجبت».

إنها حياة نبي مصلح عاش لله ومات في سبيل الله، بدافع مرضاة الله وإيصال الخير إلى كل الناس، قال «ليونارد»: «إن يكن قد قدِّر لإنسان على سطح هذه الأرض أن يجد الله في يوم من الأيام، وإن يكن قد قدِّر لإنسان أن يقف حياته لخدمة الله بدافع خيِّر وعظيم, فليس من ريب في أن نبيّ بلاد العرب هو ذلك الرجل».

روى أحمد في مسنده محاورة جعفر للنجاشي القبطي الذي لا يظلم عنده أحد: «أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة».

إن فرح المجتمع بولادته صلى الله عليه وسلم وانتشار الخير في كل مكان حَلّ فيه، وابتعاده عن كل مواطن السوء منذ طفولته المبكرة، ومشاركته مع بني قومه في كل الأعمال الشريفة وأهمها حماية ونصرة المظلوم، وشهادة الناس له بالأخلاق الحميدة، وتأكيد المستشرقين على تحليه بأسمى سمات النجاح الإصلاحي عبر التاريخ، وبلوغه أعلى مراتب الكمال الإنساني، وقدرته على تغيير عادات ومعتقدات المجتمع بعقدين من الزمن، يجعلنا نمسك بمفتاحه الإصلاحي وفق الآثار القيمية الدينية والإنسانية التي سنسلط الضوء عليها في مقالات لاحقة إن شاء الله.

المصدر