نحو محاربة العنصرية ولَظْمِ المواقف بنظام ملزم

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
نحو محاربة العنصرية ولَظْمِ المواقف بنظام ملزم


بقلم : آصف قزموز

لم يكن أمراً مثيراً للدهشة، أو الاستغراب، ما جرى من تضاربٍ بالآراء والخِطابات، المصحوبة بعاصفتين من الانسحابات الاحتجاجية والتصفيق الكيدي والمؤازر، خلال إلقاء الرئيس الإيراني أحمدي نجاد خطابَه اللاذع أمام الحاضرين في مؤتمر العنصرية "دوربان 2"، الذي نظمته الأمم المتحدة الأسبوع المنصرم، ذلك لأنّ مثل هذه التصرفات أمام هكذا محافل، وهكذا موضوع، يكتسي بقسطٍ وافرٍ من الحساسية، هو أمر طبيعي، طالما أنّ معايير الأخلاق الدولية في النظر لحقوق الإنسان الفلسطيني ما زالت تتقاذفها وتتحكّم بها حسابات خاصة، ومراكز نفوذ منحازة، ومصالح كثيراً ما شكّلت عنصر ابتزاز دائم لبعض الدول، من قبل إسرائيل، التي اعتادت من البعض أن يربّتوا على كتفها، بدلاً من زجْرها والضغط عليها، لثنيها عن كلّ ما تقترفه، وفي وضح النهار، من انتهاكات صارخة، وجرائم حرب وصلت حدّ التمييز العنصري في كثيرٍ من المحطات والتجليات، التي ليس الفلسطينيون تحت الاحتلال يعانون منها وحسب، بل وحتى مواطنوها من العرب الفلسطينيين المثبت وجودهم ومواطنيتهم ما قبل قيام الدولة ذاتها على أنقاضهم.

ولا أظنّ أنّ ثمّة مَن يختلف على تصنيف الدول والنُّظُم الحاكمة، مَن منها الديمقراطي ومَن منها العنصري، فالديكتاتوريات الجاثمة على صدر الشعوب الفقيرة بوجه خاص، تقابلها على الجانب الآخر ديمقراطيات تشتمل على مساحات واسعة من حريّة الإنسان واحترام حقوقه، لكن الأمر المؤسف هو أنّ كثيراً من النُّظُم الديمقراطية المتقدمة ظلّت رابضة في الميزان، ولم تستطع، حتى الآن، مبارحته، أو إيجاد علاقة متوازنة وغير منحازة في الخيط الواصل بينها وبين الشعوب، التي ما زالت تئنّ تحت وطأة الديكتاتوريات المتحكمة في رقابها، والبالغة حدّ التمييز العنصري، الماثلة تجلياته في صُلْب السياسات الاحتلالية والاستيطانية الإسرائيلية، إذْ يسهل على المجتمع الدولي تقبّل إصدار مذكّرة اعتقال بحق الرئيس السوداني، كونه رئيس دولة عربية، بصرف النظر عن حقيقة التهم الموجّهة إليه من قبل محكمة جرائم الحرب الدولية، في حين تمارس الجرائم والانتهاكات الاحتلالية بحق الشعب الفلسطيني على أيدي الجنرالات المُشبَعين بالحقد والكراهية والعنصرية، حتى النخاع، وصولاً لمَن ينظرون للفلسطينيين على أنهم أفاعٍ وقِرَدة، دون أيِّ ردِّ فعلٍ دولي يرقى لمستوى هذه الجرائم اليومية وهكذا تصريحات، ما يُفقِد مثل هذه الدول توازنها الأخلاقي، ويمسّ بمصداقيتها المعلَنَة، ويضعها في الميزان أمام مسؤولياتها لجهة إعادة النظر بهكذا سياسات، تستخدم المعايير المزدوجة والمشروخة لصالح الاحتلال، الذي أصبح من العُري، بحيث يشكّل وصمة عار في جبين إسرائيل والمجتمع الدولي معاً، باعتباره آخر الاحتلالات في العصر الحديث، وكأنّما يقولون لنا: "قَتْلُ امرئٍ في غابة جريمة لا تُغتَفَر، وقَتْلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر!!"..

وإذا كان خطاب الرئيس الأيراني أمام مؤتمر العنصرية قد أثار حفائظ هؤلاء، حدّ اعتباره مثيراً للانقسام والتحريض، فإنّ ما يسبق ذلك ويتقدّم عليه، أو يوازيه في الأهمية، هو ضرورة تحلّي هؤلاء بالنظرة الموضوعية والتوازن الأكبر والأخلاق الأعلى تجاه ما يجري في فلسطين، من قتلٍ وتدمير وانتهاك للحرمات بحق الشعب الفلسطيني.

فالمقدّمة الأولى لانحسار الخطابات النارية المتطرفة التي استفزّت وأزعجت البعض الأوروبي، حتى الصديق منه، وكذلك الأميركي هي أولاً، وقبل كلّ شيء، تقوم على تصويب مسار المشاعر والمواقف الأوروبية والغربية، وتدوير زواياها، عموماً، على نحو أكثر عدالة وموضوعية، وأقلّ انحيازاً، بحيث تخدم مصلحة الشعبين في تقريب آفاق التعايش، وبناء السلام الذي يلحظ مصالح وحقوق جميع الأطراف، بما في ذلك مصالح المجتمع الدولي، بدلاً من تكريس مفاهيم الانقسامات والانسحابات والاصطفافات، على النحو الذي جرى في مؤتمر "دوربان 2" المذكور.

نحن لا نطالب بما ليس لنا به حق، بل نريد مواقف أكثر اعتدالاً ونزاهة وحياداً، وليس بواردنا مطالبة أصدقاء شعبنا اتخاذ مواقف عدائية لإسرائيل، لا تخدم عملية السلام، ولا تلحظ المصالح التي تربطهم بإسرائيل، بمقدار ما نتطلع إلى نظرة أكثر عدالة وواقعية، تكون مُعزِّزة لقيام السلام الشامل، لا مُؤجِّجة لنيران العداء والحقد والكراهية بين الشعبين.

أستطيع أن أتفهّم، وإنْ بمضاضة أشدّ من وَقْع الحسام المهنّد، انسحاب 23 مندوباً أوروبياً من مؤتمر"دوربان 2" انتصاراً لإسرائيل، واحتجاجاً على النجاد، تماماً مثلما أتفهّم، وهو أمر طبيعي، أن يفعل الشيء ذاته مندوبون عرب ومسلمون، وأصدقاء لفلسطين، في أيِّ محفلٍ يمسّ بالشعب الفلسطيني وحقوقه مثلاً، ولكن ما يثير الدهشة والاستغراب، هو أننا نعلم عِلْم اليقين، بأنّ هؤلاء هم خير مَن أدرك وواكب، عن كثب، مراحل تطوّر الانتهاكات الإسرائيلية الصارخة بحقّ الشعب الفلسطيني، وأنّ قادة إسرائيل والحركة الصهيونية، قد سعوا، منذ اليوم الأول لقيامها قبل ستين عاماً، وقبله، إلى تكريس يهودية الدولة بكلّ ما تعنيه هذه الصفة من نزعة عصبوية دينية وعنصرية، حيث مورست هذه الصفة فعلياً على الأرض، وتجلّت صارخة في كافة سياسات ومناهج القيادة الإسرائيلية، وإنْ لم يجر ترسيمها حتى الآن كصفة دولة، وذلك في السياق العنصري التاريخي الذي سَعَت إسرائيل عَبْره، لتحويل اليهودية من ديانة لها أتباع في فلسطين، بجانب باقي الديانات السماوية، إلى هوية قومية تبرّر قيام دولتهم على أشلائنا وعذابات شعبنا المشرَّد خارج أرضه، بلا هوادة ولا رحمة، وها هي تعود اليوم، جاهدة، لتكريس صفتها اليهودية، تحت وابل كثيف من الشعارات الديمقراطية والتحرّرية الرنّانة.

ولعلّ ما يؤكد هذه الحقيقة، يكمن في ما تَردَّد مؤخراً، حول نشر وثيقة تخصّ الاعتراف بإسرائيل، تبيّن، صراحة، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ هنري ترومان قد قام بشطب كلمة اليهودية، ووضع مكانها كلمة الإسرائيلية، بخطِّ يدِه، قبل التوقيع عليها.

وفي كلِّ ما ورد آنفاً، من الوقائع التاريخية والممارسات اليومية من العنصرية، ما يكفي لزكم الأنوف، والدلالة على الوجه القبيح المقنَّع، الذي برعت في إخفائه عن عيون المجتمع والرأي العام الدولي، بل وما يعني الكثير الكثير في السياسة والأيديولوجيا، وفي تفسير واستِكناه المواقف تجاه السلوك والممارسة الإسرائيلية، الماثلة حتى الآن أمام ناظرينا.

وبهذا تكون مهمة لَظْمِ السياسات والتوجهات المعادية للعنصرية بمنظومة مصالح الشعوب المُلزِمة، مهمّة دولية غير آجلة، ومقدّمة عاجلة لنشر التسامح وإزالة الأحقاد، وبناء السلام الشامل.. وفي جميع الأحوال، تبقى مصالحنا من مصالح الآخرين، ومصالحهم من مصالحنا، ولا انفكاك.


المصدر