نحو فهم أعمق لظاهرة "انتفاضة الأقصى"
لعلَّ تعبير "تشعل شمعتها الخامسة" هو التعبير الأدق عند الإشارة إلى "انتفاضة الأقصى"، وهي تدشِّن عامًا جديدًا من المقاومة والنضال، بدلاً من تعبير "تطفئ شمعتها الرابعة"؛ ذلك أن الإشعال هو نقيض الإطفاء، ولئن راج تعبير "يطفئ" عند الإشارة إلى ذكرى ميلاد إنسان أو جهة ما، باعتبار أن عامًا قد مضى أو انتهى، فإنه من الضرورة مراجعة هذا التعبير أو تدقيقه عند الإشارة إلى الذكرى السنوية لانتفاضة الأقصى المباركة؛ إذ إنّنا أمام ظاهرة نضالية إبداعية تستحق التدقيق في إطلاق الأسماء والأوصاف عليها، حتى يستقيم المبنى مع المعنى، والاسم مع الوصف، ولئن كان بعض الناس يرون في ذلك "تشدّقًا" أو "تشدّدًا"، وينظرون إلى أنَّ العبرة بالمسمّيات لا الأسماء، فإننا نطالب بالدقة في إطلاق الأسماء والصفات على الظواهر السياسية أو الاجتماعية أو النضالية؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يشكّل مدخلاً صحيحًا لفهم تلك الظواهر والتعامل معها، فالمقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة، وعكسها يؤدي إلى نتائج خاطئة.
ونحن هنا لا نتوقف عند الاسم أو الوصف فحسب، ولكننا نتجاوزه إلى محاولة فهم طبيعة وأبعاد الظاهرة النضالية التي نتناولها؛ "انتفاضة الأقصى"، وهي التسمية التي أطلقت عليها، نتيجة انطلاق شرارتها الأولى من المسجد الأقصى وباحاته وساحاته.
إن "انتفاضة الأقصى" تمثّل ظاهرة نضالية اقتربت بفعلها الإبداعي خلال الأعوام الأربعة المنصرمة من "الإعجاز البشري"، فنحن إزاء شعب تحاصره طائرات الأباتشي، و"إف 16" و"إف 18"، والدبابات والآليات العسكرية من كل جانب، برًّا وبحرًا وجوًا، وتقذف بحممها على العزّل والمدنيين، فتدمِّر البشر والحجر والشجر في إطار عملية منهجية ومدروسة، وليست في إطار "عشوائية" وعفوية.
هذه العملية تستهدف في محصلتها كسر إرادة الشعب الفلسطيني وصموده، توطئة لإخضاعه للبرنامج الصهيوني، الذي يقوم على فرض تسوية سياسية تتعامل في جوهرها مع الشعب الفلسطيني باعتباره أقلية قومية في إطار دولة يهودية "نقية" يتم منحه فيها كيانًا سياسيًّا مجرَّدًا من مقوِّمات الإرداة والاستقلال، مؤهّلاً ليكون "مستقلاً" في الشكل والظاهر، تابعًا في الحقيقة والباطن!
وعليه، فإنَّ أية عملية تقويم موضوعية لانتفاضة الأقصى، لا ينبغي أن تتوقف- كما جرت العادة لدى بعض النخب السياسية والثقافية- عند الحجم الكبير للتضحيات التي يُسمُّونها خسائر، وعند الواقع العربي والإسلامي "المترهّل"، والواقع الدولي المتراجع في دعمه للقضية الفلسطينية، والمتواطئ عند بعض قطاعاته مع الكيان الصهيوني، بحسبان أن تلك هي النتائج العملية للانتفاضة، والتي تمَّ اعتمادها من طرف النخب المذكورة كمعايير لتقويم الانتفاضة، والخروج بنتائج "محبطة"، تستخلص في ضوئها خلاصة مفادها أنه آن الأوان لهذه الانتفاضة أن تتوقف، وأن استمرارها عملية "عبثية"، و"عدمية" لا طائلَ من ورائها!
نحن لسنا بصدد القفز عن الاعتبارات أو المعايير التي يستند إليها أولئك المعارضون للانتفاضة، ولكننا نريد أن نحدّد المعايير الأساسية التي ننطلق منها في عملية التقويم، وهو ما نراه يكمن في النظر إلى طبيعة الانتفاضة وأهدافها، فهذا هو الذي يمكن أن يقودنا إلى تقويم صحيح وموضوعي.
الانتفاضة .. عملية دفاعية
تنظر بعض النخب إلى الانتفاضة على أنها عملية "هجومية"، خلافًا لنظرتنا إليها، حيث نراها نحن عملية "دفاع" بامتياز عن النفس؛ إذ لا يعني تنفيذ عمليات عسكرية ضد الاحتلال وتوجيه ضربات له إعطاء صفة "الهجوم" عليها، فالانتفاضة هي جزء من عملية النضال ضد الاحتلال، وإطلاق صفة "الدفاع" عليها تستند إلى أن الشعب الفلسطيني يقاتل ويقاوم على أرضه، في حين إن العدو الصهيوني هو الذي يقاتل على أرض ليست هي أرضه، وهو في عملية "هجوم" مستمرة ضد شعبنا الفلسطيني منذ أن أنشأ كيانًا سياسيًّا هو الكيان الصهيوني ، واستمرار عملية "الهجوم" مردّها إلى أن بسط الاحتلال لسيطرته العسكرية على الأرض الفلسطينية، وطرد وتشريد جزء كبير من الشعب الفلسطيني لم يُنهِ القضية الفلسطينية؛ حيث بقي ملفها مفتوحًا، ولم يتمكن بعد مرور أكثر من نصف قرن على إخضاع الشعب الفلسطيني، وسبب ذلك أن الشعب الفلسطيني بقي يدافع عن أرضه ومقدساته ونفسه طوال العقود الماضية، وكانت عملية "الدفاع" تعيش حالات مد وجزر، ولكنها لم تتوقف لحظة من اللحظات؛ حيث اتخذت في كل مرة أشكالاً وصورًا مختلفة، ولعلَّ ظاهرة "الانتفاضة" هي إحدى تجلّيات وإبداعات هذا الشعب في دفاعه عن نفسه.
إذن، فهمنا للانتفاضة أنها إعلان مخضّب بالدماء من الشعب الفلسطيني بأنه لم ولن يخضع لمنطق الاحتلال، ولم ولن يقبل بنتائجه التي يحاول الاحتلال فرضها عبر الأمر الواقع، وهو إعلان كذلك أنه ماضٍ في المقاومة حتى جلاء هذا الاحتلال الغاصب.
أشكال الانتفاضة
وتحاول تلك النخب التي أشرنا إليها وَسَمَ وطَبَعَ الانتفاضة بطابعٍ معيّن اختارته وحددته هي وحدها، وهو الطابع "السلمي"، والاقتصار على "الحجر" كوسيلة من وسائل المقاومة ؛ حيث ترى في استخدام السلاح خروجًا عن مفهوم الانتفاضة، وانحرافًا عن أهدافها، وتلك هي "وصاية" نستهجنها من أولئك، الذين لا يحق لهم "احتكار" تحديد وسائل وأشكال للانتفاضة، فاستخدام الحجر ضد جندي صهيوني سيؤدي إلى إصابته بجراح، وقد يؤدي إلى وفاته، تمامًا كما هو استخدام المسدس أو البندقية، الفارق هو أن نسبة الموت في الحالة الثانية أرجح وأكبر!.. أما الطابع "العنفي"، فهو موجود في الحالتين مع اختلاف الدرجة!.
إنّ محاولة المقارنة بين الانتفاضة الأولى (1987 م)، والانتفاضة الثانية (2000 م)، بحسبان الأولى جلبت التأييد الإقليمي والدولي نتيجة الاقتصار على "الحجر" والوسائل السلمية (الإضراب، المظاهرات...)، في حين جلبت الثانية السخط الإقليمي والدولي، نتيجة استخدام السلاح، هي مقارنة غير موضوعية، فأسلوب التعامل مع الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى، وإن كان يتّسم بالقسوة والوحشية، ولكن العدو لم يستخدم الطائرات والصواريخ كما هو الحال في الانتفاضة الثانية؛ حيث سارع إلى مواجهة انتفاضة الأقصى بأسلوب قاسٍ ووحشي وغير مبّرر، وأعطيت الأوامر بإطلاق الرصاص دون تمييز، فاستشهد أطفال ورضّع
(محمد الدرة، إيمان حجو، على سبيل المثال لا الحصر)، وأعطي الضوء الأخضر للطائرات بإلقاء القنابل والصواريخ لدرجة أن قنبلة فراغية وزنها طن، ألقيت على بناية سكنية فدمّرتها كاملة وقتلت الأطفال والنساء والشيوخ بحجة اغتيال القائد صلاح شحادة!
لم يكن أمام هذه الوحشية والإجرام والإرهاب، الذي يصعب وصفه، إلا مواجهته بسلاح قد لا يرقى ولا يكافئ السلاح المستخدم من قبل هذا العدو، ولكنه يثخن فيه، ويشكّل عامل توازن نفسي، فالعمليات التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية بفصائلها المختلفة هي التي كانت على الدوام تشكّل رافعة لمعنويات هذا الشعب، وعامل صمود له، ومانعًا من انهياره في مواجهة حملة لا نبالغ إذا وصفناها بأنها الأكثر وحشية ودمويّة يتعرّض لها شعب في التاريخ المعاصر.
إذن، المقاومة المسلَّحة هي جزء من هذه الانتفاضة وليست خارجها، ولئن طغت على وسائل المقاومة الأخرى، فلأنَّ طبيعة المواجهة والصراع اقتضت ذلك، فأدوات الصراع ووسائله تتحدّد دائمًا وفقًا لطبيعته ومقتضياته، وليس العكس.
الثمار السياسية للانتفاضة
وحيث إنّ بعض تلك النخب يصرّ على تحقيق ثمار سياسية واضحة لأي فعل نضالي، وهو ما يريدونه من الانتفاضة الحالية، فإنني أحيلهم إلى مشروع الانسحاب من قطاع غزّة ، فهذا المشروع الذي لم يجد طريقه للتنفيذ حتى الآن، وهناك شكوك تثار حول إمكانية تنفيذه، خصوصًا في ظلّ الرفض الواسع له في أوساط الحزب الحاكم (الليكود)، وفي قطاعات واسعة من المجتمع الصهيوني.
هذا المشروع يمكن النظر إليه على أنه ثمرة سياسية- إن جاز التعبي- لانتفاضة الأقصى ، إذ إن إقدام شارون على طرح مشروع عملي للانسحاب من قطاع غزة (كان يريده أحادي الجانب ودون اتفاق سياسي)، يدل على عمق المأزق الذي يعيشه هذا الكيان، والذي لم يكن ليتحقّق لولا الضربات المؤلمة التي وجّهتها المقاومة المسلّحة لهذا الكيان؛ حيث بات قطاع غزّة مستنقعًا لاصطياد الغزاة، وبات قاعدة لانطلاق الصواريخ (التي يتم الإصرار على وصفها بالبدائية من قبل تلك النخب) باتجاه المستوطنات الصهيونية، وبات قاعدة لتصدير المقاومين، الذين لم تعد مهماتهم تقتصر على قطاع غزّة ، بل أخذوا ينطلقون باتجاه المناطق المحتلة عام 1948 م (عملية أشدود مثالاً).
إذن التفكير العملي (وليس النظري كما كان سابقًا) بالانسحاب من قطاع غزة هو ثمرة لهذه الانتفاضة، وبغض النظر عن محاولات شارون للالتفاف على هذا الانتصار الفلسطيني وإفساده عبر قبض ثمن انسحابه من قطاع غزة بالبقاء في الضفة الغربية، ونحن هنا، وبعيدًا عن سيناريوهات الانسحاب والمدى الذي يمكن أن يصل إليه، فإننا نرى في ذلك بداية لاندحار المشروع الصهيوني، الذي بدأ يتعرّض لتراجعات يمكن للمراقب الموضوعي أن يتأمّلها، ومن ذلك بناء الجدار الأمني الفاصل، فهذا الجدار الذي يستدعي إلى الذاكرة الغربية "جدار برلين" الشهير، فتنعقد المقارنات معه، بوصف ذلك الجدار مثالاً للعنصرية (بغض النظر عن الزاوية المختلفة التي ننظر فيها إلى الجدار)، وهو ما يضرب مصداقية الشعارات التي قام عليها هذا الكيان، والتي تستند إلى "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" وغيرها من شعارات الحداثة والمعاصرة.
إذن، هذا الكيان الذي بشّر بأنه سيكون واحة للديمقراطية ونموذجًا يحتذى به في الشرق الأوسط، تحوّل إلى أسوأ نموذج في انتهاك حقوق الإنسان والعنصرية... وهذا بفعل الانتفاضة، التي عرّته سياسيًّا وأخلاقيًّا وكشفت حقيقته المخزية.
يبقى أن نقول: إن الانتفاضة هي جولة من جولات الصراع مع هذا العدو الغاشم، وهي محطة هامة في الطريق نحو التحرير بإذن الله، أما المعاناة والتضحيات والدماء، فهي من مستلزمات الطريق، إذ لا يمكن السير إلا بها، مستذكرين بذلك الآية القرآنية ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 104).
المصدر: إخوان أون لاين