وداعًا.. الحاج أحمد حسانين
بقلم: د. عصام العريان
مشيتُ وسط الآلاف من الإخوان في جنازته وأنا أتذكر مناقبه ومواقفه، وقد رحل عن دنيانا بعد مرضٍ طويلٍ منذ سنوات، بعد رحيل رفيق دربه وتوءم روحه الحاج مصطفى مشهور المرشد الأسبق، رحم الله الجميع.
كان أحد قلائل، حملوا هَمَّ دعوة الإخوان على أكتافهم بعد خروجهم من سجن طويل، قضى فيه عشرين سنةً متصلةً في العهد الناصري، أتذكر منهم معهما الحاج حسني عبد الباقي المليجي ود. أحمد الملط والأستاذ عمر التلمساني والأستاذ كمال السنانيري والأستاذ صلاح شادي، غفر الله للجميع وأسكنهم فسيح الجنات.
عاشوا لهذا الدين ولرفعة شأنه ورفع رايته، كانوا رجالاً لله بحق، اتجهوا إليه، وجعلوه غايتهم في الحياة، وفهموا دعوة الإسلام على منهج الإخوان؛ فكان كل واحد منهم أمةً وحده في التربية وبناء الرجال والدعوة إلى الله.
عُمِّر بعد إخوانه الذين رحلوا قبله جميعًا؛ فعاش حتى بلغ قرابة التسعين، لم يُقْعِدْهُ فيها عن البذل والتضحية والعمل الجاد إلا المرضُ الشديدُ الذي أعاق حركته، ولكنه لم يسكت لسانه أبدًا عن ذكر الله تعالى، ولم يعطّل فكره وهمّه أبدًا عن الاهتمام بشئون دينه ودعوته.
بفقده- رحمة الله عليه- فقدنا أحد القلائل الذين عاصروا الإمام الشهيد حسن البنا، وكان الإمام يعتمد عليه في المهمات الصعبة والقضايا الشائكة.
كان- رحمة الله عليه- أحد الذين قام على عاتقهم "النظام الخاص" وتعلم فيه البذل والتضحية والفداء، وظل مخلصًا لدعوته، سليم الفهم لأركانها، وفيًّا لقادتها، وفيًّا لبيعته وعهده مع الله إلى آخر لحظة في عمره.
رأيتُ في جنازته د. صلاح عبد المتعال ولعله آخر الذين اتُّهِموا معه في قضية السيارة الجيب الشهيرة ممن بقي على قيد الحياة، ورأيت في جنازته مئات الإخوان فوق السبعين من العمر، جاءوا- رغم المرض ووهن العظم- يشاركون آلاف الشباب تحت الثلاثين؛ ليثبت للجميع أن هذه الدعوة المباركة لن تموت، وأن الأجيال تتوارثها جيلاً بعد جيل؛ لأنها دعوة الله، ولأنها رسالة الإسلام العظيم، ولأن الحب في الله هو الذي جمع هذه القلوب على طاعته تعالى، وما كان لله دام واتصل، وما وصله الله تعالى برابطة الإيمان لن يقدِرَ بشرٌ، مهما أوتي من سلطان، أن يفصمه أو يقطعه.
كان أحمد حسانين- رحمه الله- كثير الصمت، طويل الفكر، قليل الكلام، وكان كلامه فصلاً، يحسم القضايا الشائكة، وكان صمتُه أبلغ من حديث المتحدثين؛ قال لي ذات مرة: إنني كتبت موعدًا في ورقة نسيته، ولكني أتذكره بذاكرتي، وهذا يدل على قوة حافظته وذاكرته رحمه الله تعالى.
عرفه الإخوان بنشاطه الدءوب، وعمله المتواصل لخدمة الإخوان، وتحمُّله المصاعب والمشاقّ في طريق الدعوة، ولم يكن من أهل الخطابة أو الحديث، ولكنَّ أثرَه القويَّ فيمن عاشره وعاصره وتتلمذ على يديه كان أقوى من عشرات الخطب والأحاديث والكلمات، وكلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِق له، وهذا من عظمة هذا الدين وتلك الدعوة المباركة.
اختار فقيدنا العزيز- غفر الله له- أن يعمل في صمتٍ في ميدان من أهم ميادين العمل الإسلامي، وهو نشرُ فكرة الإخوان ورسالة الإسلام عبْر مئات الرسائل والكتب؛ فأسس مع إخوانه "دار التوزيع والنشر الإسلامية" بعد الخروج من السجن مباشرةً، ثم "دار الطباعة والنشر".. هاتين الدارين اللتين تمَّ التحفُّظُ عليهما وإغلاقُهما منذ سنة كاملة عام 2006م في إطار القضية الأخيرة التي يُحاكَم فيها قياداتُ الإخوان عسكريًّا، وتم القبض على الأخوَيْن الكريمَيْن: أحمد أشرف وحسن زلط ممن عملوا مع الفقيد لسنوات طوال في تأسيس إدارة هذه الدُّور المباركة التي نشرت الفكر الإسلامي المعتدل؛ ليواجه الأفكار المنحرفة عن طريق الوسط والاعتدال.
شارك الحاج أحمد حسانين- غفر الله له- في قيادة العمل الإسلامي وقيادة جماعة الإخوان المسلمين منذ خرج من السجن في منتصف السبعينيات من القرن العشرين حتى أقعده المرض، ولم تكن تشعر أبدًا أنه فوق إخوانه أو يتميَّز عنهم بمرتبة أو منزلة، بل كان قمةً في التواضع وخفض الجناح لإخوانه، يتعامل معهم كأنه واحدٌ منهم، بل كأنه أدنى منهم رتبةً ومنزلةً، وهذه هي الدرجة العليا في القيادة، لم تكن تحتاج إلى إحساسك برفعته وقيادته، بل تجد نفسك معه أحوجَ ما تكون لرأيه الراجح وفكرته الثاقبة، وكان هذا دأب هذا الجيل المبارك الذين استحقوا هذه المنزلة بتضحياتهم وصبرهم وثباتهم والتزامهم بأصول تلك الدعوة المباركة وفهمها الوسطي المعتدل.
عرفنا الحاج أحمد حسانين- رحمه الله تعالى- بعد تردُّدنا على مكتب الإخوان في ميدان السيدة زينب عندما بدأوا النشاط في منتصف السبعينيات وأصدروا مجلة (الدعوة) من جديد، وعرفناه أكثر عندما تردَّدنا على شركة التوكيلات التي كان يديرها في ميدان العتبة بالقاهرة ثم "دار التوزيع والنشر الإسلامية"، وعرفناه أكثر وأكثر عندما قضى معنا شهورًا في السجن عندما ألقى السادات القبض علينا في حملة سبتمبر الشهيرة، وكنَّا وقتها نشارك الشباب في إدارة شئون السجن؛ فعرفنا فيه الصبر والثبات.
وكنا نكتفي في أول محنة نواجهها على طريق الدعوة بالنظر إلى وجهه الباسم ونظراته الراضية وثباته الواثق، وانتقلنا معه من سجن الاستقبال إلى ليمان أبو زعبل، وعندما تم استدعاؤه إلى سجن القلعة للتحقيق بعد شهور، وكانت قصص التعذيب في سجن القلعة تتواتر بعد أن تم احتجازي وبعض الإخوان فيه لشهر أو يقل أو يزيد تحت وطأة التعذيب الشديد، أشفقنا عليه مع كِبَر سنِّه، وعندما عاد سألناه عما حدث، فاكتفى بأن قال: عندما تم عرضي على المحقِّق وأنا مغمى العينين قلت له: إنني أعرف لماذا جئت؟ لقد صدر ضدي حكمٌ بالإعدام في عام 1954م وتأخَّر تنفيذه حتى اليوم، وهأنذا أتيت كي تنفِّذوا فيَّ حكم الإعدام، فما كان من الضابط إلا أن قام بالاعتذار لي وأخذ يهدِّئ من روعي، ويحاول أن يتخلَّص من الموقف، فلم أمكث إلا أيامًا قلائل حتى عدتُّ إليكم دون إيذاء أو تعذيب، ولله الحمد والمِنَّة.
رحم الله الحاج أحمد حسانين، وغفر الله، وجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيِّين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.
يا أيها الناس ويا أيها الإخوان.. فمَن كان متأسيًا فليتخذ من مثل هؤلاء الرجال القدوةَ الحسنةَ؛ فقد كانوا نماذج حيَّةً على طريق الإسلام وهدْي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدوتنا وأسوتنا جميعًا، اللهم ثبِّتنا على الحق حتى نلقاك.
المصدر
- مقال:وداعًا.. الحاج أحمد حسانينإخوان أون لاين