نهضة الأمة
نهضة الأمة وإرادة الشعوب
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ المرسلين، سيدنا محمدٍ النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فلقد كانت الأمة على موعدٍ في الأيام الأخيرة مع مجموعة من التَّطوُّراتِ والأحداثِ التي بدت كضوءٍ في نهاية نفَقِ الأزمة الحضاريَّة، الذي دخلته الأمة العربيَّة والإسلاميَّة منذ عقودٍ طويلة؛ حيث انتصرت إرادة الشُّعوب في فلسطين وموريتانيا، وقالت الجماهير كلمتها التي عبَّرَت عن حقيقة رغباتها وتطلُّعاتها لغدٍ أفضلَ تملك فيه إرادتَها، وتملك فيه قدرتَها على قيادة نفسها وأوطانها، نحو مستقبلٍ أكثر حريَّةً وكرامةً ونهضةً، بعيدًا عن الفساد والاستبداد الذي نَخَرَ في جسد الأمَّة حتى جعلها عُرضةً لأي غازٍ أو طامعٍ فيها وفي ثرواتها، وعُرضةً لمؤامراتِ أعدائها، وعلى رأسهم التَّحالف الأمريكي- الصُّهيوني الأسود، الذي يستهدف هوية الأمَّة والقضاء على خصوصيتها الثقافية وطمس معالم تراثها الحضاري.
ففي فلسطين
قال الشَّعبُ الصامد كلمتَه، ونجح في تجاوُز محنتِه التي حاول أعداؤه وأعداءُ قضيَّته- التي هي قضيَّةُ كلِّ عربيٍّ ومسلمٍ شريف وحرّ- أنْ يبقوه فيها، واستطاع بتوفيق من الله عز وجل ثم بإرادة أبنائه أن يتوصَّل إلى حلٍّ لأزمةٍ طالت وهدَّدَت بإشعالِ فتنةٍ أهلية تأكل الأخضر واليابس، فضلاً عن إلهاء الفلسطينيين عن الهدف الرئيسي، وهو تحرير الأرض واستنقاذ المقدسات.
ولكن الله سلَّم، وبحكمةِ الجميع من أبناء الشَّعب الفلسطيني ذهبت المُؤامرة أدراجَ الرِّياح، وخرج الجميع من مكة المكرمة رافعين راية الاعتصام ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103).
والآن تقف حكومة الوحدة الوطنيَّة الفلسطينيَّة أمام مسئولياتها المصيرية في التفاعل مع أمانة ثقيلة؛ لتكون بكافة ألوان الطيف السياسي الذي تضمّه على قدر اسمها.. حكومة الوحدة في القرار والتنفيذ، دون السماح لأي خلافاتٍ داخليَّة ضيقة أن تفتَّ في عضد التَّعاون الأصيل بين مختلف أُخوَّة طريق الجهاد.
كذلك على وزراء الحكومة الفلسطينية العمل على رعاية مصالح الفلسطينيين كل الفلسطينِيين، دون النظر إلى اختلاف الانتماءات السياسية أو العشائرية أو الحزبية، مع الوضع في الاعتبار أن هذا النجاح الكبير الذي حقَّقه الفلسطينيون سيدفع الكيان الصهيوني وأعوانه في الغرب- وعلى رأسهم الولايات المتحدة- إلى ممارسة المزيد من الضغوط السياسية، والمزيد من إحكام الحصار الظالم على شعب المرابطين، وارتكاب المزيد من الجرائم، في محاولةٍ لإضعاف الصَّفِ الفلسطيني، ومن هنا فقد وجب على الجميع الصَّبرُ والثَّباتُ والانتباهُ لحِيَل الكيان الصهيوني التي لا تنفَد ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ (آل عمران: من الآية 118).
أما شعب الرباط الفلسطيني فعليه أن يكون على قدر ثقة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، حين منحه صفة الرباط في سبيل الله، بثباتٍ على الابتلاءات والمحن، متعاونًا مع حكومته الجديدة ليسدَّ كلَّ ثغرٍ ينفُذ منه العدوُّ، وحصنًا لمنجَز سياسي متحقِّق في حكومة جمعت كلَّ الأطراف في فلسطين.
ولا يفوت الإخوانَ المسلمين التأكيدُ على كلِّ الفصائل الفلسطينيَّة- التي لم تنضمَّ إلى حكومة الوحدة- على أن تعمل لدعمها بكل ما تستطيعه سياسيًّا وجماهيريًّا، لينصهرَ كلُّ الشعب الفلسطيني في بوتقة الوصية الربانية ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾ (المائدة).
وفي الوقت ذاته فإن تبعة المجتمع العربي والإسلامي كبيرة، فكما دعم جهود الفلسطينيين لتجاوُز أزمتِهِم والتَّوصُّل لاتفاق مكة المكرمة الذي كان سببًا مباشرًا لتشكيل حكومة الوحدة.. فإنَّ عليه الآن أعباءً أخرى تتفق وطبيعة متطلبات المرحلة الراهنة، تبدأ بالاعتراف بحكومة الوحدة الجديدة، ثم اتباع ذلك بخطواتٍ عمليةٍ لفكِّ الحصار الظالم المفروض على الفلسطينيين، والذي أُحكم خلال العام المنصرم عبْر تطابق في المواقف العربية والإسلامية الرسمية مع المواقف الصهيونية والأمريكية!!
ولن يمحوَ عار هذا التطابق إلا أن تقف الحكومات العربية والإسلامية- بما في ذلك النظام الإقليمي العربي والإسلامي، ممثلاً في جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي- أمام مسئوليتها في المسارعة إلى تطبيق مقرَّرات القمم العربية والإسلامية التي عُقدت في الفترة الأخيرة في شأن دعم الفلسطينيين في محنتهم الراهنة عبْر دعم حكومة الوحدة الوطنية على مختلف الأصعدة المالية والسياسية.
أما المجتمع الدولي الذي صمَت طويلاً على الممارسات الإجرامية الصهيونية بحق أبناء الشعب الفلسطيني وأصابه البكم عن انتقاد الضغوط الأمريكية والأوروبية على الفلسطينيين وحكومتهم المنتخَبة ديمقراطيًّا بقيادة حركة المقاومة الإسلاميَّة (حماس).. فلم يحرِّك ساكنًا، بينما الأطفال الفلسطينيون يُقتَلون ويموتون جوعًا، وآباؤهم لا يجدون ما يفعلونه إزاء الفقر والفاقة ونقص الرواتب سوى الصبرِ والابتهال إلى الله تعالى لرفع هذه الغُمَّة.
فعلى هذا المجتمع الدولي أن يفهم أن دعمَ الفلسطينيِّين واجبٌ تفرضه المسئولية أمام نبْتٍ صهيونيٍّ زرَعَه العالمُ على أشلاء شعب وأطلال وطن، كما أنه أولويةٌ إنسانيةٌ في عصر حقوق الإنسان التي تؤكد عليها كافة الأعراف والشرائع السماوية من جهة، أو مع ما تدعو إليه الشرعية الدولية والقانون الدولي من جهة أخرى.
أما الطرف الآخر في تل أبيب واشنطن فإن التجربة أثبتت طيلة السنوات الماضية أنه لا فائدةَ تُرتجَى من وراء الحديث معهما، فالأول غاصبٌ إجراميٌّ يرى السلام سببًا لإبراز كافة التناقضات السياسية والحزبية والدينية والطائفية والعرقية الموجودة؛ ولذا فلا بد من حرب يشعلها مع جيرانه لكي يحافظ على وجوده الاستيطاني في فلسطين العربية المسلمة.. ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ﴾ (المائدة: من الآية 64)، ومن ثم فلا اعتبارَ لديهم لأيَّة اتفاقيَّات أومُقدَّسات.. ديدنهم التركيبة القديمة ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)﴾ (البقرة).
والثاني أمريكا.. التي شيَّدت مدنيتها على أنقاض أبناء البلد الأصليِّين من الهنود الحمر في تشابهٍ مريبٍ مع تجربة الاغتصاب الصهيوني اليهودي لفلسطين؛ ولذا فإن ثقافة العدوان والسلب جزءٌ من فلسفة بنائها، والتعويل عليها لدعم الحق الإسلامي في فلسطين أو غيرها سرابٌ تهرول خلفه بعض الحكومات العربية والإسلامية، وخاصةً في ظل حكم الإدارة الحالية التي ترفع راية اليمين المتطرف الجديد بكل قناعاته التي تصل إلى حدِّ الإيمان الدِّيني والعقيدي بالمشروع الصهيوني، وتتبنَّى سياسة الكيل بمكيالَيْن في صراع الوجود العربي (الإسلامي)- الصهيوني، وفي العراق وفي أفغانستان وغيرهما من البلدان التي أسقطت مصداقية شعاراتها البراقة عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية.
وفي موريتانيا
حيث التجربة الأخرى التي أثبتت أن الخير في أمة محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وليس المقصود الانتخابات الرئاسية التي جرت جولتُها الأولى مؤخَّرًا فحسب، بل في تجربة سياسية جديدة، يحياها هذا البلد المسلم الذي استطاع- بالرغم من ظروفه السياسية والإنسانية والاقتصادية الصعبة- أن يملك زمام أموره، ويُرتِّبَ تجربةً ديمقراطيةً نادرةً من نوعها.
وقد أثبتت تجربة موريتانيا أن الديمقراطية والحرية لا تباعان في المتاجر الأمريكية، ولا تشترطان أن يكون لديك رصيدٌ في البنك الدولي أو في صندوق النقد، فلا يجب أن تكون أمريكيًّا أو صهيونيًّا أو تابعًا للغرب لكي تكون ديمقراطيًّا، ولا يشترط كذلك أن يكون لديك نظامٌ يحترم الحرية وحقوق الإنسان كما يزعم الغرب وأذنابه من أشباه الرجال والأنظمة، فتجربة الموريتانيين تقول إنك ما دمت إنسانًا تمتلك إرادتك فأنت قادرٌ وأنت حرٌّ.
ويبقى الوجه الآخر في التجربة الموريتانية وهو بطلان المزاعم الصهيونية التي تدَّعي أن الكيان الصهيوني فقط هو واحةُ الديمقراطية الوحيدة وسط "صحراء الاستبداد العربية"، زاعمين أنه لن يدخل جنَّةَ ديمقراطيتهم إلا من كان أمريكيًّا أو صهيونيًّا أومن شابههم.
لقد أثبت الشعب الموريتاني أيضًا أن العرب والمسلمين قادرون على تفريخ ديمقراطية حقيقية قائمة على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، وهي رسالةٌ إلى الآخرين أن الطريق سهلٌ وميسورٌ لمَن امتلك الإرادة السياسية والرغبة الصادقة في تحقيق أماني الشعوب المتطلعة إلى الحرية والنهضة والتقدم.
وهكذا تحفر فلسطين وموريتانيا بأحرف الحرية حقيقةً ثابتةً، مفادُها "أنه بالرغم من الحصار والتجويع والاستبداد والاستعمار فإن هناك أملاً ما دامت الأمة تمتلك إرادتها".
وإلى إخواننا القادة العرب.. الذين سيجتمعون في بلد الله الحرام عمَّا قريب
يهيب الإخوان المسلمون بهم أن "انتهِزوا فرصة قمَّتكم للاجتماع على كلمةٍ سواء، وتنقية النفوس والأجواء، والتوحُّد ونبذ الخلافات، ولْيكن شعارُ قمَّتكم: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، وتذكَّروا وعودَ القمم السابقة وقراراتِها، خاصةً فيما يتعلَّق بقضايا الأمة المصيرية، سواءٌ في السودان أو فلسطين أو العراق أو سوريا ولبنان؛ دعمًا لكلِّ الأشقَّاء في مواجهة آلة الاستعمار الجديد التي لا ترحم شيخًا ولا طفلاً ولا زرعًا ولا نبتًا ﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج: من الآية 78).
واعلموا أنكم مسئولون بين يدَي الله عما استرعاكم ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَكَ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.