هل يُصبح العراق قاعة ميسر ؟

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
هل يُصبح العراق قاعة ميسر ؟


بقلم : الدكتور قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

تنأى الشريعة الإسلامية بأتباعها عن كل فعل مشين وعن كل عمل جاهلي ذميم وعن كل إرهاب دولي مقنن يضل العباد ولا يثمر إلا شراً وإرهاباً ، ولا يلد إلا فاجرا كفارا .

إن الخلال الحميدة والأخلاق الفاضلة معاني نفسية سامية ، لابد لها من مظهر تتجلى فيه وهو الأحكام والآداب التي شرعها الإسلام ، وذلك هو مصداق قول الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .

غير أن حقائق الإسلام وآدابه لا يعود بعضها على بعض بالنقض والإبطال ، بل إن هذه الحقائق يكمل بعضها بعضا في تكوين وحدة كلِّيَّة متكاملة ، بحيث يكون الحفاظ على بعضها حفاظا على البعض الآخر ، كما أن الإخلال ببعضها إخلال بالبعض الآخر .

من أجل ذلك لا نجد غرابة في أن الشريعة الإسلامية التي فرضت قطع يد السارق حين يسرق ، وهي التي منعت إقامة هذا الحد عليه في عام المجاعة .

ولقد كان ابن عباس رضي الله عنه فقيها حقّاً حين سأله سائل عن حكم قتل الذبابة في الحرم ، فصعَّد نظره إلى السائل متأملاً هيئته ثم قال له : عجبت لقوم يقتلون الحسين بن علي ، ويسألون عن حكم قتل الذبابة في الحرم ! ! !

إن رفض المسلمين لقتل الأبرياء في عمليات تفجير عمياء هنا وهناك يقوم بها أفرادٌ سُلِبَت منهم حرية الكلام ، لا يبرر مطلقا الجرائم المنظمة التي ترتكبها دول - تزعم أنها مُتحضِّرة - في حق الشعوب أفرادا وجماعات .

في غياب العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه يصبح القانون في يد واضعيه ومنفذيه أداة مطيعة يحتمي بها ، يحقق بها مصالحه الخاصة ، ويدرأ عن نفسه بها أدنى المضار ، ولو أدى ذلك إلى إهدار أموال الآخرين وإتلاف نفوسهم ، بل ولو أدَّى إلى هتك أعراضهم ، فالمهم أن يكون القانون حارساً وراعياً أميناً لمصالح المقنّن له . وبذلك يصبح القانون الذي يرفع شعار العدالة ومنع الظلم ، هو نفسه الذي يقنن للظالم مظالمه ، فيحيل قتل الأبرياء قصاصا وعدالة ويحيل السفاح كفاحا .

ومن عجيب الأمر أن ما يقع من مظالم تحت سمع العالم وبصره ، وفي أبشع صُوَرِهِ لا يُرى إلا مُغلَّفاً بغلاف خارجيٍّ يَسترُ عَوارَه ، ويَحجب قَذاهُ عن أعين الناس ، أو عن أولئك الذين ينظرون إلى الأشياء نظرة سطحية أو عوراء ، ولربما لم يكن فيهم سطحي ولا أعور ، غير أنَّها البراعة في صناعة الأحداث ، والبراعة في قلب الحقائق ، والبراعة في عرضها بطريقة تحقق مقصود الظالم .

ورحم الله ابن سيرين المفسر المشهور للرؤى ، حين جاءه من رأى مناما أن أسنانه قد سقطت منه ، وأخبره أنه سأل عن ذلك فقيل له : تفسير هذه الرؤيا أنك ستفجع بموت أهلك كلهم ، فقال ابن سيرين : بل تفسير هذه الرؤيا أن الله سيبارك لك في أجَلِكَ ويطيل عمرك حتى تكون آخرَ أهلك موتا .

لقد شُلَّت مِنّا القدرة على التفكير الصحيح ، والنظرة الصافية الصائبة ، حتى أننا نُظلمُ ونُقهرُ ونُهضمُ ونَرى البُغاثُ بأرضنا يَستنسرُ ، وتستحيل بلادنا إلى قاعة ميسر ، فيُصبح فيها اقتصادنا وأمْنُنَا محلاً للمُقامرة ، ولا نرى أن للظالم جُرما في ذلك .

بل بلغت بنا الضعة والمهانة أن نُسارع إلى شجب واستنكار ما يصيب الظالم من أذى ، أو ما يلحق أفراده أو آلاته من تفجير خشية أن يقال : أنتم السبب في ذلك .

ولعل من المفارقات العجيبة أن هذه المسارعة إلى الشجب والاستنكار تصبح تَعَقُّلاً وتحفظاً مَشوبٌ باستحياء عندما يصدر الأذى الواضح والمُلِمُّ الفادح من الظالم على أمة مقهورةٍ لا بواكي لها كبلاد الأفغان أو السودان .

إن من الغباء وبلادة الإحساس أن تستدر عواطفنا وتغسل أدمغتنا عندما نرى أولئك الذين قصفوا مصنع الأدوية والعقاقير في الخرطوم والمواقع المدنية في بلاد الأفغان والمنشآت العظيمة في العراق ، والأطفال العُزَّل في فلسطين ، هم الذين يوزعون بقايا الأدوية والعقاقير ، وهم الذين يرمون فضلات الأطعمة ، ويمسحون دموع من كانوا السبب في فَقْرِهِ ويُتْمِه .

إنهم قوم ينظرون إلى العالم النامي نظرة وليِّ سوءٍ إلى قُصَّرٍ أغرار ، يجب أن يُحجر عليهم ، ولا يجرؤ واحدٌ منهم أن يَسأل : متى أبلُغَ مبلغ الرجال ! ! ! حتى لا يُضرب على رأسه ، لأن هذا السؤال فيه سوء أدب القاصر مع الوليِّ وفيه تمرُّدٌ وخروجٌ من بيت الطاعة .

هناك أشياء لا تفسرها الكلمات ولا تشرحها العبارات ولكنها تدرك بالتذوق وقديماً قيل : من ذاق عرف ، كما قال الشاعر :

لا يعرف الشوق إلا من يكابده

ولا الصبابة إلا من يعانيها

إن من الإنصاف للحقيقة والتعقل في فهم الأشياء أن لا ننظر إليها من زاوية واحدة بنظرة ضيقة فنقع في فهم مبتور ، وتصوُّرٍ خاطئ ، بحيث لا نرى الحقائق كما هي عليه في الواقع .

إن ما أصاب العراق حدثٌ يجب أن يُنظر إليه من ثلاث زوايا : فهو جريمة جنائية ، وهو عمل سياسي ، وهو سلوك استعماري .

ولعل أبرز كلمة يتجلَّى فيها هذا السلوك هي المثل العربي : زنَّاه فَـحَـدَّه .

إن أمريكا هي الخصم وهي الحكم ، فهي التي اتهمت العراق بالإرهاب ( كما اتهمت سوريا والسودان وليبيا وإيران وكوبا . . . إلى آخر القائمة ) ثم حكمت عليه بذلك ، بأدلةٍ مشابهةٍ لأدلَّتها على مصنع الأدوية في السودان ، فهي أدلَّةٌ مقنعةٌ للغاية لكنها سِرِّيةٌ للغاية ، فكانت كمن زعم أنه جاء بِقَرْنَيْ حِمار ، ولم يعلم أن الحمار لا قرن له .

ثم أقامت على العراق الحدَّ ، فزلت بها نعلُها وانكشفت بذلك عورتها وبدت سوءتها أمام العالم ، فكانت أخطأَ مِن الفَراشةِ حين تقع في النار فتحرق نفسها بنفسها .

وأعجب من سلوك أمريكا موقف بريطانيا في مواساتها لخطيئة أمريكا ، فهي منها بمنزلة الذئب يطمع في صيد الغراب وهو منه بعيد ، كما قال الشاعر :

يواسي الغرابَ الذئبُ فيما يصيده

وما صاد الغربان في سعف النخل

إن القراءة لِنَصٍّ مّا لا تكون صحيحة إلا بفهم سياق النص وسباقه ولِحاقه . وكذلك كلُّ نص تاريخي لا تكون قراءته صحيحة ولا صائبة إلا إذا قرء قراءة واحدة غير مقطوعة العرى .

والملاحظ في تاريخ العلاقة بين الغرب والشرق ، أنها علاقة مُسْتَعْلٍ بمستضعف ، فيخرج من بين استعلاء هذا واستضعاف ذاك شعورُُ نفسيٌّ رهيب – وإن شئت قلت إرهاب - وهو الكراهية والحقد اللذان يفيض بهما قلب المستضعَف ولا يزال يفيض ، حتى يتجلى هذا المعنى القلبيُّ – وهو الحقد - في مظهر خارجي وهو الانتقام من الخصم بصُـوَرٍ شتى ، وليس هذا المظهر الخارجي أكثر من تفجير سيارة أو تدمير سفارة أو غير ذلك .

وليست السياسة الأمريكية ومثلها الإنجليزية في تاريخها الطويل والحافل – ولعلها تكتب الصفحة الأخيرة من تاريخها – سوى سلسلة من الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق شعوب متعددة الأعراف والثقافات ، فلم يسلم منها تقي ولا شقي ، وهي بهذا السلوك اللاإنساني تُثبت للعالم كلِّه أنها تُتقن زراعة شجرة الرعب والإرهاب ، وتفرضه على الشعوب فرضا ، فلسان حال هذه الشعوب هو قول الشاعر :

هُـمَا خِـطَّـتا إمَّـا إسارٌ ومِـنَّـةٌ

وإما دَمٌ والموت بالحُـرِّ أجدرُ

تـذكِّرُني الدعوة الأمريكية إلى نظام عالمي جديد يسوده العدل والسلام ، بالدعوة الهتلرية ، فقد كانت لدى هتلر نفس هذه الرغبة الأمريكية الجامحة في أن يفرض على العالم عدلا وسلما جرمانيا هو الذي يضع قوانينه وهو الذي ينفذ أحكامه .

ولعل شعار هذا النظام هو المثل العربي المشهور : طاعة الولاة بقاءُ العِـزّ .

نعم لا عِـزَّ للشعوب المستضعفة إلا بالبقاء في بيت الطاعة .

ولعلِّي أختم مخاطبا الأمريكان بمقولة رئيسهم ابراهام لِنكولن : إن التغرير بفردٍ ممكن دائما ، والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام ، إلا أنه غير ممكن كل يوم .

د. قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

كلية التربية – جامعة الملك فيصل - الأحساء

المصدر