هاني الطايع

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
جولة في ذاكرة الراحل هاني الطايع

إعداد:باسل الرفاعي

مقدمة

لم يجالس هاني الطايع أحد أبداً إلا وشدّه فيه هذا القدر الهائل من المعرفة المتنوعة المؤصّلة.. والنمط النادر للذاكرة الواعية الحاضرة.. تختزن مشاهد وأحداث وخبرات أكثر من نصف قرن من الزمان.. وتستحضر من ثناياها أدق التفاصيل ساعة الطلب.. فكأنها وهي تنساب من بين شفتيه مشهد مصوّر حيّ.. مفعم بالحيوية والنضارة والعنفوان!

التقيت الراحل "أبا الربيع" صيف عام 2001 م. في جدّة، وأنا أعدّ مادة بحث مطوّل عن تاريخ الجمعيات الإسلامية السورية التي كان ـ رحمه الله ـ أحد روّادها المخضرمين، وكانت الحصيلة تسجيلاً وافراً من المعلومات والملاحظات والذكريات؛ والتقيته مرة أخرى في بيته بالدوحة عام 2005 م.

وسجلت معه المزيد، وكانت فرصة نادرة لي طوّف بي خلالها على أجنحة مكتبته النادرة التي تضمّ آلاف العناوين، وأطلعني على أكداس الوثائق والقصاصات والصور التي تنتظر اليوم يداً خبيرة تتولى حفظها وتنظيمها، وتتيح للباحثين والمهتمين فرصة الإفادة الحقيقية منها؛ وبين اللقائين وبعدهما، وحتى قبيل وفاته صبيحة الثلاثاء الموافق للثالث عشر من شهر يناير 2009 م.، تواصلت بيننا الاتصالات والمراسلات، مما أثرى بحثي وأغنى حصيلتي بما لا يقدّر من المعلومات.

ملامح من طفولة متميزة

ولد هاني الطايع ـ كما أعلمني ـ في حيّ "الصباغين" بمدينة اللاذقيّة عام 1939 م.

ودرس فيها مراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، قبل أن ينتقل إلى دمشق مطلع الستينات لدراسة اللغة العربية في كلية الآداب، ويتخرج منها عام 66ـ1967 م.؛ وخلال إقامته في العاصمة عمل الطايع محرراً، ثم رئيساً لتحرير صحيفة "اللواء" اليومية التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين، ومحرّراً في مجلة الجماعة الشهرية "حضارة الإسلام"، وفي نفس الوقت جرى تعيينه موظفاً في المكتب الصحفي لوزير التموين عمر عودة الخطيب، واستمر في ذلك الموقع على عهد ستة أو سبعة وزراء بعده، إلى أن كان خروجه من البلاد إلى الدوحة عام 1968 م.

في صفوف "الإخوان"

تعود ذكريات هاني الطايع مع العمل الإسلامي إلى سنوات حياته المبكرة، حينما زار د. مصطفى السباعي اللاذقية في السنة التي تلت حرب 1948 م.

متحدثاً في قضيتين: آثار الحرب وإنهاض الشعب السوري بشأن تلك القضية، وقضية دين الدولة في الدستور الذي كان السباعي يشارك في لجنة صياغته في "الجمعية التأسيسية" التي تحولت بعدها إلى "مجلس النواب"؛ ويذكر الطايع الذي كان ابن عشرة سنين وقتها كيف كان لمجيئ السباعي وقع ودويّ، وكيف احتشد الناس عند مركز "الإخوان" الذي يقع في بناية "آل زريق" خلف بيت جدّه، يستمعون لخطبته التي استثار فيها حميتهم وغضبتهم للدين وللدستور، والتي تحدّى فيها محمد الشواف نائب المدينة من حزب الشعب بعدما عارض أن يكون دين الدولة الإسلام، وخاطبه بكل جرأة قائلاً: أنا أمثّل اللاذقيّة أكثر منك، لأنها بلد إسلامي وشعبها مسلم!

ويضيف الطايع بأن مركز الإخوان الذي انتقل لاحقاً إلى موقع آخر لا يبعد غير بضع مئات من الأمتار في الشارع نفسه، تصادف أن يكون أمام دكان أبيه هذه المرة، مما أتاح له مزيداً من الوقت ليشهد نشاطات الجماعة وهو فتى صغير، ولينضمّ إلى صفوفها وهو في المرحلة الإعدادية، ولم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره.

تديّن الفطرة

لم تكن الحالة الدينية لمسلمي اللاذقيّة في ذلك العهد تتجاوز "التديّن التقليدي" كما انطبع في ذاكرة "أبي الربيع"، فالناس متديّنون بفطرتهم، وفيهم طبيعة النقاء والصفاء والتسليم الإيماني التلقائي، لكنه هذا التديّن خالطه الكثير من الجهل والعمومية في الفهم والتصور؛ وبحكم وقوع المدينة على الساحل، ولأن السواحل ـ كما يقول ـ تجمع القادم من البحر والقادم من البرّ مع المقيمين، فإن التديّن في أهلها يتّسم بالانفتاح.

كذلكلم تعرف اللاذقيّة في تلك الفترة وجود علماء ودعاة كبار منها، أو حلقات ودروس دينية كما هي الحال في دمشق وحلب مثلاً؛ ويتذكر الطايع بهذا الصدد أحاديث من تقدموه في السن عن قيام جمعية خيرية إسلامية لم تتجاوز حدود العمل الخيري، ولم تكن تعرف بأي نوع من النشاط العام؛ ثم لم تلبث أن تأسست جمعية "مكارم الأخلاق" التي انضمّت بمن بقي من رجالها إلى دعوة الإخوان المسلمين، منوّهاً إلى أن الدعوة ظلت تفتقد الزعامة الجامعة في البلد حتى أواسط الخمسينيات، عندما نزل المدينة الأستاذ محمد المجذوب قادماً من طرطوس وانخرط في نشاط الإخوان، فكان هو علم الدعوة إلى سنين؛ ويلفت الطايع النظر إلى أن المجذوب هو أحد أبرز من سبق أن جمعهم ودعاهم الأستاذ محمد المبارك الذي كان مفتشاً للّغة العربية، وكان يطوف على البلدان والمحافظات في الفترة الأولى لتأسيس الجماعة، ويلتقي من يراهم من النابهين؛ وعلاوة على المجذوب فقد برز من هذا الجيل الرائد عبد الرحمن الصوفي، والدكتور نبيل الطويل، وأناس آخرون انسربت بهم الطرق إلى دعوات أخرى، خاصة بعد المحن التي نزلت بالجماعة، وقرارات الحلّ التي استهدفتها.

عهد السرّية الأول!

ولقد كان انتساب الطايع لـ"الإخوان المسلمين" في ذلك العهد، عهد أديب الشيشكلي الذي حظر نشاط الجماعة وأغلق مقارّها، واضطر مراقبها العام السباعي للمغادرة إلى لبنان، إلا أنه وهو في هذا السن المبكر، ورغم انتمائه الحديث للجماعة، فقد كان يسمع عن حضور السباعي للبلاد في زيارات سرّية يلتقي فيها بعض [[الإخوان]؛ وينقل الطايع عن بعض من يتقدمونه في السن من هؤلاء أن السباعي دعا قيادة الجماعة في تلك الفترة إلى أن يتحركوا بشكل بارز ومؤثّر للمشاركة في إسقاط الشيشكلي وقال لهم : "لقد صار لنا من التجربة السياسية ما يؤهلنا لنعرف متى تسقط الثمرة، فسجّلوا مواقف تنتفعوا بها في المرحلة المقبلة"، ودعاهم للتصويت على هذا الاقتراح، لكن الغالبية عارضت، وسقط الاقتراح، وبعد شهر أو اثنين سقط الشيشكلي بالفعل وتحققت توقعات السباعي!

وكانت الجماعة التي غاب مراقبها العام أكثر الفترة السابقة قد استغرقها خلال ذلك الانشقاق الذي أحدثه في صفوفها نجيب جويفل، وهو الذي أثبتت الأيام أنه كان على علاقة مخابراتية مع الحكم في مصر، وباتت مشغولة بمعالجة ذيوله، فقرّرت عدم دخول الانتخابات التي تلت سقوط الشيشكلي، وهو قرار يصفه هاني الطايع بأنه كان "قصير النظر.. وأنّ كثيراً من معاناة الجماعة والوطن حتى الآن من أثر تلك الساعة"! وعندما ترشّح محمد المبارك مستقلاً بعد أن انسحب تنظيمياً من الجماعة لم ينجح في الدورة الأولى لانتخابات عام 1954 م.، فكان أن قرّر "الإخوان" النزول بثقلهم لمساعدته، وتمكّن بذلك من تحقيق الفوز في المرحلة الثانية.

الانشقاق.. والمنشقون!

كانت قيادة الصف الأول للجماعة في مدينة اللاذقية تضمّ خلال تلك الفترة ـ كما يقول "أبو الربيع" ـ مجموعة من العناصر الشبابية المبرّزة والواعدة منهم: رشدي المفتي، لؤي بستنجي، سعيد شاكر، محمد البيطار، وعبد البديع محجازي؛ ويضيف الطايع بأن الأخيرين انضمّا بعدها إلى جناح المنشقين مع جويفل، وكانت لهما خلايا سرية يتوليان تدريبها، ونجحا في إنشاء تشكيلات ضمن الجماعة لا أعرف تفاصيلها، لكن البيطار عاد إلى الصف والتزم، وأما الآخر وعندما تمّت الوحدة وجاء الرئيس عبد الناصر يزور سورية للمرة الأولى وحضر إلى مدينتنا، فوجئت عندما مرّت بنا سيارته الخاصة بأن عبد البديع محجازي يقف وراءه مباشرة ضمن حرسه الخاص، مما أكد لنا أن هؤلاء المنشقين كانوا مرتبطين بالنظام الناصري من حيث يدري بعضهم أو لا يدري!

ولقد أدى حدوث الانشقاق ـ كما يكمل الطايع ـ إلى أن تتولى حلب الإشراف على مركز اللاذقية، فكانت فرصة له للتعرّف على أوجه جديدة من شخصياتها، لعل الأستاذ عادل كنعان الذي بات صديق عمره وأحد أقرب المقربين إليه أبرز هؤلاء؛ وفي تلك الفترة كان الطايع يواظب مع مجموعة "متنوّرة" على قراءة نخبة الكتب الإسلامية المتوفرة، للمودودي، ومالك بن نبي، وأمثالهما، ومناقشتها وتمثّل ما فيها؛ ويذكر "أبو الربيع" أن من أبرز الذين ضمّتهم تلك الحلقة ممدوح فخري جولحة الذي كان رغم تقدمه في العمر بعدة سنوات، إلا أن حضوره للمدينة من مناطق التركمان الفقيرة متأخراً جعلهما يترافقان خلال مراحل الدراسة الثلاث، علاوة على ما قام بينهما من إخوّة في الجماعة؛ وبعد أن مضى جولحة إلى مصر فاختص وأخذ شهادة الدكتوراة من أزهرها، عاد إلى اللاذقيّة خطيباً وداعية، لتكون نهايته المعروفة عندما أرداه "القتلة" بالبلطة خلال أحداث الثمانينات، فقسموا رأسه، وصلموا أذنيه، وجدعوا أنفه، وسملوا عينيه، ورموه على قارعة الطريق! ويبيّن الطايع أن ما جمع بينه وبين الدكتور الشهيد بالإضافة إلى الدعوة حبّ الأدب، ومحبّة أدب الرافعي بالذات؛ ولقد كان من المدهش أن يتلو محدثي عليّ من نصوص أدب الرافعي مقاطع بأكملها لا يزال يحفظها عن ظهر قلب!

قناعـة وثقـة

غير أن الطايع لم ينغلق ضمن دائرة الثقافة الإسلامية وحسب، ولم تقتصر علاقاته وصداقاته على المتديّنين وحدهم، فهو يفخر بمعرفته ولقاءاته المبكرة مع أهل الأحزاب والاتجاهات الأخرى، وحواراته الثرية معهم، وكان مدهشاً بحق أن امتلك القدرة والجرأة ـ وهو ابن الثامنة عشرة أو أقل من ذلك ـ على محاورة الدكتور وهيب الغانم، الذي يعتبره أحد مؤسسي فكرة "البعث" وروادها الأوائل، ويقرّر أنه إذا كان زكي الأرسوزي هو الرائد الأول في نشر الفكر القومي بين صفوف الطائفة العلوية، فإن الغانم هو رائدهم التنظيمي الأول بكل جدارة! وفي هذا اللقاء "الفكري" الذي تمّ من غير تخطيط من الطرفين، جلس الطايع يناقش الغانم ويحاوره وقتاً ممتداً، واستطاع بحجته وثباته أن يزعزع قناعات من أتى مع الغانم، مما دعا الأخير إلى أن يطلب منه الحضور إلى اللاذقيّة لإكمال النقاش، أملاً منه أن ينجح في احتوائه وضمّه إليه!

كذلك تعرف الطايع لاحقاً على إلياس مرقص المفكر الماركسي المعروف وكانت بينهما جلسات نقاش على مستوى عال في عهد الوحدة الذي منعت فيه النشاطات السياسية المعلنة، كما كانت له صداقات ولقاءات بالعديد من القيادات الماركسية والبعثية وغيرهم، مما يعتبره الطايع "من أسباب أصالتنا ونحن نطوّف بالعقائد المختلفة ونختار الإسلام عن ثقة وتمكّن وقناعة"؛ منوّهاً في الوقت نفسه إلى أن النفوذ الشعبي والطلابي في اللاذقيّة ظلّ باستمرار للإخوان وللإسلاميين حتى تسلّم "البعث" السلطة بواسطة الجيش، مدللاً بنجاح الدكتور نبيل الطويل نائباً عن المدينة في الانتخابات التي تلت الانفصال، في بلد ربعه من النصارى، إضافة إلى من فيه من أبناء الطوائف الأخرى!

صدامات دامية!

وللبعث في تلك المرحلة موقع هام في تاريخ المدينة، ارتبط في ذاكرة الطايع بالصدامات الحزبية التي كانت تحدث بين طلاب الإخوان وبينهم، في حقبة كانت المعادلة السياسية السورية كلها في مخاض! ويذكر هاني الطايع كيف أن "البعث" دعا إلى مظاهرة في إحدى المناسبات القومية أواسط الخمسينيات رفض الإخوان المشاركة فيها، فجاء البعثيون وأحاطوا بالمدرسة الإعدادية التي كان الطايع طالباً فيها يريدون فرض إرادتهم وإثبات نفوذهم، وقام أحد المعلمين المتعاونين معهم بفتح أحد الأبواب الجانبية فدخلوا منه في حشد كبير، ووقع اصطدام عنيف بينهم وبين الطلبة داخل حرم المدرسة أوقع إصابات عديدة بين الطرفين؛ ويذكر الطايع بهذا الصدد أن محمد البيطار القيادي في الجماعة هرع من بيته عندما سمع بما حدث يريد أن يتصدى للاعتداء، فانفرد به البعثيون في الطريق وضربوه بالسكاكين في ظهره حتى أوشك على الموت، وظلّ متأثراً بهذه الضربات الموجعة حتى آخر عمره، ونتيجة لذلك قامت مظاهرة حاشدة في المدينة اتجهت إلى الحيّ الذي فيه مركز "البعث" وأردوا حرقه، الأمر الذي دفع جمال الصوفي قائد موقع المدينة ـ والذي تولى إحدى الوزارات في عهد الوحدة لاحقاً ـ إلى التدخل لحماية الحزب، وطلب من قيادات الإخوان تهدئة الموضوع.

ويوضح الطايع أن مثل هذه الصدامات التي كانت كثيراً ما تقوم بين القوى السياسية من إخوان وشيوعيين وبعثيين وقوميين سوريين هي التي أدت إلى طعن حافظ الأسد في مرحلة سابقة، والتي ظلت تتكرر في مراحل عدّة، بسبب التنافس الحزبي الذي يعتبره من طبيعة فترة الحريات، منوّهاً إلى أن هناك مناسبات عامة جامعة كان الجميع يلتقون فيها ويعملون من غير مماحكات، كالعدوان الثلاثي على مصر، وعندما هددت تركيا وقوى الأطلسي بغزو سورية على سبيل المثال.

في الفصول القادمة

قبل الوحدة وبعد الانفصال: ـ الانتخابات التكميلية 1957 م. وما دار خلف الكواليس ـ الإخوان قبل الوحدة ـ لماذا جرى حلّ التنظيم ـ المشاركة في "الاتحاد القومي" ـ الانفصال والفرصة التاريخية التي ضاعت ـ الكتلة الإسلامية في البرلمان ـ انتقال القيادة من السباعي العطار ...

في دمشق: أساتذته في الجامعة ـ الحالة الثقافية في العاصمة ـ قيادة السباعي وقيادة العطار ـ العمل في "اللواء" وفي "الحضارة" ـ الموقف من انقلاب الثامن من آذار وموقف الانقلابيين من الإخوان ـ خروج العطار ووفاة السباعي ـ الإخوان بين اعتصام مروان حديد واعتصام الأموي ـ بداية فقدان السيطرة على الشباب ـ الانشقاقات والخلافات في صفوق الإخوان...

الطائفية بين الواقعية والنزاهة: مواقف مؤسفة في ظل الانتداب ـ ثورة صالح العلي في الميزان ـ سلمان المرشد قضية الجهل والاستغلال ـ لقاء مبكر بعد الاستقلال لتدعيم الوحدة الوطنية بين زعماء العلويين وقادة الإخوان ـ السباعي والمبارك والتعالي على الطائفية ـ ذكريات عن عبد الرحمن الخير ـ الصدام مع البعثيين لا مع العلويين ـ كيف ولماذا طعن حافظ أسد؟ ـ دور نظام الأسد في خلق الصدام مع العلويين ـ انقلاب تاريخي لا يتكرر كل ألف سنة! ـ فئة معدومة شعبياً.. وقوى طائفية مكشوفة.. تريد أن تسيّر الشعب كما تريد! ـ شهادات المنصفين.

الانتخابات التكميلية

قاطع الإخوان انتخابات عام 1956 م. التي أعقبت سقوط الشيشكلي، مفضّلين مداواة جروحهم الداخلية التي خلّفها انشقاق نجيب جويفل من جهة، وحظر نشاط الجماعة من جهة أخرى، لكن خلوّ أحد المقاعد الانتخابية في العام التالي، واحتدام المنافسة بين الأحزاب التقليدية من جهة، و"الجبهة القومية" من جهة أخرى، ممثلة للاتجاهات الاشتراكية والقومية واليسارية جميعاً، انتهى بقيام مراقب عام الجماعة د. مصطفى السباعي بترشيح نفسه في مقابل مرشح الطرف الآخر: رياض المالكي.

ولقد اشتد الجدل حول الأسباب التي دعت السباعي لقبول هذا الترشيح الذي اعتبره البعض "توريطاً" من الأحزاب "التقليدية" لضرب خصومهم من البعثيين والاشتراكيين واليساريين بيد الإخوان وسمعة السباعي؛ ورأى آخرون في قبول السباعي دليلاً على مدى هيمنة "معروف الدواليبي" بالذات على مراقب عام الإخوان وقراراته المصيرية؛

لكن هاني الطايع، ومن موقع المعايشة والمشاهدة، ينفي ما تقدّم، ويرى في حديثه المسجّل "أن القوم إذا كانوا قد رغّبوه وحسّنوا له خوض المعركة الانتخابية، فإنه ما كان ليقبل بالأمر لو لم يكن لديه استعداد وشيء من القناعة الداخلية، والسباعي كان يرى وقتذاك أن سورية في وضع مصيري، وربما اعتقد أن نجاحه كان مضموناً، وأن هذا النجاح سيفتح باب التغيير لإعادة التوازن السياسي إلى البلاد والوقوف في وجه الهجمة اليسارية التي كانت تتهددها.."؛

وينوّه الطايع من ثمّ إلى أن السباعي ما رسب في الانتخابات أو تخلّف عن نتائجها لقلة شعبية أو برفض الناس له، وإنما بسبب التزييف الذي حصل، نافياً مرة أخرى فكرة وجود هيمنة للدواليبي ـ أو سواه ـ على السباعي، والاعتقاد بأنه شخص من السهل أن يؤثر به الآخرون فيحملونه على هذا الموقف التاريخي بهذه البساطة؛ وعلى العكس من ذلك، أكد الطايع أن السباعي "رجل كبير جداً، وقد شهده في مواقف عدّة يبدو الكبار بجانبه صغاراً، وأن شخصيته كانت متألقة حتى بوجود الدواليبي الذي كان يمتثل لإشارة يشير له بها السباعي"!

ويروي هاني الطايع بهذا الصدد أنه عندما كان دون العشرين من عمره، حضر من اللاذقية إلى دمشق يحمل رسالة من محمد المجذوب السباعي الذي استقبله في مكتبه بكلية الشريعة مرحّباً، وأجلسه على كرسي بالقرب منه، ولما أعلمه الطايع باسمه قرأ عليه مداعباً بيت شعر يقول: وطيفهُ الحلمُ الهاني إذا رقدوا... (1)

ويضيف هاني الطايع بأن الدكتور الدواليبي لم يلبث أن دخل المكتب وهو لا يزال على كرسيه بقرب السباعي، فتنحى احتراماً للدواليبي وقدّم له الكرسي القريب، إلا أن السباعي أشار إليه أن يبقى في مكانه، وقال للدواليبي وهو يومي إلى كرسي آخر: تفضل يا أستاذ؛ وامتثل الدواليبي، واستمر المجلس على هذه الحال، وبين كل فينة وأخرى كان السباعييتيح المجال للطايع ـ على حداثة سنه ـ ليدلي بدلوه في الحديث مؤازراً ومشجعاً.

الوحدة.. والإنفصال

ثار كثير من الجدل حول قبول القيادات السورية الوحدة مع مصر عام 1958 م.، وطال بعض ذلك قرار قيادة [[جماعة الإخوان] التي ذاقت شقيقتها في مصر مرّ المحنة بسبب النظام الناصري، ثم ها هي تقبل بالوحدة بحل الجماعة ثمناً لذلك! وفي هذا الصدد يقرّر الطايع أنّ الوحدة كانت في النتيجة "سفينة إنقاذ" لسورية وتركيبتها السياسية، وللإسلاميين فيها على وجه الخصوص"، موضحاً أن حكومة "الجبهة القومية" التي سبقت تلك الوحدة كانت قد حشدت في صفها القوميين واليساريين والكثير من الاتجاهات السياسية "التي إن لم تكن تعادي الإسلاميين فهي لا تبالي بأذيّتهم وإقصائهم، فيما تولى العسكريون إدارة الأمور بشكل عملي، وأخذ اليساريون يقفزون إلى مراكز القوة والتأثير يوماً بعد يوم، الأمر الذي جعل الإسلاميين يعيشون حالة ترقب وتوجس وهم يتوقعون التصفية والسحل في الشوارع"!

ومن جانب آخر يؤكد الطايع أن "فكرة الوحدة كانت شعاراً وأملاً يدغدغ عواطف المسلم ويلبيها بغضّ النظر عن الظرف والاعتبارات الأخرى، ورافق ذلك اجتهاد بأن عبد الناصر على الرغم من اعتباره طاغية ودكتاتوراً، إلا أنه يبقى فرداً واحداً سوف يأتي يوم يزول فيه وتبقى الوحدة بين البلدين، وإضافة لذلك فإن الوحدة قوّة في وجه إسرائيل التي تهدد الجميع، ولذلك فإن قرار الجماعة بتأييد الوحدة كان طبيعياً مهما كانت الكلف والضرائب، وكانت موافقة الإخوان على حلّ تنظيمهم ضمن هذا السياق".

"الاتحاد القومي"

ولقد نوّه الطايع ـ من ثمّ ـ إلى أن صلة الإخوان بالوضع العام للبلاد خلال سنوات الوحدة لم تنقطع على الرغم من حلّ التنظيم، ولفت النظر إلى أن مشاركتهم في انتخابات "الاتحاد القومي" التي دخلوها أفراداً تؤكد ذلك، وقد حقق أبناء الجماعة نجاحات كبيرة في تلك الانتخابات، وساعدهم على ذلك تأذي الناس من التجربة الحزبية السابقة التي كان اليسايون والقوميون عمادها؛ ويعدد الطايع من أسماء من نجحوا من اللاذقية وحازوا نسبة كبيرة من الأصوات: محمد المجذوب، عبد الغفور الطويل، عبد المنعم عقدة، محمد الساعي، وكثيرين غيرهم، ويلفت النظر إلى أنه "كان من المفترض أن يصل من بين هؤلاء الفائزين عدد إلى الرئاسات العليا للاتحاد، غير أن المشكلة الحقيقية كانت في طبيعة الرئيس عبد الناصر الذي تجاوز كل النتائج الانتخابية، وجرى تعيين أناس في مراكز الاتحاد القومي العليا ممن كان بعضهم قد أخفق في النتائج الأولية للانتخابات"!

المناهج قبل الأشخاص

رفضت جماعة الإخوان المسلمين التوقيع على وثيقة الانفصال التي حملت تواقيع وموافقة مختلف الاتجاهات السياسية والتنظيمات الحزبية السورية وقتذاك، لكن الجماعة لم تلبث أن عادت إلى المشاركة السياسية وخاضت غمار الانتخابات النيابية التي شهدها العهد الجديد، واستطاعت الفوز بعدد من المقاعد عن محافظات سورية عديدة.

ووفق ما يتذكره هاني الطايع عن تلك المرحلة فإن الإخوان "كان لهم نشاط نيابي وسياسي، وهم أصحاب رأي أساسي في تلك الفترة الحافلة بالاضطرابات، وكانوا يُدعون للمشورة والمشاركة في اللجان التي كانت تُشكّل بعد كل محاولة انقلاب أو مشكلة جديدة"، ويضيف بأن ذلك كان يتمّ بشخص "قائد الدعوة" الأستاذ عصام العطار أحياناً، وقد يشترك معه من الجماعة شخص أو اثنان في لجنة سياسية لإدارة البلد من عشر أشخاص".

وعلى الرغم من وصف الطايع حضور الإخوان في مجلس النواب بأنه كان "حضوراً متميّزاً" ، إلا أنه لا يتردد في انتقاد أدائهم خلال تلك الفترة الحساسة واعتباره "مع الأسف حضوراً بأشخاصهم"،موضحاً أنّ التجربة النيابية كشفت عن"علّة قاتلة هي افتقاد المشروع الإسلامي النهضوي، وافتقاد الحلول السياسية لإصلاح الأمور الأساسية في البلاد بعد تجربة الوحدة، كقضية الإصلاح الزراعي، وقضية المؤسسات الصناعية، وقضايا تشريعية وقانونية كانت تحتاج إلى الرأي الناضج والمدروس، بينما بدت طروحات النواب حينذاك متأثرة بالنظرة الشخصية وببيئة كل نائب أكثر من تأثرها بالاجتهاد الفقهي العام للجماعة"؛ الأمر الذي جعله يؤكد ـ في حديثه ـ على "ضرورة صياغة المناهج قبل الأشخاص، لأن الأشخاص سيختلفون كثيراً إذا لم تكن المناهج واضحة وناضجة".

الكفاءات.. والانتماء

يقرر الطايع أن المواطن السوري في ذلك العهد "بات بحكم الممارسة على معرفة بنهايات العهود وملامح التغيير، وصار متوقعاً أن يزول حكم الانفصال لأسباب كثيرة، أولها الدور العظيم الذي كان حزب البعث مهيئاً لإنجازه في سورية، والذي رأينا فصوله في السنين الماضية مع الأسف؛ وللتأثيرات الخارجية لعبد الناصر ثانياً، ثم للخلافات الكثيرة التي عصفت بالحكم ورجال الحكم، وأدت إلى تخلي أهل البلاد عنها، حتى بلغت الحال درجة خطورة مريض العناية المركّزة!"؛.

ومن جانب آخر فإن "الدعوة الإسلامية التي تفرّق أبناؤها إلى حدّ كبير خلال عهد الوحدة ـ نتيجة الحلّ ـ فلم يبق منهم إلا مجموعات قليلة مترابطة، ثم جاء هذا الظهور المباغت للحركة ولشخصية الأستاذ عصام في عهد الانفصال، والبلد بحاجة إلى من يملأ فراغها السياسي، مما منح الحركة الإسلامية مكاناً متميزاً، لو أن قيادتها كانت على جرأة ووعي وقدرة على العمل المستقبلي، لكان بإمكانها أن تؤدي دوراً في تاريخ سورية أكبر بكثير مما أدته، ولأمكنها تجنيب البلاد المآسي والحال التي انتهينا إليه"، لافتاً النظر إلى ان الحركة الإسلامية "كانت تملك وقتذاك كادراً شعبياً وفنياً في أجهزة الدولة وخارجها لا تملكه دعوة أخرى"، .

ويستدل بشهادة شبلي العيثمي ـ في ملفات المعارضة السورية ـ الذي أفاد "أن حزب البعث لما أراد العودة للتنظيم بعد الانفصال لم يكن يملك أكثر من بضع مئات من الأشخاص (2)، فيما كان كادر الدعوة الإسلامية ممتداً وكبيراً، حتى أن بعض كليات جامعة دمشق كانت مغلقة في بعض الفروع على الإخوان بالذات"!

ولا يتردّد هاني الطايع بالمقابل في الاعتراف بأن "دور الإسلاميين في الجيش وفي المواقع الأمنية كان ضعيفاً على الدوام، وأن لديهم قصور في السعي للاستيلاء على السلطة من خلال الجيش"، ويردّ ذلك إلى "عقد نفسية وحالات ذاتية سبّبت النفور من دور العسكر وما عملوه في العالم الثالث وفي سورية بالذات، إضافة إلى شعورهم بحكم انتمائهم المدينيّ (نسبة للمدن) وإلى الأسر التي حكمت البلاد طويلاً من آبائهم وأجدادهم، أنهم أبناء هذا البلد وامتداد للتاريخ العريق لهذا البلد، بينما كان الآخرون ينظرون إلى الجيش على أنه وسيلتهم لافتراس البلد والهيمنة عليه.

وفارق كبير بين الدافعين!"؛ وعلاوة على ذلك يضيف الطايع عامل "التربية الإخوانية والتربية الإسلامية عامة التي تُنفّر مما يحدث في الجيش من فساد وانحلال ومباهاة مكشوفة بالإلحاد والممارسات اللاأخلاقية، والتي كانت من شروط دخول الجيش أو الاستمرار فيه"، وينوّه بهذا الصدد إلى أن "سورية لم تعرف الاستقلال في جيشها منذ بداية الانتداب الفرنسي وإلى الآن، وأن جيش الشرق الذي أنشأته فرنسا ليتولى مقاليد الأمور في سورية ولبنان، بقي بصورة من الصور مستمراً حتى اليوم فيها، ولم يستطع أن يكوّن الجيش الوطني الذي يلبي رغبة الشعب بمجموعه وبتطلعاته، وإنما كان جيش فئات متناحرة متدابرة، وجيش مغامرين يقفزون به إلى آمال وغايات مشبوهة، وإنه من المبكر كثيراً أن يكتب تاريخ المشرق العربي الآن"، آملاً أن نعرف حقيقة ما جرى "عندما تباح الوثائق السرّية في يوم من الأيام!".

(1) الشعر لبدوي الجبل في قصيدته : "آلام" وهو عجز بيت يقول فيه:

فذكرُهُ الأملُ الهادي إذا انتبهوا وطيفُهُ الحلُمُ الهاني إذا رقدوا
والقصيدة في رثاء الزعيم السوري إبراهيم هنانو.

(2) نصّ شبلي العيثمي في مقابلته مع مجلة الوطن العربي" على أن "الذين انضموا إلى الحزب (بعد الانفصال) كان عددهم قليلاً ولا يساوي عشر عدد الحزبيين الحقيقي.. وفي عام 1963 كان عددنا حوالي 400 شخص، وخلال انقلاب 8 آذار قد يكون زاد قليلاً، ولكننا كنا ضعفاء".

انظر: تمام البرازي ـ ملفات المعارضة السورية ـ ص198 ـ مطبعة مدبولي ـ القاهرة ـ 1994 م.

في عام 1961 م. انتقل هاني الطايع إلى دمشق منتسباً فيها إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، ومنخرطاً في المزيد من نشاطات جماعة الإخوان المسلمين في العاصمة التي أسرته بعراقتها.

ورأى فيها "مركزاً حضارياً متميزاً من مراكز التفاعل العروبي والإسلامي عبر التاريخ"؛ ولقد حدثني الطايع بإجلال كبير عن أساتذته في دمشق أمثال سعيد الأفغاني، أمجد طرابلسي، أديب الصالح، محمد المبارك، وعمر فروخ، معتبراً أن وجوده في هذا الوسط كان بداية خروجه من "قوقعة المحافظة الجانبية الهامشية إلى لبّ النشاط والحركة الثقافية في البلاد".

ولقد ساعد وجود الطايع في دمشق على تعميق صلته بالحركة الإسلامية والحراك السياسي السائد وقتذاك، ومكّنه من متابعة التطورات المتسارعة التي شهدتها سورية في المرحلة التي أعقبت "الانفصال"، من انتخابات نيابية، ومحاولات انقلابية، وصراعات حزبية زادت الحال تعقيداً ووهناً، حتى أتى انقلاب الثامن من آذار عام 1963 م.

فكان بنظر الطايع "غير مفاجئ لا للإخوان ولا للمواطنين السوريين".. فيما "أمّن موقف الإخوان الأول من عدم التوقيع على بيان الانفصال، ومواقف الأستاذ عصام بعد ذلك التي لا تحسب لجهة معينة، ومحاولته مدّ الجسور والأيادي لمختلف الفرقاء، أمّن ذلك كله صدمة الساعة الأولى بعد الانقلاب فلم يصب أحد بأذى؛ وعندما صدرت قرارات الحجز والسجن والإبعاد لم ينل أحداً من الإسلاميين شيء من شررها، واستمرت جريدة اللواء الناطقة باسم الإخوان في الصدور، تحمل عناوين باهتة لا تشيد ولا تهاجم، وكانت قيادات الدعوة تأتي إلى الجريدة وتجتمع في الساعات الحاسمة: الأستاذ عصام، عمر عودة الخطيب، نبيل الطويل، سعيد العبار..

يتناقشون ويتشاورون.. وكان الشيخ محمد علي مشعل، أو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يحضران أحياناً، وربما حضر عدنان زرزور في بعض الأحيان.."؛ ويكشف هاني الطايع أن عصام العطار "أجرى بعد قيام الانقلاب لقاءات مع قيادات الحركة الجديدة، وقابل لؤي الأتاسي(1).

الذي أثنى على موقفه وموقف الإخوان من الوحدة؛ ويقال إنه (العطار) ذهب وقابل ميشيل عفلق أيضاً.

ونحن ما كنا ندري بذلك وقتها، وعندما كان يُسأل في اللقاءات المغلقة للإخوان لم يكن يجيب إجابات قاطعة.. وهكذا مرّت الفترة الأولى من الانقلاب، ثم لم تلبث أن هبّت عواصف الخلاف بين الانقلابيين أنفسهم، وبدأت التصفيات كما هو معروف، فما شُغلوا بنا وقتذاك، ولم تصدر عن الجماعة بيانات أو مواقف محددة تجاه تلك الأحداث، لكننا كنا في حالة احتقان وترقّب، وكان الشعور أننا مقبلون على محنة ووقت عصيب؛ ولم تلبث أن بدأت حوادث حماة، وجرى اعتصام مروان حديد رحمه الله، وأخذت المشاكل في الظهور، وبدأ الشعور بالخطر الإسلامي؛ وأعقب تلك الأحداث وفاة الأستاذ السباعي(2).

فكانت جنازته تحدياً كبيراً جداً للحكم لم نملك منه فكاكاً، وكانت جنازة تاريخية بكل المقاييس"!

بيننا وبينهم الجنائز!

يتحدث الطايع عن تفاصيل ذلك اليوم المشهود في دمشق ويقول: "ما إن خرجنا بالنعش من بيت السباعي في المالكي حتى فقدنا السيطرة عليه نهائياً! وبينما كان من المفترض أن تحمل السيارات النعش إلى المسجد الأموي لتخرج الجنازة من هناك، تدفّق شباب الدعوة من كل المحافظات وحملوه على أكتافهم وهم يطلقون شعارات التحدي ونداءات الإشادة بالرجل وبالدعوة وبالإسلام، والناس يملؤون أرصفة الطرقات بأعداد كبيرة: الشيخ الكبير.

والإنسان العادي، وطالب المدرسة، والبائع المتجول، وكبار إخواننا في الدعوة يهتفون جميعاً وينادون؛ خرجت دمشق كلها تقول كلمتها من المهاجرين إلى بني أميّة، فكانت الجنازة استفتاء شعبياً عجيباً، وكان الموقف مؤثراً يُذكّر بقول القائل: بيننا وبينهم الجنائز! ووقف الخطباء بعد ذلك على المقبرة، فتحدّث الأستاذ المبارك، والدكتور حسن هويدي، وألقى الحسناوي قصيدته المشهورة، وكان يوماً لا يُنسى في تاريخ دمشق وتاريخ سورية.

ورغم ذلك فإن موقف الإعلام الرسمي كان لئيماً جداً، ومع أن الأستاذ المبارك اتصل وقتها بصلاح البيطار رئيس الوزراء ليعطي تعليماته للإذاعة إلا أنها لم تذكره بشيء أبداً، وتوافق أن مات في ذلك اليوم أحد وجهاء آل جربوع من جبل الدروز فكانت كل نشرة تذكر وفاته وتشيد به، والأستاذ السباعي علم من أعلام البلاد كلها تنكّروا له ولم يذكروه بشيء!".

معركة مخطّطة!

ويتابع الطايع فيقول: "أخذت الأحداث بالتسارع، فبدأ الإضراب العام ينتشر في دمشق وبقية المدن السورية، وكان الأستاذ عصام قد خرج إلى لبنان ومُنع من العودة إلى سورية، ولما توفّي السباعي أراد أن يأتي ليشارك في الجنازة فمنع على الحدود ولم يسمحوا له مرة أخرى؛ وبينما كانت قيادة الإخوان تريد الابتعاد وعدم خوض المعركة المتوقعة، فإن الحركات الشبابية التي لا تملكها أنت أدّت إلى ما جرى في الجامع الأموي، فيما الحكم يسعده ـ لأنه صاحب القوة ـ أن يستجرّ هذه القوى إلى معركة يبطش بها ليجهض ما يليها؛ ولم يكن للإخوان علاقة بما جرى في الجامع الأموي، ولم تكنْ لهم علاقة بما سمّي "كتائب محمّد"، إلا أن الناس اعتصموا في المسجد بالآلاف، ودخل العسكر المسجد بالقوة وأخرجوهم تحملهم الشاحنات إلى السجون والمعتقلات، وشاهدت بنفسي حيث كنت أعمل في وزارة التموين بالحريقة أفاضل دمشق وفي مقدمتهم الأستاذ محمد القاسمي محمولين في الشاحنات يهتفون ويتحدّون، ووضح أنّ الصراع الآن بين الإسلاميين وبين الحكم الذي آل للبعثيين، وأنّ المعركة كانت مرتقبة ومنتظرة"!

خلل واضطراب!

توفي السباعي والمراقب العام للجماعة ممنوع من العودة للبلاد، والحالة الأمنية والسياسية في تأزم متفاقم، فيما ساد التنظيم الإخواني حالة من الاضطراب أفقدته القدرة على مواكبة التطورات ومواجهة الخطر الداهم، يقول الطايع: "أخذ الوضع في سورية يتفاقم والأمور تزداد تدهوراً، .

وبدأت السيطرة على الشباب تفقد وهم يتضرّمون ويرون البلاد تباع وتشرى ويقفز العسكر إليها ويتبادلونها ككرة القدم! والشباب الإسلامي يعلم رصيده الشعبي ويرى نفسه معزولاً ومهدّداً بالخطر، فكان يتضرّم ويبحث عن دور يؤديه؛ وفي تلك الفترة كان الأستاذ عصام قد أنشأ قيادة ثلاثة عهد إليها بإدارة الأمور: أمين يكن الذي كان بمثابة نائب المراقب العام.

ومعه موفق دعبول وعدنان بدر سعيد، وبقي هؤلاء الثلاثة يديرون أمور الدعوة بغياب عصام، لكن الخلافات لم تلبث أن بدأت ضمن الجماعة، فاعترضت بعض المحافظات على كفاءة القيادة في مواجهة الواقع الذي جدّ في البلاد، وعلى كفاءة أشخاص محددين فيها، ولم يلبث أن انشق أعضاء القيادة الثلاثة هؤلاء بعضهم على بعض، فأخذ موفق خط الأستاذ عصام، وأخذ الآخران خط المعارضين، ولم يطل بي الأمر فابتعدت عن التفصيلات اليومية وخرجت من سورية إلى قطر، وكان ذلك في عام 1968 م.".

ويختتم هاني الطايع هذا الفصل من مذكراته بالإشارة إلى معنى بالغ الأهمية طالما لفت الأنظار إليه في أحاديث دعوية سابقة ويقول: "عندما تحدثت للإخوة عن شخصية الأستاذ السباعي وعن المعوّقات التي حجبته عن أن يحقق طموحاته الدعوية والتنظيمية كان الأمر الأول الذي أشرت إليه أنّ الدعوة نشأت بتركيبة شبه عشائرية:جماعة دمشق، جماعة حلب، جماعة حماة، اللاذقية.. وكذا، وأنه لم تتأسّس الدعوة كما ينبغي بالإعلان عن مبادئ معينة ثم تختار لها رجالاً يأتون فينضجونها بالتفكير وبالممارسة.

لكن ما حدث أن جمعيات قائمة من قبل انتفع بوجودها فضُمّت إلى ما سمّي بدعوة الإخوان، وهي جمعيات تمثل صوراً من محافظاتنا ومددنا وقرانا من بقايا العصور العثمانية المتطاولة التي حملت رصيدها الاجتماعي والديني والفقهي والسياسي الخاص بها، فهي مدارس ومناهل متنوعة متباينة، وهي لا تزال باقية لم نتحرر بعد من رواسبها إلى اليوم"!

فهارس

(1 لؤي الأتاسي: القائد العام للجيش والقوات المسلحة آنذاك، وقد تولى منصب رئيس الجمهورية بعيد الانقلاب الذي ارتبط به وساهم فيه.
(2) كانت حوادث حماة قد بدأت في شهر نيسان/إبريل من عام 1964 م. فيما حدثت وفاة السباعي في الثالث من شهر تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام.

المصدر