مواكب الملبين في مشارق الأرض ومغاربها.. تقبل على الله
بقلم: د. توفيق الواعي
مواكب الملبين أقبلت على البيت العتيق عطرة الأنفاس، خافقة الجوانح، ندية القلوب، والهة الألسن، طاهرة الجوارح، خاشعة الأرواح، ساجدة الوجوه، مستسلمة الخطو، رافعة الأكف، لاهجة الدعاء، دامعة العيون مسكوبة العبرات، تسألك يا ربها بالعزة التي لا تُرام، والملك الذي لا يُضام، وبالعين التي لا تنام وبالنور الذي لا يُطفأ، وبالوجه الذي لا يبلى، وبالديموية التي لا تفنى، وبالحياة التي لا تموت وبالصمدية التي لا تُقهر، وبالربوبية التي لا تستذل؛ أن تجعل لها من صعابها فرجًا ومخرجًا، وأن تعيذها مما تخاف وتحاذر، وأن تجيرها من شرِّ كل جبار عنيد، وشيطان مريد، ومن شرِّ ولاة السوء، ومن شرِّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها، لا ترجو غيرك ولا تدعو سواك ولا تطرق إلا بابك، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، ويجيب سؤال المضطرين.
يـا مـن تُحَل بذكره عُقد النوائب والشدائد
يا من إليه المشتكى وإليه أمر الخلق عائد
أنت المعز لمن أطاعك والمذل لكل جاحد
إني دعوتك والهموم جيوشها نحوي تطـارد
فافرج بحولك كربتي يا من له حسن العوائد
كن راحمي فلقد يئست من الأقارب والأباعد
أقبلت مواكب الملبين مبايعة على الجهاد، موثقة العهد، مؤكدة الخطو، ثابتة على الصراط، عاقدة العزم على النهوض من كبوتها، مخلصة النية على التخلص من فرقتها، صابرة النفس للرفعة من وهدتها، باذلة أموالها، لابسة أكفانها تاركة متاعها ورياشها، أقبلت بكلها وعزمها وخطوها ملبية، وقد خلعت عبودية الشهوات والأنداد قائلة: (لبيك لا شريك لك لبيك)، وسعت بقضها وقضيضها نافضة العجز، تاركة الغفلة، هاجرة المسكنة، متجهة إلى رحاب القدوس، معتمدة على قوة المهيمن، مكتفية بمنح الجليل، معتصمة بحبل المجيد، مرددة: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
نعم، ما أحلى التلبية؛ لأنها تأتي لتكون تخلية للعبد المسلم من شروده، بعيدًا عن الهداية، وجموحه بعيدًا عن الله، ونكوصه بعيدًا عن جادة الطريق؛ وما أفضلها أن تأتي في الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة؛ لما لهذه الأيام من النفحات والتجليات والرحمات، ولما لها من فضل عظيم تتطلع إليه همم المشمرين، وتستشرف إليه نفوس العاملين للاغتراف من فيضه، والري من عطائه، والاقتباس من نوره؛ لقوله:
"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- وهي أيام العشر الأوائل من ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء، وذلك إعظامًا للحجيج وتقديرًا لاجتماع المسلمين، وإجلالاً للتلبية وإكبارًا للإقبال على الله، وتفضيلاً للتجرد في الإحرام والبيعة والمساواة، والاقتداء بالصالحين والمتقين من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
هذه التلبيات الخاشعة الضارعة المعاهدة الموثقة المبايعة المتجردة لله العازمة على تنفيذ شريعته وطاعة أوامره والخالعة للأنداد والأرجاس؛ تتجاوب معها تلبيات كثيرة في هذه الأيام تنطلق من كل أرجاء المعمورة لتنادي بشرع الله، وتطالب برفع لوائه وسيادة منهجه، وإحلال حلاله وتحريم حرامه، ضاربة بشهوات الأنداد والطواغيت عرض الحائط هنا وهناك، مستبسلة مضحية متجردة، تلبس أكفانها كما يلبسه المحرم ملبية كما يلبي: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
أكاد والله أسمع هذه التلبية في رحاب فلسطين وعلى الجبال وفي الروابي والشعاب وفي الساحات؛ تتجاوب مرددة، وتتناصر مقوية، وتتعاهد مكبرة مهللة، وأكاد والله أسمعها في سماء غزة، وفي روابيها وساحاتها وجبالها، أكاد أسمعها من أفواه البنادق والمدافع والقنابل المجاهدة، أكاد أسمعها من الجند المرابطين وسط الأعشاب والخنادق، أكاد أسمعها وأسمع تجاوب الكون معها كما تجاوب مع داود: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)﴾ (سبأ).
أكاد أسمع تلك الجبهات الملبية في أرجاء المعمورة بعد غياب طويل وظلم مديد وليل بهيم وتيه سادر، أكاد أسمع تلبية المجاهدين الدعاة في مشارق الأرض ومغاربها، في كفاحهم ضد الباطل والهوان والقهر والبغي والعدوان، بل ضد قوى الشر والإفك والضلال، أكاد أسمع تلبية المعذبين في سبيل الله والمشردين في أرجاء المعمورة والقابعين في السجون والمعتقلات والأَسْر، من المجاهدين الصامدين المحتسبين!! بل أسمعهم، وأنصت إليهم، وأطرب لهم..
والكل يرد بصوت واحد يتجاوب مع صوت الحجيج في عجه وثجه، وغدوه ورواحه: (لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك، لبيك وسعديك والخير كله في يديك)، وسيسمع الزمان هذه التلبية طوعًا أو كرهًا، وستذعن الدنيا للحق، وسيُنصف المظلوم، ويبرأ المكلوم وإن ادلهمت الخطوب، وحمى الوطيس، واشتدت المعارك، وكثرت البأساء والضراء، وزلزلت القلوب، وحتى:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم تر لانكشاف الضر وجهًا ولا أغنـى بحيلته الأريـب
وكل الحادثـات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
فما أقبل إنسان على الله ورده خائبًا، أو جاهد في سبيله وأقنطه من رحمته؛ فهل هناك أعظم وأكرم وأجل من هؤلاء الملبين الخاشعين الضارعين الصابرين؟ وهل هناك أفضل من تلك الأيام للتلبية؟ وهل تسارع يا أخي في مشارق الأرض ومغاربها بالتلبية لتنضم إلى الكتائب الملبية؟ ويفرح المؤمنون بنصر الله؟ نسأل الله العون والسداد آمين.
المصدر
- مقال:مواكب الملبين في مشارق الأرض ومغاربها.. تقبل على اللهإخوان أون لاين