نماذج من تواضعه وتياسره صلى الله عليه وسلم
بقلم:سعيد حوي
ننقل هنا ما كتبه صاحب بطل الأبطال تحت هذا العنوان مكتفين به في هذا الباب مع حذف بعض جمل المقال يقول :
" صفة بينة لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم كانت ولا تزال على مر الأجيال بادية واضحة في طبعه الكريم تلك هي : التياسر والتواضع ، فيهما كان محمد صورة صادقة لكرامة الإنسان يؤتاها من صميم نفسه ولا يصطنعها مما يحيط به من مظاهر خادعة متكلفة ، كان محمد التياسر نفسه يتمثل في الرجل الكامل ، وينبعث من أعماق قلبه ، فيبدد ما يتجمع حوله من زخرف السيادة والملك وما يتبعهما من الرياء والزينة ، وما يخدع به الناس من قول أو فعل ، كان محمد قريباً سهلاً هيناً يلقى أبعد الناس وأقربهم وأصحابه وأعداءه وأهل بيته ووفود الملوك بلا تصنع ولا تكلف ، بل بالحق سافراً ، فكانت أعماله تصدر طبيعية كل منها يدل على خلقه كما تدل الصورة على صاحبها واسمعوا إلى عدي بن حاتم .. يقول وقد كان يظن أنه سيلقى ملكاً في المدينة :
" دخلت على محمد وهو في المسجد فسلمت عليه فقال ك من الرجل ؟
فقلت : عدي بن حاتم ، فقام وانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف طويلاً تكلمه في حاجتها ، قال فقلت : والله ما هذا بملك . قال : ثم مضى بي رسول الله حتى إذا دخل بي إلى بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقذفها إلي فقال : اجلس على هذه ، قال : قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت . فجلست عليها وجلس رسول الله على الأرض ، قال : قلت : في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك " هذه طبيعة محمد لا طلاء عليها ، يأتيه عدي وقد وقع في بعض أهله قبل ذلك أسرى لجيوشه يأتيه مغلوباً فيجلسه على وسادة ويجلس هو على الأرض ..
ثم انظروا إليه وقد مات ابنه إبراهيم ، فكسفت الشمس فقال الناس : " كسفت الشمس لموت إبراهيم . فيقوم في المسجد : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته " .
هذه هي النفس البريئة التي تعش الحق للحق . وتتعالى في تواضع عن استغلال وهم من الأوهام .
انظروا كذلك كيف يستأذن على أحد أصحابه وكيف ينصرف ؟
يقول قيس بن سعد :
زارنا رسول الله r في منزلنا فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فرد أبي رداً خفياً ، فقلت لأبي : ألا تأذن لرسول الله ، فقال : زده حتى يكثر علينا من السلام فقال r : السلام عليكم ورحمة الله ، ثم رجع فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله ! إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام ، فانصرف معه النبي ، وأمر له سعد بغسل فاغتسل ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران فاشتمل بها ثم رفع يديه وهو يقول : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد .
فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً ، فقال سعد : يا قيس اصحب رسول الله ، فصحبته فقال : اركب معي ، فأبيت فقال : إما أن تركب وإما أن تنصرف " .
هذه زيارة سيد العرب والعجم لأحد أنصاره من كبارة المدينة تمر في غير حفل ولا ظهور . يذهب إليه ماشياً ، ويعود على حمار يريد أن يردف عليه رفيقه . تلك السجية الظاهرة لم تحل دون أن يكون محمد مطاعاً وطاعته قربة . فإن يحسب الناس أن مظاهر الرياسة والسلطان لازمة لحسن الولاء واستدامة الطاعة ، فلقد كان ولاء سعد والأنصار لمحمد المتواضع مضرب الأمثال في تاريخ الدعوة الإسلامية ( بل في كل تاريخ ) ولم تكن دعوته قيساً إلى الركوب معه على الحمار أمراً غريباً ، بل كانت هذه عادته يردف على حماره وبلغته وناقته ويعاقب مع رفاقه ( المعاقبة أن يركب واحد مرة ويركب الثاني أخرى ) قال ابن عباس : إن النبي r لما قدم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه . وقال معاذ : كنت ردف رسول الله على حمار يقال له عفير ، وجاء إليه رجل وهو يمشي فقال : اركب ، وتأخر على حماره ، فقال محمد r : أنت أحق بصدر دابتك مني إلا أن تجعله لي . فقال الرجل : فإني جعلته لك . ويقول جابر : كان رسول الله يتخلف في السير ، فيزجي الضعيف ( أي يسوقه ليلحق الرفاق ) ويردف ، ويدعو لهم .
كان مرة في سفر مع صحبه ، فأرادوا أن يهيئوا لهم طعاماً فقسم العمل بينهم ، فقام يجمع الحطب فأرادوا أن يكفوه ذلك فأبى ، لأن الله يبغض الرجل يتعالى على رفاقه . ولما وقف عليه أعرابي يرتجف خشية ، ذَكَّرَه أنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد . وخرج على جماعة من أصحابه يتوكأ على عصا ، فقاموا له فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً ...
وكان محمد يكره الإطراء والألقاب : انطلق إليه وفد بني عامر ، فلما كانوا عنده قالوا : أنت سيدنا ، فقال : السيد الله ، فقالوا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طوْلاً ، فقال : قولوا قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان .
كان في تياسره جم التواضع ، وافر الأدب ، يبدأ الناس بالسلام ، وينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً ، ويكون آخر من يسحب يده إذا صافح ، وإذا تصدق وضع الصدقة في يد المسكين ، وإذا أقبل جلس حين ينتهي المجلس بأصحابه ، لم يكن يأنف من عمل يعمله لقضاء حاجته أو حاجة صاحب أو جار ، فكان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته ويقول : أنا أولى بحملها ، ولم يستكبر عن عمل الأجير والفاعل سواء كان في بناء مسجد المدينة أو في الخندق وهو أمير الجيش يدفع الأحزاب .
وكان محمد كذلك متواضعاً في ملبسه وسكنه ، يلبس كعامة من حوله ويسكن ، وقد واتته الدولة والسلطان في صف من حجرات واطئة مبنية باللبن ، بين كل حجرة وأخرى حائط من جريد النخل ملبس بالطين ومغطى بجلد أو كساء أسود من الشعر ، وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ، ويقبل عذر المعتذر ، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده ، ويخدم ونفسه ويعقل بعيره ، ويأكل مع الخادم ويقضي حاجة الضعيف والبائس .
كل هذا التواضع والتياسر الصادق من نفسه الطاهرة ، والذي هو صورة صادقة له ، لم ينقص من هيبته ولا محبته ، وقد قيل في وصفه : من رآه بداهة هابه ومن عاشره أحبه . فكانت علاقة أصحابه والناس به علاقة أدب جم وحب ووقار كامل ، لم يتكبر ولكنه لم يرض سوء الأدب ، وكثيراً ما بين لأصحابه كيف يتصرفون في حضرته وفي خطابه .
يقول .. وليم موير ... في وصف تواضعه وتياسره : " كانت السهولة صورة من حياته كلها ، وكان الذوق والأدب من أظهر صفاته في معاملته لأقل تابعيه ، فالتواضع والشفقة والصبر والإيثار والجود صفات ملازمة لشخصه وجالبة لمحبة جميع من حوله ، فلم يعرف عنه أنه رفض دعوة أقل الناس شأناً ، ولا هدية مهما صغرت ، وما كان يتعالى ويبرز في مجلسه ، ولا شعر أحد عنده أنه لا يختصه بإقباله وإن كان حقيراً . وكان إذا لقي من يفرح بنجاح أصابه أمسك يده وشاركه سروره . وكان مع المصاب والحزين شريكاً شديد العطف حسن المواساة وكان في أوقات العسر يقتسم قوته مع الناس ، وهو دائم الاشتغال والتفكير في راحة من حوله وهناءتهم " .
ولسنا في تاريخ محمد بحاجة على أحد ، فإن مما اختص به من بين رسل العالم وأبطاله وضوح حياته وجلاؤها من جميع نواحيها . وإنما سقنا عبارة " موير " هنا لشعورنا أنها صادرة عن إعجاب صادق . ولو أننا درسنا سيرة محمد الدراسة اللائقة بها ، لكان اليوم حياً بين أصحابه ، ولوجدنا الصورة التي طبعها على الوجوه بعمله وقوله لا تزال واضحة وضوح نفسه العظيمة ، المتحلية بأخلاق لا يغطيها الطلاء ولا يحجبها رياء ولا ترى إلا على حالة واحدة في الليل والنهار وفي السر والعلانية وفي الشدة والرخاء وفي الضعف والقوة ، وفي السوق وهو في شبابه ، وفي الشيخوخة وهو على عرش النبوة والملك .
وكان محمد بأخلاقه شخصية من اليسر والتواضع لا تبديل ولا تغيير فيها ، هي النفس التي اتصلت بالسماء وعاشت على الأرض دانية إلى الناس محببة إليهم في كل أطوار حياته . كان بطل الأبطال r المثل الأعلى الذي نحن اليوم أحوج ما نكون إليه في نطاق الأخوة الإسلامية ، لا يرفع من شأن أحدهم غنى أو جاه أو حسب أو نسب وإنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي والناس من آدم وآدم من تراب " اهـ.
وأخيراً وبعد أن ضربنا لك أمثلة على خمس من أمهات أخلاق رسول الله r وضح بما لا يقبل الشك أن العالم لم يعرف ارتفاعاً في الأخلاق في كلياتها وجزئياتها وأبعادها وشمولها كله كما عرفه في رسول الله r وكما شهد بذلك القرآن العظيم . وأن منتهى آمال الأخلاقيين أن يقلدوه في خلق واحد من أخلاقه وهم لا يرتقون بهذا الخلق إلا إلى بعض ما عنده r . وإن الناس جميعاً بكل ما أوتوا من أخلاق لو جمعت أخلاقهم الحميدة فإنهم لا يبلغون أن يحيطوا إلا بالأقل مما كان ( عليه الصلاة والسلام ) . هذا مع أن الناس لا تخلص أخلاقيتهم مما يعابون عليه بحق .
أما رسول الله r فكان الأخلاق كلها محضاً . ليس فيها ما يخالط مما يلام عليه الإنسان ، إلا إذا كان اللائم أعمى البصيرة ، يرى الخير شراً والشر خيراً ، أو حاسداً أو متكبراً أعماه الحسد والكيد عن رؤية الحقيقة التي لا تغيب عن أحد . وإن أحد عرف الرسول r في زمانه من عدو أو صديق إلا وأسلم في ضميره أن الخلق المحمدي لا يرقى إليه مطعن ، وقد مر معك كثير من شهادة الأعداء وهم أعداء بذلك . وقديماً قال أحد آباء زوجاته المشركين وقد بلغته خطبته لبنته ، " هو الفحل لا يجدع أنفه " . وقال عكرمة بن أبي جهل بعد حربه الطويلة لرسول الله هو وأبوه في لحظة إسلامه :
" أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنت عبد الله ورسوله وأنت أبر الناس وأصدق الناس وأوفى الناس ، قال عكرمة : أقول ذلك وإني لمطأطيء رأسي استحياء منه ... "
المصدر
- مقال:نماذج من تواضعه وتياسره صلى الله عليه وسلم موقع : برهانكم