وأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللهُ إلَيْك
بقلم: الشيخ نزيه مطرجي
كلما جرى الحديثُ عن الإحسان في الأقوال والأفعال وفي الشمائل والخِصال، أي عن الفَضْل بعد العدل، وعن الغُفران في وجه العدوان والنُّكران، فإن الجاهلين بحقائق الدين وأسراره، يتصوَّرون أن هذا الخُلق مِثاليّ افتراضيّ، يتعلّق بمدينة فاضلة لا وجود لها في عالَم الحياة، لا في برّ ولا بحر، ولا في أرض ولا سماء، ولا في أيّ من مجتمعات البشر.
إن أعظم آية في كتاب الله لِخيرٍ يُمتثل ولشرٍّ يُجتنب هي قولُ الله تعالى: {إنّ الله يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذي القُرْبى وَيَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ} النحل 90, لمّا سمعها كبير القوم في الجاهلية أكثم بن صيفيّ قال لقومه: إني أراه يأمرُ بمكارم الأخلاق، ويَنْهى عن سَفاسِفِها، فكونوا في هذا الأمرُ رؤوساً، ولا تكونوا فيه أَذْناباً.
إن العدل يقضي بأن يُعطى الإنسان ما عليه من واجبات، وأن يأخذ ما له من حقوق، أما الإحسان فهو أن يعطي الإنسان أكثرَ مما عليه، ويأخذ أقلَّ مما له.. فالإحسان رُتبة زائدة على العدل, والمُحسنون في مقام يعلو على مقام العادلين.
لذلك كان تحرّي العدل مفروضاً واجباً، وكان تحرّي الإحسان مندوباً مُستَحَبّاً. ويرى الإمام الغزالي: «أن الله أمر بالعدل والإحسان جميعاً، والعدلُ سبب النّجاة فقط، وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال، والإحسان سببُ الفوز ونيلِ السعادة، وهو يجري مجرى الرّبح، ولا يُعَدُّ من العُقلاء من قَنع في معاملات الدنيا برأسِ مالِه، فكذا في معاملات الآخرة...»، والإحسان مطلوب في القول: {وهُدُوا إلى الطَّيِّب مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الحَميد} الحج 24، ومطلوبٌ في العمل: {إِنّا لا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَملاً} الكهف 30، ومطلوبٌ في التحيّة: {وَإِذا حُيِّيتُم بتحيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنها أَوْ رُدّوها} النساء 86، ومطلوب في سائرِ الشَّعائر.
وفي مواجهة النِّزاع النّاشب بين الأصحاب المؤدّي في الغالب إلى الشِّقاق والفِراق، يدعو الإسلام المسلمين المتنازعين إلى خُلُق الدَّفْع بالتي هي أحسن، فإنه سيّد الأخلاق، وأعظمُ الخِصال التي يتحقّق بها الصفاء والوفاق. يقول الله عزوجل: {ولا تَسْتَوي الحَسَنةُ ولا السَّيِّئةُ ادفَعْ بالتي هي أَحسنُ فإذا الذي بينَك وبينَه عَداوةٌ كأنّه وليٌّ حَميمٌ} فصلت 41.
إن من الظواهر الواضحة في حياة الأصحاب أنهم قد يُسيئون إلى إخوانهم إساءات مختلفة، بألسنتهم، وأيديهم، وأعمالهم، ومكائدهم، وفي الأمور النفسيّة والسلوكيّة والماليّة، بما يمَسّ النّفس أو العِرض أو المال والمتاع وسائر الحقوق, والله تعالى يأمر المؤمن في هذه الآيات بأن يدفع السيِّئة التي تأتيه من أخيه بالتي هي أحسن، أي أن يردَّها بالصَّفح والإحسان، والعفو والغفران، وبالإعراض والكفّ عن الأخذ والرّد في موضوع الإساءة.
إن للدفع بالتي هي أحسن ثمراتٍ اجتماعية عظيمة، من أعجبها تحويلُ الخَصْم أو العدوّ المجابِه بما يؤذي ويسيء، إلى صديقٍ حَميم، ونصيرٍ كريم! وهذا ما نصّت عليه الآية الكريمة: {فَإِذا الذي بينَك وبينَهُ عَداوةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ} فصّلت 34.
إنه الدّواء المرمِّم لما يَبْلى ويتهَدَّم من الروابط الأخويّة والعائليّة، والمُصلح لما يفسُد منها ويتحطَّم. لذا أمر الله تعالى بهذا الأدب وأثنى على من تحلّى به ثناءً عظيماً، فقال عز وجل: {وَمَا يُلَقّاها إِلاّ الذين صَبَروا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذو حَظٍّ عَظيمٍ} فصّلت 35.
والحَسَنة والسَيِّئة لا تستويان، فالأولى ترقى في منازل الكمال، والثانية تسقط في وِهاد الشرّ والنقصان.
إن الكثير من المؤمنين يُهْملون آيات القرآن التي تعبَّدهم الله بها في مسائل وأحكام هامة تتصل بالعلاقات الأخلاقية والسلوكية بين الناس. إنهم يتّخذون هذا القسم من القرآن مَهْجوراً، ويجعلونه وراءهم ظِهْرِيّاً. كما يأخذون هذا الموقف الخاطئ تجاه طائفة من الأوامر والتوجيهات النبويّة في موضوعات مماثلة.
إنهم يُلَوُّون رؤوسهم ويصدّون، حين يُدْعون إلى الصبر على ما يُصيب المؤمن، وإلى كَظْم الغيظ، والعفو عن الناس، وإلى الحلم والصَّفح والمَغْفرة، والإحسان إلى المسيء وبدء المُقاطع بالسلام، ووَصْل ما انقطع من الأرحام.... التي تخاطبُنا النصوص بها واضحة جليّة كما نجدها في آل عمران وفصِّلت والشورى وغيرها، وفي الروضة النبويّة الشريفة.
فاتقوا الله تعالى، واتَّبِعوا أَحْسَنَ ما أُنْزِل إليكم من ربِّكم، ولا يكن مَثَلُكُم كمثَل الذين اسْتحوذ عليهم إِبليس فجعلوا كتابَهم قراطِيسَ يُبْدونها ويُخفون كثيراً.
ولا تكونوا من الذين يُؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض, فَأَحْسِن كما أَحْسنَ اللهُ إليك ولا تَبْغِ الفسادَ في الأرض.
المصدر
- مقال:وأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان