ميزاننا..
أخي في الله.. هذه رسالة لسماحة الشيخ محمد الصواف، عثرت عليها في مجلة (الأخوَّة) التي كانت تصدر في العراق ، رأيت فيها من المعاني الكثيرة ما يوجب على كل مسلم يعيش من أجل دينه ويعمل لرفع راية الإسلام ؛ أن يدقق في سطورها ويُمعن النظر بين كلماتها، ففيها نصائح جمَّة لا يستغني عنها مسلم صادق الإيمان في زمن كثرت فيه الفتن، حتى غدا الحليم فيها حيران.
إنها كلمات ألمح فيها نور الإسلام، وحرارة الإيمان، وصدق التجربة، وإخلاص النصيحة.. ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: من الآية 37) ، أرى فيها طوق النجاة لمن يمخر في بحر الدعوة إلى الله، وفي معترك المتربصين بنا الدوائر.
يقول سماحة الشيخ رحمه الله:
أخي في الله.. يا من رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.. اعلم أن دعوتنا كالغيث، لا يُدرى أوله خير أم آخره، ولكنها على كل حال خير كلها في الشدة والرخاء، والبأساء والضراء، ثم لا ندري فيمن يكون الخير؟ وأين هو؟ ومتى سيكون؟ ورب أخ صغير نعلمه اليوم، ونلقِّنه الدعوة- على ضعف منا وتقصير- سيكون رجلَها الأول، وبطلَها الأمثل، والقائمَ عليها قيام الصادقين المجاهدين.
من أجل هذا أوصيك أن لا تغترَّ بنفسك، ولا تزِن نفسك بالزمن الذي قضيته في دعوتك، فميزاننا دقيق، وكفَّتاه العمل المتواصل وخلوص النية لله رب العالمين ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).. ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ (البينة: من الآية 5).
ورب عامل اليوم خامل في الغد، والجديد السديد خير من القديم العنيد و "الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" ، ورُبَّ مؤمن أمسى مؤمنًا ثم أصبح كافرًا، وربَّ كافر أضحى كافرًا ثم أمسى مؤمنًا صادقًا، والأعمال بخواتيمها.. "لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى". واسأل الله التثبيت على نهج الاستقامة، ولا تكن من الغافلين، واذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك.
وليكن ديدنك أن تفرغ جهدك لدعوتك، ولأن يهدي الله على يديك رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها، لذا فلتكن عنايتك بالفرد عظيمة، وجِهْهُ إلى الخير، ولقنه الإسلام تلقينًا، ثم رضه به، وعلمه أسلوب الدعوة إليه والصبر عليه، والإيمان التام بملكية كل واحد لهذه الدعوة، وأنها ليست مقصورة علينا معشر الإخوان، كالشمس المشرقة ترسل أشعتها على الأكواخ والقصور، والقيعان والدور، فمن استنار بها فقد هدى، ومن عمي عنها فقد ضل ضلالاً بعيدًا، ومن أخذها حينًا ثم تولى عنها، جافته وتولت عنه إلى من هو خير منه وأنفع، وأثبت منه وأصلح: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 38).
ومَن استقام لها وصدق، ودعا إلى الله مخلصًا له الدين، وعمل صالحًا يرضاه الله، فقد استحق ثواب الأولى، وحسن ثواب الآخرة: ﴿فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران) .. فادع واستقم أيها الأخ الأبرّ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سواء السبيل.
واعلم بأن الدعوات الخالدة تصقلها المحن، وتثبتها الهزَّات والفتن، ففيها يميز الله الخبيث من الطيب، والمفسد من المصلح، وفيها يكشف الغطاء عن النفوس والقلوب، فتظهر كما هي سافرةً بيِّنةً، لا يجللها الرياء، ولا يخفيها الادِّعاء، وعند ذاك تختار الدعوة القلوب الزكية والنفوس الأبية، فتنظمها في عقدها، وتدخرها ليوم بؤسها وشدَّتها وكريهتها، وتنفي عنها النفوس الخائرة والقلوب البائرة، وتبعد عنها عبثها وخبثها، لتنظف باطنها، وتصلح داخلها، والدعوات إنما تُؤتَى من الداخل لا من الخارج، فإذا صحَّ باطن الإنسان، نضر وجهه، وصحَّ جسمه، والعكس بالعكس تمامًا.
والدعاة إلى الله لا يهمُّهم كيدُ أعدائهم، بقدر ما يهمُّهم كيد القلوب التي تدَّعي القربى منهم، وتشتُّت الأهواء بين الجماعة الواحدة منهم، وانشغالها بنفسها عن دعوتها، وبسفاسف الأمور عن جواهرها، فهنا الطامَّة الكبرى، والمحنة العظمى، والابتلاء الأعظم، فمن خرج سليمًا من مثل هذه المحنة، فقد نجا وأفلح، ولن يسلم من مثل هذه المحن إلا من تعلم الصبر، والحلم
وبُعد النظر، وراض قلبه على الحب الخالص، والعفو الصادق، والدفع بالتي هي أحسن، وخالط الناس، وصبر على أذاهم، فتوسع صدره واتسع أفقه، وكثرت تجاربه، وزاد صفحه، فاتقى الله حق تقاته، واقتدى بهذه الخصال، بسيد الخلق، وقائد الغر المحجلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأحبه الله وأحبه الناس وكان من المقربين.. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 31).
فسِرْ أيها الأخ على هذه الصفات إن أطقتها، وسوف تعان عليها من ربك الحبيب إلى قلبك، والذي وهبته نفسك ومالك، فهي سبيل الخير والنجاة، واصبر وصابر ورابط، واتقِ الله الذي جعلته غايتك من دعوتك، والله يثبتني وإياك بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والله أكبر ولله الحمد". هذا ما كتبه العلاَّمة الصواف وكأنه يناجينا الآن، فهي القديم الجديد، وهذا شأن الحق وما اتصل به، ونضيف إليها:
أيها الأخ الحبيب:
إن الطريق طويلة، والمشاق كثيرة، والعقبة كؤود، ولا يقدر على اجتيازها إلا من تدرَّع بالفهم والإخلاص والصدق والعمل المتواصل المصحوب بالجهاد والتضحية، في ظل الجماعة، موفقًا إلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وكل ذلك ممزوج بلحمه ودمه، لا ينفك عنه حتى يلقى الله، وهو ثابت على العهد، لا يقيل ولا يستقيل.
ولا يبلغ الأخ مبلغ أصحاب الدعوات حقًّا إلا إذا كان متحليًا بلباس التجرد، وإنكار الذات وهضم النفس، وزيّن ذلك بحفظه لحق الأخوَّة وحسن الظن بهم، والثقة التامة في قيادته وإخوانه.
والمشاعر تتزاحم، ولا أحسب أن هذا الحيِّز يكفي لذا أكتفي بذلك، داعيًا المولى أن يبارك أخوَّتنا، وأن يحفظ وحدتنا، وأن يسدِّد مرشدنا، وأن يوفق قادتنا لخير الإسلام والمسلمين، وليكن شعار كل مسلم صادق الإيمان: في القدس الملتقى، في القدس الملتقى، شهادة على أعتابه، أو صلاة في رحابه، آمين آمين.
بارك الله فيكم أيها الأحباب، وسدَّد خطاكم، وأعانكم على نشر الدعوة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر
- مقال: ميزاننا.. موقع إخوان برس