هل يجوز لنا أن نحلم بغد سعيد؟
بقلم: د. توفيق الواعي
من الحقِّ أن نعترف بأننا سرنا الحقبة الماضية أيامًا عجافًا ودوربًا موحلةً، وسط مستنقعات آسنة، وقيعان منتنة حفرتها جهالاتٌ عقليةٌ وضحالاتٌ فكريةٌ أصيبت بها أمتنا، ومُنيت بها شعوبنا في غياب الناصح، وفقدان الريان، وضياع القائد وتسلط أذناب المحتل، وعسف عملاء المستعمر، وكنَّا نظن أنه لمَّا ولَّى المستعمر ورحل، وذهب الدخيل واندحر، وانخسف العميل وانكسر؛ استبشرنا خيرًا، ورجونا نجحًا وقلنا:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
ولكننا وبكل حسرة وآلم وجدنا أم عمرو قد رجعت ورجع الحمار، وعادت ريمة لعادتها القديمة، ورجعت الشعوب تقاسي وبقسوة حقبًا مريرة، وعادت تخوض وبامتهان مخاضًا قدرا، وأصبحت تخضع وبعبثية لمنطق شرود، ولفكر مسموم ولثقافة دخيلة، واشرأبَّت أعناق العمالات، وبرزت رءوس الشياطين، وانطلقت أعوان الأبالسة تعبث في الأرض فسادًا.
واستنوقت رجال الأمة، وتلبدت السماء بالغيوم، وعمَّ الكون ظلمات لفَّت ديارنا وغلَّفت دروبنا، وسكن الهم كلَّ صدر، واحتل الكرب كل قلب، فالأحرار يُسجنون ويُقتلون ويُشردون أكثر بكثير من أزمنة الاستعمار، وإذا حصرت أعداد المسجونين وأنواعهم وثقافاتهم وتهمهم ظهر لك مقدار الهول، وإذ عددت السجون والمعتقلات وأماكن الحجز والتعذيب استبان لك مقدار الجرم وحجم القهر، وإذا تتبعت قضايا وبيانات حقوق الإنسان المهدرة في بلاد المسلمين انكشفت لك ضخامة الكارثة في بعض البلاد بلغ القتلى من الشعب وسُلطته أكثر من 310 آلاف، وبلغ ما في السجون عدد لا يعلمه إلا الله، وما زالت الحرب مستعرة الأوار والتعذيب مُستَحِرًّا في الديار، وقد صاحب هذه الكوارث كوارث أخرى كثيرة كوارث: التفرق، والعداء، والكيد، والتقاتل بين شعوبنا وأوطاننا وأنظمتنا، وواكب هذا محن عدة محن التخلف في أخلاقنا وأنظمتنا التعليمية والصناعية والتقنية والتكنولوجية، وأصبحنا كما يقول المراقبون:
تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان المتاهة أن يبكوا
ويسائل كلَّ حر وكلَّ غيور في الأمة نفسه مرارًا وتكرارًا هل يجوز لنا أن نحلم ويحق لنا أن نتمنى؟ أم أن الأحلام والمنى قد أغلقت أبوابها، وأوصدت هي الأخرى منافذها، وأصبح مجرد الحلم جريمة يعاقب عليها ويؤخذ بجريرتها كل من تسول له بها نفسه أو يتلفظ بها لسانه وتتحرك بها شفتاه؟
هل يجوز لنا أن نحلم بحرية من غير سجون أو قتل أو تشريد أو هتك للأعراض وامتهان للحرمات؟ يقول تقرير صحفي نشر في جريدتين عربيتين عن آلة التعذيب في بلد عربي تحت عنوان (العنف وأسلاك الكهرباء على أجساد النساء داخل أقسام الشرطة) وقد جاء في تقرير منظمة حقوق الإنسان لعام 1995 م: إن انتشار مظاهر التعذيب وسوء المعاملة داخل أقسام الشرطة واتساع نطاقها وتنوع أساليبها باتت سياسة منهجية في سجون الأمة العربية، ثم تناول التقرير الصحفي مقتطفات من تقرير منظمة حقوق الإنسان تتضمن مقتطفات من لقاءات صحفية مع عدد من الأكاديميين العاملين في الحقل الاجتماعي والنفسي يقولون: إنه يستقبل الكثير من الرجل والنساء الذين تم استعمال التعذيب معهم من قبل موظفي الشرطة، وإن كثيرًا من النساء يرفضن المساعدة الطبية خوفًا من الفضيحة.
وأورد التحقيق أنه في إحدى الحالات تم إدخال عدد من الرجال أقارب الضحية ومنهم أخوها وكانت الضحية في قسم الشرطة في حالة عري كامل، وكانت تسمع صراخ إحدى بناتها في غرفة مجاورة؛ حيث كان يتم تعذيبها في أماكن معينة من جسدها، وما لم تكن تعلمه الضحية أن ابنتها المراهقة كان قد تم تجريدها من ثيابها بالكامل أثناء التحقيق لمدة ساعتين وذاك في استجواب حافل.
وفي حالة أخرى تم تجريد سيدة من أسرة كريمة من ثيابها ومعها ابنها وزوجة ابنها وعذبوها بالكهرباء، وسيدة أخرى استيقظت من غيبوبتها فوجدت نفسها عارية يُعبث بها وبملابسها الداخلية وسط السخرية إلخ... إلخ.
فهل هؤلاء محتلون أم مستعمرون أم يهود؟
إن البلاد يطاق غير مضاعف فإذا تضاعف سار غير مطاق
هل يجوز لنا أن نحلم بدستور عادل منصف يقبل تداول السلطات ويحترم تعددها، وقانون يحترم الرأي الآخر ويقبل الكلمة والنصيحة، وسلطة تخضع للقضاء ورأي الأغلبية، وترعى الأمانة وتبحث عن الحق، فلا تزوير ولا قهر ولا غش ولا انحراف ولا تبديد للطاقات ولا تبذير للأموال؟ وهل لنا أن نحلم بمجالس منتخبة انتخابات حرة، ونقابات مختارة اختيارًا حقيقيًّا ترعى مصالح الناس وتدبر شئونهم بأمانة وحرية وإخلاص، وقد عشنا عصور 99.99% في كل شيء، وعصور ما أُرِيكُم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد؟ وهل نظل هكذا؟ إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتُذنبون فنأتيكم ونعتذر، هل يجوز لنا أن نحلم بأمة عزيزة الجانب؟
تبني اقتصادها بنفسها وتصنع آلتها وتلحق بعصرها وتحمي حماها وتصنع سلاحها وتُرهب عدوها وتحمي حقها وتحفظ دماءها وتلم شعثها وتصون كرامتها؟.
ألا يكفي ما يفعله الأعداء بنا حتى نفعل مثله مع أنفسنا لقد وجد في البوسنة 200 مقبرة جماعية للمسلمين، فكم دُفن فيها من أحياء وحرق فيها من أشلاء؟ وكم ذبحت فيها من أعراض وهتكت من حرمات وصعقت من أطفال وطحنت من شيوخ؟ وفي كشمير قتل 45 ألفًا، وجُرِحَ أكثر من 65 ألفًا، وسُجِنَ أكثر من 70 ألفًا، وفي الشيشان وفي الطاجيك وفي الفلبين وفي بورما وفي أرجاء المعمورة.
هل يجوز لنا أن نحلم بحب يحل محل العداوة، وخير يحل محل الشر، ورحمة تحل محل القسوة، ووحدة تحل محل الفرقة والشتات، وعزم يحل محل الخور، وإيمان يحل محل الشرود؟ فإن تحقق الحلم فستتبدل الحال ويتغير المال.
فإن تكن الأيام فينا تبذلت ببؤسي ونعمي والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتي ليس يجمل
ولكن رجلناها نفوسا كريمة تحمل ما لا يستطاع فتحمل
هل يترك الناس يحملون ويحملون ولا يجرمون، فأحلام اليوم حقائق الغد؟ نسأل الله الهداية والرشاد والتوفيق والسداد.. آمين.
المصدر
- مقال:هل يجوز لنا أن نحلم بغد سعيد؟إخوان أون لاين