نداء إلى الليبراليين العرب.. استقيموا يرحمكم الله
في العصرِ الأمريكي الحديث استبشر البعضُ ببزوغ فجر ليبرالية جديدة متجددة في البلاد العربية تموِّلها استثمارات ضخمة من المعونات والمنح والقروض وتخدمها منابر إعلامية صحفية وتليفزيونية ومراكز دراسات وبحوث، وتحميها تصريحات وامتناع عن زيارات.. إلخ.
ولكن سرعان ما تبدَّدت الآمال وظهرت المخاوف، فقد سارع عددٌ من هؤلاء الليبراليين لمهاجمة خصومهم من كافة التياراتِ الوطنية والقومية والإسلامية.. بل واستعداء المجتمع الدولي عليهم والتوقيع (إن صحت نسبة التوقيعات المؤلفة إلى أصحابها الذين لم أسمع أنهم تبرأوا منها) على عرائض ثم رفعها إلى الأمين العام للأمم المتحدة (إن صحَّ ما نقلته الأخبار ولم يكن مجرَّد استعراضٍ إعلاميٍّ مزيف) تطالب بمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية لشيوخ وعلماء ومفكرين مرموقين يحظون بتقديرٍ واسعٍ في العالمِ العربي والإسلامي بل في العالم الليبرالي الحر أيضًا.
وأظهرت نتائج الانتخابات المتتالية من المغرب إلىتركيا إلى البحرين- مرورًا بغزة والضفة واليمن والأردن حتى وصلت إلى باكستان وإندونيسيا وأخيرًا في مصر المحروسة بتأييد الإسلاميين المعتدلين- عن خبيئة صدور فريقٍ من هؤلاءِ الليبراليين، فقد ضاقوا ذرعًا بالنتائج التي جاءت عبر صناديق الانتخابات الشفَّافة التي أوصت بها راعية الليبرالية في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ الغمز واللمز ثم التحريض المباشر ضد الانتخابات الحرة والتنظير المتعالي على الديمقراطية النيابية إلى حدِّ المطالبة بوقفِ مجمل العملية السياسية والانقلاب على كلِّ مفاهيم الحريات العامة ولم نَصِل بعد إلى المناداة بوضع الخصوم السياسيين في السجون وإراحة البلاد والعباد منهم.
وفي الحقيقة بعض الليبراليين الجدد أنصار الليبرالية المتوحشة وعسكرة العولمة ونظرية الاحتلال من أجل إرساء الديمقراطية.. ديمقراطية الدبابات والمدافع وإكراه الشعوب على التصويت تحت وابل النيران؛ طلبًا لراحة نفوسهم وإخلاءً للساحةِ من منافسيهم، أعلم أن هناك قلةً من هؤلاء الليبراليين الجدد أصيبوا بالاكتئاب من نتائج الانتخابات الأخيرة في مصر أو في طريقهم إلى المصحَّات النفسية للبحث عن دواء من القلق والشكوك والارتياب، ولكنني أعلم أيضًا أن هناك مخلصين من أنصار الليبراليين جادِّون في العمل من أجل إرساء الحريات العامة، يجاهدون في سبيل بناء نظام ديمقراطي حقيقي، وهم مستعدون للتضحية بجزء من أوقاتهم وأموالهم، بل وإن دعت الحاجة من حريتهم الشخصية داخل السجون (مثل د. سعد الدين إبراهيم)؛ كي نضع حدًّا للديكتاتورية والاستبداد في بلادنا.
وإلى هؤلاء وأولئك أوجِّه كلمتي وندائي: استقيموا يرحمكم الله.
أولاً: اصطلحوا مع شعوبكم التي تنتمون إليها، مع ثقافتها وحضارتها، مع تراثها وتاريخها، مع دينها وعقيدتها.. لا تكرروا تجربة اليسار العربي المُرة، فالبذور المستوردة لا بد من تهجينها كي تنبت في بيئة مختلفة وإلا فإنَّ الأرض تلفظها، عندما أراد مستكشف إنجليزي فيما سمعت استنبات نبات الفراولة في بلاده لم يُفلح إلا بعد محاولات عديدة أدَّت في النهاية إلى اكتشاف سلالة جديدة.. يُمكنكم إسناد مفاهيم عديدة في الليبرالية إلى تراثكم وثقافتكم إن لم تقبلوا إسنادها إلى عقيدتكم ودينكم (إسلامًا كان أم مسيحيةً أم يهوديةً).. إذا كنتم تدافعون عن قيم الحرية والمساواة والتسامح والإبداع والمجتمع الأهلي أو المدني، ومحاسبة الحكام ومعاقبتهم والقضاء المستقل وغير ذلك.. فأرجوكم اعكفوا لمدة أسبوع في دورة تدريبية لتتعرفوا على ما قدمته أمتنا في هذا الصدد، ولماذا أخفقنا في الالتزام بهذه القيم في بعض فترات تاريخنا؟ وكيف نتدارك هذه الأخطاء؟
ثانيًا: كونوا صادقين مع أنفسكم ومع الناس، فلا تقولوا رأيًا وتطالبوا بالحرية ثم تنكصون على أعقابكم إذا جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، بل راجعوا أنفسكم وصحِّحوا مسيرتكم وارتبطوا بالقيم والمبادئ التي تنادون ولا ترتبطوا بالمصالح والمغانم، فالقيم أبقى وأرسخ ولن تحرموا مغانم أكبر من احترام الناس وكسب مودتهم وستأتيكم الدنيا راغمة.
ثالثًا: ارتبطوا بالمبادئ والقيم وليس بالإدارات والحكومات، وكونوا من أنصار أمثال السيناتور جون ماكين وليس من أنصار الرئيس جورج بوش الابن.. هذا السيناتور الذي أصرَّ منذ شهور وهو الذي تعرَّض للسجن والتعذيب في فيتنام أثناء الحرب على إصدار قانون يُحرم التعذيب ويحظر المعاملة القاسية أو المهينة لأي شخصٍ تحتجزه الإدارة الأمريكية ويخضع لتحقيقات بغض النظر عن أماكن الاحتجاز ويخضع المساءلة لنفس المعايير المتبعة في الجيش الأمريكي.
وقد صدر القانون بالأمس القريب بعد مماطلة الرئيس بوش بل وتهديده بالفيتو الرئاسي لمنع إصدار القانون وفي النهاية رضخ لإصرار السيناتور الجمهوري جون ماكين الذي نجح في حشد التأييد داخل وخارج الكونجرس وهزم إرادة الرئيس بوش التي تمارس التعذيب وانتهاكات خطيرة ضد الحقوق المدنية للمواطنين الأمريكيين فضلاً عن المحتجزين بتهم الإرهاب في جوانتنامو بكوبا ثم في السجون السرية التي تم اكتشافها ليس فقط في الدول العربية بل في بلاد أوروبية بعضها للأسف مشهورة بالدفاع عن حقوق الإنسان يا للنفاق البشع.. أين حُمرة الخجل؟!!
اعلموا أيها السادة أن هناك تنوعًا كبيرًا داخل المعسكر الليبرالي الغربي؛ هناك من يدافع عن القيم وهناك من يعمل من أجل مصالح بلاده وهناك من يمزج بين القيم والمصالح وهناك منتفعون منافقون يأكلون على كل الموائد ورجال لكل العصور وهناك عملاء لأجهزة المخابرات والمباحث الفيدرالية ولو كانوا كتَّابًا مرموقين وصحفيين مشهورين وراجعوا الوثائق والكتب المنشورة.
اختاروا لأنفسكم أيها السادة المحترمون فنحن في حاجة إلى فرزٍ جاد في هذه المرحلة التاريخية مرحلة الإصلاح والتغيير، هذا إن كنتم تريدون أن يكون لكم دور في بناء مستقبل هذا الوطن.. أين حمرة الخجل؟
لقد تناسى الرئيس بوش في بداية بيانه في اليوم العالمي لحقوق الإنسان آلاف المعتقلين في تونس وليبيا ومصر وسجون العدو الصهيوني، وسجون أمريكا السرية في أوروبا وقوات التحالف في العراق إلخ،
وتذكر فقط المناضل كمال المنواني في سوريا، ومن حق الأخ كمال أن ننادي جميعًا بإطلاق سراحه مع جميع المعتقلين في سوريا ولكن في إطار سياسة عامة وليست سياسة انتقائية تهدف على تحقيق مصالح العدو الصهيوني وليس مصالح أمريكا.
أين مساندة مئات المعتقلين حاليًا في مصر بسبب إصرارهم على المشاركة في الانتخابات وضمان حرية التصويت للناخبين المصريين وذهب منهم أكثر من 11 ضحية شهداء للديمقراطية، وأكثر من 700 جريح منهم حوالي عشرة في حالة حرجة بعضهم صحفيون ومصورون ضاعت عين أحدهم بسبب الصورة الشهيرة للمرأة التي صعدت على السلالم الخشبية للوصول إلى لجنة الانتخابات؟
ولماذا لم ينطق الليبراليون العرب كلمةً واحدةً حول هذه الانتهاكات الصارخة؟
هل أسكتتهم النتائج التي أظهرت أن الإرادة الشعبية ليست في صالحهم؟
أين كانت الأصوات العالية وقت كنَّا في السجون طوال الربيع والصيف قرابة ثلاثة آلاف بسبب بالمظاهرات التي تنادي بالإصلاح في مصر؟
كانت هناك أصوات مخلصة، ولكنها كانت قليلة وضعيفة، بينما صمت غالبية الليبراليين صمت القبور، وذكَّرونا بتاريخ الشيوعيين العرب الذين كانت بياناتهم تأتي دائمًا بعد صدور بيانات الكرملين أو تحليلات البرافدا.
رابعًا: لا تفتِّشوا في نوايا الناس ولا تنقبوا في ضمائرهم، واعملوا بالنصيحة النبوية العظيمة التي توصي بالأخذ بظواهر الناس وعدم البحث وراء تلك الظواهر وإن لم تقتنعوا بذلك فادرسوا سياسة معاوية بن أبي سفيان وحكمته في معاملة الناس التي أبقت على ما عُرف في التاريخ بشعرة معاوية.
لا تقفوا متفرجين وترموا الناس بالاتهامات وتكتفون بذلك، ادرسوا أسرار نجاح الإسلاميين خصومكم السياسيين وليس خصومكم الفكريين، فإن الإسلاميين وبالذات المنتمين إلى مدرسة الإخوان- ومن أكثر من 65 سنة يقولون بالنظام الدستوري النيابي، ويقبلون بالدستور المكتوب الذي يقرر الفصل بين السلطات ويعتمد الأمة مصدرًا للسلطة ويحدد مُدد تولي الحكام وطرق محاسبتهم وعزلهم، ويحصِّن القضاء المستقل، ويحمي الحريات العامة.. إلخ.
راجعوا رسالة المؤتمر الخامس لحسن البنا، وهي خطابة أمام ألفين من مندوبي الإخوان عام 1938م.. لا تضعوا الجميع في قفص الاتهام!
ابحثوا عن سبيل التعاون مع الجميع، اجتهدوا في تعظيم القواسم المشتركة، وناقشوا بعقل مفتوح وقلب مطمئن كلَّ الخلافات الأخرى للوصول إلى ضمانات حقيقية لتداولٍ سلمي للسلطة عبر انتخابات دورية تتمتع بالنزاهة والشفافية في إطار دولة المؤسسات ودولة العدل والقانون دولة جميع مواطنيها وليست دولة الرجل الواحد أو الحزب الواحد.
مرة أخرى: استقيموا يرحمكم الله.
المصدر
- مقال:نداء إلى الليبراليين العرب.. استقيموا يرحمكم اللهإخوان اون لاين