وعشت معهم فرحة الإفراج عنهم..!!

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
وعشت معهم فرحة الإفراج عنهم..!!

أ.د/جابر قميحة

صفحة من يومياتي

( كل الأسماء المعروضة هنا حقيقية , ما عدا اسم ضابط أمن الولة . )

لا أخفي علي القارئ أنني أكاد لا أصدق ما حدث, لولا أنني رأيت كل التفصيلات بعيني, بل عشتها بنفسي. وهكذا أعرض في السطور الآتية - بمصداقية وحيادية - كل هذه التفاصيل:

في العاشرة تماما من مساء الأحد (15/7/2001) دق جرس باب شقتي في الدور الثالث, فتحت الباب, رأيت شخصا يرتدي الملابس المدنية.. متوسط القامة, خمري البشرة, خفيف الشعر كأن رأسه مقبل علي مشروع صلع بطيء, وعلي وجهه ابتسامة عريضة, أذكر أنني لم أره من قبل:

- السلام عليكم.. أنا.. أخوك الرائد سعد سعد حسن, ضابط في أمن الدولة.. ممكن أدخل? - تفضل..

دخل.. واحتل مقعده في حجرة الاستقبال, ولم أنظر إلي البطاقة الصغيرة المغلفة التي حاول أن ألقي عليها نظرة, وتوجهت إلي باب شقتي الذي تركته مفتوحا اعتقادا مني أن هناك مزيدا من رجال الأمن حضروا لتنفيذ أمر باعتقالي. وكأن الرجل قرأ خاطرتي, فسمعت صوته يقول في نبرة هادئة سريعة:

- يا دكتور اقفل باب الشقة براحتك.. أنا جئت بمفردي آخذ معاك فنجان قهوة(!!).

ولكن كلمته لم تبعث في نفسي طمأنينة, فأنا لم أسمع من قبل عن ضابط كبير - أو حتي صغير - من ضباط الأمن قصد في المساء مواطنا لا يعرفه لمجرد «شرب» فنجان قهوة معه. قلت وأنا أتجه إلي الشرفة المطلة علي الشارع, والمفتوحة علي حجرة الاستقبال:

- الشرفة واسعة, وهواؤها نقي, هل تحب أن نجلس فيها? (وألقيت نظرة خاطفة علي الشارع) فأثبت الرجل ذكاءه مرة أخري, وقال:

- كما قلت لك.. أنا جاي آخذ عندك فنجان قهوة, ولا يوجد في شارعكم أو الشوارع المجاورة أي «بوكس» أو سيارة شرطة. وأنا جيت بسيارتي الخاصة.

ولاحظ الرجل علي وجهي مسحة من الحرج قبل أن يستأنف كلامه:

- شوف يا سيدي هناك مفاجأة.. طيبة جدا اخترناك أنت بالذات لتحضرها, لتكتب كل تفصيلاتها في صحيفة «آفاق عربية» بصدق وأمانة, وستنفرد هي بهذا السبق.

- ولكن هناك صحفيين آخرين في الجريدة, وأنا لست صحفيا.

- ستكون صحفيا غدا إن شاء الله, وأنت تسجل بقلمك تفاصيل المفاجأة السارة. سأمر عليك في التاسعة من صباح الغد, وأعيدك بسيارتي في الواحدة ظهرا من نفس اليوم.

ونهض الرجل, وهو يمد إلي يده مصافحا..

- يا خبر!!.. القهوة.. دقيقة واحدة..

- بعدين.. بعدين.. في زيارة تانية إن شاء الله.

وفي تمام التاسعة من صباح يوم الاثنين 16/7/2001 كنت أستقل سيارة «الرائد سعد سعد حسن» الذي انطلق بنا في طريق المعادي.. ثم انعطف ناحية اليسار.. دون أن أنطق بكلمة.. وبعد قرابة نصف ساعة أفقت علي وقوف السيارة, وعلي صوته الهادئ وهو يقول:

- مرحبا بك الآن ضيفا عابرا.. غير مقيم علي ملحق معتقل مزرعة طرة.. خللي بالك.. أنا أقول: عابرا.. غير مقيم, وأنا علي ما اتفقنا عليه سأعيدك إلي مسكنك بعد أن تعيش معنا هذه المفاجأة السارة التي ستنتهي بتفاصيلها قبل الظهر.

دخل بي الرجل إلي قاعة متوسطة الاتساع, وعلي مقاعدها جلس الإخوان النقابيون الذين حكم عليهم بالسجن أمام محكمة عسكرية بمدد تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس.

ورأيت أمامهم أطباقا من الجاتوه, وكميات من العصائر والفاكهة.. ياه!! هل أنا في حلم أم في علم?!!.

وأخرج الرائد سعد من جيبه مسبحة فضية, ولفها علي أصابع كفه اليسري- ما عدا - الإبهام. وبدأ الرجل كلامه بالبسملة والحمد لله, والصلاة علي النبي, وبعد رشفة من كوب عصير وضع أمامه قال:

- أيها الإخوان: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأنا لم أحضر إليكم بصفتي الشخصية, ولكني بصفتي نائبا عن وزير الداخلية.

وأنا لا أجاملكم إذا اعترفت لكم أنني أحب الإخوان, وأنا قرأت رسائل الشيخ البنا, وكتاب «دعاة لا قضاة» للشيخ الهضيبي, وكتب الشيخ عمر عبد الرحمن.. لا آسف عمر التلمساني.

يعني أنا فاهم مبادئ الإخوان. ويقول أنهم في مجموعهم ناس طيبين. لكن ظروف الوطن القاسية, وجرائم تجار المخدرات ومهربي السموم, وجرائم الإرهابيين المتطرفين اقتضت حماية الوطن بفرض «قانون الطوارئ».

مختار نوح: من فضلك ممكن أعلق علي هذه الجزئية?

الرائد سعد: طبعا ممكن, وإن كنت أفضل أن يكون التعليق في الآخر. ولكن من منطلق حرصنا علي حرية المناقشة أسمح لكم بالتعليق علي خطابي «بالقطعة».

مختار نوح: أثبتت الأحداث أن شعبنا الذي هزم حملة فريزر, وهزم الحملة الفرنسية, وأخرج الإنجليز من مصر بجهاد شبابه المسلم في القناة في بداية الخمسينيات وقضي علي الملكية وظلم فاروق وأذنابه. أقول: إن هذا الشعب بكل هذه «الحيثيات» المجيدة قد بلغ سن الرشد, وأصبح كامل الأهلية, وليس في حاجة إلي قانون طوارئ يخنقه خنقا, ويقتل فيه عزيمة الرجال.

خالد بدوي: لقد تعلمنا أن «الحدث الطارئ» يكون مفاجئا, وحالّا, ولا يستمر طويلا, فكيف نسمي قانونا يكتم أنفاس الشعب علي مدي عشرين عاما «قانون طواريء»?!! لقد أصبح هو الأصل, وأصبح القانون الأصلي هو الاستثناء.

د. هشام الصولي: كما أن استمرار هذا القانون دليل علي عجز السلطة وضعفها, لأنها أثبتت أنها لا تستطيع أن تحكم شعبا «كامل الأهلية» إلا بقوانين سيئة السمعة, بل ساقطة السمعة.

الرائد سعد: يا إخواني.. أرجوكم.. لاحظوا أن اللي إيده في المية, مش زي اللي إيده في النار. والحكومة إيديها في النار, وأنتو إيديكم في الميه. و«البعيد عن الشط عويم» زي ما بيقول المثل البلدي, وهناك..

د. محمد بديع (مقاطعا): أي ماء? وأي نار? نحن أبناء هذا الشعب المسكين.. ليست أيدينا فحسب في النار, بل كلنا في النار.. نار الظلم والاستبداد والغلاء وسوء المعيشة.. والمشكلات والأزمات والتزويرات والتلفيقات التي لا تنتهي. أما الماء والشراب والعسل وعيش الرفاهية والنعيم فكلنا يعرف من يتمتعون به. يا سيدي كونوا واقعيين وكونوا منصفين عدولا.

مدحت الحداد: وقانون الطوارئ لم يحم الأمة من تجار المخدرات ومهربيها, فهم ما زالوا- بأعداد متزايدة يعربدون, وينشرون سمومهم في كل مكان, بل تميز بعضهم بالقدرة علي «الإبداع», وذلك باختراع صنف جديد سموه «أبو الجماجم».. استخرجوا جماجم الموتي وطحنوها.. فأعطتهم «بودرة» أقوي في تأثيرها من «الهيروين». شفتم بقي «عبقرية الطوارئ» التي اهتدت إلي اختراع جديد اسمه «أبو الجماجم»؟؟ ....... «ضحك في القاعة».

عاطف السمري: في ظل الطوارئ نهبت البنوك, وكثرت الاختلاسات, وانتشرت الرشوة, وفسد التعليم, وخربت الضمائر, وزورت الانتخابات.. و.. و..

الرائد سعد: أعتقد يا إخوان أنكم قلتم ما فيه الكفاية.. أرجوكم ننتقل الآن إلي..

إبراهيم الحلواني ( مقاطعا): قبلها أسألك سؤالا محددا بوصفك نائبا عن وزير الداخلية: كم عدد تجار المخدرات المعتقلين? وكم عدد المعتقلين سياسيا بما فيهم سجناء المحاكم العسكرية? الرائد سعد: هذا سؤال لا لزوم له الآن, وبصراحة أنا فوجئت به, ولم أستعد لإجابته.

إبراهيم النجار: أما أنا فأسألك سؤالا أنت مستعد لإجابته: ما التهمة - أو التهم - التي بسببها حكم علينا بالسجن ما بين ثلاث وخمس سنين?!!

الرائد سعد ( في اضطراب): الواقع أن .. أصل المسألة يعني.. الحقيقة هي تهم متعددة منها العمل علي إحياء جماعة الإخوان المحظورة قانونا. (ضحك في القاعة).

د. محمد علي بشر: الجماعة يا سيدي من يوم أن ولدت سنة 1928- وحتي الآن - أي قرابة ثلاثة أرباع قرن وهي حية.. مجيدة.. خالدة.. لم تمت حتي نحاول إحياءها.

الرائد سعد: أقصد لم يصدر قرار بإعادتها.

د. سعد العشماوي: يا سيدي الفاضل.. حتي لو صدر مثل هذا القرار سواء أكان سياديا أم قضائيا, فسيكون «قرارا كاشفا» لا «قرارا منشئا». الجماعة يا سيدي ليست تنظيما بقدر ما هي «تيار رباني» متدفق متجدد لا يمكن إيقافه أو إعدامه.

الرائد سعد: (وهو يحاول أن يدفن اضطرابه بابتسامات ظهر فيها الافتعال) جري إيه يا إخوان?!! أنا جئت أحمل إليكم بشري تقوموا تعاملوني بالطريقة دي?!

أصوات متداخلة غير واضحة: نحن لا نريد أن..

الرائد سعد: يا خوانا.. الله يكرمكم.. اسمعوا البشرَى أولا.. وبعدين.. قولوا اللي تقولوه. (صمت تام): لقد صدر في تمام الرابعة من مساء الأمس الأحد (15/7/2001) قرار سيادي, وما زال سريا حتي الآن ونصه: نظرا للأخطار التي تهدد مصر والأمة العربية ومن مظاهرها الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل علي الشعب الفلسطيني الأعزل قتلا ونهبا ونسفا, ونظرا لما يتوقع من إعلان إسرائيل الحرب علي الأمة العربية جمعاء, وإيمانا منا بضرورة وحدة الصف, وتناسي الخلافات وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة قررنا ما يأتي:

1- الإفراج الفوري عن كل المعتقلين السياسيين, وكل المدنيين الذين حوكموا أمام محاكم عسكرية.

2- إلغاء قانون الطوارئ بكل آثاره.

3- تعويض المعتقلين عما أصابهم من أضرار مادية ومعنوية.

4- تكوين جمعية تأسيسية من مفكرين وسياسيين وقانونيين مشهود لهم بالموضوعية والعدل والحياد لصياغة قانون جديد عملي لتكوين الأحزاب وإصدار الصحف ونظام الانتخاب اعتمادا علي قواعد الحرية المنضبطة, والنزاهة الحقيقية.

5- تنفيذ الأحكام القضائية النهائية في ميعاد لا يتجاوز شهرا من هذا التاريخ.

6- تنفذ هذه القرارات في ميعاد..

وغلبتني الفرحة حتي سدت أذني عن بقية ما يتلوه الرائد سعد.. وشعرت بقلبي يكبر.. ويكبر.. ومعه ترتفع قامتي.. وشدتني الفرحة بعيدا عن وقاري وقبضت بيدي اليسري علي أوراقي التي كنت أسجل فيها وقائع الجلسة لنشرها في صحيفة «آفاق عربية», وأخذت ألوح بيمناي في الهواء هاتفا: الله أكبر ولله الحمد.. يحيا العدل.. يحيا العدل. ...

وفجأة سمعت صراخ زوجتي بجانبي:

- جابر.. إيه الحكاية.. كدت تحطم وجهي بقبضة يدك.. وأنت تصرخ في الحلم.. يحيا العدل.. يحيا العدل?! ولم أنطق بكلمة.. وسمعت صوت المؤذن: «الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم».. ونهضت من سريري لأتوضأ لصلاة الفجر

المصدر:رابطة أدباء الشام