هجمة إسرائيلية مضادة
2009-11-26
بقلم : معتصم حمادة
نقف أمام هجمة إسرائيلية مضادة، في مجموعة من المبادرات السياسية، يتبناها مسؤولون حزبيون وأعضاء في حكومة نتنياهو، تلتقي كلها حول مجموعة من «الثوابت» الإسرائيلية. فكيف سيرد المفاوض الفلسطيني على هذه الهجمة قبل أن تتقوى وتستقطب مؤيدين لها يحاصرون بها التحرك السياسي الفلسطيني؟
إذا اعتبرنا الرفض الفلسطيني للعملية التفاوضية بشروطها الراهنة، وإعلانه نقاطه الثماني، وقرار لجوئه إلى مجلس الأمن لإعلان سيادة الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضيها.. إذا اعتبرنا هذا كله بمثابة هجمة سياسية يقوم بها المفاوض الفلسطيني لمحاصرة الجانب الإسرائيلي، والضغط على الراعي الأميركي ليطور من دوره وفعاليته.. فإننا نعتبر سلسلة المبادرات السياسية التي بدأت تتوالد على لسان القيادات الحزبية في تل أبيب، بمثابة الهجمة السياسية المضادة.
- فهناك مبادرة شاؤول موفاز.
- وهناك مبادرة «جديدة» لنتنياهو.
- وهناك مبادرة مشتركة لشمعون بيريس وإيهود باراك.
- وهناك إلى جانب هذا، مجموعة من الأفكار التفصيلية، التي لا يمكن النظر إليها إلا في سياق ما اسميناه بـ«الهجمة السياسية الإسرائيلية المضادة».
وكما يتضح فإن هذه المبادرات أنعشت الأجواء السياسية في إسرائيل، وأحدثت ردود فعل متباينة، وإن كان معظمها يصب في باب الترحيب بها، وإن اختلف معها في بعض التفاصيل.
ولعل صحيفة «هآرتس» (11/11/2009) كانت الأكثر وضوحا في استقبالها لهذه المبادرات، وخاصة مبادرة موفاز، ليس لما فيها من أفكار، كما تقول الصحيفة في افتتاحية حملت توقيع أسرة التحرير، بل لأنها «ستحدث حراكا سياسيا في إسرائيل». في هذا السياق تنتقد «هآرتس» ما أسمته «تردد» رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي اكتفى بالرد على تحرك الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتهديد بضم الكتل الاستيطانية من جانب واحد، مستمتعا ـ كما قالت «هآرتس» ـ بمتابعة نتائج استطلاعات الرأي العام في إسرائيل.
ورغم أن «هآرتس» أدركت بشكل مسبق أنه من الصعب أن تجد إسرائيل فلسطينيا واحدا يعترف بسيادة إسرائيل على أريئيل ومعاليه أدوميم وغوش عتصيون (أي الكتل الاستيطانية) في بداية المفاوضات، كما تقترح مبادرة موفاز، لكن أهمية هذه المبادرة أنها تشكل تحديا لحكومة نتنياهو وتدفع بها للخروج من حالة الجمود والتقوقع والتردد والمراوحة في المكان، لصالح التحرك إلى الأمام والتفاعل مع الحالة السياسية بأفكار تفاوضية جديدة.
وبعينها الثاقبة في النظر إلى الوضع الإسرائيلي الداخلي (من موقعها الإسرائيلي والحريص على مصلحة إسرائيل) تصف «هآرتس» مبادرة موفاز بأنها جاءت في سياق سياسي شبيه بالسياق الذي ولدت فيه «وثيقة جنيف ـ البحر الميت» نتاجا لتحركات من يوسي بيلين، الوزير والنائب السابق. وتضيف أن هذه «الوثيقة» هي التي أوحت لرئيس حكومة إسرائيل الأسبق شارون بفكرة الانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد، والتوجه نحو «ترتيب الوضع» في الضفة الفلسطينية. لذلك تراهن «هآرتس» ـ في موقف هو نموذج لمواقف الكثيرين غيرها ـ على دور هذه المبادرات السياسية في تحريك الأجواء الإسرائيلية والإقليمية ومحاصرة التحرك الفلسطيني.
وإن نظرة إلى مجموع المبادرات الإسرائيلية المعروضة في الأسبوعين الأخيرين توضح لنا سلسلة من العناصر المشتركة فيما بينها:
- هي تشترك فيما بينها على اعتبار القدس الشرقية جزءا لا يتجزأ من «أرض إسرائيل»، ومن عاصمتها «الموحدة والأبدية» ترفض البحث في مصيرها في مفاوضات الحل الدائم، وكأنها أرض فلسطينية محتلة أو حتى «أرض متنازعا عليها». أما المدى الذي تذهب إليه هذه المبادرات في البحث عن «تسوية» مقبولة ـ إسرائيليا ـ للقدس، فهو توفير الضمانات لوصول أتباع الأديان المختلفة إلى الأماكن المقدسة داخل القدس، ودوما تحت السيادة الإسرائيلية التامة، ودون أية ترتيبات ترى فيها إسرائيل انتقاصا من هذه السيادة (المزعومة) على القدس الشرقية.
- وهي تشترك فيها بينها ـ أيضا ـ على ضرورة بحث قضية اللاجئين في إطار ما يسمى بـ «آلية دولية». ورفض مبدأ حق العودة لأن هذا معناه المس بـ «يهودية الدولة الإسرائيلية». وتلتقي المبادرات بالمقابل حول ضرورة وحتمية أن يعترف الفلسطينيون بـ «يهودية إسرائيل» بكل ما يتطلبه هذا الاعتراف من التزامات واستحقاقات (شطب حق العودة، وربما الدخول في تبادل الأراضي لصالح تخفيف الوجود «غير اليهودي» في إسرائيل).
- وهي تشترك كذلك في رفض الاعتراف بخطوط الرابع من حزيران (يونيو) 67، وترى أن هذا الأمر يشكل موضوعا تفاوضيا. فتتفق على ضرورة ضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل، دون أن «تغري» الفلسطينيين بمسألتين تبقيان غامضتين أيا كانت الصيغة التي تردان فيها. المسألة الأولى التأكيد على توفير التواصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية (رغم ضم المستوطنات التي تمزق الضفة إلى ثلاثة كانتونات كبرى). والمسألة الثانية أن يستعيد الفلسطينيون أرضا لا تقل مساحتها عن مساحة الضفة عام 1967 (رغم ضم القدس الشرقية والكتل الاستيطانية والطرق الالتفافية، وكل قطعة أرض فلسطينية وقعت غربي جدار الفصل والضم العنصري وفي أسره. مما يشير، ويتجاوز مجرد الإيحاء، بأن «الحل» لضمان هذا الأمر هو في طرح عملية تبادل أراض واسعة جدا، بحيث تتخلص إسرائيل من كتلة سكانية فلسطينية كبرى، لصالح ضم الكتل الاستيطانية، وضم شاطئ البحر الميت، وحرمان الفلسطينيين من حقهم المشروع في ما لا يقل عن ثلث هذا البحر).
- وهي تشترك كذلك في رفضها قيام كيان فلسطيني إلى جوار إسرائيل إلا إذا كان منزوع السلاح بشكل كامل (المبادرات تسمي هذا الكيان «دولة» رغم أنها، وفقا لشروطها، تجرده من ملامح «الدولة» بما في ذلك حقه في امتلاك جيش وسيادته على أجوائه، ومياهه، ومعابره، وعقد اتفاقيات مع أطراف خارجية لم توقع مع إسرائيل معاهدات سلام بعد).
- وهي تشترك، إلى جانب ذلك، في كونها تطرح المفاوضات على مرحلتين. الأولى هي مرحلة قيام «دولة ذات حدود مؤقتة»، ولمدة سنة كحد أدنى، تعترف خلالها هذه «الدولة» بإسرائيل «دولة يهودية» وبـ «حقها في الوجود». أما قضايا الحل الدائم فيتم إحالتها إلى مفاوضات تمتد لفترة تتراوح بين سنة وسنتين، مع الإشارة، كما سبق، إلى كيفية حل مسألتي القدس واللاجئين.
- وأخيرا وليس آخرا، تطرح هذه المبادرات مسألة «وقف الاستيطان» فتقترح تجميدا مؤقتا لبضعة أشهر (تتراوح بين ثلاثة وعشر أشهر) دون أن يشمل ذلك القدس، فالقدس هي «عاصمة إسرائيل»، والبناء الإسرائيلي (اليهودي) فيها، هو «كالبناء الأميركي في نيويورك».
إذن نحن أمام هجمة إسرائيلية مضادة، في مجموعة من المبادرات، يتبناها مسؤولون حزبيون وأعضاء في الحكومة. تختلف العبارات والجمل بين مبادرة وأخرى، لكنها تلتقي كلها حول مجموعة من «الثوابت» الإسرائيلية، شكلت على الدوام قضايا «إجماع» إسرائيلي.
فهل يكتفي الفلسطينيون بمراقبة التطورات والتفاعلات الإسرائيلية، في انتظار أن تطرح مسألة الدولة والسيادة الفلسطينية على مجلس الأمن، أم سيبادرون إلى تعبئة قواهم السياسية، الرسمية والحزبية والجماهيرية، للتصدي للهجمة السياسية الإسرائيلية، وكشف مقاصدها الحقيقية، وقطع الطريق عليها، حتى لا تتحول، على يد حلفاء إسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى مبادرات شبه دولية بذريعة أنها «عملية وتفتح لعملية السلام آفاقا جديدة».
وهل يبقى المفاوض الفلسطيني متمسكا بقراره الذهاب إلى مجلس الأمن، وبشروطه الثمانية للعودة إلى طاولة المفاوضات، أيا كانت الضغوط الدولية التي ستمارس عليه.
أسئلة لا يمكن الرد عليها إلا بتحركات فلسطينية تعطي للموقف الفلسطيني مصداقيته في عيون الشارع والأشقاء والأصدقاء، قبل الأعداء.