وحدة الفكر الإسلامي مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى
الأستاذ: أنور الجندي
توطئة
إن العالم الإسلامي الآن بعد أن مر بمرحلة "الاستعمار" التي تمثل النفوذ العسكري والسياسي الغربي الذي سيطر على أغلب أجزائه، ثم انحسر عنها يواجه في الوقت الحاضر، مرحلة أشد عنفًا وقسوة:
تلك هي: "مرحلة التبعية والاحتواء".
هذه المرحلة تمتد جذورها عند نهاية المرحلة السابقة والتي حرص الاستعمار على بناء قاعدتها من خلال المدرسة والصحيفة والثقافة والنفوذ الاجتماعي والتي لم تتكشف آثارها بصورة واضحة إلا بعد أن انحسر النفوذ الأجنبي السياسي والعسكري.
وقد جاء مصاحبًا لها ومتعاملًا معها ما تمكنت الصهيونية العالمية من إحداثه في بناء رأس جسر في فلسطين أرادت أن يمتد إلى قلب الأمة العربية مهددا الإيمان والأمن في حمي العالم الإسلامي كافة.
- 6 وقد وجدت مرحلة الاستعمار مواجهة صادقة بأعمال المقاومة والمعارضة والانسحاب من التعامل مع منظمات القانون الوضعي والربا والفساد الخلقي، وهي مرحلة جاهد فيها الأبرار من رجالنا جهادا مستميتًا عنيفًا في ميدان النضال والفكر وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل دحر هذا النفوذ وتدميره.
كذلك لقيت "مرحلة الاحتواء" مواجهة صامدة من المفكرين الأبرار الذين مازالوا منذ ثلاثين عاما أو يزيد يكشفون عن هذا الخطر الكامن ويصححون زيفه ويفندون شبهاته ويسحقون خطره الممتد إلى العقيدة والمجتمع جميعا.
ولقد تعالت صيحة المقاومة للغزو الفكري والتغريب والاحتواء الثقافي من كل مكان، حتى يمكن القول الآن بأن هذه الحقيقة قد تمكنت من كل وجدان وبقي أن تكون حافزًا بالإرادة الصادقة لدحر هذا الخطر واستخلاص النفس الإسلامية والعقل الإسلامي من براثنها حتى تستطيع الأمة الإسلامية أن تستشرف خلال سنوات قليلة من الآن مرحلة جديدة بإذن الله هي مرحلة "الرشد الفكري" وتأكيد الذاتية والتحرر الكامل من التبعية والاحتواء في كل صوره وأشكاله وفي مختلف مجالاته قانونًا بالشريعة الإسلامية، واقتصادًا بالمنهج الإسلامي، ومجتمعًا بالأخلاق الإسلامية وتربية بأسلوب الإسلام.
- 7 ولذلك فنحن في حاجة إلى وحدة الفكر الإسلامي الجامعة التي تنطلق فيها كل قضايا الأدب والثقافة ومفاهيم الاجتماع والاقتصاد مستمدة مصادرها من دعوة التوحيد التي استعلنت من أربعة عشر قرنًا وتجددت قبل قرن ونصف فكانت مصدرًا لحركة اليقظة الإسلامية المعاصرة وعلامة على بزوغ فجر العصر الحديث في العالم الإسلامي كله وذلك قبل وصول طلائع الحملة الفرنسية وإرساليات التبشير بأكثر من خمسين عامًا.
وتلك حقيقة يجب أن تظاهرها كتب الدراسات الأدبية والتاريخية، وأن تصحح بها ذلك الخطأ الشائع الظالم الذي يدعي أن الغرب هو الذي أيقظ المسلمين.
ولكي نستطيع أن نمضي في الطريق إلى الغاية المرتجاة علينا ان نذكر أن الأمة الإسلامية بعد أن واجهت "أزمة الحروب الصليبية" التي استقطبت جهدها خلال مائتي عام كاملة من المقاومة والجهاد لم تلبث أن عاشت مرحلة "مد إسلامي" لم تتح له فرصة الوصول إلى الأعماق في العقيدة، وإن استطاع أن يمتد زمنيًّا إلى أكثر من أربعمائة عام حمى فيها الأمة العربية من أوضاع الغزو الغربي المتجدد، فقد قامت الدولة العثمانية الإسلامية التي خضعت كأي كيان *8 اجتماعي لسنن الله في الأمم والحضارات من حيث النمو والقوة والضعف والانحسار.
ولقد واجهت الدولة العثمانية الإسلامية في سنواتها الأخيرة مرحلة جمود وتخلف أمسكت المسلمين عن أمرين خطيرين من أمور القوة والسيادة:
أولًا: وهن القوى المادية وضعف أدوات الحرب والعتاد وعلومهما والانفلات من فريضة الجهاد الإسلامي بكل مستلزماته من مرابطة في الثغور وحماية للمواقع ووقف دائم في وجه الخطر المتحفز المترقب الذي لم يتوقف لحظة منذ انتهت الحروب الصليبية عن الزحف والتآمر، وإن كان قد عجز عن استئناف الجولة في جبهة المتوسط الشرقية التي كانت قوية صلبة وإن كان قد طاف حول إفريقيا من الغرب وأزال كثيرًا من نفوذ المسلمين فيها.
ثانيًا: ضعف التيار الفكري الإسلامي الذي التزم المسلمون بميثاق التوحيد أن يكون متجددًا ناميًا متصلًا دائمًا بمنابع القرآن مستمدًا قوته ونصرته من أصول الإسلام الأصيلة من مناهج الحكم والتربية وأنظمة الاحتجاج والاقتصاد ونتيجة لهذا كله علت موجة المد الغربي التي أخذت في تطويق عالم الإسلام وكانت تخشاه من قبل، فلما اقتحمته وجدته هشًا طريًا لأنه كان قد فقد قوته المادية العسكرية وجمد تجديده الدائم المتصل واستنام إلى الدعة، وزايل طموحه *9 وحيويته وتأهبه لمواجهة أعدائه الذين لم يكونوا قد ناموا بل استيقظوا، غير أن العالم الإسلامي القائم على مفهوم الإسلام وفكره المتجدد لم يكن لينتظر أن يوقظه أحد ما من خارج محيطيه، فقد بدأت حركته ذاتية من قلب الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي حيت حمل لواء دعوة التوحيد الإمام محمد بن عبد الوهاب فكان ذلك علامة على فجر جديد اطلع المسلمين لالتماس أصول عقيدتهم، وامتلاك ينابيع فكرهم واتخاذها جميعًا مصدرًا لليقظة.
وقد جاءت هذه الحركة مصدقة ومؤكدة لذلك القانون الذي عرفه المسلمون خلال تاريخهم كله والذي انتظم ماضيهم وحاضرهم بانبعاث حركة اليقظة كلما انحرف الطريق من قلب الإسلام نفسه وبأيدي أولئك الأبرار الذين أذن الله تبارك وتعالى بظهورهم على مدى الأجيال واستدارة الزمان، ومنذ ذلك اليوم وإلى اليوم وحركة الصراع دائرة بين قوى الغزو الأجنبي وبين حركة اليقظة الإسلامية في محاولة للسيطرة عليها وتنحيتها عن مكانها واستبدالها بحركة أخرى من اتباع له جرت المحاولات للتمكين لهم بالسيطرة على مقدرات التعليم والثقافة والصحافة، ثم كشفت أضواء الإسلام زيفهم وأفسدت هدفهم، وحررت منهم المناهج وإن كانت قوى الغزو الأجنبي لا تتوقف ولا تريد أن تبأس. وما أظن المسلمين إلا في جهاد لا يتوقف لمقاومة تيار هذا الغزو.
وقد عملت حركة اليقظة الإسلامية منذ يومها الأول بوعي *10 عميق وجددت منهجها ووسعت أبعاد حركتها لتستوعب مخططات الغزو جميعًا وقد استطاعت بفضل صدق دعاتها وقادتها ونضارة فكرها وأصالته وارتباطه بالفطرة والحق أن تستعيد الروح الأصيل الذي لم يكن للمسلمين نهضة إلا به ذلك هو روح "لا إله إلا الله".
ولقد مضت حركة اليقظة الإسلامية إلى العمل في ميدانين متكاملين.
الأول: تحرير العقيدة من زيف الجمود وما دخلها من أوهام الباطنية والغنوصية وشبهات المجوسية وتلفيقات الوثنية الهلينية.
ثانيًا: استعادة قدرة الإنسان المسلم على المقاومة والدفاع وإعادة فريضة الجهاد مرة أخرى إلى ساحة المجتمع الإسلامي وإحياء مفاهيم النضال والاستشهاد والكشف عن صفحات التاريخ الحافل بالبطولة والمجد ومحاولة استئنافها تطبيقًا واسترخاصًا للأرواح في سبيل إعلاء كلمة الله.
وقد مضت المعركة سجالًا يقتحمها المجاهدون المسلمون ويثبتون فيها، وقد ذهل الاستعمار لهذه المعارضة القوية، وغير أساليبه وخططه مرات ومرات دون أن يتحول عن غايته وحاول إقصاء العناصر القوية والنماذج الرائعة عن مجال النضال وأقام دائرة ضيقة لها نفوذ، قصرها على رجاله الذين ## 11 ## كونهم وشكلهم واستأنف بهم سيطرته على مقدرات الأمم والشعوب.
وقد كشفت أحداث السنوات الخمسين الأخيرة في العالم الإسلامي كله عن فشل تجارب الغرب بمنهجيه الليبرالي والماركسي في مجال السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية، وعجزت النظم المختلفة عن أن تقدم للنفس الإسلامية والمجتمع الإسلامي ما يسد حاجته أو يمكنه من أن يجد ذاته وتكلفت النتائج الحاسمة عن عجز التجارب الغربية بشقيها واستعلنت الحقيقة الصادقة العميقة المغزى أمام العالم الإسلامي كله بأنه لا طريق له بعد أن جرب كل الطرق إلا طريقا واحدا: هو طريق التوحيد والقرآن والشريعة الإسلامية وأنه ليس له سبيل سوى الإيمان بالإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة.
ويمكن القول أن الطبول تدق في كل مكان اليوم معلنة أنها تلتمس طريقها من خلال الشريعة الإسلامية وأن فريضة الجهاد حين دخلت مرة أخرى إلى حياة المسلمين غيرت باسم الله والله أكبر الكثير وأدالت من العدو وكشفت عن قدرات رائعة في النفس المسلمة بحيث لا يقف أمامها أي خطر وكان ذلك الالتقاء على عقد الخناصر وترابط القوى، مذهلًا لقوى الغزو والاستعمار.
وهناك بوادر كثيرة في تطبيقات الاقتصاد الإسلامي* 12 والمجتمع الإسلامي والشريعة الإسلامية سوف تحقق الكثير مما يطمع فيه أصحاب دعوة الحق وبناة اليقظة.
ولا ريب أن ذلك كله منطلق لما بعد من خطوات حتى يستطيع الباحث المسلم أن يعلن دون أن يخشى شيئًا أن (عصر التبعية) بهذه الخطوات أنما يتدافع إلى نهايته بعد أن انتهى من قبله عصر الاستعمار وأن عصرًا جديدًا يوشك أن يشرق فجره، من حول الكعبة المباركة ومن الارتباط بالقبلة.
ذلك هو عصر "تأكيد الذاتية" وبناء "الرشد الفكري" ودعم وحدة الفكر الإسلامي على نحو يؤهل المسلمين إلى تقديمن رسالتهم عما قريب إلى البشرية كلها، هذه البشرية التي يجتاحها القلق الصارم والتمزق النفسي الشديد والتي أوفت على مراحل اليأس القاتل بعد أن فشلت تجاربها خلال أكثر من مائتي عام تقريبًا في أن تقيم مجتمعًا كريمًا أو تحرر النفس البشرية من أسرها، فقد فشلت التجارب وعجزت الأيدلوجيات ويئس الفلاسفة إلا من ضوء واحد لا يزال في نفوسهم منه شيء هو ضوء الإسلام.
غير أن هذه المهمة الخطيرة التي هي أمانة في الأعناق للأمة الإسلامية في حاجة إلى جهد مضاعف وعمل مكثف وهذا يتطلب بالتالي إلقاء أضواء كاشفة على تلك الخلفيات البعيدة الخطر التي تبدو من وراء "حركة التبعية والاحتواء" التي تتضافر فيها جهود الاستعمار والمادية والصهيونية وأتباعها جميعًا في مواجهة الإسلام.
- ص 13 ولقد كان للدور الذي لعبته الأيدلوجية الصهيونية التلمودية في العصر الحديث منذ الثورة الفرنسية إشارة بعيدة في السيطرة على الفكر الغربي نفسه واحتوائها له، وله إشارة بعيدة أيضًا في مناهج الاستشراق والتبشير والتعليم.
وعلى المفكرين المسلمين كشف أبعاد هذا المخطط حتى يسهل القضاء عليه توطئة للدخول في مرحلة الرشد الفكري المبتغاة وبين يدي هذا العمل أقدم هذه الحقائق:
أولًا:
من أخطر ما كشف عنه الوثائق في السنوات الثلاث الأخيرة "بروتوكولات صهيون"، وقد بدأ الحديث عنها بعد حرب 48 حثيثًا ثم ترجمت إلى اللغة العربية بعد ذلك بقليل.
والمعروف أن هذه البروتوكولات ظهرت في أواخر القرن الماضي الميلادي، أي أنها ظلت محجوبة عن المسلمين والعرب قرابة خمسين عامًا لم تشر إليها أية صحيفة أو مجلة من الصحف العربية خلال هذه الفترة ويرجع ذلك بالطبع إلى أن الصحف التي كانت قادرة في هذا المجال كلها كانت من أصحاب العمالة الاستعمارية الصهيونية، وكانت ذات ولاء واضح للماسونية وما وراءها من مخططات فلما انكشفت البروتوكولات في منتصف هذا القرن تبين أن كثيرًا مما جاء بها كات قد تم تنفيذه فعلًا وفي مقدمة هذا تمزيق العالم إلى كتلتين، والقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية الجامعة للعرب والترك. غير أن الباحث يستطيع أن يعرف أن مضامين هذه *14 البروتوكولات التي كانت قد بدأت تنكشف بعد إسقاط السلطان عبد الحميد رحمه الله عام 1908 – 1909 م وعلى التو تكشف مخطط ما يعرف بالماسونية التي دخلها كثير من الأعلام المسلمين بحسن نية وظنًا بأنها تعني ما تعلن عنه مما أطلق عليه (حرية – إخاء – مساواة) ولم تكن أبعاد الأمور قد انكشفت لهم بعد على نحو ما انكشف لنا بعد ذلك.
غير أن السلطان عبد الحميد كان على معرفة عميقة بهذا التيار الذي سرعان ما اتضحت آثاره بعد سقوطه مباشرة، وجرت الإشارة إليه وقد أثبته كذلك السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار وحذر المسلمين من مخطط واسع أحد طرفيه الماسونية والطرف الآخر هو الصهيونية.
وقد انكشف موقف السلطان عبد الحميد جليّا في السنوات العشر الأخيرة بعد أن ظل غامضًا مضببًا على نحو من الظلم والاتهام في الباطل وذلك بعد أن ترجمت مذكرات هرتزل إلى اللغة العربية وسجلت – والحق ما شهدت به الأعداء – أن هذا الرجل الكريم أغري أشد إغراء ثم هدد أشد تهديد، ولكنه صمد صمودًا تامًا وكان موقفه من الملايين الخمسة والخمسين من الذهب التي عرضت عليه مشرفًا وكريمًا، وكانت رسالته الحاسمة الأخيرة، وهذه الوثيقة تستطيع أن تصحح الخطأ الذي عاش سنوات وسنوات في معظم كتب التاريخ والأدب في البلاد الإسلامية محاولًا أن يلقي على شخصية السلطان عبد الحميد ظلال التشكيك والاتهام ومجافاة الحرية والعدل.
- 15 في عام 1902 م بدأت المعركة مع السلطان عبد الحميد لإسقاط الدولة العثمانية والخلافة وكان ذلك مطابقًا للبروتوكولات، وفي عام 1909 م تم إقصاء السلطان عبد الحميد وفيما بعد سقطت الخلافة.
وكانت ثمار مدارس الإرساليات هي القوى ذات الأسلحة الحاسمة في مجال الصحافة والتي حملت لواء هذه الدعوة الضالة فقد كان التبشير قد ركز نفسه وأنشأ جامعاته ومن أوائل خريجيها جاء هذا الفوج الذي قاد الصحافة العربية مع الأسف في هذه المرحلة وأعلن الحملة على السلطان عبد الحميد وعلى الخلافة وعلى الإسلام. ثانيًا:
أعتقد أن البحث يقتضينا أن نذهب إلى أبعد من ذلك عمقًا في التاريخ فنرجع إلى السنوات التي بدأت فيها فكرة هرتزل عام 1897 م وهو العام الحاسم الذي أعلنت فيه الدعوة الصهيونية بعد أن أعدت خيوطها الأولى ممثلة في ماركس من قبل وفرويد الذي كان صديقًا لهرتزل ومشاركًا له في المؤسسات الصهيونية، وبذلك انتظمت الخيوط كلها في طريق واحد: طريق تهديم البشرية وسحقها توطئة للحلم اليهودي بالسيطرة العالمية.
- 1- عن طريق إعلاء العنصرية بالدعوات المتصلة *16 التي أعلنها مارس مولر اليهودي وماكس نوكدو خليفة هرتزل وذلك لخلق الدعوة إلى عنصرية شعب الله المختار.
- 2- عن طريق تحويل الفكر البشري كله ناحية الطعام والمادة بما أعلنه ماركس وإنجلز من نظريات للتفسير المادي للتاريخ وما يتصل بالنظرية الربوية العالمية.
- 3- عن طريق تدمير النفس الإنسانية بالدعوة إلى تحويل الفكر البشري كله من ناحية الجنس والغرائز وإطلاقها وهو ما أعلنه فرويد.
وقد كشفت الأبحاث من بعد عن الصلات الوطيدة بين الفروع الثلاثة المتصلة بالدعوة الأساسية إلى الصهيونية العالمية من خلال إعلاء نص محرف يفصل بين إبراهيم عليه السلام من جهة وبين ابنه الأكبر إسماعيل جد العرب والمسلمين من جهة أخرى وإسحاق جد اليهود والمسيحيين من جهة أخرى، في محاولة مضللة لشجب الجناح الإسماعيلي العربي المتصل برحلة إبراهيم إلى مكة المكرمة ونشأة فرعه الإسماعيلي فيها.
ولقد كان دهاء الصهيونية بارعًا منذ ذلك الوقت البعيد وذلك بالسيطرة على مصادر العلوم وفي مقدمتها (دوائر المعارف) فقد استولى اليهود على إعادة صياغة دوائر المعارف والموسوعات العالمية وفيها ركز الصهيونيون محاولتهم في توجيه جميع المواد التاريخية على النحو الذي يشك * 17 في حقائق الإسلام ووقائع التاريخ وفي علاقة المسلمين والعرب بإبراهيم عليه السلام.
ولقد عمد بعض الكتاب العرب متباعة لهذا المخطط إلى إنكار وجود إبراهيم وإسماعيل والتشكيك في اللغة العربية وصلتها بالقرآن.
وكأنما كان ذلك نذيرًا لمن ألقى السمه وهو شهيد إلى ما بعد ذلك من محاولات تزييف للتاريخ الإسلامي يراد أن تجرى أولًا من خلال دراسات الأدب وثانيًا من أقلام كتاب عرب يتسمون بأسماء إسلامية.
وفيما يتصل بهذا ما كشفته الأخبار عن اجتماع البهائيين في مؤتمر عالمي في القدس المحتلة 1968 م وما أعلنوا من أن دعوتهم مستمدة من الصهيونية أساسًا والتاريخ يثبت كيف كان لهم نشاطًا في يافا إبان الاحتلال الإنجليزي لفلسطين ومنه امتد إلى كثير من البلاد الإسلامية والعربية وأنهم خدعوا كثيرًا من الناس دون أن يتبين الكثيرون مدى صلتهم بالتلمود.
ثالثًا:
ولكي تكتمل أبعاد الصورة أقدم هذه الوثائق المتلاحقة التي يمكن تجميعها في إطار واحد لكي تشكل بعدًا جديدًا لما نريد أن نصل إليه – هذا (غلادستون) بعد احتلال مصر يقول عام 1897، بعد أن يصعد إلى منبر مجلس العموم ومعه نسخة من القرآن الكريم يلوح بها في وجه * 18 الأعضاء ويقول: "إنه ما دام هذا الكتاب باقيًا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين".
وكان هذا علامة إنطلاقة خطيرة للاستشراق لها آثارها الكبيرة بالنسبة للمخطط الذي طرحته الشبهات في كل مجالات الفكر الإسلامي لتوهين مفهوم الإيمان بالله والصمود والمواجهة للعدو والجهاد والمجابهة للغزاة في كل مكان وكان كرومر قد أعلن منذ عام 1883 م موقفه حين قال: "إنما جئت لأهدم ثلاثة: الكعبة، والأزهر، والقرآن".
وفي عام 1907 م يتقدم "بيترمان" الوزير البريطاني بوثيقته المعروفة التي تقول: إنه لكي يظل الاستعمار قادرًا في السيطرة على المسلمين والعرب والحيلولة دون نهوضهم لابد من "إقامة حاجز بشري" يفصل بين مسلمي أفريقيا وآسيا وكان الجواب حاضرًا وربما كان ذلك تمهيدًا لما يراد أن يقال حيق تقدم اليهود فقالوا: إنما نحن الحاجز البشري المعادي للمسلمين، ثم كان وعد بلفور بعد ذلك خطوة تالية على الطريق، فإذا ربطنا بين تقرير "بيترمان" وبين إسقاط السلطان عبد الحميد عام 1909 م وفتح الطريق أمام اليهود إلى فلسطين عن طريق الدونمة والاتحاديين وصلنا إلى لورنس البريطاني ودوره في تمزيق الرابطة بين العرب والترك التي جمعهما لواء الإسلام، وفي هذه الفترة الحاسمة استطاع أتباع المحافل الماسونية وخريجوها بين 1909-1918 م أن يضيعوا طرابلس الغرب وأن تهزم الدولة العثمانية وأن يصل اليهود إلى الأرض المقدسة حتى جاء اليوم الذي وقف فيه اللورد اللنبي في القدس ليقول: ## 19 ## "الآن انتهت الحروب الصليبية":
وقف القائد الفرنسي (جيرو) في دمشق أمام بطل حطين صلاح الدين وهو يقول: ها نحن عدنا يا صلاح الدين.
وفي نفس اليوم الذي دخل فيه الإنجليز القدس بقيادة اللورد اللنبي صاح صائح يهودي يقول: إن هذه المعركة هي لحسابنا ونحن ورثة البريطانيين في السيطرة على القدس، قالوا ذلك قبل عام 1967 م بأكثر من خمسين عامًا.
لقد كانت الحملة الصليبية باسم الدفاع عن قبر المسيح وجاءت الحملة الصهيونية باسم الدفاع عن حائط المبكى.
وكلعا دعاوى تبرر الغزو فما كان قبر السيد المسيح إلا مكرمًا في أيدي المسلمين، وما كان حائط المبكى محظورًا على اليهود أن يصلوا إليه، ولكنها حيل التاريخ وقضايا الماضي تحاول أن تحول دون وحدة المسلمين وقيام نهضتهم من جديد.
ونحن نعرف أن المعركة قديمة قدم الإسلام نفسه وأن الغرب لن يتوقف عن مهاجمة معاقل المسلمين، وأنه حتى في خلال فترة وجود الدولة العثمانية الإسلامية لم يتوقف عن التآمر عليها، وقد أحصى الوزير الإيطالي (دجوفارا) أكثر من مؤامرة على الدولة العثمانية لتدميرها في كتابة الموسم باسم: «مائة مشروع لتمزيق الدولة العثمانية».
- 20 رابعًا:
ولكي تكون أبعاد الصورة مكتملة تحت أبصار المسلمين لابد أن نتحدث عن ذلك العمل الذي صاحب هذه المحاولات كلها وكان عقدة العقدة فيها، ذلك هو "التغريب" المخطط والمنظمة التي تستهدف تحويل هذه الأمة الإسلامية عن أصالتها وهدم ذاتيتها وتذويبها في أتون الفكر العالمي وإحوائها في الأممية، والفكر العالمي اليوم صريع الفكر الصهيوني مصاغًا في قوالب ذات طابع علمي براق خادع لأصحاب النظرة الخاطئة والفكرة الساذجة ولأولئك الضحايا الذين ما زال الفراغ النفسي والروحي والديني يجتاح نفوسهم نتيجة لقصور المناهج التربوية في بلاد المسلمين فهم أقرب الناس إلى التقاط عدوى الغزو حيث لا توجد الحصانة التي تدفع عنهم أو تحميهم من أخطار السهام المنطلقة من كل مكان.
ولا ريب أن أبرز مؤسسات هذا الغزو هما مؤسستا: الاستشراق والتبشيبر وقد اتخذتا مجالهما في ميادين التعليم والثقافة والصحافة واتخذتا لهما هدفًا حاسمًا، وأن تغيرت الأساليب والوسائل بين آن وآن حسبما تكشف التجارب وتقضي الظروف.
ولقد بدأت حركتا التبشير والاستشراق عملهما على نحو عنيف عاصف واتصل أمرهما في أول الأمر بالكنيسة ثم امتد إلى وزراء الاستعمار فلما لم يجدا من رد فعل غير الإنكار من جانب المسلمين عدلا اتجاههما في الأربعينيات تعديلًا فاختفى التبشير وراء التعليم، واصطنع الاستشراق*21 أسلوبًا خادعًا يقدم تمهيدات فيها بعض الاستحسان للإسلام ثم يدس السم بعد ذلك خفيفًا خفيفًا حتى لا يثير الشبهات إلا بعد كسب الثقة بالتمويه.
ثم سيطرت اليهودية التلمودية والصهيونية على الاستشراق والتبشير واستخدمته في سبيل قضيتها، كانت قضية الاستشراق الغربي في كلمة هي إخراج المسلمين من مفهوم (الإسلام نظام مجتمع) إلى مفهوم مأخوذ من الغرب يرى أنه لا صلة بين العبادة والمجتمع وذلك حتى ينفسح المجال للقانون الوضعي بدلا من الشريعة، وفي مجال الاقتصاد المصرفي الربوي بدلًا من مفهوم {وأحل الله البيع وحرم الربا}، وفي مجال الاجتماع بإطلاق الغرائز وتطوير الأخلاق بدلًا من ضوابط الإسلام وحدوده.
أما الاحتواء الصهيوني للاستشراق والتبشير فقد استحدث ضرب مفهوم العلاقة بين العروبة والإسلام وإعلاء شأن العنصرية وطرح نظريات باطلة في مقارنات الأديان والأخلاق والاجتماع والتفسير المادي للتاريخ والتربية.
ولقد سئل الدكتور زويمر - كبير المبشرين في البلاد العربية - في الثلاثينيات عن فشله في إدخال المسلمين إلى المسيحية فأجاب تلك الإجابة الخطيرة التي يجب أن تكون موضع تقدير الباحثين المسلمين في مجال الغزو الثقافي والتغريب: إن الهدف من التبشير ليس إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك جد عسير ولكن الهدف هو إخراجهم من الإسلام.
خامسًا:
في السنوات الأخيرة سيطر الاستشراق اليهودي على الاستشراق الغربي وقدم عددًا من أعلامه: ##22 ##
- • مرجليوث وجولد سيهر وبرنارد لويس في مجال الدراسات العربية.
- • دوركايم وليفي بريل وفرويد وسارتر في مجال الاجتماع والأخلاف (هذا بالإضافة إلى ماركس).
وبدت واجهات العمل في أفق الفكر الإسلامي ولها صورة أخرى أشد عمقًا ومكرًا وهذه جريدة التيمز تتحدث عن الإسلام في إفريقيا فتقول: "كان الاعتقاد قديمًا أن الإسلام دين شعوب الصحراء وقد يتقدم إلى الحضر، وما كان أحدًا يصدق أنه يستطيع أن يخترق المناطق الاستوائية ويصل إلى جنوب إفريقيا" ليس هذا هو المهم من النص وإنما المهم يأتي من بعد، يقول: "ويختلف الغربيون في اتجاههم الفكري نحو مستقبل الإسلام في إفريقيا، من قائل أن تقدم الإسلام لن يضر بالمصالح الاستعمارية إذا ما سار الإسلام في الخطوات التي رسمها له الاستعمار بينما يرى آخرون ضرورة (الحد من تقدم الإسلام) عن طريق نشر البدع والخرافات (أي إدخال البدع المخالفة لأصل الإسلام لإفساده وإزالة حقيقة الإسلام عنه ثم بقاء اسم الإسلام عنوانًا لها) حتى يكون ذلك بمثابة حائل يقف أمام ضغط الاستعمار المتزايد".
وهذا نص يؤكد: أن هناك محاولتين في مواجهة الإسلام:
الأولى:
أن يتحرك الإسلام في الخطوط التي رسمها* 23 الاستعمار في دائرة أنه دين لاهوتي فحسب وليس دين شريعة ونظام مجتمع.
ثانيًا:
نشر البدع والخرافات بما يعني تحريف المفاهيم والقيم وهذا ما يطلق عليه محاولة هدم الإسلام من الداخل.
وإن نظرة واحدة إلى هدف التغريب كما صوره دهاقنة الاستعمار والنفوذ الغربي ليؤكد هذا المعنى: فهم يهدفون من خلال دراسات الاستشراق المبثوثة في معاهد التعليم والصحافة والمؤلفات الثقافية إلى إنشاء عقلية عامة تحتقر كل مقومات الحياة الإسلامية وتنفر من الدين وتعمل على إبعاد العناصر التي تمثل الثقافة الإسلامية عن مراكز التوجيه.
ونحن حيث نبحث النظريات الحديثة (الوافدة) المطروحة في أفق الفكر الإسلامي في العصر الحديث – يتبين لنا أنها على وجه العموم بدأت بكتابات المبشرين والمستشرقين ثم سلمت إلى الجيل التابع الذي تشكل في دائرة الاحتواء، فقد حمل الدعوة إلى العامية في البلاد العربية دعاة من أمثال ولكوكس وولموز وسبيتا في مصر وكولون في الجزائر وماسنيون في المغرب، كما تؤكد الأبحاث التاريخية أن أول من نادى بالطورانية والفرعونية والفينيقية وغيرها كان من المستشرقين ثم جاء بعد ذلك طه حسين وسلامة موسى وساطع الحصري وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي وغيرهم.
وقد كان هدف حركة الاستشراق واضحًا وهو كما عبر *24 عنه أربابه يتلخص في عبارة حاسمة: "وضع العلم في خدمة السياسة والاستعمار" وقد استهدف غايات بعيدة أهمها:
أولًا: إذابة الشخصية الإسلامية والقضاء على ذاتيتها الخاصة وطابعها المفرد واحتواؤها.
ثانيا: قطع الصلة بين حاضرها القائم وبين أصولها الإسلامية في محاولة ربطها بماضيها الوثني السابق على الإسلام.
ثالثًا: إثارة الشبهات بهدف خلق جو من الازدراء والاستهانة بالميراث الإسلامي.
رابعًا: كان الاستشراق هو المصنع الذي يقدم السموم لمدارس التبشير وإرسالياته لتطبيقها في مناهجها التي انتقلت إلى المدارس الوطنية.
خامسًا: استهدف هذا العمل تمزيق وحدة فكر العالم الإسلامي وتشتيته بما سمي إسلام عربي وإسلام فارسي وإسلام تركي وهكذا، وبما جرى التركيز عليه من مفاهيم العنصريات وإعلائها حتى ليقول (هاملتون جب): أن أولى النتائج التي نجمت عن الغزو الفكري أنه زعزع فكرة أن العالم الإسلامي وحدة ثقافية واحدة وتسيطر عليه تقاليد واحدة.
حقًا، لقد بقيت رابطة العطف والماضي المشترك والعقيدة المشتركة ولكن امتزاج الأفكار المأخوذة من الغرب بدرجات *25 متفاوتة كان قد بدأ ينزع إلى كل مملكة من الممالك الأخرى".
وهذا هو ما يستدعي العمل لوضع قاعدة: وحدة الفكر الإسلامي إزاء كل ما يراد به وأن نبدأ في بناء مناهجنا التربوية والثقافية والاجتماعية على هذه القاعدة.
إن العالم الإسلامي الذي يضم الآن قرابة ألف مليون مسلم ويتكلم أكثر من عشر لغات يستطيع أن يتخذ من (القرآن) لغة جامعة تقوم على أساسها زعامة فكرية رصينة تقف في وجه كل هذه المؤامرات والمحاولات التي ترمي إلى تدمير ذاتيته وحصره في بوتقة (التبعية) بعد أن بدت بوادر فجر الانطلاق نحو مرحلة: الرشد الفكري كمقدمة لقيام المسلمين بتبليغ رسالتهم إلى العالمين كرة أخرى.
وأمامي تقريران: أحدهما :
عن مؤتمر بتليمور الذي عقد بإشراف الصهيونية العالمية في إحدى الجامعات المصرية والذي يعد في نظر الباحثين نقطة التحول في اتجاه الصهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي وذلك عام 1948 م وقد حضر (بن جوريون) هذا المؤتمر وقاد أعماله إلى هدفها، وكان مما تقرر فيه: تنظيم ومضاعفة عمليات تزييف التاريخ العربي وطرح دراسات جديدة تحمل الشبهات التي تتصل بمؤامرة إسرائيل.
- 26 وقد أعدت الصهيونية عناصر هامة من الباحثين استطاعوا السيطرة على كراسي دراسات التاريخ الإسلامي في أغلب الجامعات الأوروبية والأمريكية – وذلك على حد تعبير الدكتور إبراهيم العدوي – لدعم النشاط السياسي ضد العرب في العالم والتوصل إلى خلق حركة ثقافية عنصرية تساعد على تفتيت العرب وعلى هزيمتهم أمام العالم وأمام المسلمين تاريخنا.
ومن أمثلة هذه النظريات التحريفية التي يطرحها الاستشراق اليهودي محاولة تصوير العرب والمسلمين بصوره الوحشية، ورد مقومات ثقافتهم إلى أصول يونانية رومانية وإحياء الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي كالقرامطة والباطنية والزنج والحلاج وغيرها.
وإثارة الشبهات حول سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وخاصة فيما يتصل بالمرحلة التاريخية التي عرفت باسم الحنيفية والسابقة لليهودية.
كذلك تركز الصهيونية على تخويف الغرب من قيام دولة عربية كبرى واحدة وتعيد إثارة صفحات التاريخ فيما يتعلق بالخلاف بين المسلمين والغرب وخاصة في الأندلس والبلقان وغيرها.
ويؤسفني أن أقول أن كثيرًا مما نشر في العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة كان استجابة وتطبيقًا لهذا المخطط.
الثاني: تقرير عن الحرب المعلنة على العقائد الدينية وعلى أمور الوحيث والنبوة والغيب.
والفلسفات المطروحة التي ترمي إلى إلغاء القيم الثوابت وإبدالها بنظرية التطور *27 المطلق، وتجاوز المعنويات والروحيات وإقامة المادية وحدها مقاعدة الفكر وإلغاء الضوابط الأخلاقية والمسئولية الفردية والدعوة إلى رفع الوصاية عن الشباب والعمل على إخراج العرب والمسلمين من إطارات الدين مما أطلق عليه بعد النكسة (علمنة الذات العربية) كذلك هناك دعوات إلى إعادة طرح الأساطير والإباحيات في أفق الفكر الإسلامي والأدب العربي عن طريق القصة والمسرح والصحافة. ومحاولات أخرى لإحياء الجاهلية العربية والوثنية الإغريقية والمجوسية الباطنية.
وقد تجد هذه الدعوات تقبلًا من شباب قليل الخبرة ممن عجزت المناهج الجديدة أن تمدهم بزاد نفسي وروحي يسد حاجتهم من القيم العاصمة من الزلل.
وهناك محاولات تضع تخلف المسلمين والعرب وهزيمتهم الماضية في كفة في مواجهة ضرب الفكر الإسلاميه ورميه بأنه مصدر الهزيمة مع أنه لم يكن خلال تلك الفترة مطبقًا أو معتبرًا أسلوبًا للحياة حتى يتحمل مسئولية الخطأ، وإنما تتحمل مسئولية الخطأ تلك المناهج الوافدة، ولو التمس المسلمون منهجهم أسلوبًا للحياة لما تعرضوا لهذا الخطر ولما هزموا، والحقيقة أن هذه الهزيمة لم تأت من مصدر واحد، هو التبعية واعتماد أساليب الفكر الوافد، ثم أنهم بعد ذلك لم ينتصروا إلا عن طريق التمساهم منهجهم الأصيل* 28 الذي انتصروا به خلال تاريخهم كله وسوف يكون نصرهم حاسمًا ما تعمقوا هذا المنهج واستوعبوه بالتطبيق الكامل في مختلف مناحي الحياة.
ولقد نسي العرب والمسلمون في مرحلة التبعية والاستعمار أن منهجهم يختلف اختلافًا كبيرًا عن مناهج المستعمرين من ناحية وأن المستعمرين لم يقدموا للمسلمين إلا كل زائف ومضطرب وفاسد، وأنهم حجبوا عامدين وما زالوا يحجبون أسرار العلم وأسباب القوة ووسائل التقدم.
لعلي لا أعدو الحقيقة إذا رددت هذه الكلمة التي يؤلف عنها مجلد كامل، تلك هي: "إن الأهداف الصهيونية تحولت إلى مذاهب فلسفية لها دعاة ومدافعون، وأن بعض أهلنا قد استخدموا – بغير أجر ولا مثوبة – لخدمة هذه المخططات على سذاجة منهم وغرور، وأن الخطر ليس خطر المؤسسات المعروفة، ولكن الخطر الأشد، هو الذي يختفي وراء بريق التقدم والعلمانية والعصرية وغيرها".
وقد آن للعرب وللمسلمين أن يتجاوزوا هذه المناهج، أن يتجاوزوا فرويد وماركس وسارتر إلى آفاق أكثر سعة وأكثر اتصالًا بذاتيتهم وقيمهم، وهم لم يجدوا هذه الآفاق إلا في الإسلام وفي معطياته المثمرة وحلوله الحاسمة لكل ما تعاني البشرية من مشاكل وأزمات وفي قضاياها الثلاثة الكبرى: الحرية والعدل والشورى.
- ص 29 لقد سقطت تلك المناهج الوافدة في بلادها، وفقدت قدرتها على العطاء، وعجزت عن إسعاد النفس أو تأهيل المجتمع للطمأنينة وهي أعجز بالنسبة لمجتمع غير مجتمعها، ولذلك لم يبق للمسلمين والعرب من سبيل إلا أن يعودوا إلى معطياتهم. وهي معطيات ربانية المصدر، إنسانية الطابع، تحمل الصدق والحق واليسر بعيدًا عن التعقيدات الفلسفية، والمذاهب والأهواء، وهي خير عطاء للبشرية لو فقهت البشرية حاجتها الحقيقية وهديت إلى ذلك الضوء الساطع العميق.
إن على المتابعين للحضارة العربية منا أن يذكروا كيف أن أصحابها قد فقدوا الأمل فيها وهذا (أرنولد توينبي) في كتابه: «الحضارة والغرب» يعلنها صيحة مدوية حين يقول: "إن الحضارة الغربية تمر الآن في طور التدهور والانحلال الذي مرت به الحضارة الرومانية من قبل.
من أجل هذا لم تعد فنون الصناعة أو الاقتصاد أو غيرها من المعارف كافية لتوفير الاستقرار والسعادة للمجتمع الإنساني، ذلك أن الروابط الروحية هي العمد الحقيقية التي لا يمكن أن يقوم بدونها صرح المجتمع ويتماسك بناؤه"!. فكيف إذن نلتمس من الضائعين الضوء وهم في حاجة إلى أن نعطيهم إياه.
لقد استطاعت حركة اليقظة الإسلامية أن تكشف كثيرًا من زيف الاستشراق وخطل رأيه من أبرز وجوه ذلك عجز الاستشراق نفسه عن تصور النفس الإسلامية والعقل الإسلامي تصورًا صحيحًا لأسباب عديدة منها:
- عجز المستشرقين أنفسهم عن فهم البيان العربي، هذا *30 إذا خلصوا من تعصبهم، أما إذا اجتمعت الأهواء مع العجز عن الفهم يكونون قد بعدوا تمامًا عن فهم المسلمين والعرب.
إننا لا نغلق أبوابنا أمام الفكر البشري، وسمة فكرنا الأساسية أنه متفتح، ولكنه قائم على قاعدته يأخذ ما يزيده قوة ويرد ما سوى ذلك، ولقد كان المسلمون يؤمنون على مدى العصور أن الفكر الوافد ما هو إلا بمثابة (مواد خام) لهم الحق في استعمالها وتشكيلها على النحو الذي يرونه نافعًا لهم ولهم الحق أيضًا في ردها والاستغناء عنها.
إننا مطالبون بأن نحمي تاريخنا من الزيف، ونصون تعليمنا من مادية الفكر، ونحن في حاجة دائمة إلى التفرقة بين الأخلاق التي هي جزء من الدين وبين التقاليد التي هي من نتاج المجتمعات، كذلك علينا التفرقة بين مفهوم الإسلام نفسه كما جاء به القرآن وبين التطبيق التاريخي الذي أصاب فيه المسلمون وأخطأوا حيث لا تعد ممارستهم حجة على الإسلام بل يكون الإسلام حجة عليهم، علينا أن نفرق بين الأصيل والوافد، علينا أن نؤكد مفاهيمنا في الثقافة والتربية والسياسة والاجتماع والأخلاق والقانون وأن نعرف مكانة اللغة العربية فينا، لغة القرآن يجب أن نجري بها على مستواه ولا ننزل عنه إلى العاميات أو ما يسمى باللغة الوسطى فذلك كله من دعوات التغريب والغزو الثقافي.
لقد حاول الاستشراق في طوره المعاصر أن يزيف التاريخ الإسلامي ليفسر مفهوم البطولة الإسلامية تفسيرًا ماديًا خالصًا *31 وأن يثير الشبهات حول النبوة والوحي، وأن يحاكم أعلام المسلمين إلى البيئة والعنصر والعرق، كما حاول كثيرًا بالنسبة لمفاهيم النفس والاجتماع، والأخلاق والتربية، وهنا يبدو مدى خطر دخول العرب المسلمين في مواجهة مع عدوهم بمفاهيم وافدة واعتقادات مضللة.
كان قد فرضها هذا العدو عليهم من قبل ليتعاملوا معه بها ومن شأن هذا أن يحول بينهم وبين القدرة على مقاومة العدو، وهنا يبرز الخطر: خطر الاعتماد على المصادر الوافدة والنظريات الوافدة والنظر إليها على أنها حقائق بينما هي فروض تصدق وتخيب.
ولن تبدأ نهضة المسلمين الحقة إلا من خلال العقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد فهي وحدها العقيدة القادرة على إطلاق طاقتهم ودفعهم إلى الآفاق.
إن تقدم المسلمين والعرب لا يقوم على العلم وحده، كما قامت نهضة الغرب فأصابها التمزق والانفصام والانحراف ولكنها تقوم على العقيدة والعلم جزء منها ولن يتحرر العرب والمسلمون ويسودوا قبل أن يتحرروا من كل قيود التبعية والغزو الثقافي.
وليعلموا أنه ليس من سبيل إلى فصل هذه المرحلة المعاصرة عن تاريخهم كله، المتصل الحلقات الممتد عبر أربعة عشر قرنًا، والذي يتمثل منذ أن جاء الإسلام واستقر مجتمع المسلمين في إطار لغته وعقيدته وتاريخه على نحو لا سبيل إلى فصل مرحلة عن أخرى، وحيث لا يمكن دراسة أزمة من أزمات المسلمين أو نصر من انتصاراتهم إلا في إطار تاريخهم كله، وليس اتصال المسلمين بالغرب في العصر *32 الحديث شيئًا مستقلًا ولكنه حلقة من حلقات متصلة تأثرًا وتأثيرًا – فعلًا ورد فعل.
ومن الحق أن نقول أن الإسلام قد أعطاهم ما تعجز مناهج الدنيا كلها أن تعطي مثله، أعطاهم جُمَّاع الحريات والضوابط وتكامل الفردية والجماعية، وتلاقي العلم والدين، وترابط الروح والمادة، وتلاقى الوحي والعقل وتوازن الدنيا والأخرى، وارتباط الغيب والشهادة، والتقاء الثبات والتطور وتتابع الماضي والحاضر.
وبعد.. فلابد أن يخرج المسلمون من مرحلة التبعية إلى مرحلة الترشيد بإذن الله، ولقد قامت الحجة عليهم بما لا مزيد عليه من تجربة.
فقد جربوا فكر الغرب الليبرالي وفكر الشرق الماركسي، وامتحن الفكر الإسلامي خلال ذلك امتحانًا شديدًا فصمد للمحنة وثبت في الأزمة ونجح في الامتحان وأثبت أنه أقدر المعطيات قاطبة ليس للمسلمين وحدهم بل للإنسانية كافة ولذلك فلابد أن يلتقي المسلمون على وحدة فكر تكون مقدمة لوحدتهم الشاملة وبها يدخلون عصرًا جديدًا.