مَقاديرُ الخَلائق
بقلم: الشيخ نزيه مطرجي
الدُنيا رُغم خيراتِها التي لا تُعَدّ، ونِقمها التي لا تُحْصى، فإنها مَشوبة بالنَّكد، ومليئة بالكَدَر، إذا نظر الناس إليها بجارحة البصر أو بعين البصيرة، وجدوا أن عيشها ابتلاء، وحياتها عَناء، وأهلُها منها على وَجَل.. إما بنعمة زائلة، أو بَلِيّة نازلة، أو مَنيَّة قاضية.
ولو استقرأت النّقل والعقل لأخبراك أن الدنيا دار عمل وابتلاء، لا دار حساب وجزاء, وإن استقرأت الواقع والتاريخ أخبراك أن الحياة قائمة على الهموم والأحزان، والغموم والأشجان, فالصحيح يترقَّب السّقم، والكبير ينتظر الهَرَم، والعاقل يرقُب الموت والعدَم! والشاعر يقول:
طُبعَت على كَدَر وأنت تريدها
- صَفْواً من الأَقْذار والأَكَدار
فالدنيا لا تخلو من بليّة، ولا تصفو من محنة ورَزِيّة!
إن مقادير الخلائق قد قُدِّرت وفُرِغَ منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» أخرجه مسلم.
ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أَوَّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب! قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلِّ شيء حتى تقوم الساعة» أخرجه أبو داود.
فما من أحد من البشر يفقه سرّ أقلام القدر، فإن العمل قد جرت به المقادير، وجفّت الأقلام، ورُفِعَت الصحف!
وما أحد له سُلطان على صَرير الأقلام، وتدوين ما نطق به الأنام من مَقال، وما كسبوا من فِعال. فإن الله الخالق الوهّاب، هو الذي {يمحو ما يشاء ويثبّت، وعنده أُمُّ الكتاب} الرعد: 39.
وما يَقْدر أحد من الدَّهْماء، أو الأصفياء أن يَفِرَّ من أقطار سماء القدر، ولو جَرَّب أن يَفرََّ لوقع في قبضة المقادير، فما فراره إلا إقبالٌ إلى ما قدّره الله تعالى وقضاه.
ورَد في تاريخ الفتوحات أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، فلما وصل قرب تبوك، لَقِيَه أمراء الأَجْناد أبو عبيدة وأصحابه، فأخبروه أن الطاعون وقع في الشام, فدعا عمر المهاجرين والأنصار ومَشْيخة قريش، واستشارهم، فأشار بعضهم بالرجوع، وأشار بعضهم بالمضيّ في الخروج. فنادى عمر في النّاس: إني مُصبحٌ على ظَهْر، فأصبحوا عليه, قال أبو عبيدة بن الجرّاح: أَفِراراً مِن قَدَر الله؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة!
نعم نَفِرُّ من قَدَر الله إلى قَدَر الله، أرأيت لو كانت لك إبل هبطت وادياً له عُدْوتان، إحداهما خَصِبة والأخرى جَدْبة، أليس إن رَعت الخصبة رَعَتها بقَدَر الله؟ وإن رعت الجَدْبة رعتها بقدر الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تَقْدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ أنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه... قال عمر: فالحمد لله!
«فما أصابك من مصيبة إلا بإذن الله، ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يَضرُّوك بشيء لم يَضرُّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصُّحف» (من حديث رواه أحمد).
وإن سنّة الله تعالى في مقادير العباد والخلائق لا تتبدّل ولا تتغيّر، كما بيّن ربّنا عزوجل في قوله: {مَا أَصَاب مِنْ مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أَنفسِكم إلا في كتابٍِ من قبلِ أن نَبْرأَها إِنَّ ذلك عَلى اللهِ يَسير} الحديد: 22. وقد زاد النبي هذا المعنى بياناً في قوله: «لا يجدُ أحدكم طعم الإيمان حَتى يَعلم أن ما أصابه لم يكن لِيُخْطِئه، وما أخطأه لم يكن لِيُصيبه»، ثم قرأ: {لكَيْ لا تَأْسَوْا على ما فاتكم ولا تَفْرَحوا بِما آتاكمُ} الحديد: 23، فما يصيب الأرضَ من جَوائح في الزّرع، وفسادٍ في النبات، ونُضوب في الثِّمار، وما يصيب الأنفس من أمراض وأسقام، وفقر وضيق عيش، وفقدان للأقارب والأصحاب، كل ذلك مسطورٌ في اللّوح المحفوظ ومَذْخور.
فقضاء الله نافذ، فإنّه لا رادّ لقضائه: {والله يحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وهو سريعُ الحِساب} الرعد: 41. وِلكنّ حِكَمُ الغيب محجوبة عن ابن آدم، فما يظنّه العبدُ شَرّاً قد يأتي بالخير، وما يظنّه خيراً قد يأتي بالشرّ، قال الله تعالى في حديث الإفك الذي اتُّهِمت فيه أُمُّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم} النور: 11, وقوة إيمان عمر رضي الله عنه دفعته إلى أن يقول: «لا أُبالي أصبحتُ على ما أُحبّ أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير فيما أُحبّ أو فيما أَكره».
ولرُبَّ أمرٍ تكرهُه فيه نجاتُك، ولرُبّ أمر تُؤْثره فيه عَطَبُك! وإن في المحن لنِعَماً لا تُنْكَر من الذّكر والتضرّع والصَّبر! وإن في المِنَح لعِلَلاً لا تُبْصَر من الغَفْلة والجُحود والبَطَر! فارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، «واستعِن بالله ولا تعجَزْ، ولا تَقُل لو أني فعلتُ كذا لكان كذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإن «لو» تفتحُ عَمل الشّيطان»! رواه مسلم.
فيا سَعْدَ مَنْ على أقضية المَوْلى اصْطَبَر، فإنّ له في الأَقْدار خَير مُزْدَجَر.
المصدر
- مقال:مَقاديرُ الخَلائقموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان