نعم العبد...
بقلم : المنشاوي الورداني
ما بالك لو خبرت أنك ستقضى ثمانية عشر عاماً فى مرض عضال يلزمك الفراش ويحبسك عن الناس ..هل تستطيع الحياة بعد هذا النبأ العظيم ؟!
أبداً ..والله..سيكون الألم هو صاحبك والفزع هو حليفك قبل حلول المرض لتصاب بمرض مقعد قبل المرض المرتقب .
انظر كيف صبر سيدنا أيوب عليه السلام على مرضه الفريد تلك الثمانية عشر عاماً.. صبر لا يصفه الواصفون ،ويعجز عنه الشاهدون.. وكفاه شهادة رب الأرباب .. خالق السماوات والأراضين المطلع على أيوب قبل المرض وحال المرض وحباه شهادة لم ينلها أى عبد ولا صديق ولا شهيد ..حينما أقر بقيوميته فى كلامه المحكم .. " إنا وجدناه صابرا ً ، نعم العبد ، إنه أواب " ( ص/44)
إنى لا زلت أعجب من صبر أيوب عليه السلام كلما مررت على قصته فى ثنايا القرآن العظيم وسأظل فى عجب طيلة عمرى .. كيف صبر هذا النبى العظيم على هذا المرض العظيم ثمانية عشر عاما ً فى أغلب الروايات .. لا .. وفى أدب جم تفتقد إليه الخلائق ويحتاج اليه المتبتلون .. ودون تبرم أو تأفف أو شكوى من وقوع البلاء !!
إن أيوب عليه السلام ..ومن عجب .. وكما قال العلماء عاش قبل مرضه سبعين عاما ً صحيحا ً جسيما وسيما ً كان يرفل فى نعم الله وعطاياه حينا ً من الدهر .. ولما أصابه الكرب العظيم كره أن يغضب النافع الضار فى أن يرفع عنه هذا البلاء مبينا ً لزوجته جمال الصبر حتى ولو وصل من الأعوام السبعين كما عاش صحيحا ً مدة سبعين .. كما أورد ابن كثير . ولما أذن الله برفع البلاء دعا أيوب ربه ( أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين ) (الانبياء/83) وقد ذكر القرطبى أن طلب أيوب دعاء وليس اشتكاء .. وقال الجنيد : علمه ربه فاقة السؤال ليدرك عظم النوال .
إن حكمة الله فى العطاء والمنع عجيبة بين بنى آدم .. مانجح فيها إلا قلة استحقوا معها العلم والحكم والنبوة ..
فيعقوب عليه السلام سلبت منه نعمة ولده يوسف حينا ً من الدهر ليعود اليه بعد شوق مع بصره الذى ابيض من الحزن فهو كظيم .
ويوسف نفسه منع مبكرا ً ملامح الحياة السوية فألقى فى غيابات الجب فإلى ظلمات السجن وما بينهما من فتن شعواء أضرمتها امرأة العزيز ونسوة فى المدينة .. لتعود إليه النعمه فى صورة التمكين الكبير فى الأرض كوزير لخزانة مصر ..
ويونس عليه السلام سلبت منه نعمة الحياة بين أنوار الأرض والسماوات لينادى فى الظلمات ( ألا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ) فتعود إليه نعمة الله ليعود إلى نور الحياة إلى مائه ألف أو يزيدون .
فسبحان من يعطى ويمنع .. ومن يسلب ويمنح .. ومن ينزل البلاء ويرفع .. وما ذلك إلا عبرة لنا فى قصص الأولين .. السابقين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وحسن أولئك رفيقا ً .
إن صبر عبد الله أيوب درس قديم لكل مبتلى فى كل يوم جديد .. وما استحق نبى الله أيوب شهادة أحكم الحاكمين إلا لما تحققت مراحل التسليم والرضا والإذعان والطاعة والهشاشة والبشاشة والأنس بالله فى صبر أيوب على ابتلاء الله، وكأن أيوب علم ماجرت به العادة الإلهية أن الفرج على قدر الضيق ، وبقدر الفقر يكون الغنى ، وبقدر الذل يكون العز ، وبقدر العسر يكون اليسر .. والحاصل بقدر الجلال يكون الجمال عاجلا أو آجلا ( فإن مع العسر يسراً.إن مع العسر يسرا)( الشرح/5،6)
(ولن يغلب عسر يسرين ) "رواه الحسن "
وإذا كان أيوب عليه السلام قد أوحش من خلق الله فقد علم أن الله أراد أن يفتح له باب الأنس معه .. فشغله بذكره وأتحفه بمعرفته فامتلأ قلبه بالأنوار وتمكن من حلاوة الشهود والاستبصار وكأن قول الشاعر يعنيه .. ويعنى كل صابر على بلواه :
تلذ لى الآلام إذ أنت مسقمى
- وإن تمتحني فهي عندي صنائع
تحكم بما تهواه في فإنني
- فقير لسلطان ألمحته طائع
بقى أن نعلم أنه من أعظم إحسان الله وبره كون لطفه لا ينفك عن قدره ، فما نزل القدر إلا سبقه اللطف وصحبه ، وبهذا حكم النقل والعقل ، أما العقل فما مصيبة تنزل بالعبد إلا وفى قدرة الله ماهو أعظم منها ، وقد وجد ذلك ، فإذا نزلت بك أيها الانسان مصيبة فاذكر من هو أعظم منك بلاء ، فكم من إنسان يتقطع بالأوجاع ، وكم من إنسان مبتلى بالجذام والبرص والجنون والعمى ، وكم من إنسان مطروح فى المصحات والمستشفيات لا يجد من يبرئه إلا من ابتلاه .. وأما من جهة النقل فقد ورد فى ثواب الأمراض والأوجاع أحاديث كثيرة وآيات قرآنية فى مدح الصابرين : منها قوله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ( الزمر/10) وقوله ( وبشر الصابرين ) "البقرة/ 155"
وقوله ( إن الله مع الصابرين ) " البقرة /154" إلى غير ذلك ، وقوله – صلى الله عليه وسلم :" مايصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها وحتى الهم يهمه إلا كفر به سيئاته " (البخارى ومسلم )
المصدر
- مقال:نعم العبد...موقع:الشبكة الدعوية