وجوب العمل الجماعي .. أ.د. صالح الرقب..
وجوب العمل الجماعي
إن من فطرة الله سبحانه وتعالى للإنسان أن جعله كائنا اجتماعيا بطبعه, يتأثر بصلاح مجتمعه فيصلح, أو بفساده فيشقى لذلك كانت جهود المصلحين عبر التاريخ منصبة على المجتمعات وكان التغيير فيها يتم بعد تبني جماعة ما لمنهج إصلاحي معين؛ لأن الفرد بطاقاته المحدودة وعمره المحدود لا يستطيع أن يحقق الأهداف الكبرى إذا لم يضم جهده إلى غيره, وإذا نظرنا إلى عصرنا الذي تعقدت فيه الأمور وتشعبت فيه التخصصات وأصبحت فيه الدول معسكرات وأحلافا حتى عرف بعصر التكتلات فبأي منطق سيكون للأفراد فيه أثر أو تغيير؟
وقد أوجب الله العمل الجماعي على المسلمين من أجل التمكين الذي ارتضاه لهم وأدلة الوجوب كثيرة من الكتاب والسنة والقياس.
وكثير من الناس يفهم أنَّ العمل الجماعي من النوافل، بل ربَّما لا يرقى إلى منزلة النوافل، ناهيك عن بعض طلبة العلم وأنصاف المثقفين الذين يعدون ذلك بدعةً محدثة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار؟!
والواقع غير ذلك، ففي ظل هذه التكتلات السياسية التي تحوط بالمسلمين لا سبيل لنصرة هذا الدين إلا العمل الجماعي المنظم؛ وقد نتفق أو نختلف حول مفهوم الجماعة، وقد نتفق أو نختلف حول أي الجماعات هي الأفضل والأولى على الساحة، وهل الأحزاب السياسة أو الجمعيات الخيرية أو غيرها تقوم مقام هذه الجماعات أم لا.. فهذا كله اختلافٌ مشروعٌ ومقبول، لكن غير المشروع وغير المقبول أن يدعي أحد كائنًا من كان أنَّ العمل الجماعي المنظم من المحرَّمات المستحدثة في هذا الدين.
ويمكننا أن ندلل في عجالة على مشروعية العمل الجماعي بهذه الأدلة:-
أ- الدين يأمرنا بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى، وهذا من أخصّ أعمال البر والتقوى وأهمها وأشدها خطرًا(وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ب- القرآن يطالبنا بالعمل الجماعي فيقول: (ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). والأمة ليست مجموعةَ أفرادٍ مُتناثرين ولا مجرَّد جماعة.
ومن السنة:-
1- قوله صلى الله عليه سلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) أبو داود.
2- قوله صلى الله عليه سلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
3- قوله صلى الله عليه سلم: (يد الله مع الجماعة)، وكذلك فعله صلى الله عله وسلم في إقامة الجماعة والدولة, ويعلق ابن تيمية رحمه الله فيقول:'يجب أن نعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصالحهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس'.
ويذكر حديث الإمارة السابق فيقول ' فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع'.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في هذا الإطار مبينا أن:'المنهج الإلهي لا يقوم وحده وإنما بجماعة تتربى عليه وتتدرج بسيرها بالناس فيه وتجاهد في سبيله فتنتصر أو تنهزم بمقدار قربها أو بعدها منه'.
ويقول هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام في صورته النهائية كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس بمجرد تنزله من عند الله ولا بمجرد إبلاغه للناس وبيانه, وإنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر تؤمن به إيمانا كاملا وتستقيم عليه بقدر طاقتها, وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك, وتجاهد في سبيل هذه الغاية بكل ما تملك, ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة وتنهزم في المعركة مع نفسها ومع نفوس الناس تارة أخرى بقدر ما تبذل من الجهد وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال وقبل كل شيء بقدر ما تملك في ذاتها من حقيقة هذا المنهج وترجمته ترجمة حقيقية في واقعها وسلوكها الذاتي.ويرى أحد العلماء أن بقاء هذه الجماعة واستمرارها مأخوذ من قوله تعالى:{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} فحفظه لا يتأتى إلا بجماعة تنفي عنه زيغ الضالين وانحراف المبطلين.
ومن القياس:
1-إن إقامة الإسلام وفرائضه:كالعدل, والجهاد, والقصاص, تترتب على وجود سلطة مركزية وهي غير موجودة كما أسلفنا ويجب على المسلمين إيجادها انطلاقا من القاعدة الشرعية ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , ولا يمكن إيجادها إلا بعمل جماعي.
-2إن الإسلام يواجه تحديات عديدة من أعدائه الداخليين والخارجيين وهي تتم في إطار جماعي منظم , وأي رد فردي أو فوضوي عليها يعتبر من قبيل الجهد الضائع.
3- القاعدة الشرعية تقرر أن:'ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب'، وإقامة مجتمعٍ إسلاميٍّ تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته أمرٌ واجب، ولا سبيل إلى تحقيق هذا الواجب إلا بجماعة وأمة.
4- الواقع يُرينا أن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأنَّ جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاص، لا تستطيع أن تُؤثر التأثير المطلوب لتحقيق الهدف المنشود؛ لأنها ضعيفة الطاقة، محدودة المدى، وقتية التأثير.
5- إذا نظرنا إلى القوى المُناوئة للإسلام -على اختلاف أسمائها وأهدافها ووسائلها- وجدناهم يعملون في صورة جماعاتٍ وتكتُّلات وأحزاب وجبهات، ولا يقبل -في ميزان الشرع ولا العقل- أن يُقابل الجهد الجماعي المنظم، بجهودٍ فرديَّةٍ مُبعثرة، وإنما يُقابل التكتل بتكتُّل مثله أو أقوى منه، ويُقابل التنظيم بالتنظيم، كما قال أبو بكر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما: 'حاربهم بمثل ما يُحاربونك به..السيف بالسيف، والرمح بالرمح، والنَّبْل بالنبل'. وإلى هذا يشير قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ).
ولابد للعمل الإسلامي المثمر من التنظيم، فلا يكفي أن يكون جماعيًّا حتى يكون مُنظمًا، بل لا يكون جماعيًّا حقيقة إلا بتنظيم؛ والتنظيم يعني وجود قيادة مسئولة، وجندية مطيعة، ونظام أساسي ينظم العلاقات بين القيادة والجنود، ويحدد المسئوليات والواجبات، ويبين الأهداف والوسائل، وجميع ما تحتاج إليه أية جماعة في إدارة أجهزتها.
وليس وجوب العمل الجماعي أمرًا محدثًا لم يتحدَّث فيه سوى المعاصرون، فهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله يكتب من سجن الإسكندرية رسالةً إلى جماعته التي كان زعيمًا ومربيًّا لها يقول فيها:'والذي أعرف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة، فإني- والله العظيم الذي لا إله إلا هو- في نعم من الله ما رأيت مثلها قط في عمري كله، وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور في الخيال'.
وبعد أن يسترسل الشيخ رحمه الله في رسالة من أعظم رسائله في بيان عذوبة البلاء في سبيل الله وما فيه من الخير لعباده يوجه إليهم رحمه الله أوامره -على حد تعبيره-:'والذي آمر به كل شخص منهم أن يتقي الله ويعمل لله مستعينًا بالله مجاهدًا في سبيل الله، ويقصد بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله'.
وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة أخرى من السجن أيضًا يعتذر فيها لبعض أفراد جماعته من أنه قد يستخدم 'الخشونة' والشدة مع بعضهم أحيانًا من أجل تقويمه 'وتنعيمه' -على حد تعبيره- ويبين منهجه رضي الله عنه في التربية والقيادة، ومثل هذه الرسالة لا تصدر إلا من قائدٍ ومرشدٍ لأتباعه، ومنها قوله: 'وتعلمون أيضًا أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان مما كان يجري بدمشق، ومما جرى الآن بمصر، فليس ذلك غضاضة ولا نقصًا في حقِّ صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغيُّرٍ منَّا ولا بغض، بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرًا وأنبه ذكرًا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم بعضًا، فإنّ المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوعٍ من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما يحمد معه ذلك التخشين'.
الخوف:
فكثير من الأنظمة الحديثة تخاف أول ما تخاف من العمل الإسلامي المنظم، وقد تغض الطرف في بعض الأوقات عن بعض المصلحين إذا اقتصر فعلهم على الوعظ والإرشاد والدعوة العامة، ولكن إذا تحول هذا الداعي من دور الواعظ إلى دور المربِّي الذي يجمع الناس بصورةٍ منظمة ويبدأ في تربيتهم والارتقاء بهم بحيث يتخذونه قائدًا لهم يعطونه منهم السمع والطاعة، فإن هذه الأنظمة تشن حربا لا هوادة فيها على هذا المربي وأتباعه، وكثير من الناس يؤثرون السلامة ويجتنبون هذه التنظيمات، بل ربما أصابهم نوع من اليأس فيعتزلون العمل العام والمشاركة الإيجابية في أي شيء، ولسان حالهم يقول (وليسعك بيتك).
وهذا ليس أمرا جديدا فإن أهل مكة قد تركوا كثيرا من الموحدين أمثال زهير بن سلمى وعمرو بن نفيل وغيرهم الذين كانوا يقولون بالتوحيد، ولا يسجدون للأصنام لكنهم لم يدعوا الناس إلى هذا الفعل ولم يوحِّدوا صفوفهم لدعوة الناس لترك عبادة الأوثان، سواء كانت بشرية أو حجرية فتركوهم، ولكنهم لم يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لما علموا من التفاف أصحابه حوله وسمعهم وطاعتهم له.
وعلاج ذلك يكمن في الثقة فيما عند الله، وليعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ الأمة لو اجتمعت على نفعه لم ينفعوه إلا بشيءٍ كتبه الله له، وأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها.. إلى آخر هذه التعليمات النبوية الكريمة التي بثَّها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه فهانت عليهم الدنيا، وعزت لديهم الآخرة، ولقد كانت نصيحة ورقة بن نوفل -بعد أوامر الله عز وجل- عونا للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، حيث بصره بتبعات هذا الطريق حينما قال له ليتني أكون جذعا -أي شابا قويا-عندما يخرجك قومك، فاندهش النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أو مخرجيّ هم؟! قال لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا كذبه قومه.
متطلبات العمل الجماعي، وهي كثيرة ولكن أهمها:-
-1 التنظيم : لأن العمل الجماعي إذا لم ينظم صار كالسيل الذي لا يعرف وجهة ولا يحترم حدودا، فتهدر الطاقات وتضيع الجهود وتتعارض الأعمال. و(إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
-2 السرية :لأن العمل الجماعي -خصوصا في واقعنا المعاصر- إذا كان الأصل فيه علانية كل شيء وغياب الوعي الأمني عرّض نفسه للخطر وحال بين نفسه وبين بلوغ أهدافه. وليكن شعار العاملين (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) النمل:88.
-3 الانضباط :لأنَّ العمل الجماعي صف واحد، المتقدم عنه بغير إذنٍ كالمتأخر (ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة). و(رحم الله عبداَ إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة).
مقومات العمل الجماعي:
من أهم هذه المقومات ما يلي: -
1 - صدور العمل عن جماعة:ففي هذا العصر يتعين وجود جماعة تؤمن إيمانا راسخا بأن خلاص البشرية وفلاحها منوط بسيرها على منهج الله الذي رسمه في الكتاب العزيز وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يكفي في ذلك الإيمان البارد الذي لا يحرك ساكنا بل لا بد من إيمان مشوب بالعاطفة في سبيل المبادئ.
2- أن تكون هذه الجماعة منظمة:لأن ذلك هو الذي يضمن تنظيم الجهود وتوجيهها وجهة واحدة حتى تؤدى النتائج المرجوة منها وبذلك يتجنب العمل الفوضى والارتجالية والجهد الضائع الذي يدفع إلى التشاؤم ثمَّ التوقف.
3 - أن تكون للجماعة قيادة مسؤولة وجندية مطيعة وذلك هو العمود الفقري لكل العناصر وخاصة إذا كانت القيادة تتمتع بالصفات اللازمة, والجندية تجسد الطاعة المبصرة.
-4 أن يكون العمل وفق منهاج محدد:فلابد من منهاج ثابت يتضح فيه الموقف من الإشكالات الفكرية والبرنامج السياسي وترتيب الأولويات وتحدد فيه الخطوات.
-5 أن يراد بالعمل تحقيق هدف معين : فلابد لأي جماعة جادة أن ترسم هدفا تسعى لتحقيقه من خلال عملها, وهذا الهدف قد يكون تربويا وقد يكون ثقافيا أو سياسيا.
ويمكن تقسيمه إلى أهداف مرحلية تحقق تباعا في فترات زمنية محددة وبتحقيقها يتحقق الهدف النهائي.
شروط العمل الجماعي الناجح
يشترط لنجاح العمل شروط نجملها فيما يلي: -
-1 الاستمرار وعدم الانقطاع: المؤدي إلى الانهيار, بمعنى ربط المصير بالعمل في مختلف مراحل الحياة:مرحلة الشباب والمراهقة, ومرحلة العزوبة, ومرحلة الزواج.
2- تماسك الجبهة وسلامتها من الداخل: وذلك بحرص كل فرد على السلامة الداخلية بعدم إعطاء معلومات للأعداء, وبتقوية روابط الأخوة والمحبة, وبتكافل الأفراد اجتماعيا واقتصاديا حتى يشكلوا مجتمعا متماسكا تتحطم أمامه كل محاولات الأعداء والمثبطين والمرجفين
3- الصبر وعدم استعجال النتائج:فمهما بذلنا من جهد ومهما طالت بنا المدة فإننا مطالبون بالعمل وعلى الله النتائج.
4- الأمل والثقة بالله: من خلال استشعار حقيقة أنَّ المستقبل لهذا الدين وأن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا.
المصدر
- مقال: وجوب العمل الجماعي .. أ.د. صالح الرقب.. موقع شبكة فلسطين للحوار