مهندس على الطريق

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
مهندس على الطريق...
أمير الظِّل

بقلم : عبد الله غالب البرغوثي

المقدمة

تثور النار إن اختنقت بالحطب ... وتحرق كل من للحق اغتصب

ثرت مرةً بإذن ربي على المحتل الغاصب، وها أنا أثور اليوم أيضاً بعون ربي على السجن والسجّان لأكتب قصتي، قصة مقاوم قصد وجه ربه ورفع السلام بوجه الظلم، لعل رصاصات الحق تعيد طريق النصر والحرية.

عبر جوابي على رسالة ابنتي، وردي على تساؤلاتها، لعلي أكون قد أوضحت لها ما يدور بذهننا حول ذلك السؤال الذي تردد كثيراً ، من أنت ولمَ أنت، ولعلي أكون عبر تجربتي المتواضعة قد ساهمت ولو قليلاً من خلال صفحات هذا الكتاب ومن خلال مقاومتي للمحتل بأن أشعل شمعة على درب الحرية، فأنا أكره الظلام وأكره من يلعنون الظلام.

عبد الله غالب البرغوثي

"من زنزانة العزل الانفرادي التي ما زلت أمكث بها منذ عام 2003 حتى اليوم"


الإهداء

إلى والدي ووالدتي أطال الله بعمرهما، إلى زوجتي وأطفالي تالا وأسامة وصفاء، إلى كل من ساعد وساهم لكي يرى هذا الكتاب النور؛

لفلسطين والقدس والأقصى.

للقدوس والقدس والقسام

أهدي كتابي هذا لهم جميعاً ولكل من لعن الاحتلال.

عبد الله البرغوثي
أمير الظِّل


رسالة من تالا، أسامة وصفاء

" إلى أبينا الغالي على قلوبنا، نكتب لك هذه الرسالة بمناسبة ذكرى دخولك المعتقل، هذه الذكرى التي قد مر عليها عشرة أعوام، وأنت يا أبانا خلف القضبان، والأسوار خلف القضبان بداخل غرفة العزل الانفرادي لا ترى أحداً ولا تكلم أحداً.

أبانا، بل أبي فأنا ابنتك تالا التي تكتب هذه الرسالة نيابة عن أخوتي أسامة وصفاء، اكتب يا والدي معاتبةًً، حائرةَ ومتسائلةً، فأنا لا أدري إن كان يحق لي أصلاً أن أعاتبك وأسألك تلك الأسئلة التي تدور في ذهني، ولكن حيرتي؛ حيرتي هي التي دفعتني لهذا السؤال الذي لم أجد عليه إجابة من أولئك الذين حولي فكل واحد منهم يجيب إجابةً مختلفةً جداً عن إجابة الآخر، رغم أن السؤال هو، لم يتغير ولم يتبدل.

أبي الغالي، أبي الحبيب أعلم أن صدرك واسع وأنك تجيب على أسئلتي دائماً قبل أن أسألها أصلاً، فأنت الأب الذي لا يتضايق من أسئلة أبنائه الصغار، لكني اليوم قد أصبحت كبيرة وكبرت معي تلك الأسئلة التي ألخّصها لك بسؤال واحد، لعلي أجد عندك الجواب الشافي عليه؛ وهو من أنت، من أنت يا أبي، أأنت ذلك الطيب الحنون كما تقول جدتي؟ أم أنت ذلك القاسي منزوع القلب كما يقول جدي؟ هل أنت المحب العاشق الذي جاء على حصانه الأبيض ليأسر قلب أمي فتقع في حبك؟ أم أنتَ ذلك الذي جاء من المجهول وغادر أيضاً إلى المجهول فكسر قلب أمي وجعلها تبكي وتبكي ما إن يذكر اسمك أمامها؟ قالوا عنك جبار قوي لا ترحم، وقالوا أيضاً أنك تملك عقلين؛ لا عقلاً واحداً مثل باقي البشر، فيقال أنك استبدلت قلبك بعقلٍ آخر، ولكن ما يجري أيضاً يا والدي الحبيب أنهم أيضاً يقولون أنه لولا أن قلبك كبير وأنك حنون طيب لما وصلت إلى ما وصلت إليه، لما قاتلت ولما عني ابتعدت، لا أدري من أنت، من أنت؟ أنت تلك الصورة التي كتب عليها تلك الجملة التي لا أفهم لها معنى : " الأسير البطل".

أسير بطل، كيف يصبح الأسير بطلاً؟ أم أن السؤال هو كيف يصبح البطل أسيراً؟ هل أنت مقاوم بطل؟ أم أنك مجرد متهور، مندفع خاض حرباً لا ناقة له بها ولا جمل، قل لي بربك يا عبد الله الجمل من أنت؟ أليس هذا هو اسمك قبل أن يصبح عبد الله البرغوثي أو عبد الله القسام؟ من أنت؟ أنت ذلك الظل الذي لا أرى صاحبه ولكنه يمد لي يد المساعدة دون أن أطلب، هل تعلم يا والدي الحبيب أنك الأب الوحيد الذي لا ينسى ذكرى ميلاد أبنائه وذكرى ميلاد من يحب، كل الآباء ينسون إلا أنت فلا تنسى، ما دمت لا تنسى لماذا غبت عنا طول هذه الأعوام؟ ألم تكن تعلم أن من يقاتل يغيب ويبتعد عن من يحبهم؟

والدي أجب على سؤالي من أنت؟ ولماذا تركتني طفلة صغيرة لا يتجاوز عمري الثلاثة أعوام ملقاة بسيارة تحاصرها الكلاب من كل صوب؟ لماذا تركتني في البرد القارص بعد أن غبت ولم أعد أراك؟

بالله عليك يا أبي قل لي من أنت؟ قل وأجب على أسئلتي سواءً التي سألتها أم تلك التي لم أتجرأ على سؤالك إياها، من أنت يا أمير الظل؟ من أنت؟ "


ابنتك المحبه تالا

ابنتي الحبيبة على قلبي وعلى عقلي تالا، وأحبتي أسامة وصفاء وأبي وزوجتي الغالية، رسالتكِ قد وصلني قبلها وبعدها العديد من الرسائل التي تحتوي على هذا السؤال من أنت ؟ وسؤال آخر أكثر تعقيداً وهو ذلك السؤال الذي تكرر كثيراً لماذا أنت؟.

ابنتي الحبيبة وملاكي الحارس : هذه الأسئلة والتساؤلات تحتاج إلى شخص فيلسوف لكي يجيب عليها ويشرح الأسباب، ويوضح الأمور ليسهل عليكِ فهمها. أما أنا فمجرد شخصٍ عادي، وأقل من عادي، ويصعب عليّ أن أجيب على تلك الأسئلة، ولكني سوف أقص عليكِ قصتي وقصة حياتي، لعلك يا ملاكي الحارس تجدين أجوبة على أسئلتكِ.

لعلك تستطيعين أنت يا ابنتي أن تقولي لي من أنا، ولماذا أنا، حبيبتي الصغيرة قد بدأت قصتي من هناك، هناك بعيد عن فلسطين وعن التين والزيتون هناك في الصحراء، فلقد ولدت بالكويت، وأحببت الكويت وما زلت أحبّها، وأذكر النشيد الوطني لها وأردده.


وطني الكويت سلمت للمجد، وعلى جبينك طالع السعد

ذلك النشيد الذي ظللتُ أردده طوال أعوام طفولتي، حتى جاء اليوم الذي ما عدت فيه طفلاً صغيراً فلقد كبرت فجأة ودون مقدمات، وكان ذلك عندما اندلعت انتفاضة الحجارة في فلسطين ،عندما استشهد ابن عمي محمود، وعمي إسماعيل: استشهدا في فلسطين أقمنا لهما في الكويت عرساً، عرس الشهداء.

لم أكن اعلم أن هناك أعراساً تقام للموتى، للقتلى؛ ولكني علمت أن هناك أعراساً تقام للشهداء، من هم أولئك الشهداء وكيف أصبحوا مضمخين بدمائهم إلى مثواهم، إلى جنة الخلد، من هم؟ لم أرهم ولم أكلمهم وحتى لم أكن أعلم عنهم أي شيء. سألت وسألت، وجاءني الجواب. قالوا لي أن محمود هو ابن عمي الكبير، وقالوا أن إسماعيل هو أصغر أعمامي، ولقد كان الاثنان قريبين في العمر وقريبين في صداقتهما، ببساطة لقد ألقوا الحجارة على قوات الاحتلال الصهيوني التي كانت تعيث خراباً في قريتنا فألقت تلك القوات عليهم وابلاً من الرصاص فاستشهدا.

قالوا لي، أعلم أنك من هناك من فلسطين، من قرية اسمها بيت ريما، وقالوا أيضاً أنت فلسطيني، وهكذا يا ابتني لم أعد كويتيا كما كنت أظن وكما كنت أغنّي، بل فلسطيني، ومنذ ذلك الوقت أصبحت أردد أنشودة أخرى تتحدث عني وعن فلسطين، فلسطين الشهداء، فلسطين الأسيرة، كانت تلك الأنشودة تقول : " محمد جمجوم وفؤاد حجازي، جازي عليهم يا شعبي جازي" ، أنشودة تتحدث عن أبطال ثلاثة هم "عطا الزير "و"محمد جمجوم" و"فؤاد حجازي"، أُعدموا من قبل القوات البريطانية؛ تلك القوات التي نصبت لأبناء فلسطين المشانق، وأعطت الصهاينة وعداً مشؤوماً اسمه وعد بلفور، ذلك الحقير القذر الذي أعطى من لا يملك أصلاً إلى من لا يستحق، أعطى أطهر أرض، فلسطين إلى أقذر شعب، إلى الصهاينة المحتلين.

ومن هنا يا ملاكي الحارس كبرت ولم أعد طفلاً صغيراً، كبرت وكبرت معي فكرة المقاومة، وطرد الاحتلال، وعقاب المحتلين على جرائمهم بحق فلسطين: وحق محمود، وإسماعيل وبحق كل شهيد.

كنت يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس أشاهد على التلفاز كيف يقوم جنود الاحتلال بتكسير عظام أطفال فلسطين، أطفال الحجارة رجال الانتفاضة وصقورها، ولذلك قررت أن أصبح قوي، قوي جداً حتى لا يُكسر عظمي، وحتى أدافع عن من أحبهم، عن القدس والأقصى وعن فلسطين. في تلك الأثناء قدر الله أن أتعرض للضرب على يد عددٍ من التلاميذ في المدرسة، كانوا أكثر وأقوى وكنت وحيداً وأضعف. وعلى الفور انضممت لنادي الرياضة الجودو، عند مدرب اسمه "منير سميك" وبدأت تدريبي بنادي الجهراء، بالكويت كان المدرب فلسطيني ولقد كان يدرب أيضاً فريق منظمة التحرير الفلسطينية بمدينة "حولّي" بصمت وبجد على فنون الجودو، ولكني لم أكتف، فلقد أردت أن أكون قوياً جداً فأضفت إلى الجودو التدريب على رياضة الملاكمة وأيضاً كمال الأجسام. ولذلك كنت أمضي كل أوقاتي بعد الدراسة متنقلاً بين قاعات التدريب. لم أكن أشارك بالمسابقات ولم أحصل على الميداليات ؛ بل كنت أشارك بالمشاجرات سواء بالمدرسة أو في الحي الذي أقطنه وأحصل في بعض الأحيان على الكثير الكدمات أو الكسور . وقد قال لي المدرب بعد تلك الأعوام: أني سوف أدربك اليوم على الحركة الأخيرة تلك الحركة التي إن تعلمتها وأتقنتها فسوف تكون قادراً على قتل من يهاجمك، فإياك أن تستعملها أبداً أبداً. وعندما سألته كيف تعلمني حركة قاتلة وتريد مني أن أتقنها ولا أستعملها لا في المشاجرات ولا حتى في المباريات بداخل النادي ؟ وهنا أجاب قائلاً ألست فلسطينياً؟ ألا تريد تحرير بلدك؟ قلت: نعم. قال: إذا هناك في فلسطين وضد من احتلوا وطنك استعملها واستعمل كل ما تعلمته هنا.

بعد ذلك بدأت مرحلة جديدة من حياتي. فقد بدأتُ بالتدرب على السلاح، هناك في الكويت في الصحراء، أما الأهم من ذلك فهو ما كنت أعمله أثناء العطل المدرسية سواء عطلة نصف العام الدراسي أو عطلة نهاية العام الدراسي، فلقد كنت أمضي تلك العطل منذ أن أصبح عمري اثنا عشرة عاماً يعني أصغر من عمركِ الآن بعام واحد بالعمل في محل للأجهزة الكهربائية يملكه عمي أبو أحمد، أو في العمل في كراج للميكانيك بعد أن كبرت بعدة أعوام.

فأنا يا ملاكي الحارس لم أمارس الرياضة القتالية حباً بها أبداً، ولم أتعلم استعمال السلاح لأني أهوى ذلك، فلقد كانت هوايتي هي تفكيك الأشياء وإعادة تركيبها مرة أخرى، ومحاولة معرفة طريقة عملها، هذه هوايتي: الالكترونيات والميكانيك، الأشياء الدقيقة جداً والصغيرة، والأشياء الكبيرة والتي يملؤها الزيت والشحوم، وهذا ما دفعني لاحقاً إلى دراسة مساق الهندسة الالكتروميكانيكية في كوريا الجنوبية، أما كيف وصلت إلى هناك فهي قصة أرويها لكِ بعد أن أكمل حكايتي بالكويت أولاً.

كنت متعلقاً بالكويت كثيراً جداً، حتى أني عندما كان والدي ووالدتي وأخوتي يذهبون لقضاء العطلة الصيفية في الأردن كنت أفضل البقاء في الكويت وحيداً، رغم أن عمري لم يكن يتجاوز الستة عشر عاماً لكي أبقى في علمي وهوايتي التي أحب.

وهنا أقول أن الكويت ليست الصحراء أو آبار النفط، الكويت هي الحاضنة والمدرسة التي تعلمت منها كل شيء، فلقد كنت أتابع مجلة العربي تلك المجلة التي عرفتني بالقضية الفلسطينية وحتى بالعالم أجمع، وكنت أتابع الصحف وخاصة رسوم الفنان المبدع شهيد الإبداع ناجي العلي، الذي كان يرسم بالصحف الكويتية وعلى ما أذكر أنه كان يرسم في صحيفة القبس الكويتية، ثم القبس الدولية في لندن.

الكويت التي أنجبت فهد الأحمد الصباح الذي قاتل من أجل فلسطين في جبال عجلون في الأردن، فالكويت هي البلد المسلم الوسطي لا المتطرف الأحمق، فلقد تعلمت الصلاة وأداء العبادات منذ طفولتي الأولى، كان والدي يصطحبني إلى الصلاة بالمسجد كل يوم، وحتى عندما كنت أتدرب كان التدريب يتوقف لأداء الصلاة . وعندما كنت أعمل بالميكانيك أو الالكترونيات فلقد كنت أوقف العمل من أجل أداء الصلاة، فالصلاة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من أموري اليومية. وأذكر أيضاً أن والدي كان يصطحبني لسماع خطبة الجمعة في أحد المدن المجاورة لمنطقة الجهراء وذلك لحب والدي لخطب مشايخ الكويت.

كان والدي يردد دائماً أن صدام حسين فاجرٌ ظالم ولذلك لم أكن أحب صدام حسين أبداً، وخاصة عندما قرأت عن ما فعله بالأكراد،وبحربه الحمقاء مع إيران، وعندما غزا صدام الكويت ازداد كرهي له فهو محتل مثل الصهاينة اليهود لا أكثر ولا أقل.

احتل بلداً كان عوناً له، احتل وخرب ودمر وعاث فساداً، وكم حمدت الله بعد أن تحررت الكويت.

بعد أن تحررت الكويت، انتقلت مع أسرتي للعيش في عمان العاصمة الأردنية حيث كان والدي يملك هناك منزلاً، ولكن مع انتقالنا بدأت مرحلة قصيرة جداً لكنها مهمة جداً، فلقد كنا بعد خروجنا من الكويت إلى الأردن بحالة مادية صعبة جداً ولذلك ورغم أني كنت أدرس، إلا أنني كنت أعمل أيضاً في أحد كراجات المدينة لعلي أساهم ولو بالقليل من مصروف البيت. فأنا يا ملاكي الحارس يا ابنتي الجميلة أكبر أخوتي مثلكِ تماماً .ولذلك تحولت هوايتي إلى عملي وحتى دراستي فلقد درست في مدرسة مهنية قسم الميكانيك، وما إن انتهيت من دراسة الثانوية العامة حتى أدركت عدم قدرة والدي على تعليمي بالجامعة. ولذلك قمت بالاستدانة من أحد أقاربي مبلغاً من المال ووعدته أن أعيد المبلغ خلال عام واحد، ولقد قمت بافتتاح كراج خاص لي قبل أن أكمل عامي الثامن عشر.

عملت بجد دون كلل أو ملل، لكن دون فائدة فلقد كانت الأردن تمر في تلك الفترة بأوضاع اقتصادية صعبة جداً. وبعد مرور أكثر من ستة شهور، ولم يحدث أي تقدم ،ومع اقتراب موعد سداد الدين، وموعد إيجار الكراج وهو إيجار دفع مقدماً لمدة عامٍ كامل. وجدتُ أن الأبواب قد أغلقت بوجهي بشكل كامل. ففي تلك الفترة كنت قوي الجسد فأنا ما زلت أتدرب على الجودو بعمان بشكل منتظم عند نفس المدرب الذي كان يدربني في الكويت، الكابتين "منير سميك" فلقد ترك هو أيضاً الكويت ليستقر في الأردن وليدرب هناك، في نادي مكة الرياضي، ولقد كنت ميكانيكياً فنياً إلكترونياً ماهراً أيضاً فلقد مزجت الهواية بالدراسة لمدة عامين بالمدرسة الصناعية، ورغم كل ذلك؛ أي القوة الجسدية وقوة المعرفة، إلا أني كنت لا أساوي شيئاً، لا أساوي شيئاً .وذلك لأني كنت فقيراً، فقيراً ومديوناً، هل يعقل أن تتجاوز ديوني الخمس آلاف دولار ولم يتجاوز عمري الثامنة عشرة بعد، وهذه التجربة المريرة من العوز المالي وعدم القدرة على مساعدة والدي وأخوتي الصغار جعلتني أدرك أهمية المال. ولذلك وقبل حلول موعد سداد الدين بعدة أشهر قررت أن أهاجر، أهاجر بعيداً لعلي أحصل على فرصة أفضل ولعلي أحسن ظروفي المعيشية، وأوفي بوعدي الذي قطعته على نفسي وهو إعادة الدين بموعده المحدد، وإعالة عائلتي التي لولا ذلك المنزل الذي كما نملكه في عمان لكنا قد تشردنا في الطرقات، فوالدي كان كبيراً بالسن فلقد تزوج في سنٍّ متأخر، وأخوتي بدأو يكبرون ويكبر مصروفهم ومصروف البيت.

قدر الله لي في تلك الفترة أن يكون لي صديق اسمه أحمد، له قريب يعمل في كوريا الجنوبية، وكان صديقي هذا قد قرر السفر للعمل هناك عند قريبه، وهنا طلب مني أحمد أن أملأ له طلباً لتأشيرة الفيزا، فهو لم يكن يجيد اللغة الانجليزية ولا حتى العربية، فأحمد لم يكمل تعليمه .ولذلك قمت بملأ طلب الفيزا لأحمد، وطلب آخر لي أنا، وما إن جاءت الموافقة على الفيزا حتى قمت ببيع موجودات الكراج وشراء تذكرة للسفر وعندها أخبرت أحمد أني أريد السفر معه لكوريا فرحب بذلك أشد ترحيب وذلك لعدة أسباب ذكرها هو لي عندما صعدنا إلى الطائرة فلقد قال: أنت يا عبد الله قوي الجسد ويدك "طرشا" فإذا حدثت معنا مشكلة نحتاج للعضلات فأنت موجود، وإذا احتجنا لمترجم فأنت موجود، أما الأهم - حسب رأي أحمد - فهو قوله إذا ما تعطلت الطائرة بالجو فأنت موجود أيضاً كي تصلحها، ولقد كان جاداً في ذلك.

قبل موعد السفر بيوم واحد أبلغت والدي عن نيتي للسفر إلى كوريا للعمل هناك، لم يعترض بل بارك سفري وشجعني على الثبات والعمل الجاد، فلقد كان والدي يثق بي جداً ويعلم أني لست من النوع المستهتر، فوالدي كان يتابع عملي في الكراج وتدريبي في النادي، كان يراقب ويتابع صامتاً، ويكرر تلك الكلمة التي يرددها دائماً: لقد كبرت قبل أوانك يا ابني.

ودعت أهلي وانطلقت إلى المطار مع أحمد وأنا لا أحمل معي سوى تذكرة السفر فقط لا غير؛ فلقد دفع أحمد أجرة التكسي ورسوم الخروج من المطار. أحمد كان قد خطب ابنة عمته قبل عامين من سفرنا فهو أكبر مني عمراً، لكنه رغم كبر عمره إلا أنه كان منسجم معي وكان انساناً طيباً جداً وبسيطاً جداً.

ما إن أقلعت الطائرة من مطار عمان حتى قال لي أنه يريد العودة إلى عمان مرة أخرى لقد تبدل حماسه الكبير إلى فتور وتشاؤم. حاولت أن أغيّر رأيه لكنه أصر على العودة إلى عمان رغم أنه تحدى أهله وأهل خطيبته الذين كانوا يرفضون سفره ، ورغم كل الإصرار إلا أنه حول ذلك الإصرار إلى إصرار معاكس مصراً على العودة وعدم السفر، وما إن وصلت الطائرة إلى كوريا بعد مرورها بالبحرين وهونغ كونغ، حتى أصر بكل ما أوتي من قوة على العودة.

حاولت أن أحجز له تذكرة لكي يعود إلا أني لم أجد طائرة تسافر بذلك اليوم، فانتظرنا في المطار يومين حتى حجزت له تذكرة وأوصلته لبوابة المغادرين ليغادر عائداً إلى عمان دون أن يرى كوريا. غادر هو تاركاً لي عنوان قريبه في كوريا وودعته أنا بعد أن قمت بعمل جنوني.

نعم يا ملاكي الحارس، فلقد أرسلت مع أحمد جواز سفري وتذكرة عودتي إلى عمان وأرسلت معه رسالة قلت بها ولوالدي أني لن أعود قبل أن أحقق ما حلم بتحقيقه، وطلبت من أحمد إيصال الأمانة والطلب من والدي الدعاء لي والاحتفاظ بجواز سفري حتى أطلبه منه.

جيوبي خالي، فلا مال لدي، ولا تذكرة للعودة، ولا جواز سفر، كل ما معي هو عنوان مكتوب على ورقة، وإصرار بالنجاح ورغبة بالتحدي.

هنا يجب أن أقول أن أحمد قد عاد إلى عمان لأنه كما قال لي عبر الهاتف فيما بعد أن عمته أي حماته قد عملت له عملاً عند أحدى الساحرات، عمل يمنع أحمد من السفر، بعيداً عن خطيبته بعيداً عن بيته في عمان، أما أنا فسألت عن رأيي، فأقول الله أعلم عن السبب الحقيقي لعودة صديقي أحمد لعمان.

عدت الى جيوبي الفارغة وأخرجت منها العنوان، وسألت أحد موظفي الاستعلامات بالمطار، ذلك الموظف الذي رسم لي العنوان على إحدى الخرائط الخاصة بالسياح فلقد قلت له أني أريد الذهاب ماشياً على قدمي فرسم لي العنوان وانطلقت بعد أن أمضيت ليلتي نائماً بحديقة المطار، نائماً على العشب الرطب مستيقظاً على بخاخات المياه التي سقت العشب صباحاً، فاستيقظت وشربت من تلك المياه، وبدأت رحلتي إلى الأمل، الحلم الذي أصبح حقيقة.

فلقد بقيت طوال ثلاثة أيام وليلتين أسير في النهار، وأنام في الليل ،ولا آكل ولا أشرب، ولكني كنت أشرب من المياه من الحدائق العامة حتى وصلت إلى العنوان، وصلت متعباً غارقاً بمياه الأمطار، أشعر بالحر تارةً وبالبرد تارةً أخرى، وصلت إلى العنوان الذي لم يكن سوى عنوان مصنع لقص الأشجار في أحد الغابات، كان قريب أحمد قد ترك العمل بالمصنع منذ مدة طويلة، وانتقل إلى مكان آخر ولكن لحسن الحظ أنه كان هناك عمال أجانب يعني عمال غير كوريين، عمال باكستانيين مسلمين.

رحب بي أحدهم، وأوجد لي عملاً بنفس اليوم بمصنعٍ مجاور، هناك في تلك الغابة وبمصنع الأخشاب هذا عملت طول خمسة وأربعين يوماً، قبل أن أستلم أول راتبٍ لي فلقد كان النظام هناك أن نعمل شهراً كامل وأن نترك تأمين لمدة خمسة عشرة يوماً لدى المصنع.

عملت وأنا لا أملك المال لشراء الطعام ، فلقد كنت أتناول وجبة تُقدم من المصنع في الساعة العاشرة وهي وجبة خفيفة جداً ووجبة أخرى تقدم في ساعة الظهيرة للغداء، عملت بصمت وأتقنت ما أعمل.

كنت أدون الكلمات الكورية وأحفظ معانيها لكني لم أكن أملك المال لشراء القاموس، لكني كنت أمتلك شيئاً آخر. فلماّ كنت أنام بتلك الفترة بأحد الغرف الملحقة بالمصنع، فقد كنتُ بعد انتهاء العمل أحاول اقتحام جهاز الكمبيوتر الموجود بغرفة الاستقبال؛ وبعد محاولات طويلة، استطعتُ اقتحام ذلك الكمبيوتر ومعرفة كلمة المرور، وبدأت من خلال ذلك الجهاز بتعلم اللغة الكورية عبر أحد مواقع الجامعات الكورية، فأنا أجيد اللغة الإنجليزية بشكل جيدٍ جداً وذلك سهل علي تعلم اللغة الكورية عبر اللغة الانجليزية!!

كنت بعد ذلك أجول بحرية في الشبكة العنكبوتية التي كانت في تلك الفترة أي عام واحد وتسعين ما تزال صغيرة جداً ومحدودة أيضاً. وأعتقد أن ذلك هو ما كان الدافع بالإضافة للملل لكي أبدأ باقتحام المواقع الالكترونية ولكني لم أكتف بذلك أيضاً، فلقد كنت بعد مرور ما يقارب الثلاثين يوماً على وصولي إلى كوريا وعلى عملي في المصنع، قد اشتقت للاتصال بوالدتي ووالدي للاطمئنان عليهما وخاصة بعد عودة أحمد.

ولأنني لا أملك المال اللازم لشراء كرت هاتف الاتصال فلقد قررت أن أقتحم شركة الاتصالات الكورية وخلال خمس أو ست أيام تمكنت من فك شفرة الاتصالات الكورية ولقد أصبحت أجري المكالمات الهاتفية بشكل مجاني طول فترة تواجدي بكوريا أي طوال ستة أعوام حتى عندما تحوّلت الشركة إلى النظام الرقمي بدل النظام السابق فلقد استطعت أن أفك تلك الشفرة أيضاً، ولم أكتفِ بذلك بل قمت بفك شفرة الهواتف الجوالة ؛ وهنا تحولت الحاجة إلى المال إلى سبب دخولي عالم جديد علي وهو عالم (قرصنة الكمبيوتر)؛ "الهاكرز"، بعد أن أتممت الخمس وأربعون يوم، تسلمت راتبي وكان كبيراً جداً يعادل راتب ثماني موظفين يعملون في الأردن. إلا أنني لم أصرف من ذلك المبلغ سوى القليل جداً على شراء بعض الطعام والملابس واحتفظت بالباقي، وما إن جاء الشهر الثاني والراتب الثاني حتى كنت قد جمعت مبلغ الخمس آلاف دولار، وقمت على الفور بإرساله إلى والدي مع مبلغ آخر مصروف للعائلة، وهنا سددت ديوني وبدأت أرسل كل ما بقي معي من مال إلى والدي، مما جعل وضع عائلتي يتحسن بشكل كبير جداً، بحمد الله.

وهنا أقول الحمد لله لأني طوال فترة وجودي في كوريا كنت أحافظ على صلاتي وصومي وعبادتي بفضل الله عز وجل، وكنت أيضاً أحافظ على إبقاء لياقتي البدنية على أحسن حال من خلال التدريب المكثف الذي كنت أمارسه بعد صلاة الفجر بشكل يومي لحين موعد العمل.

بعد عدة أشهر على هذا الحال قررت ترك العمل في قص الأشجار والمنجرة، والتوجه للعمل بمكان أمارس فيه هوايتي أي الميكانيك، فعملت بمصنع للصناعات البلاستيكية وبعد فترة أصبحت عاملاً وميكانيكياً للآلات في المصنع.

أما في أوقات ما بعد العصر فلقد أردت أن أكمل هذه الهواية في أوقات ما بعد الدراسة ،فقمت بالتسجيل في أحد معاهد الهندسة ودرست تخصص الالكتروميكانيكا؛ أي الالكترونيات والميكانيك.

وهنا يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس أقول لكِ أني كما يقال لكِ لم أكن أملك قلب أبداً أبداً، بل كنت أملك عقلين اثنين: عقل يتقن جمع المال، وعقل آخر منصب على تحدي القانون، فلقد أصبحتُ قرصان كمبيوتر وقرصان شبكات الاتصالات، ولكن الأهم هو ذلك العقل الذي خصصته لفلسطين فلقد تعلمت المتفجرات والعبوات الناسفة؛ تعلمت ذلك من مصادره الأصلية : من المواقع العسكرية الموجودة في شبكة الإنترنت. فتعلمت الكثير وحولت تلك المعرفة إلى خبرة عملية. فلقد كنت أمضي عطلة نهاية الأسبوع في كوريا هناك في الغابات تارةً أفجر عبوة وتارةً أجرب مادة حارقة جديدة، وهنا استطعت أن أدمج ما بين صناعة المواد المتفجرة وصناعة المواد الالكترونية اللازمة لتفجير تلك المواد، فأصبحت خبيراً بكلتا الناحيتين فأنا من يصنع المواد المتفجرة وأنا أيضاً من يصنع الأدوات الالكترونية الخاصة بها.

ان ذلك صعباً جداً ومعقداً جداً لكني كنت أحبه جداً فهو أصبح هوايتي في بلاد الغربة كوريا، أما رياضة الجودو فلقد تطورت معي هي الأخرى فلقد بدأت أتدرب بنادي خاص ومزجت تدريبي على الجودو بالتدرب على التايكواندو، فالكوريين لا يحبون رياضة الجودو لأنهم بشكل عام لا يحبون اليابانيين، فالجودو رياضة يابانية واليابان كان قد احتلت كوريا لفترة طويلة جداً، ولذلك فالكوريين لا يحبون أي شيء يأتي من اليابان مهما كان حتى الرياضة، حتى الجودو حبيبتي لم يكونوا يحبونها فلذلك تعلمت التايكواندو فهي رياضة كورية أصلية، فتعلمتها وبخاصة تلك المراحل الخاصة بقتال الشوارع أو ما يعرف بقتال القوات العسكرية الخاصة.

وبدأت بالتردد على النوادي المختصة بموضوع القنص على السلاح، ورغم أنها مكلفة جداً إلا أني استفدت منها بشكل جيد جيداً.

وهنا يا ابنتي أكملت الحلقة بشكل كامل من العبوات المتفجرة إلى القنص إلى قتال التايكواندو: قتال القوات الخاصة. أما إن سألتني عن دافعي لذلك كله فأقول لكِ أن الدافع كان جدتكِ: أمي. ففي تلك الفترة كانت الانتفاضة قد شارفت على نهايتها (انتفاضة الحجارة)، وكان بلال ابن عمي الذي تربى معي في الكويت قد سافر مع أهله إلى فلسطين فقد كان يملك هوية فلسطينية، أما أنا وأهلي فلم نكن نملك تلك الهوية ولذلك بقينا في عمان.

في فلسطين أصيب بلال ، ابن عمي وصديقي والناشط بكتائب عز الدين القسام ، أصيب برصاصة ببطنه أفقدته إحدى كليتيه، ولقد مكث في المستشفى فترة طويلة جداً ولأن الاتصالات كانت مقطوعة بين الدول العربية وبين فلسطين المحتلة فلقد كنت حلقة الوصل بين أبناء عائلة البرغوثي وبخاصة أمي، وأعمامي بعمان، وبين فلسطين المحتلة ولذلك كنت أتابع أخبار بلال المصاب الذي كاد أن يستشهد وكدت أن أفتح له بيت عرس للشهادة في كوريا، بلال كان قد فقد ابن عمه، وعمه شهداء في بداية الانتفاضة الأولى وها أنا أكاد أن افقده بنهاية نفس الانتفاضة.

فكان ذلك هو دافعي الذي حولني أول مرة من طفل إلى شاب مصمم على مقاومة الاحتلال وهو أيضاً ما دفعني بعد أن أصبحت شاباً أن أصبح رجلاً لا هدف عنده سوى مقاومة ذلك الاحتلال، فالاحتلال هو سبب تشرد عائلتي، وهو أيضاً سبب فقري فلو كنت أحيا بفلسطين لما كنت مشرداً فقيراً، لاجئاً ،أو نازحاً في إحدى مخيمات الشتات.

وهنا لا أتحدث عني أنا عبد الله البرغوثي بل عن كل فلسطيني تشرد وعاش مأساة المجتمعات بالشتات وبالغربة، كان كرهي للاحتلال يكبر ويكبر فلقد تركت العمل بمصنع البلاستيك وأصبحت أعمل مترجم للغة الكورية بإحدى السفارات العربية وأصبحت أتاجر بالسيارات المستعملة عبر تصديرها للأردن وإلى اليمن أصبحت ثري وأصبح لي عقلان لكني بلا قلب، قلب يحب ويعشق رغم أن الفتيات كن يطاردنني ،وكن يسبّبن لي الحرج الشديد ،وذلك لأني كنت أصدهن عني بشتى الوسائل والسبل، والله إن صد الفتاة أصعب ألف مرة من استمالتها.

ولذلك قررت أن أتزوج، أتزوج بلا حب وبلا مشاعر، فتزوجت فتاة كورية كانت تدرس الآداب والفنون الجميلة، تزوجتها وبقيت على حالي أعمل وأتدرب على هواياتي التي أحب: هواياتي التي أقسمت أن تكون وسيلتي لتحرير بلادي، لتحرير القدس والأقصى لتحرير الإنسان من جبروت الاحتلال. لم يشأ الله أن تبقى الأمور على حالها فلقد اندلعت مواجهات بين طلبة جامعة سيؤول وبين قوات الشرطة الكورية على خلفية اغتصاب عدد من الجنود الأميركيين لفتاة كورية فشاركتُ بتلك الصدامات وبدأت بإلقاء قنابل الملتوف الحارقة، فاعتقلت ولولا تدخل السفير اليمني لما خرجت من المعتقل، وتمّ إبعادي إلى الأردن، مكبلاً بالقيود.. لقد ركبت الطائرة طوال الرحلة وأنا مكبل اليدين والقدمين حتى وصلت إلى عمان.

ولقد كانت زوجتي الكورية (مي سن أوكي) -أسميتها أنا (إسراء)- قد وصلت قبلي إلى عمان، وتم الحجز على ما كنت أملكه من مال في البنوك الكورية ما يقارب العامين، ولذلك فرغم ما أملكه من مال في البنك إلاّ أني عدتُ فقيراً مرة أخرى، عدت بلا مال، كما سافرت.

يشهد الله أني وصلت لعمان ولم يكن معي ولا قرش واحد، هناك كان صديقي أحمد شوياش ينتظرني مع زوجتي ووالدي ووالدتي ليأخذني بسيارته إلى منزل أهلي، أحمد كان قد تزوج وأنجب عدة أطفال، أما أن فلم تكن زوجتي "مي سن" قد أنجبت. فلقد كانت تعاني من مشكلة في الإنجاب وبعد عدة أعوام من المحاولة في كوريا وفي عمان استمرت ستة أعوام وبسبب الضغوط الكبيرة التي مورست علي من قبل من هم حولي باستثناء أمي وأبي، فهما لم يضغطا علي أبداً أبداً في هذا الموضوع، أما خالاتي فلم يقصرن بالضغط علي وحتى بالضغط على أمي.

بعد مرور عامين استطعت عن طريق السفارة الكورية في عمان أن أحصل كل ما كنت أملكه بكوريا من اموال وأن أبدء عدة أعمال ناجحة في عمان؛ فاستطعت أن أمتلك مسكني الخاص وسيارة . وكنت في تلك الفترة أحيا وأعيش ببحبوحة كاملة، مما كثف الضغوط علي لإيجاد حل لمشكلة عدم إنجاب زوجتي، فقررت أن أتزوج عليها. ويشهد الله أني لم أقدم على هذه الخطوة إلا بعد أن عجزتُ عن إيجاد علاج لها، فلقد كنت محتاجاً إلى الأبناء والبنات ليكملوا فرحتي.

في تلك الفترة كنت قد تجاوزت الخامسة والعشرين، حاولت أن أقنع "مي سن" إلا أنها رفضت ذلك بشكل قاطع وكانت تلك هي المرة الأولى والوحيدة طوال فترة زواجنا التي امتدت ما يقارب ستة أعوام لا ترفض لي طلباً رغم تفهمها للأسباب، إلا أنها رفضت، "فمي سن" كانت تعتبرني جزءاً منها لا يمكنها الاستغناء عنه أبدأً، فعندما كنت أتدرب في النادي كانت ترافقني إلى النادي وتجلس على أحد المقاعد صامتة وتراقبني، كانت دائماً حولي ومعي تعد لي أفضل وأجود الطعام، تسهر على راحتي وترعاني وكأني ابنها أو أبوها الكبير، كانت تحبني، نعم كانت تحبني جداً، بل تحبني أكثر من أي شيءٍ آخر بهذه الدنيا، فلقد قالت لي كيف أستطيع أن أقتسم دنياي مع زوجة أخرى، أما أنا فلا أدري إن كنت أحبها، فكما قلت، لم يكن عندي أصلاً قلب لأحب، لكنني تعودت عليها وتعودت على وجودها في حياتي، فهي زوجة صالحة هادئة مطيعة، وأنا لم أقصر معها بأي شيء طوال فترة زواجنا، فهي كانت ترى أنه لا يوجد أي اهتمام عندي بالنساء، فكل اهتمامي محصورٌ بالعمل والتدرب.

السر الوحيد الذي كنت أخفيه عنها هو هوايتي بصناعة العبوات الناسفة، فتلك الهواية كانت سرية جداً، كانت سر مقدس لم أشرك به أحداً طوال تلك الفترة.

هي رفضت أن أتزوج عليها وأنا أصريت، فانفصلنا، وكان هذا الانفصال غريباً، غريباً جداً، انفصلنا كأصدقاء، حتى أني ذهبت إلى أحد محلات المجوهرات واشتريت لها عدة أطقم من الذهب ومن الملابس ومن الهدايا لوالدتها ووالدها، وأوصلتها إلى المطار مودعاً إياها حزينا على الفراق. بقيت على هذا الحال عدة أشهر لا أكلم أحداً ولا أطيق أحداً، أمضي وقتي في العمل، العمل ولا شيء سوى العمل، حتى فلسطين فلم أكن بشوق لها بل لم أكن أبالي بأخبارها أبداً، أما سبب ذلك فهو دخول سلطة الفساد والإفساد سلطة أوسلو، تلك السلطة التي تضم مجموعة من الفاسدين القذرين المرتشين، أولئك اللصوص الذين لم يكتفوا بأن سرقوا مال الثورة والثوار بل سرقوا دماء شهداء الانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة فباعوا دماء الشهداء من أجل أن يعودوا بفسادهم إلى فلسطين ،يعودوا ليدنسوها.

صببت اهتمامي على أعمالي وتجارتي التي بدأت تكبر فأصبحت لا أدخل بيتي إلا من أجل النوم، فكل وقتي في العمل طوال أيام الأسبوع السبع، فلقد كنت حزيناً بل تائهاً نوعاً ما؛ تائها لأنني لا أعلم ماذا أفعل بموضوع الزواج، فأنا كنت أعيش حياة سعيدة جداً مع زوجتي السابقة، رغم عدم حبي لها. كنت أرى من هم حولي من أخوال وأعمام وأصدقاء لم لا يعيش احد منهم بمثل تلك السعادة التي عشتها بل إن كثير منهم كانوا تعساء، رغم أن عندهم الكثير من الأولاد. فلقد كنت أخشى أن أتزوج فأصبح واحداً مثلهم، أخشى أن تصبح زوجتي هي القيد الذي يقيدني، ولذلك قررت أن أسافر إلى إسبانيا : برشلونة تحديداً حيث يعيش ابن خالي وهو يحمل الجنسية الإسبانية وهو أيضاً صديقٌ ورفيقٌ لي.

في تلك الفترة بدأت بإعداد الأوراق اللازمة للسفر، وبدأت أصغر أعمالي في الأردن، حتى جاءت العاصفة بل حتى التسونامي الذي لا يمكن لأحد الصمود بوجه ذلك التسونامي وتلك العاصفة : انها أمي، أمي الهادئة الطيبة الحنونة التي تبكي إذا ما شاهدت مشهد حزين على التلفاز، أمي أصبحت عاصفة هوجاء بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

فقد علمت عن طريق الصدفة من زوجة خالي أني أرتب للسفر عند ابنها في إسبانيا، فجن جنونها، فذهبت إلى منزلي-الذي لم تكن قد دخلته منذ طلاقي للكورية- فوجدت أن منزلي على حاله لم يتغير عليه شيءٌ أبداً، فصور الكورية تملأ المنزل وملابسها - أو ما بقي من تلك الملابس- تملأ الخزائن، وجدت كل شيء على حاله، وكنت بعملي فاراً من تلك الذكريات، وهنا قامت العاصفة، فبدأت أمي بجمع كل ما يمت للكورية بصلة: الصور الملابس وحتى الطعام الكوري، البهارات الكورية الكتب الكورية وأشرطة الفيديو الكورية والأجنبية حتى ألبوم صور الزواج جمعت كل ذلك بعدة أكياس للقمامة وألقته، ألقته في القمامة.

عدت بعد منتصف الليل لأجد أمي تنتظرني في البيت، البيت الذي لم أعرفه عندما دخلته فلقد حولته إلى بيت فلسطيني أصيل، تملأ الجدران صور القدس وخرائط فلسطين الخشبية، تلك الخرائط الخشبية التي كنت أصنعها قبل أن أسافر إلى كوريا، فلقد كنت بعد عودتي من الدراسة والعمل، أدخل إلى غرفتي لأصنع مجسمات تجسد القدس وتجسد خارطة فلسطين وكنت أوزع تلك المجسمات على منازل أخواتي وأعمامي وأصدقائي، لم تكن جميلة ولكنها كانت فلسطين أصيلة تصنع من خشب الزيتون ويصنعها عاشق لفلسطين، ومحب للقدس.

نظرت حولي فلم أجد الماضي القريب: لم أجد كوريا، بل وجدت الماضي البعيد فلسطين، وجدتها معلقة على جدران منزلي، لكني لم أجد نفسي، لم أجد عبد الله الجمل، حتى بدلة الجودو الخاصة بي فلقد استعملتها أمي كممسحة ووضعتها على الباب الخارجي .وعندما سألتها قالت لي أنها قديمة جداً اشتري غيرها، بل لا تشتري غيرها، اسمع يا عبد الله، أقسم بالله العظيم أني سوف أغضب عليك ولن أرضى أبداً وليشهد ربي علي إن لم تمتنع عن السفر وإن لم تتزوج فوراً. قل لي الآن ما هي مواصفات الزوجة التي تناسبك قل ولا تخشى، اذكر مواصفاتها وأنا سوف أجدها لك، كل ما عليك أن تقول وأن تنسى الكورية، فأنا أيضاً كنت أحب الكورية فلقد كانت بمثابة ابنة لي كانت طيبة وحنونة لكن هذا كان قدرها ، قل لي يا ولدي ما هي المواصفات ولا توجع قلبي.

كنت أعلم أن قلب أمي مريض، بل مريض جداً، فلقد أجرت قبل فترة عملية به، أمي التي تقول أنها سوف تغضب علي إن لم أمتنع عن السفر وإن لم أتزوج.

آه يا أمي، أليست الجنة تحت قدميكِ، فكيف سوف أقبل أن أغضبكِ؟

أماه لا تغضبي مني، أماه لا تغضبي علي، فأنا المطيع فارضي علي، وارضي على ما قدمته يدي.

صمت قليلاً وقلت حسناً لن أسافر، فنظرت إلى وقالت: ماذا عن الزواج؟

قلت نؤجله قليلاً حتى..، قالت: حتى ماذا، حتى تنسى يا ولدي؟ لا يناسبك إلا الزواج، قلت حسناً لكن حسب شروطي.

أولاً: أريدها من هناك من فلسطين، ثانياً: أريدها من عائلتنا برغوثيّة أباً عن جد، ثالثاً: أريدها متعلمة (في مجال تربية الأطفال) فأنا لا خبرة لي ولا جلد عندي على الأطفال، رابعاً: لا أريدها أن تعمل، فأنا والأطفال سنكون عملها وشغلها الشاغل، خامساً: وهو الأهم أريد من أبيها أن يكون هو رجل المنزل لا أمها، فأنا لا أريد زوجة قوية تحول حياتي إلى جحيم من المشاكل ؛ والسلام ختام .

نظرت لي أمي وقالت: شقراء وبيضاء، طويلة وممتلئة، جميلة ألا يوجد شيء من ذلك؟ فضحكت وقلت لا أبداً أبداً، فأنا يا أمي كنت حزيناً في بداية طلاقي للكورية على الكورية، ولكن فيما بعد أصبحت حزين على نفس الأشياء أخاف أن لا أجد فتاة مثلها.

وهذا هو سبب رغبتي بالسفر للخارج حتى أتعرف على فتاة أعرفها وأفهمها ثم أتزوجها، أما هنا بعمان فهذا صعب علي أو بالأحرى أنا لا أريده، فلم أجد في عمان من تناسبني بعد الكورية.

تركتني والدتي وعادت إلى المنزل، والدي لم يكن هناك بل كان في فلسطين. فلقد قرر والدي منذ مدة أن يزور فلسطين لرؤية الأهل والأقارب، ولكنه بعد ذلك قرر أن يطيل زياراته لفلسطين لرعاية أراضيه التي ورثها عن جدي.

ولا أدري أكان وجود والدي في فلسطين في تلك الفترة من سوء حظي او من حسنه، فبمجرد أن اتصلت أمي بأبي في تلك الليلة حتى وجدت أمي تقف على رأسي في الصباح الباكر، لتوقظني وتقول لي أنها وجدت لي العروس المناسبة، بالله يا أمي خلال أقل من خمس أو ست ساعات وجدت عروس بمواصفاتي التي كنت أظن أنها تعجيزية؟ فلقد تركت أمي منزلي في الساعة الثانية ليلاً وعادت إليه في الساعة السابعة صباحاً، فمنزلي ومنزل والدي في نفس العمارة، أمي وجدت لي عروساً، قلت حسناً. قالت أعطني جواز سفرك واذهب به لتحصل على فيزا لكي تسافر إلى فلسطين.

قلت وما زال النعاس يطاردني أتريدين جواز السفر أم ماذا؟ قالت لا أريد جواز السفر أريد أن تذهب الآن لتحصل على فيزا وتسافر لدى العروس، هناك في فلسطين.

بالله سوف أذهب لفلسطين التي لم أعد أحبها ألم أقل في إحدى الأيام عندما سألت عن حال فلسطين بعد دخول السلطة :

معتوهة مجنونة تلك البلاد ... ظُلمٌ قتلٌ وبيوت الحِداد

عاثوا بها خراباً واستبداداً ... قتلوا الأم والطفل الوليد

هذه فلسطين التي لا أحب، فلسطين التي لا أريد، كيف أذهب لفلسطين التي ما عدت أحب، لكي أبحث عن فتاة أحب.. أعني يا الله.

ما هي إلا عدة أيامٍ حتى حصلت على تأشيرة للزيارة ودعت أمي وقلت لها أني ذاهب في رحلة مع أصدقائي وبعد عودتي سوف أذهب إلى فلسطين.

لم أذهب برحلةٍ خارج فلسطين، بل ذهبت برحلة إلى فلسطين، فلقد كان لي صديق وهو تاجر مقدس ثري انتظرني هناك على المعبر، أو كما يسمونه على الجسر، عبرت الجسر إلى فلسطين، لكني لم أرَ فلسطين بل رأيت أعلام الصهاينة تملأ أرجاء المكان، وصلت متأخراً رغم أني خرجت مبكراً فلقد استوقفني المحتلون ليخضعونني للاستجواب عن أحوالي وعن ماذا كنت أعمل، وبخاصة أنها أول زيارة لي لفلسطين، كانوا يتحدثون معي باللغة العربية المكسرة نوعاً ما، فرفضت أن أجيب بالعربية وبدأت أتحدث بالإنجليزية مما جعلهم يحضرون مترجم للغة الإنجليزية، ألا يكفي أنهم احتلوا أرضي وقدسي ويريدون أن يحتلوا لغتي؟ سوف أتحدث لكم بلغة ذلك الوغد الحقير بلفور الذي مكّنكم عبر وعده المشئوم من الحصول على أرضنا المباركة.. لكن لن يمكنكم من الحصول على لغتي، حتى أن المترجم حاول أن يتحدث باللغة العربية إلا أني لم أنطق حرفاً واحداً بتلك اللغة وقلت له إن كانت اللغة الانجليزية صعبة عليك، ابحث عن مترجم للغة الكورية، غضب هو أما أنا فلم أغضب بل كنت سعيداً وسعيداً جداً لأني أغضبته فلقد شعر بالإهانة أمضيت عدة ساعات حتى جاء المساء وعندها وبدون مقدمات أعطوني جواز سفري وقالوا لي اعبر، فعبرت إلى فلسطين، مرحباً قال لي صديقي لقد تأخرت، حصل خير شو رأيك تروح على "فيلتنا" التي بأريحا فهي قريبة جداً خمس دقائق من هنا، لم أتكلم واكتفيت بهز رأسي بالموافقة.

فيلا جميلة جداً، ومسبح كبير وأشجار فاكهة رائعة، هناك أمضيت ليلتي الأولى في أريحا، أريحا وأي أريحا رأيت، طلبت من صديقي أن يصطحبني بجولة بداخل مدينة أريحا، أريحا "عزة أوسلو". رأيت بها قرية مهجورة محرومة من الحداثة ، قرية لا أكثر فلم تكن أريحاً مدينة أبداً، رأيت بها قطيعاً من عساكر سلطة أوسلو: قطيعاً، يقوده ذئب، بعد ذلك عدنا إلى الفيلا فطلب مني صديقي أن أغير ملابسي وأن أرتدي أجملها، بل أغلاها ثمناً، قبل أن أسأله عن السبب قال: إياك أن تسأل . بالله عليك يا عبد الله أن تفعل ما أطلبه منك. فعلاً ما هي إلا عدة دقائق وكنت أرتدي إحدى بدلي، تلك البدل التي كنت أفصلها هناك في كوريا فبعد أن لم أكن أملك ثمن الطعام والمواصلات عندما وصلت إلى كوريا عندما مشيت من المطار إلى غابة الأشجار، أصبحت ثرياً اقوم بتفصيل بدلاتي وقمصاني، حتى أني والله كنت أفصل تلك البلايز التي ترتدي تحت القمصان ،كنت أُفصل ربطات العنق من الحرير الصيني الفاخر.

ارتديت إحدى تلك البدل وصعدت بسيارة صديقي تلك السيارة التي لا يقل ثمنها عن نصف مليون، صعدت وصعد هو أيضاً فقاد السيارة، عدة دقائق وصل إلى فندق فخم جداً جداً، في البداية لم أصدق مثل وجود هذا الفندق في مدينة أريحا أقصد في قرية أريحا، لكن الفندق كان ضخماً وفخماً وبما أني أحمل جواز سفر أجنبي وبما أن صديقي يملك هوية مقدسية فلقد دخلنا هناك مثل دخول الفاتحين.

وما هي إلا عدة دقائق حتى علمت أني في كازينو أريحا (في ملهى ليلي ومرتع للقمار والفساد)، رأيت ذلك بأم عيني، كازينو بأريحا قمة الفساد والإفساد في أول مدينة تسيطر عليها السلطة!!

قلت بنفسي حسبي الله، حسبي الله ونعم الوكيل، قلت الحمد لله أن ذلك الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي الذي كتب كتاب رأيت رام الله لم يدخل إلى هنا، لم يشاهد ما شاهدته في ذلك الوكر، لم يكن القمار ولا العاهرات إنما العاهرون رجال جهاز الأمن الوقائي رجال جبريل الرجوب الذين يتولون حراسة الكازينو والإشراف الأمني عليه، فلقد كلف عرفات بطل الأبطال جبريل الرجوب بتشكيل جهاز تحت اسم جهاز الأمن الوقائي، لا اختصاص له سوى حماية الصهاينة من المقاومة وحماية الفاسدين من الثائرين.

ظن صديقي لأني لن أطيل السهر هناك، ولكنه كان مخطئاً فلقد أطلت السهر، ليس بلعب القمار، ولا مراقصة العاهرات، وإنما واصلت السهر موجهاً لصديقي السؤال تلو السؤال عن ما يدور هنا في الكازينو وهناك في رام الله وغزة.

قبل الفجر عدنا إلى الفيلا، فوضعت حقائبي في السيارة وانطلقنا لنصلي بالأقصى بالقدس ، انطلقنا من الكازينو وكر فساد السلطة إلى القدس المحتلة. ما إن وصلت هناك حتى عادت لي روحي وعادت الحياة تدب بجسدي من جديد أصبحت حياً، حياً أرزق، بالقدس عادت لي ذاكرتي وحبي لفلسطين ورغبتي في القتال وعقاب المحتل، هناك يا ابنتي الحبيبة هناك يا ملاكي الحارس، شعرت برغبة بالحياة. ليس للقدس وصف؛ رائحتها جميلة، فلقد مررنا على مخبز يصنع الكعك المقدس فاشترينا وأكلنا ونحن نعبر أزقة المقدسي، بعد أن عبرنا أسوارها أكلت الكعك فلقد كنت جائعاً فلم آكل هناك بوكر الفساد بالكازينو، ولم أشرب حتى الماء، رفضت أن أدنس جسدي بطعامهم ومائهم، أما كعك القدس فوالله كان أحلى وأروع ما أكلته طوال عمري، فرغم أني كنت أتناول الطعام في أفخم المطاعم في كوريا وعمان ورغم حبي لطعام أمي لكني أقول: لا شيء يعلو على كعك القدس، يبقى قدساً لا يستطيع أحد أن يدنسه فهو الأقصى المبارك به وحوله.

كان ذلك اليوم يا ابنتي هو صباح يوم الجمعة، فطلبت من صديقي أن يتركني أمضي يومي بالمدنية، وقلت له أننا سوف نعود إلى منزله الثاني الموجود في أحد أحياء القدس بعد الصلاة، ألحيت عليه فوافق، ودعته على أمل أن ألقاه بعد الصلاة عند باب العامود، فبدأت أتجول في ساحات القدس ثم في أزقة القدس، تلك القدس التي أحبها والتي طالما حلمت بأن أصلي بها، رأيت المستوطنين، رأيت المحتلين رأيت الأم الفلسطينية رأيت القدس، رغم كل غضبي على المحتلين إلا أن غضبي على السلطة والفساد والإفساد كان أكبر وأعظم.

بدأت أبيات الشعر في تلك الجولة المقدسية تحوم حولي كأنها سرب من الصقور فقلت الأبيات التالية، لا أدري أهي شعر أم أي شيءٍ آخر.

أظن أن المشاعر أصبحت كلمات لا أكثر ولا أقل؛ فأنا يا ابنتي لست شاعراً وحتى أني لا أخفيكِ سراً إن قلت لك أني لا أحب الشعر أصلاً.

قلت:

في القدس ماعاد للانتظار مكان

في القدس ما عاد بالمكان انسان

في القدس غرست انياب الطغيان

في القدس غرس الصهاينة والاستيطان

في القدس ما عاد للحجارة ثمن

في القدس ما عاد يسمع صوت الاذان

في القدس غرس المحتل الحزن

في القدس وغرس قاطعي الزيتون

في القدس ما عاد للقباب لمعان

في القدس ما عاد حي سلوان

في القدس غرس الظلام والجنون

في القدس غرس عطش الظمآن

في القدس ما عاد زيت وزيتون

في القدس ما عاد المصلون يأمون

في القدس غرس ظلم بلا قانون

في القدس غرس قضاه ظالمون

في القدس ما عاد يطحن طحين

في القدس ما عاد عنب ورمان

في القدس غرس الكره لا الغفران

في القدس غرس الجهل والطغيان

في القدس ما عاد هناك اديان

في القدس ما عاد هناك مصلون

في القدس غرس اعداء غيلان

في القدس غرس وحش مجنون

في القدس ما عاد الابيض لون

في القدس ما عاد بالسماء الوان

في القدس غرس قلب حزين

في القدس غرس اعمى بلا عيون

في القدس ما عاد للمكان تكوين

في القدس ما عاد يقرأ القـــــرآن

في القدس غرس الجن والجان

في القدس غرس من الكفر دان

في القدس ما عاد هناك فلسطينيون

في القدس ما عاد سوى بني صهيون

في القدس غرس جثمان المجاهدين

في القدس غرس القيد بأيدي المأسورين

قلت تلك الأبيات يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس بعد أن صليت في القدس، فقد سمح لي بالصلاة في الأقصى لأني أحمل جواز سفر أجنبي ولم يسمح للفلسطينيين الشباب بالدخول للصلاة قلت تلك الكلمات بعد أن رأيت أول شهيد يصلى عليه، شهيداً ارتقى للعلا على يد مستوطن محتل قام بطعنه بأحد شوارع القدس، فصلوا عليه وصليت، وكبروا وهللوا فكبرت وهللت، قلت الله أكبر الله أكبر. ولكن أحدهم قال جملة أصبحت هي محور حياتي القادمة قال ذلك الفتى الانتقام الانتقام يا كتائب القسام، الانتقام الانتقام يا كتائب القسام، فكررت من بعده وكرر كل من كانوا هناك.

غضبت وعشقت وصليت وذقت لأول مرة الحب، فلقد أحببت القدس وقبة الصخرة المشرفة من أول نظرة، بل عشقتها من أول كعكة.

تأخرت على صديقي لكنه بقي ينتظرني عند باب العامود إحدى بوابات القدس الشريف، كان قلقاً بسبب حادثة استشهاد الشاب المقدسي، كان قلقاً علي لكني كنت قلقاً على فلسطين، ذهبنا إلى منزله الكائن بأحد ضواحي القدس، فتناولنا الطعام وبعد ذلك طلبت منه أن يتركني لكي أنام، فأنا لم أكن قد نمت منذ ليلة البارحة. نمت حتى المساء، وفي المساء أخذني لزيارة بيت لحم، فتجولت بها وبكنيسة الميلاد وأضأت شمعةً هناك على المذبح، فالميلاد مثل القدس والقدس مثل الميلاد عندي، بعد ذلك عدنا باتجاه الخليل وأمضينا ليلتنا هناك عند أحد أصدقائنا. بقيت طول فترة السهرة أسأل عن أحوال فلسطين وأحوال الخليل، خليل الرحمن عن قصة ذلك المستوطن الذي قتل المصلين بالحرم الإبراهيمي الشريف، قصوا علي القصة.

أهم ما قالوا لم يكن القاتل الذي قتل شهدائنا في تلك المجزرة البشعة، وتلك الجريمة الدنيئة، بل كان من ذلك المقاوم المهندس يحيى عياش، ذلك المهندس القسامي الذي ثأر وعاقب الصهاينة من خلال عملياته الاستشهادية، ومن خلال مقاومته للمحتلين المستوطنين. لقد أحببت يحيى عياش مثلما أحببت القدس تماماً، فعياش ذلك المهندس القسامي أعاد لي من خلال حديثهم عنه روح المقاومة وروح التصدي للظلم والطغيان.

في الصباح الباكر ذهبنا إلى مدينة رام الله لكني وجدتها نائمة، ظننت أني سوف أرى المظاهرات تخرج ضد الاحتلال بسبب استشهاد الشاب المهندس، لكني لم أرى سوى قطيع أغنام الأجهزة الأمنية، أجهزة أوسلو التي تمنع الناس من الخروج للتظاهر ضد الاحتلال ونصرةً الشهيد.

وهنا يا ابنتي الجميلة ويا ملاكي الحارس، قلتُ معاتباً مدينة رام الله وراثياً حالها:

رام الله قومي استيقظي أرجوكِ ... وأيقظي كل من أحبوكِ

أحزينة أنتِ فأبكـــوكِ ..... على الشهداء الذين ودعوكِ

وتحالفوا مع المحتل فبالظهر طعنوكِ .... رام الله قومي استيقظي أرجوكِ

بعد أن تجولت قليلاً في مدينة رام الله، ضاق صدري بمواكب الحراسات الفلسطينية التي تحرس كبار الشخصيات وهي تجول وتصول في المدينة المسلوبة المنهوبة من قبلهم، ألا يكفي أن سلبها المحتل الصهيوني، ألا يكفينا ما حل بها، أم هي بحاجة لأن يدخلها أبطال أوسلو لكي يمارسوا بطولتهم عليها ويزيدوا من جراحها جراحاً ؟

وهنا طلبت من صديقي أن يصطحبني بعيداً جداً إلى البحر والى المدن المحتله : هناك الى يافا وحيفا وإلى اللد والناصرة. زرت تلك المدن التي رغم أنها محتلة بشكل كامل إلا أنها كانت خالية من قوات الاحتلال، فهي أصبحت الآن من المسلمات بعد أن تنازل عنها المفاوض الفلسطيني، ذلك المفاوض الذي لم يفوضه أحد لكي يبت بأمر فلسطين، فاوض وباع وتنازل عن كل تلك الأراضي التي احتلت قبل عام 1948، ذلك المفاوض الذي حصر مطالبه في الضفة والقطاع وبعض الشوارع المجاورة لمدينة القدس.

حسبي الله ونعم الوكيل على كل من باع ذرة تراب من تراب فلسطين، فلسطين القدس والأقصى، فلسطين الفاتح عمر بن الخطاب، فلسطين التحرير صلاح الدين، باعوها وحصلوا على بطاقات" الشخصية المهمة " VIP بدلاً منها .حصلوا على المواكب المرافقة ، وملأوا جيوبهم وحساباتهم البنكية؛ بعد أن قبضوا ثمن كل قطرة دم نزفت على تراب فلسطين.

اعلم يا ملاكي الحارس أني لم أحب يوماً من الأيام ياسر عرفات، ولن أحبه أبداً، أليس هو من ناصر الطاغية صدام حسين؟ أليس هو من جر علينا ويلات أيلول الأسود في الأردن؟ أليس هو من طردنا من لبنان ، لماذا عاد إلى فلسطين؟ أعاد إليكم مشواره في تدمير الشعب الفلسطيني، شعب أطفال الحجارة، ورجال الانتفاضة ؟

هناك في الناصرة زرت كنيسة البشارة وأشعلت شمعة فيها. فأنا يا ابنتي تعودت أن أزور الأماكن التاريخية، ولقد اكتسبت هذه العادة من خلال دراستي للأدب الكوري. فلقد زرت كل المعابد في كوريا: معابد وكنائس ومساجد. ولذلك أصبحت أرغب بالتعرف على الآخر، على الحضارة وعلى العادات والتقاليد، أما على الشاطئ وعندما حل موعد الغداء فلقد أكلت السمك وما إن اختلطت رائحة السمك المشوي مع رائحة مياه البحر، حتى قلت كلمة، بل جملة جعلت صديقي يفر من كرسيه راجياً إياي بالسكوت.

لقد قلت أقسمت بالله أن أحرر فلسطين كل فلسطين، أقسم أن أجرد الصهاينة منها، وأقسم أن أجرد أشباه رجال أوسلو منها، وكررت ذلك مخاطباً البحر.

كررت ما قلت وكان صوتي يعلو ويعلو، أما صديقي المقدسي فكان يرجوني بأن أسكت، لم أسكت بل كررت بصوت أعلى وأعلى، ولكني قلت تلك الجمل بلغة لا يفهمها صديقي أو من كانوا بالمكان، قلتها باللغة الكورية لغتي التي تعلمتها عندما درست وعملت بكوريا ، فتحولت تلك الجمل إلى ما يشبه لحن نشيد جميل، فلسطين كل فلسطين، ولا شيء سوى كل الكل في فلسطين.

بعد أن انقضى النهار وحل المساء، كانت أول المدن الساحلية الفلسطينية تزداد جمالاً وتألقاً، تناولت عشائي وطلبت من صديقي أن يوصلني لقريتي، إلى بيت ريما حيث منزل والدي حيث العروس تنتظرني.

في الطريق إلى القرية كنت صامتاً غارقاً بالتفكير، فلقد قررت أنه بمجرد رؤيتي للعروس أن أقول لا وألف لا، هذه العروس لا تناسبني أبداً. هكذا قررت، وعلى هذا نويت.

وصلنا القرية بعد منتصف الليل، كنت أظن أني سوف أجد صعوبة بالوصول لمنزل والدي، ولكني وجدت والدي ينتظرني على مدخل القرية ومعه عددٌ من أبناء عمي، ينتظرني منذ أيام، فلقد صادف أن والدة صديقي المقدسي زارت أمي في عمان ، وأخبرتها أني هناك في فلسطين منذ عدة أيام، والدي كان يعتقد أني قد اعتقلت من قبل قوات الاحتلال على الحدود أنا وصديقي المقدسي الذي كان ينتظرني على الجانب الآخر من الحدود لأننا طوال تلك الأيام لم نتصل بأحد عبر الهاتف أو الجوال، فلقد أطفأت جهازي وطلبت من صديقي أن يطفئ هو الآخر جهازه حتى لا يزعجنا أحد خلال رحلتنا في ربوع فلسطين الأسيرة، والدي كان غاضباً، بل غاضباً ومسروراً، فلقد رآني سالماً و هذا ما كان يهمه . فبرغم أني تجولت وزرت عدداً كبيراً جداً من دول العالم إلا أنها المرة الوحيدة طول عمري التي يقلق بها والدي علي، فأنا زرت معظم دول آسيا مثل كوريا وهونغ كونغ وتايوان والصين واليابان وحتى أني زرت ماليزيا واندونيسيا وتايلاند، أما عربياً فزرت معظم دول الخليج العربي والعراق وسوريا، لم يقلق علي والدي أبداً، أما هذه المرة فلقد قلق جداً وغضب جداً.

وعندما سألته قال : " في تلك الدول هناك قانون وشرائع أما هنا فشريعة الغاب هي التي تحكم، شريعة الصهاينة خونة العهود وناكثي الوعود، هنا شريعة سلطة الفساد والإفساد التي تقوم على الرشوة والعمالة للمحتل، لذلك قلقتُ عليك يا ولدي، اعلم أنك كبير وواعي وأنك قوي جبار يا ابني الغالي، لكني أعلم أنهم كفرة فجرة لا ذمة لهم ولا دين، دير بالك على حالك بكرة ان شاء لله سوف ترى العروس وبعد ذلك تعود إلى عمان، أنت يا ولدي مثل السيف ونحن لسنا بحاجة لسيف في فلسطين، فالسلطة باعت والعدو اشترى، ولا مكان للسيوف هنا، هنا مكان للمحاريث التي تحرث الأرض أو ما بقي من الأرض، محاريث تحرث وأناس يزرعون ولا يمكن أن يصبح السيف محراثاً أبدا "ً.

آه منك يا والدي ويا معلمي الأول، يا من تعلم ولا اعلم ويا من ترى ما لا أرى، رغم أنك لم تدرس ورغم أنك إنسان طيب بسيط جداً ، إلا أنك عميق الفكر والتفكير.

أمضيت تلك الليلة في منزل والدي، بل أقصد منزل جدي الذي ورثه عن جد جد جده، لم يكن منزلاً بل كان عبارة عن شيء آخر يسمونه العلالي، أو القلعة أو القصر، كان شيئاً قديماً جداً تبلغ سماكة جدرانه من مترين في بعض الأماكن إلى متر ونصف في أماكن أخرى، كبير وجميل لكنه بحاجة ماسة للإصلاح والترميم. في تلك الليلة لم أسلم من البعوض الذي أقلق منامي، رغم أن الحداثة قد دخلت إلى قريتنا منذ زمن طويل إلا أن والدي بعد أن عاد إلى فلسطين لم يفضل إدخال الحداثة إلى تلك القلعة التي ورثها عن أبيه وجدوده، فضل أن يعيش على مصباح يضاء بالكاز، ولم يكن يملك أي شيء يمت للحداثة بصلة في ذلك المنزل. رغم أن منزله في عمان أشبه بما يكون بمحل للأدوات الكهربائية الالكترونية والكهربائية فمثلاً، بعد أن عدت من كوريا قمت بتركيب صحن لاقط هو الأكبر على مستوى الأردن، فكان حجمه قائماً مكتملاً يتجاوز الأربع أمتار والنصف، وعندما كنت في كوريا كنت أرسل لأخوتي أحدث الأجهزة الكهربائية والكمبيوترات، ولكن هنا في القلعة لم يكن سوى الحجارة والبعوض.

استيقظت مبكراً على صوت المؤذن، فلقد كان المسجد القديم يقع بجوار منزل والدي، صلى والدي بالمسجد وصليت أنا متيمماً لأني لم أجد الماء فلقد أخذ والدي المصباح معه ليرى الطريق إلى المسجد. بعد أن عاد توضأت وصليت. وأعد لي والدي طعام الإفطار؛ طعامٌ أقسم أن طعمه ما يزال في فمي للآن، رغم أني لم أترك صنفاً من أصناف الطعام إلا وتناولته خارج فلسطين، إلا أن ما أعده لي والدي كان له طعمٌ خاص ورائحة قدسية أخرى.

عندما أحضر والدي صينية القش التي وضع عليها أطباق الطعام وجدت مقلاة مليئة بزيت الزيتون وبها عدة بيضات مقلية، كانت البيضات غارقات بالزيت. وكانت على صينيه القش عدة حبات من البندورة وصحن للزيت وصحن مليء بالجبنة البيضاء.

أنا اكره الزيت وأكره الدهون كثيراً، فلقد تعودت على الأصناف المسلوقة في كوريا والمشوية، أما الزيت فلا، وألف لا، هذا ما قلته لنفسي ولكني تجاوبت مع إلحاح والدي فبدأت بتناول الطعام، ولم أتوقف إلا بعد أن مسحت الأطباق فلقد أحببت خبز الطابون والزيت والزعتر. أحببتُ القلعة، بل إني أصبحت جزءاً من تلك القلعة وتاريخها.

أمضيت يومي مستقبلاً المهنئين بوصولي سالماً غانماً كما يقولون. أهم المهنئين كان بلال: بلال ابن عمي الذي فقد كليته قبل أعوام طويلة عندما كنت في كوريا، وكان هو يلقي الحجارة في طرقات فلسطين. بلال يصغرني بعدة أعوام ما زال يدرس بالجامعة علم الاجتماع وعلم النفس، تلك الجامعة، جامعة المهندس يحيى عياش جامعة بيرزيت. لم نتمكن من الحديث طويلاً فلقد كان المهنئون كثر، مضيت يومي الأول على هذه الحال وجزء من اليوم الثاني، وعندما حل مساء اليوم الثاني توجهت مع والدي لرؤية العروس حسب موعد مسبق.

في ذلك اليوم قدرالله لي أن أرى أجمل وأحلى عيون بحياتي، أحببت عيونها بل سحرتني بعيونها الخجولة ، فطلبت يدها على الفور.

بعد ذلك عدت إلى عمان لأعد لأمور الزواج هناك وما هي إلا أشهر قليلة حتى جاءت لعمان، وتزوجتها هناك، كانت بفضل الله زوجة كاملة متكاملة، هادئة وصامتة، ذات فكر ناضج وعقل واسع، وهنا أقول لكِ يا ملاكي الحارس أني للمرة الأولى بحياتي قد وقعت بالحب وذقت طعمه.

رغم أني عندما سافرت إلى فلسطين أردت أن أقول "لا" لذلك الزواج ولم أسافر إلا إرضاءً لوالدتي الكبيرة المريضة، شفاها الله، إلا أني وقعت في الحب من أول نظرة، هل كان ذلك سحر الحب، أم سحر فلسطين ؟ لست أدري ! ولا أريد أن أدري ! ما يهمني هو أني عشت وما زلت أعيش رغم مرور أعوام طويلة بحالة من الحب المستمر، حبٌّ عماده الاحترام والتفاهم، حب لا غالب له ولا مغلوب. طوال تلك الأعوام لم تحدث مشكلة واحدة أبداً، لا عندما كنت ثرياً ولا عندما أصبحت فقيراً معدما، لا عندما كنت حراً طليقاً أجول معها بجولات سياحية في أجمل الفنادق، ولا عندما أصبحت أنا وهي مطاردين بلا مأوى، ولا عندما أسرت، فهدمت وفجرت القلعة.

ظل الحب هو عماد علاقتنا وما زال، لكن هناك حب آخر بدأ يكبر وينمو بداخلي، حب للجهاد والحجر، حب للتراب والشجر، حب لفلسطين والقدس، وذلك ما إن حملت زوجتي حتى ودعتها بعد أن ضيقت أعمالي التجارية في عمان، وعدت إلى هناك إلى فلسطين لا بل إلى القدس. هناك عملت في إحدى الشركات المقدسية التي يملكها صديق لي وكانت تلك الشركة تعمل في مجال الفولاذ المصهور، ومن هنا ابتدأ المشوار والحكاية، حكاية مهندس على الطريق،وحكاية أمير الظل، حكاية صاحب أعلى حكم بتاريخ القضية الفلسطينية، حكاية المحكوم بسبع وستين مؤبداً، وخمس آلاف ومائتي عام. حكاية صاحب أكبر ملف أمني بتاريخ دولة الاحتلال الصهيوني، حكاية عبد الله البرغوثي.


ابنتي الحبيبة وملاكي الحارس

عندما دخلت إلى فلسطين لم يكن هدفي العمل وجمع المال فلقد كنت أملك من المال ما يكفيني ويكفي أمي أضعاف أضعاف ما يمكن أن أصرفه طوال حياتي، ولم أبحث عن الحب أو الزواج فلقد كنت قد احببت وتزوجت ، دخلت فلسطين لأني أقسمت بالله أن أعمل على تحريرها من المغتصبين الصهاينة ومن فاسدي سلطة أوسلو، كيف ؟ لا أعلم .. كل ما كنت أعلمه هو أني حملت بداخلي الأمل وإخلاص النية على تحقيق هدفي، فحولت أملي وحلمي إلى واقع ملموس كرست لأجله كل طاقاتي وإمكانياتي . بعد الله استعنت بالكتمان والصمت لعلي أصل إلى طريق الحرية والتحرر.

عندما اتخذت ذلك القرار كانت فلسطين هادئة جداً ؛وكانت المفاوضات تسير بلا انقطاع. كان التنسيق الأمني بين قوات الاحتلال الصهيوني وقوات الأمن الوقائي والمخابرات الفلسطينية ، على أعلى مستوى . وكم فوجئت عندما علمت أثناء زيارتي الأولى لفلسطين أن هناك اثنين من أبناء قريتي وعائلتي معتقلان على نفس القضية وهي الانتماء لحركة حماس، وأن الاثنين محكومان بعدة أعوام، هذا غير مهم. المهم أن إحدهما معتقل ومحكوم عند الصهاينة، والآخر معتقل ومحكوم عند كلاب الصهاينة: عند السلطة الفلسطينية. قاوما معاً فسجنا عند المحتل ،وكلب المحتل، لذلك أخذت من الكتمان والعيش بعيداً بالظل وسيلة لي لعلي أصل لغايتي.

قبل دخولي لفلسطين في زيارتي الثانية أدخلت كل ما يلزمني من أدوات وأجهزة خاصة تساعدني على مقاومة المحتل، وعندما أقول كل ما يلزمني أعني ذلك بكل ما تحمل الكلمة من : الإشارات اللاسلكية وأجهزة الكترونيه وأدوات كهربائيه ومواد تستعمل لتنفجر والكثير الكثير، دخلت دون أن ينتبه أحد، مخبأة بداخل أجهزة كهربائية عادية، زذلك بسبب قوة ومتانة التنسيق الأمني بين أعدائي وأعدائي .. أدخلت ما أريد إدخاله من أمام عيونهم فكل واحد منهم كان يفهم أن الآخر سوف يقوم بمهمة التفتيش نيابة عن الآخر. اللهم أضرب الظالمين بالظالمين.

وما إن استقريت بعملي بالقدس حتى اشتريت عدداً من أجهزة الحاسوب الكمبيوترية، لأدمجهما وأوحد قوتها لكي أتمكن من اقتحام شبكة الانترنت .وأصبحت كما كنت في كوريا أدخل المواقع التي أريدها، أرى محتواها وآخذ منه ما أريد والاهم من ذلك هو الكتمان، أدخل بهدوء، وأخرج بهدوء. ولم يكن قصدي التخريب بل كان قصدي وهدفي أن أعرف الآخر، أعرف عدوي وأعرف قدراته، لم أكتف بذلك بل وخلال مدة قصيرة استطعت اقتحام شبكة الاتصالات الخلوية الصهيونية شركة " سلكم" وشركة "موتورولا" وشركة "أورانج" ، تلك الشركات العاملة في مجال الاتصال في الكيان الصهيوني المعادي، أما عند سلطة الفساد والإفساد فكان هناك شركة واحدة هي شركة جوال، فاقتحمتها هي الأخرى.

مكنتني تلك الاقتحامات من السيطرة بشكل كامل على المكالمات الواردة والصادرة، أما المهم فكان سيطرتي على استراق السمع من تلك الأجهزة وهي في حالة سكون، أي أستمع لما يجري من حديث في المكان الموجود به أي من تلك الأجهزة.

بعد ذلك بدأت بعداد الأدوات الالكترونية والمواد الكيماوية اللازمة لصناعة العبوات المتفجرة والناسفة بمختلف أنواعها وأشكالها، كل ذلك تم بصمت.

بقيت على هذه الحال أشهر عدة بحيث أعمل في الشركة من ناحية، وأقوم بالإعداد لمعركتي من ناحية أخرى فلم أكتفِ بالجلوس خلف أجهزة الحاسوب بل أصبحت أمضي أيام العطل أجول في مدن فلسطين المحتلة من أقصى الجنوب أي من أم الرشراش - أو كما يسمونها - إلى الجولان وبحيرة طبريا. وبذلك عرفت عن الطرق وكيفية التنقل. وأكثر ما ساعدني هو جواز سفري الأجنبي ولغتي الانجليزية ذات اللكنة الأمريكية، فأصبحت أعرف فلسطين المحتلة عام 1948 أفضل مما أعرف مدن الضفة الغربية.

لم أكن أزور القرية إلا نادراً رغم إلحاح والدي الذي ما زال هناك فوالدي أصبح يفضل البقاء في القرية ولا يعود إلى الأردن إلا في المناسبات. ولكن هذا الحال لم يدم طويلاً أكثر من أشهر معدودة، أما السبب فهو ، يا ملاكي الحارس يا ابنتي الحبيبة، قد اقترب موعد مولدك، وأحببت أن تولدي هنا في فلسطين، ولذلك كان لزاماً علي أن أصلح وأرمم قلعة جدكِ القديمة فأصلحتها وأعدت لها رونقها وجمالها وأدخلت عليها كل أسباب الراحة فمثلا، لاحظت أن الكهرباء تنقطع باستمرار بعد أن أوصلتها للقلعة وكان السبب هو رداءة الشبكة الكهربائية في القرية، ولذلك قمت بتركيب نظام طاقة شمسية فوق سطح القلعة وهكذا أصبحت أملك الكهرباء بشكل دائم ومستمر ولم أترك أداة ووسيلة من وسائل الراحة إلا واشتريتها ووضعتها في القلعة، وأنشأت القلعة بالإنشاء الحديث الجميل ولكني لم أكن أبيت في القرية بل كنت أقود سيارتي عائداً إلى شقتي في القدس، حيث أمضي الليل متعقباً ومستطلعاً لعدوي.

وقبل موعد مولدكِ بشهر واحد أصبحت القلعة جاهزة فطلبت من والدتكِ الحضور من عمان إلى فلسطين ولم تكن تعلم ما قمت به فظنت أننا سوف نسكن في القدس، أو رام الله ولكنها رسمت ملامح الحزن عندما قلت لها أننا سوف نسكن في بيت والدي في القرية، فهي ظنت أن القلعة على حالها ،مجرد كومة من الحجارة كما تركتها قبل أن تسافر لعمان، ولكن سرعان ما تغيرت ملامح الخزن لتصبح ملامح فرحٍ وسرور عندما وجدت البيت بأحلى حلة وأفضل حال.

وفي يوم 27/9/1999 تلقيت اتصالاً من أحد أخوالكِ يبلغني فيه أنه نقل والدتكِ إلى المشفى في رام الله لتلدكِ، فحضرت مسرعاً من القدس.

ابنتي تالا، هذا هو الاسم التي أسميتك إياه قبل أن تولدي لم أكن أحظى بأي وقت للفراق عندي إلا لشيء واحد وهو متابعة أعدائي، أما بعد أن ولدتِ وأصبحتِ حقيقة وواقع، انقلبت حياتي رأساً على عقب، فلقد أصبحت ومنذ اليوم الأول لولادتكِ لا أذهب إلى عملي في القدس أو إلى شقتي هناك لمتابعة ما كنت أقوم به.

أصبحت أمضى معظم وقتي في القرية برعايتي لكِ ورعاية أمكِ التي أحب، تالا هل تعلمين أنك ارتديت مائة فستانٍ وأكثر في أول مائة يوم لكِ في هذه الحياة، فلقد كنت لا أكف عن شراء الملابس لكِ ولا الألعاب ولا الهدايا ولا كل ما أراه مناسب لكِ أو حتى غير مناسب.

تالا أنت ولدتِ بعد حرمان طويل، حرمان لم أكن أشعر به وأحس، ولكن عندما أمسكت بكِ بعد ولادتكِ بثوانٍ من يد الطبيبة التي ولدتكِ، حتى شعرت بمدى ذلك الحرمان من نعمة الأولاد والأطفال.

فكما قال رب العالمين "المال والبنون زينة الحياة الدنيا".صدق الله العظيم

المال كنت أملك منه الكثير والكثير، أما البنون فأنتِ أول البنون يا ملاكي الحارس، هل تعلمين أن اسم الطبيبة التي كانت تشرف على حالة أمكِ في شهرها الذي أمضته في فلسطين كانت فلسطين نعم فلسطين، هو اسم الطبيبة التي رأيتِ على يدها النور.

قالت لي "فلسطين" أنك أول أب أراه بداخل فلسطين طوال عملي كطبيبة يداخل غرفة الولادة ويحتضن طفلته قبل أن تحضنها أمها، وقبل أن نجري لها الفحوص اللازمة. فقلت ما دامت فلسطين هي من ولّدت زوجتي على أرض فلسطين فلا شيء غريب أو عجيب.

هنا يا ابنتي شعرت أن القرية بحاجة إلى بعض المشاريع التجارية ولذلك افتتحمت محل للأدوات الكهربائية ومحل آخر للسوبر ماركت، وأصبحت أمارس التجارة مرة أخرى، بالإضافة إلى عملي في القدس بل أنني وسعت هذه التجارة فأصبحت أستورد السيارات المستعملة من كوريا عن طريق عمان وأتاجر بها.

أصبحت أتاجر بالعقارات، فلقد أعدتني لحياتي السابقة من تجارة ومنافسة بالسوق، وأبعدتني عن هدفي الذي كنت أسعى إليه، بقيت طوال عامٍ تقريباً على هذا الحال، وقبل موعد ميلادكِ الأول جاء موعد قطف الزيتون ،ولذلك عملت على أن تسير أعمالي التجارية عن طريق من يعملون معي وتفرغت لقضاء عدة أسابيع في قطف الزيتون، وكنت أصطحبكِ مع جدكِ وأمكِ إلى كروم الزيتون الخاصة بجدك لنتعاون على قطف الزيتون.

هناك تعلمت المشي وسرتِ أول خطواتكِ في جبال بيت ريما، في تلك الأيام أعدت تنسيق فكري مرة أخرى وأدركتُ أنني ما عدت عبد الله أمير الظل بل أصبحت مجرد تاجر مهندس يهمه جمع المال، المال الذي لم أكن بحاجة إليه أصلاً.

لم أعد مهندساً على الطريق بل مجرد مهندس يسخره عمله لإنجاح مشاريعه، لكن ذلك لم يدم فما أن أكملت عامكِ الأول أي بتاريخ 27/9/2000 حتى قام ذلك القذر شارون بتدنيس المسجد الأقصى، واندلعت الانتفاضة الثانية، وكنت أنا هناك في جبال بيت ريما أقطف الزيتون وأراقب بهدوء، حتى أقرر ماذا سوف أفعل.

كنت محتاراً فأنا وحدي لا أستطيع مقاومة الاحتلال، فبدأت أفكر دون جدوى، دون أن أصل إلى طريق أو إلى نقطة بداية أبدأ من عندها، فأنا تكاد تكون علاقتي مع محيطي مقطوعة، أو شبه مقطوعة، فلم أكن طوال وجودي بفلسطين أبني وأقيم العلاقات مع أي أحد ولا حتى مع بلال، بلال ابن عمي وصديقي فلقد كان هو بعالمه الخاص وأنا كنت بعالمي الخاص.

بعد أيام قليلة على اندلاع الانتفاضة، قدر الله أن تصابي يا ابنتي يمرض عجز عن علاجه أطباء القرية، ولم يكن من السهل نقلكِ إلى رام الله؛ لأن قوات الاحتلال حاصرت قريتنا، ووضعت حواجز ترابية على الطرقات منعت تنقل السيارات الخاصة.

فانطلقت إلى إحدى القرى المجاورة بسيارتي ومن هناك ركبت مع والدتكِ ومعكِ بأحد الباصات لكي نصل إلى رام الله. قدر الله لكِ أن تمرضي ولكنه قدر لي أن أرى بداية الطريق، طريق الجهاد طريق عز الدين القسام، طريق يحيى عياش.

في منتصف الطريق وقبل أن يصل الباص لمدينة بيرزيت توقف، وتوقفت أمامه الكثير من الباصات وأغلقت الطريق، فنزلت لكي أرى ما المشكلة وأعرف سبب اغلاق الطريق، هناك وجدت باصين يرفض أحدهما السماح للآخر بالمرور قبله، ووجدت شخصين فاجرين هما السائقين فلقد كانا يكيلان السباب والشتائم للذات الإلهية .كانا يكفران بأشنع الألفاظ، بل كانا يتقنان لفظ كفرهما.

عند ذلك الموقف ابتسمت، نعم يا ابنتي ابتسمت؛ فشر البلية ما يضحك، ابتسمت وعدت إلى الباص الذي كنت أستقله معكِ أنتِ وأمكِ لكني لم أعد لأصعد في الباص؛ بل عدت لأنتزع ربطة عنقي وجاكيتي وساعتي، فنزعتهما وشمرت عن ذراعي وانطلقت عائداً إلى السائقين الفاجرين. التقطت الأول من عنقه وقلت له كيف تسب ربي يا أيها الكافر الفاجر، ألا تعلم أن الذي تسبه هو ربي أنا: رب عبد الله البرغوثي ؟ قبل أن يجيب انهلت عليه باللكمات والضربات حتى أدميته بين ذراعي وألقيت به إلى وادي بجوار باصه، وتوجهت فوراً إلى السائق الآخر الذي ما إن تلقى اللكمة الأولى حتى ولى هارباً إلى الوادي الآخر، صعدت بباصه وقدته بعد أن أنزلت ركابه ليسقط في الوادي، وفعلت ذات الشيء بالباص الآخر.

لم يتجرأ أي من الركاب على سؤالي عما فعلت، فلقد كانت قوتي مفرطة ونظرات عيوني قاتلة، عندها صحت قائلاً: أنا عبد الله البرغوثي من كان له حق عندي فليأتِ إلى قريتي إلى بيت ريما ليأخذ حقه، ولكني أقسم بالله العلي العظيم أن لا أجعله يخرج حياً من بين يدي، فمن يسب الذات الإلهية لا مكان له عندي سوى القبر.

تركتهم بذهولهم بعد أن عادت حركة الباصات إلى مجراها الطبيعي، ولكن هناك يد أمسكت بيدي وقال صاحبها: ما شاء الله حديد، حديد الله يقويك يا ابني، كان من أمسك بيدي شيخٌ كبيرٌ في السن ظل ممسكاً بيدي ويكرر: حديد ما شاء الله حديد، صعدت إلى الحافلة وإذا به يصعد معي فلقد كان هو الآخر من ركاب نفس الحافلة بل كان من أبناء عائلة البرغوثي، عائلتي الذين يسكنون بتلك القرية المجاورة.

قبل أن نصل إلى الحافلة كان الخبر قد وصل فلقد قص سائق الحافلة، القصة دون أن ينتبه أنها قصة أحد الركاب الذين يركبون معه بنفس الحافلة فما إن وصلت مع الشيخ حتى قال هذا هو، ولم يكمل، أما زوجتي فقالت : ألم يكفيك ما فعلته في عمان؟ بعمان هناك بعد أن تزوجت بعدة أسابيع، ذهبت لمقابلة أحد مدراء الشركات التي أتعامل معها. وكان يسب أحد الموظفين عنده، ولكن ما أثارني هو تجرؤه على الذات الإلهية فطلبت منه أن يكف عما يقول ، إلا أنه حول تلك الشتائم لي أنا وربي وديني أنا، فما كان مني سوى أن انهلت عليه ضرباً مبرحاً ، فكسرت له فكه وواحدة من عظام صدره ويده، مما جعله يرقد بالمشفى لما يقارب الشهرين ، وجعلني مطارداً من قبل قوات الأمن الأردني .أعلم أني كنت قاسياً أو حتى كما قال سائق الحافلة فلقد قال أنه رأى وحشاً غاضباً ينهال بالضرب على السائقين، أعلم أني قاسٍ؛ ولكن أعلم أيضاً أن تربيتي الدينية بدولة الكويت تركت بداخلي أثر كبير جداً من ناحية رفضي مثل هذه التصرفات التي أصنفها كفر لا أكثر ولا أقل، فمن يشتم الله ورسوله هو كافر مرتد.

بعد أن أصبحت مطلوباً ومطارداً من قبل قوات أجهزة الأمن الأردنية، حاول عدد من أقاربي وأصدقائي التوسط لي مع ذلك المدير الذي كان ما زال يرقد في المشفى، إلا أنه رفض وتوعد، بل أنه عاود شتم الذات الإلهية رافضاً أي وساطة متوعداً مهدداً، لكن ذلك لم يطل كثيراً ففي إحدى الليالي وقبل طلوع الفجر أيقظته من نومه في المشفى، أيقظته وأنا أضع في فمه فوهة مسدس وقلت له اعلم أني لم أضربك إلا نصرة لله عز وجل واعلم أني سوف أقتلك إن لم تتنازل عن القضية فأنا لا أتوعد ولا أهدد أنا جئت لأخبرك فقط ما الذي سوف أفعله إن لم تفعل ما أمرتك به، سحبت فوهة المسدس من فمه وابتسمت له وتركته يكمل نومه، هذا إن نام، وما إن طلع الصبح حتى كان قد توجه إلى إحدى مراكز الشرطة ليسحب البلاغ ضدي ويسحب شكواه.

وما هي إلا أيام معدودة حتى وصلت عن طريق أحد أقاربي لقاضي أسقط عني المطاردة والحق العام، فأنا أومن إيماناً قاطعاً أن من يوجه عمله لله فلا غالب له.

ما إن انطلقت الحافلة حتى انطلقت أسئلة ذلك الشيخ البرغوثي السؤال تلو السؤال، كان يسأل بحماس وقوة وخاصة عندما علم أني مهندس. بعد ذلك سارت الحافلة نحو رام الله، وأنزلتنا عند أحد الحواجز الترابية وما هي إلا عدة خطوات حتى علقت بحذائي سلسلة ذهب كبيرة معلقاً بها قطعة ذهب جميلة.

رفعت السلسلة وزوجتي تراقب يدي اللتين ارتقتا إلى السماء، فلقد رفعت يدي مخاطباً ربي شاكراً إياه على هذه العطية وهذه اللفتة الجميلة، فأنا من عادتي أن أخاطب الله عز وجل دون تكليف ودون حواجز، فأنا عبده وهو ربي ولم أخلق إلا لأعبده، بهذه البساطة أتعامل مع الله عز وجل. وضعت إعلان عن السلسة الذهبية في مدينة رام الله ،لكن لم يطلبها ،أحد فبقيت معلقة في رقبة زوجتي ولكنها تحولت من ذهب إلى رصاص بقدرة قادر، وأصبحت جزء من وقود المعركة التي لم تبدأ بعد. وبعد هذه الحادثة استشهد أحد أقاربي في القرية المجاورة فذهبت هناك مع والدي لنشارك في جنازة الشهيد.

صلينا الظهر وانطلقنا للمقبرة ونحن نكبر ونهلل ونهتف ونتوعد بالانتقام. بعد أن وري جثمان الشهيد الطاهر الثرى، بدأ أبطال السياسة بإلقاء الخطب العصماء، فتركتهم وتوجهت لسيارتي هناك كان موعدي مع أبي لكني لم أجده؛ يبدو أنه فضل سماع السياسيين وكلامهم الذي لا يروي عطشان، فهو مثل ماء البحر المالح : لا يزيد شاربه إلا عطشاً.

عند السيارة وجدت الشيخ الذي سبق وأن رأيته يوم مرض ابنتي تالا، قال لي ما رأيك بأن تذهب معي لنتناول طعام الغداء معاً؟ قلت له: أني مستعجل، قال: ما رح أأخرك أكثر، بدي أغديك وأعطيك أمانة توصلها لصاحبها.

ما إن وصلت لبيته حتى طلعت لي زوجته الحاجة، كانت بشوشة فرحة بقدومي، سلمت علي وقبلت رأسي، رأسي أنا قبلته تلك الحاجة، قالت لي: أنتَ تذكرني بولدي، هو هناك بعيداً في المعتقل، فهو معتقل منذ أعوام طويلة منذ الانتفاضة الأولى.

وضعت الحاجة الطعام فأكلت وأنا مشغول بالإجابة على أسئلة الشيخ، أسئلة كثيرة فلقد قال لي مثلاً إذا دخل علينا جندي صهيوني ماذا سوف تفعل؟ قلت: آكله حياً فلا داعي للطعام الذي أعدته الحجة، قال: بالله عليك، قلت: والله هذا ما سوف أفعله. أسئلة من هذا النوع ومن نوع آخر. نوع لم أجب عليه لكني اعتقد أن الله جعل الحاج يعرف الإجابة رغم أني لم أجب.

بعد إنتهاء الطعام شكرته وشكرت زوجته وهممت بمغادرة منزله، ظل صامتاً لكني ما إن اجتزت جزءاً من حديقة المنزل حتى صاح علي وطلب مني العودة فعدت، خيراً يا عمي الحج ؟ قال: ألم تنسَ الأمانة؟ ألم أقل لك أني سوف أعطيك أمانة لكي توصلها لصاحبها؟ ظللت صامتاً فقال لي: اتبعني واحمل معك هذا الفأس، حملت الفأس وسرت خلفه حتى وصلت إلى جوار أحد أشجاره فقال: احفر هنا، احفر بهدوء حتى لا تتلف ما بداخل الأرض، بدأت أحفر صامتاً محتاراً، أجن هذا الشيخ أم أني أنا المجنون، حتى أتبعه إلى هنا واحفر في المجهول؟

بعد مرور فترة وصلت لكيسٍ أسودٍ وهنا قال لي: احفر بحذر، فقلت له: لماذا بحذر؟ قال: والله يا ابني لا أدري إنما احفر بهدوء وحذر. واصلت الحفر وأخرجت كيساً أسوداً كبيراً جداً، وبداخله وجدت حقيبة جلدية معلقة، فقال لي ارفعها وألقي بالكيس بعيداً، واترك الحفرة فأنا سوف أعود فيما بعد وأعاود ردمها، قال لي: اسبقني إلى البيت ولا تدع أحد يراك فأنا يا ولدي بطيء الحركة كما ترى، أسرع بالله عليك. أسرعت ووصلت، ووصل هو أيضاً. قلت له: لمن أوصل هذه الحقيبة هذه الأمانة، قال لي: أوصلها لصاحبها، فقلت له: بالله عليك يا عمي الحج لا تصر علي فصبري بدأ ينفد فمن صاحب الحقيبة؟ قال أوصلها للمهندس.

أي مهندس يا عمي الحج، قال: وهل يوجد مهندس بفلسطين سوى المهندس يحيى عياش، فقلت له عياش قد استشهد، قال: أعلم لكنها حقيبته وضعها عندي أمانة قبل أن يترك الضفة ويتوجه إلى قطاع غزة، قبل أن تصل له يد الغدر والخيانة قبل أن يستشهد، خذها وأوصلها له.

ظللت صامتاً حائراً، فقال: ألست مهندس؟ ألست أنت من غضب لله وغضب لكرامة نبيه محمد × قبل أيام؟ ألم تقل أنك سوف تأكل الجندي الصهيوني حياً وبدون ملح؟ خذها يا ولدي فصاحبها استشهد منذ زمن وابني في الأسر منذ أعوام طوال ومحكوم عليه بأعوام طويلة، خذها بالله عليك فهي لك أنت، أنت صاحبها وهي صاحبتك، خذها وسر على درب المهندس عياش، حرام أن تبقى مدفونة في الأرض بعد أن اندلعت الانتفاضة وبعد أن بدأنا نودع الشهيد تلو الشهيد.

كان يتحدث والدموع تجري من عينيه.. حملتها وقبلت رأسه مودعاً هائماً في ملكوت الله، عندما وصلت إلى سيارتي لم أجد والدي فلقد تأخرت عليه كثيراً، فذهب مع أحد أقاربنا عائداً للبيت. أما أنا فقدت السيارة ووضعت الحقيبة في أحد محالي التجارية الفارغة التي كنت أملكها في القرية.

لم أتجرأ على فتحها ورؤية ما بها. كنت أخشى من تلك الكلمة "الأمانة"، ألم يحمل الإنسان الأمانة وكان جهولاً بعد أن رفضتها الجبال؟

أأحمل حملاً فوق طاقتي: حمل الشهيد وأمانته؟ بقيت الحقيبة "الامانة" هناك أسابيع وأشهر قبل أن أحسم أمري وأفتحها، خلال تلك الفترة بدأت أعيد توطيد علاقتي مع بلال ابن عمي، وكانت أسئلتي كلها عن عياش وكان هو يحب أن يتحدث عن عياش كثيراً، فعياش كان طالب في جامعة بيرزيت، وهي جامعة بلال في تلك الفترة. كان بلال ناشطاً بالحركة الطلابية الإسلامية التابعة لحركة حماس ،يشارك بكل الفعاليات وكان أيضاً بعامه الأخير ولم يتبقَ على تخرجه سوى عدة أشهر فقط.

كل هذه الأحداث جرت قبل أن تكمل الانتفاضة شهرها الأول، في تلك الأثناء كنت أردد كلمات متشابكة تجسد حالتي التي وصلت إليها في حيرة من يبحث عن النور في آخر النفق؛ ذلك النور الذي سوف أستدل به على طريقي وبداية المشوار.

فقلت الكلمات المتشابكة التي تعبت من تردادها على نفسي بصمت، قلتها هذه المرة بصوت عالٍ وأنا أقف على إحدى التلال المطلة على قريتي.

قلت:

لا تكن يا ابن غالبٍ حمامة بسرب حمام ..... فهذا هو الذل والخزي والاستسلام

وكن صقراً يحلق كالقسام .... بسماء العزة وأرض الإسلام

كن فارساً جواداً مقاوماً..... وعزيزاً ذا نخوة كالمعتصم

أضرب عدوك بقوة وداهم.... كل وكرٍ من أوكار الظلام

فأنت نور الحق الهمام ... وأنت شيخ المنبر والإمام

اجعل عدوك يتجرع السم .... فلقد عاث بالدنيا فساداً وظلم

كن لأخوتك عوناً رحيماً.... وكن على عدوك كنار الجحيم

لا ترحمه واجعله يتألم .... فلقد قتل الشيخ والطفل والأم

اجعل القرآن بصدرك ختم.... واقتدي بنبيك سيد الكرام

إن عز الزيت وانعدم .... فدمك زيتٌ يا ابن القسام

دمك نوراً يا عز الإسلام .... قاوم عدوك بقوة ولا تنهزم

تقدم الصفوف وكن بالإمام ... فأنت المصلي القائم تقدم

تقدم اضرب عدوك وهاجم .... وكن عليه بالرصاص كريم

فأنت الجواد ابن الكرام ... وهو الماكر الغادر اللوام

ثق بنصر ربك فهو قادم ... ولا تخش من عدوك فهو مهزوم

كبر وهلل يا ابن القسام ... وسرعلى درب العياش يحيى الهمام

فإن استشهدت الجنة لك مقام ... وإن انتصرت فالعزة لك يا ابن القسام

عقدت العزم على أن أبدأ المقاومة وأن أسر حاملاً لواء المهندس. نزلت عن التلة وتوجهت إلى منزل عمي لأقابل بلال ولكي أبدأ مشواري.

عندما وصلت لمنزل عمي وسألت عن بلال قيل لي أنه لم يأتِ إلى البيت منذ أيام طويلة وأنه يمضي وقته بين الجامعة بمدينة بيرزيت ومدينة رام الله القريبة منها ولا يأتي للقرية لأن الطرق مقطوعة من قبل قوات الاحتلال والمواصلات صعبة جداً.

كان إيجاد بلال في تلك الفترة مشكلة بحد ذاتها؛ فهو لا يملك جهاز اتصال نقال ولا مكان ثابت يسكن فيه، ولأن بلال كان يحصر علاقاته في الجامعة إلا مع أبناء القرية بشكل عام. لكني ولأني قد حسمت أمري بقتال الصهاينة كان واجباً علي أن أجده للأسباب التالية:

أولها: أن بلال ينتمي لكتلة حماس الطلابية في الجامعة وهو شخص هادئ وصامت، وصادق، ثانيها: لأني أثق به من الناحية الأمنية والأخلاقية، فبلال لم يكن له أي اهتمامات سوى الدراسة والعمل التنظيمي، وثالثها: وهو الأهم والأقوى هو أني استطعت أن أمسك بلال متلبساً وهو يقوم بإحدى أعمال المقاومة.

ففي أول أيام الانتفاضة قام بلال مع مجموعة من أنصار حركة حماس بكتابة شعارات على جدار القرية وأسوارها. ولكن ما لم يكن في حسابهم هو أنه رغم قيامهم بهذه الفعلة في جوف الليل، إلا أن إحدى كاميرات المراقبة المثبتة بشكل غير ظاهر على أحد المحال التجارية التابعة لي قد صورتهم، ورغم أنهم ملثمون إلا أنهم كانوا يتحدثون ويذكرون أسماء بعضهم البعض. ولسوء حظ بلال أنه كان المسئول عن تلك المجموعة وكان ذو جسد ضخم بشكل واضح مما جعلني أتعرف عليه صورةً وصوتاً واسماً.

ولذلك كنت أريد بلال وأريد ما يملكه ، أما ما يملكه فلم أكن أملكه أنا ولم أستطع امتلاكه حتى بعد سنوات من قتالي للعدو الصهيوني.

وهنا عدت إلى منزلي، قلعة أبي: جدكِ ، لاستبدال سيارتي بسيارة أخرى قادرة على المشي في طرق جبلية وعرة وطرق ترابية لأتمكن من الوصول إلى رام الله.

ما لا تعلمينه يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس هو أني كنت أملك في تلك الفترة عدداً من السيارات المتنوعة، فالسيارات كانت إحدى هواياتي سواء بإصلاحها وتحديثها أو قيادتها، وعندما أقول قيادتها أعني السرعة والاستعراض، فلأني كنت أعمل ميكانيكياً في طفولتي، ولأني كنت أمتلك كراج لصيانة السيارات بعد إنهائي للدراسة الثانوية الميكانيكية، فقد كنت أمضي أوقات فراغي من العمل الذي كان قليلاً جداً في تلك الفترة، كنت أمضيه بممارسة هواية سباق السيارات المعروفة باسم (Speed Test)، ولا أذكر أنه مر شهرٌ واحد علي دون أن أتعرض للمخالفات المرورية بسبب السرعة الزائدة أو بسبب قيادتي بشكل متهور كما كانوا يسجلون علي المخالفات.

أما الأهم في موضوع قيادة السيارات فهو أني أصلاً لم أكن في تلك الفترة أملك رخصة لقيادة السيارة ،فلقد كان عمري ما بين الخامسة عشر والثامنة عشر، ولكني وبسبب حبي للقيادة قمت بتزوير أول بطاقة في حياتي وهي بطاقة رخصة القيادة، لم يكن تزويراً صعباً ولكنه لم يكن سهلاً أيضاً، ولكني ما إن بلغت عامي الثامن عشر حتى استخرجت بطاقة لرخصة القيادة المحلية والدولية أيضاً، ومع ذلك كنت في بعض الأحيان أضطر لاستعمال إحدى الرخص المزورة، عندما يتم حجز رخصتي القانونية بسبب طريقة قيادتي.

ففي بداية عام 2000 قمت بشراء سيارة حديثة صنعت في نفس العام ولكني بدل أن أقودها أبقيتها لما يزيد عن شهر ونصف في إحدى محالي التجارية وهو محل يشبه الكراج كنت أقوم به بصيانة سياراتي، وبعد مضي الشهر والنصف كنت أنهيت تعديلاتي على محرك تلك السيارة وحولته إلى طاقة حصانية أعلى وأقوى، واستبدلت عدداً من قطع تلك السيارة الجديدة التي لم تسر على الشارع بعد، بقطع أخرى تحولها من سيارة عادية إلى سيارة رياضية قوية جداً، لكنها خفيفة الوزن أيضاً، فلقد أزلت منها عدداً من القطع التي اعتبرتها ثانوية وثقيلة وتضعف المحرك. مثل مكيف السيارة وكامل تجهيزات التدفئة. ولكِ أن تتخيلي كيف أصبحت السيارة.

هنا يا ابنتي العزيزة أجد نفسي أقفز من ذكريات قديمة إلى ذكريات أقدم فموضوع السيارات وقيادتها كان هو السبب والدافع وراء تعلمي وإتقاني للتزوير، في البداية كان تزوير رخصة القيادة ولكني بعد ذلك وعندما سافرت إلى كوريا أدركت أن جواز سفري الأردني غير مرحب به في العديد من الدول ولكي لا أبقيه عائقاً أمام رغبتي في النجاح في المجال التجاري فلقد دخلت عالم تزوير الأوراق والبطاقات والجوازات، ولأني كنت لا أثق في أحد فلقد أخذت على عاتقي القيام بذلك لوحدي وبمساعدة أفضل الأجهزة الالكترونية الخاصة بذلك المجال.

أما إن سألتني هل قمتُ بالاتجار بتلك الأوراق والهوايات فأقول لكِ لا وألف لا، فكل ما كنت أسعى إليه من خلال تلك الأوراق المزورة هو سهولة الحركة والتنقل، وما ساعد ذلك هو إجادتي لأربع لغات، إجادة أبعدت عني الشكوك وسهلت علي انتحال تلك الشخصيات ذات الجنسيات واللغات المختلفة والمتنوعة.

أعود بك يا ملاكي الحارس من تلك الذكريات البعيدة جداً إلى البحث عن ذكريات أقرب وهي البحث عن بلال، استبدلت سيارتي بأخرى وانطلقت بأخذ الطرق الجانبية الترابية الوعرة باتجاه مدينة رام الله. وصلت ليلاً فما كان مني سوى التوجه لمدينة القدس إلى شقتي هناك التي كنت ما أزال أحتفظ بها حتى تلك اللحظة، رغم الدمار والخراب الذي شاهدته بطرق وشوارع مدينة رام الله إلا أن مدينة القدس لم يكن بها من ذلك الخراب شيءٌ.

أمضيت ليلتي ساهراً ومبحراً في الشبكة العنكبوتية منطلقاً ومتلمساً متاهاتها ومكتشفاً مواقع العدو الصهيوني من خلال تلك الشبكة ومن خلال اقتحام مواقع شركات الاتصال.

نمت عدة ساعات وتوضأت متجهاً إلى الأقصى لأصلي صلاة الفجر، وصلت ولكني لم أصل، وصلت للبوابة تلو البوابة لكني منعت من الدخول للصلاة رغم جوازي الأجنبي، قالوا لا صلاة للمسلمين اليوم، أغرب عن وجهنا، حاولت وجادلت وأصررت ولكنهم رفضوا وبأعقاب البنادق على جسدي انهالوا، ورغم قوتي الجسدية إلا أن بنادقهم الموجهة نحوي مهددةً إياي، وأعقاب بنادق أخرى تخط آثارها على جسدي، فما كان من ذلك الجسد إلا أن سقط أرضاً من شدة الألم :سقط مضرجاً بالدماء.

حملني بعض من كانوا في المكان ممن لم يسمح لهم بالدخول للصلاة، حملوني لبيت قريب فضمدوا جراحي، وتوقفت دمائي عن النزف.

بعد ساعات قليلة ودعتهم رغم ألم الجسد، لعلي أتمكن من عقاب المحتل الصهيوني على ألم النفس والروح، ألم الكرامة ألم إن أضرب وأمنع من أداء صلاتي لربي.

وهنا يا ابنتي الحبيبة سوف أضيف إلى قاموس كلماتي وقاموسي كلمات المقاومة، كلمة خاصة بي أنا وهي الكلمة التي اعتبرها الوصف الكامل المتكامل لما قمت به بل هي الدافع المجهول بالواجب الجهادي.

تلك الكلمة قد تمر عند البعض مرور الكرام، فهي تعتبر ضعيفة ولا تعتبر من الكلمات الرنانة التي ترددها ألسنة الثوار والمواطنين مثل كلمة الانتقام، وكلمة الثأر وكلمة الإبادة والسحق، كلمة كانت أبسط من ذلك بكثير وأعمق من ذلك بكثير


العقاب

العقاب هو تلك الكلمة التي تصفُ ما أريد القيام به تجاه عدوي، لا أريد أن أثأر لنفسي ولا للجرحى والشهداء، ولا أريد أن أنتقم فالانتقام أعمى ويعمي صاحبه. والثأر أعني ما هو إلا رد فعل سريع متهور.

وهنا أقول أن كل الثورات تمر بعدة مراحل:

أولها: البداية، ويطلق البداية عادة إما شخص مجنون متهور أرعن وإما شخص عبقري حكيم.

ثانيها:الوقود، فوقود الثورة إما أن يكون من أشخاص شجعان ذوي رؤية واقعية بالثورة والمقاومة، وإما أن يكون من أناس بسطاء مشوا مع الموج دون أن يدروا وإذا بهم وقود للثورة وهذا هو حال الأغلبية.

ثالثها:الخاتمة، وتختتم الثورة عادةً من قبل نوع واحد فقط لا غير. نوع لا ثاني أو ثالث له، وهو النوع الانتهازي المتسلط النوع الذي كان يرقص على دماء الشهداء من خلال تصريحاته النارية صباحاً، وسكراً وعربدةً ليلاً.

ولذلك قررت أن أسلك طريق العقاب، رحت أدمج بين المرحلة الأولى والثانية وأن أدعو الله أن أستشهد قبل أن أصل إلى المرحلة الثالثة وهي نهاية الثورة والمقاومة ، عدت إلى شقتي بالقدس، ومكثت فيها عدة أيام حتى التأمت جراحي نوعاً ما .طوال تلك الأيام كنت أجلس على شرفة الشقة صامتاً هائماً في ملكوت الله، أفكر بأي نوع من العقاب لأنزله بذلك العدو المحتل، لم أقترب من جهاز الحاسوب ولا من أي جهاز آخر، كل ما فعلته هو أني اقتربت من نفسي أكثر فأكثر فعرفت مكامن قوتي ومكامن ضعفي، فأدركت أن المال والعلم والقوة الجسدية لا تكفي وحدها لبدء المقاومة ولبدء السير على طريق المهندس.

عدت إلى رام الله باحثاً عن بلال، علمت أنه هناك بمنطقة اسمها "البالوع " بأحد طرق رام الله، هناك كان يلقي الحجارة هو وعدد من أصدقائه في الجامعة، هناك بمنطقة البالوع كان مئات الشبان والشابات والأطفال يلقون الحجارة.

أوقفت سيارتي على إحدى التلال المطلة على ذلك الموقع فشاهدت كم نحن الفلسطينيون طيبون مساكين، بل كم نحن طيبين لدرجة البلاهة والسذاجة، في ذلك اليوم وبسبب ما شاهدته قررت ورسمت من داخل سيارتي وأنا جالسٌ في داخلها جسدياً وخارجها روحياً، قررت أصول المعركة.

في ذلك اليوم كان ملقوا الحجارة عدة مئات يلقون ويلقون أما الجنود فكانوا عدداً قليلاً جداً لا يتجاوز الاثنا عشر جندياً فقط، يحيطون بالتلال بجيبات عسكرية ، لم يكن الحجر قادر على الوصول لأولئك الجنود رغم قوته وقوة من يقذف به، فالمسافة بينهم كانت بعيدة جداً، أما رصاص قناصة الاحتلال كانت تصل، فيسقط العشرات جرحى وقتلى، دون أن يصاب حتى ولو جندي واحد. ومن خلال جهاز المنظار الذي كان بحوزتي أقسم أني كنت أشاهد الجنود يضحكون ويمرحون وشباب الحجارة يتألمون ويقتلون.

حلت ساعات المساء فتفرق الشباب بين شهيد وجريح وبين تعبٍ ومرهقٍ، وعادوا إلى بيوتهم بعد أن أقسموا على الرجوع في اليوم التالي.

لم أر بلال لكني رأيت قريباً لي يمشي مع عددٍ من أصدقائه؛ فسألته عن بلال فقال لي أنه لم يأت اليوم كعادته؛ بل عاد إلى القرية ليستجمع قواه فلقد تعب من المواجهة المستمرة منذ عدة أسابيع، عرضتُ عليه أن أوصله للقرية فقال لي أنه يريد البقاء بمدينة رام الله. فودعته وانطلقت عبر طريق فرعي ترابي وعر عائداً وحدي إلى قريتي بيت ريما، متوجهاً إلى منزل عمي، هناك وجدته جالساً لوحده هائماً بملكوت الله.

جلست بجواره وبدون مقدمات، قلت له: ألم تتعب من إلقاء الحجارة طوال الانتفاضة الأولى عندما كنت طفلاً وعندما أصبت وفقدت إحدى كليتيك؟ أو أنك تريد مواصلة إلقاء الحجارة بهذه الانتفاضة أيضاً؟ ألا تريد أن تعاقب من سلب منك أرضك؟ صمت قليلاً، وقال: أنت يا عبد الله مسكين، جئت من خارج فلسطين ولا تدرك كم نعاني من نقص في كل شيء بل حتى أننا لا نملك شيء من أجل مقاومة الاحتلال سوى الحجارة، الحجارة فقط هي من نملكها ولا شيء سواها. قلت: قل لي ماذا تقصد بسواها؟ صمت وقال: كل شيء كل شيء. قال هل تعلم أنه رغم أني بعامي الرابع والأخير من دراستي في الجامعة لا أملك ثمن أجرة الباص للوصول إلى جامعتي وإلى رام الله لألقي الحجارة، كيف تعلم وأنت تملك بدل السيارة ثلاث بل أربع.

صمت قليلاً وأكمل: نريد قائداً يعد الخطط ويرسمها ويقود المقاومين إلى دروب الجهاد والمقاومة. صمت طويلاً جداً، فقلت له: حسناً ماذا تملك أنت؟ فكرر: قلت لك لا شيء لا شيءَ أبداً أبداً.

قلت له: ألا تملك الرجال، الرجال القادرين على مواجهة المحتل بصدور عارية، ألم تكن قبل أسابيع تقود أولئك الشبان لتملؤا جدران القرية بالشعارات ليلاً؟ صمت، فقلت له: لقد رأيتك أنت من قادهم ومن ملأ جدران القرية بأقوى الشعارات التي تنادي بالمقاومة المسلحة، ألم تكتب أن بركان القسام قادم؟

ودعته بعد أن طال بنا النقاش وبعد أن أدركت أن بلال البرغوثي هو الرجل المناسب لكي أضع يدي بيده ولكي يبدأ المشوار. لم أعد لبيتي في تلك الليلة ولم أعد طوال عدة ليالي أخرى أمضيتها وأنا أعمل ليلاً نهاراً بأحد محالي التجارية بعد أن أغلقت بابه علي ومكثت بداخله لأبدأ المشوار، مشوار المهندس عبد الله البرغوثي، لأبدأ من تلك النقطة التي استشهد منها سيد مهندسي فلسطين، يحيى عياش.

يحيى عياش، رحمة الله عليه، استشهد عندما فجر جهاز الشاباك الصهيوني هاتف نقال كان يتحدث به عياش، فجر هذا الهاتف بعد أن سمع صوت عياش وهو يتكلم، فجر عن بعد، وكان هذا الهاتف قد وصل للمهندس عياش عن طريق صديق حصل عليه عن طريق شخص آخر كان عميلاً لجهاز الشاباك.

تلك التفاصيل لم تكن تهمني، ما يهمني هو جهاز الهاتف النقال، كان جهازاً كبيراً ضخماً ثقيل الوزن وكان هذا هو حال تلك الأجهزة بتلك الفترة الزمنية، لذلك حصلت على أصغر جهاز متداول من الهواتف النقالة، عبر إحضاره من دبي لكي أحاول تفخيخه وجعله يتفجر عندما أسمع صوت من يتحدث به لكني لم أنجح بل إني زدتها تعطلاً قبل أن أتمكن من إخضاعهِ لأوامري. وكلمة إخضاع هي الكلمة المناسبة لهذه الحالة، وكما هي العادة لم أكل ولم أمل بل قمت بشراء عددٍ آخر من نفس نوع الجهاز وبشراء أجهزة من نوع خاص يستعمل من قبل الشركات المصنعة لذلك الجهاز من أجل الفحص والصيانة.

ما هي إلا أيام حتى تمكنت من إخضاع جهاز الهاتف النقال لأوامري وطلباتي، وبعد ذلك قمت بصناعة عددٍ متنوعٍ من العبوات الناسفة والألغام المتفجرة والقنابل اليدوية وعدداً من العبوات الناسفة المستعملة في عمليات الاغتيال.

وهكذا حولت ما قد كتبت على ورق من معلومات ،وما كان بداخل عقلي من خبرة سابقة وحولت تلك الأدوات التي أدخلتها معي إلى داخل فلسطين قبل قرابة العامين عندما وصلت، حولت كل ذلك إلى واقع ملموس.

طوال تلك الفترة من العزلة بداخل المستودع الذي لم أكن أتركه إلا من أجل شراء أدوات أو معدات وطعام وشراب، كانت عيناي تسرق النظر من بعيد إلى حقيبة المهندس يحيى عياش التي كانت موضوعة على أحد الرفوف العالية في المستودع، ودون مقدمات وجدت نفسي أنزلها من هناك وأفتحها، بعد أن سميت باسم الله الرحمن الرحيم، فتحتها كان بداخلها عبوتان ناسفتان مصنوعتان من الحديد الصلب وكانتا معلقتان في جوانب بمادة الاسمنت الأسود، وكان يخرج من أحد أطرافها سلك زوجي أبيض مصنوع من النحاس الذي قد تآكل وتلف، بسبب الرطوبة وطول مدة التخزين، وكان هناك ورقة تدل على طريقة الاستعمال، أما الأهم فهو القرآن الكريم، كان هناك كتاب قرآن كريم، قد كتب على صفحته الأولى كن مع الله ولا تبالي.

قمت بتفكيك العبوات الناسفة بحذر بعد أن عملت على تجميدها بواسطة ثلاجة لتجميد اللحوم، كانت موجودة لدي بالمستودع، وبعد ذلك فككت العبوتين الناسفتين، فوجدت بداخل كل واحدة منها ما يلي: مجموعة من المسامير بكل طرف من الأطراف، وفي المنتصف وجدت كيس بلاستيكي مملوء بمادة تعرف باسم أم العبد، عرفت اسمها فيما بعد.

في أحد الأيام التي قضيتها في المستودع صليت الفجر بمسجد القرية، وعندما كنت عائداً وجدت حماراً أبيض اللون، حمار سبق أن أحرقه أحد الصبية قبل أشهر عندما أشعل النار بذنبه فأصبح بلا ذنب، وما إن اندلعت الانتفاضة حتى كتب أحد الفتيان كلمة الموت لشارون على كلا جانبيه فأصبح اسم ذلك الحمار منذ ذلك اليوم حمار شارون.

لمعت برأسي فكرة فأمسكت بها وأمسكت بحمار شارون، وذهبت مع الحمار إلى المستودع ومن هناك أخذت أحد الهواتف النقالة المفخخة وذهبت راكباً الحمار إلى إحدى قطع الأرض التي يمتلكها والدي وهي أرض على أطراف القرية المزروعة بشجر الزيتون واللوز، الكثير الكثير من اللوز، هناك وضعت الهاتف على رأس شارون الحمار وثبتّه جيداً ومن هاتف آخر اتصلت به ففتح الخط بشكل تلقائي، وبعد أن ابتعدت عن شارون الحمار، أقصد حمار شارون استمعت لصوت أنفاسه عبر الجهاز الآخر الذي كان معي وهنا أصدرت الأمر من جهازي ليتفجر الجهاز الآخر وينفجر معه رأس شارون الحمار.

ولقد كانت تلك أول تجربة حية أجربها في فلسطين وهكذا أصبح شارون بلا رأس فرغم صغر جهاز الهاتف إلا أن المادة التي زرعتها بداخله كانت قوية جداً بل كانت قوية أكثر من اللازم.

جمعت أشلاء الحمار وكومت كومة كبيرة من الحطب حوله، كان والدي قد طلب مني إحضارها من هناك قبل أيام طويلة لكني لم أفعل لانشغالي، وقمت بإشعال النار وهكذا اختفت آثار هذه التجربة.

بعد ذلك عدت إلى القرية ماشياً على قدميه عدت إلى منزل ابن عمي بلال لأجده نائماً يحلم بالمقاومة، فأيقظته لأحول حلمه إلى واقع حقيقة ملموسة، فبلال البرغوثي كان مسحوراً مفتوناً بالشهيد عياش مثل العديد من أبناء حركة حماس .كانوا يحلمون بمهندس يعيد للمقاومة عزها ومجدها، ففي تلك المرحلة أي قبل الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى ،كانت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية تتسابق بل كانت تتباهى باعتقال كل من يمت لحركة المقاومة الإسلامية حماس بصلة، وهكذا كانت الحركة واقعة بين مطرقة المحتل وسندان عملاء ذلك المحتل: ما بين الوقائي والمخابرات من جهةٍ، وما بين الشاباك الصهيوني من جهة أخرى.

أيقظت بلال لأحول حلمه وحلمي إلى واقع ملموس، توجهنا إلى مستودعي وهناك وضعت عدة حقائب بداخل سيارتي التي كانت هي الأخرى بداخل المستودع، ركبت وركب هو، قلت له: لا تتكلم ولا تسأل انظر وشاهد فقط لا غير.

وصلنا إلى قطعة أرض أخرى تعود لوالدي وكانت تلك القطعة تقع بالجانب الآخر من القرية، أوقفت السيارة وحملت الحقائب وسرنا على الأقدام حتى وصلنا إليها، فلم تكن السيارة قادرة على خوض الطريق الوعر المؤدي إليها، وما إن وصلنا حتى بدأت أخرج العبوات الناسفة الواحدة تلو الأخرى، بلال كان صامتاً وأظن أنه ما زال يحلم فلم يكن يقول سوى الله أكبر أهذا حلم أم حقيقة، أهذا حلم أم حقيقة! فلقد فجرت إحدى العبوات بجوار سور صخري فأصبح السور أثراً بعد عين. وفجرت عبوة موقوتة بمبنى كان يستعمله والدي لتخزين الحاجيات فأصبح مكان المبنى حفرة كبيرة فجرت وفجرت، وهو يكبر تارةً ويفرك عينيه تارةً أخرى، بعد ذلك أشرت له للانتقال لمكان آخر بعد أن جمعت ما يفي من أدوات الكترونية بعد الانفجارات.

وهكذا اقلّتنا السيارة ولكننا لم نعد، بل توجهنا إلى سيارة قديمة قد ألقيت بأحد الطرقات الجانبية من القرية هناك وضعت عبوة أسفلها وعن طريق جهاز التحكم عن بعد قمت بتفجيرها، فانفجرت واستيقظ بلال على صوتي وأنا أقول له:

اسمع يا بلال لما سوف أقوله لك بعد أن رأيت ما رأيته قبل قليل. وقصصتُ عليه قصتي بالكامل من أولها لآخرها. وهكذا قررنا أن نتعاون معاً لنكون نواة لخلايا كتائب عز الدين القسام بجامعة بيرزيت برام الله وبكل مكان نستطيع الوصول له.

رغم أن بلال كان يقاوم المحتل منذ أعوام وأعوام إلا أنه لم يكن قد أمسك بالسلاح أبداً، وهذا شيء أذهلني جداً فأخذته بنفسي ذلك اليوم إلى المكان الذي فقد فيه شارون رأسه وأعطيته قطعة سلاح بعد أن دربته وعلمته على طريقة استعمالها. وهناك على حمار شارون الذي كان الدخان ما زال يتصاعد منه رغم مرور ساعات على إحراقه، بدأ بلال يطلق النار لأول مرة في حياته من سلاح ناري.

وعلى الفور اتفقت مع بلال على أن ينتقي عدداً من الأشخاص من أبناء الكتلة الإسلامية بجامعة بيرزيت وغيرها للبدء بتشكيل خلايا مسلحة لكتائب عز الدين القسام.

وهنا بدأت أدرب بلال على قيادة السيارات وعلى استعمال أجهزة الهاتف النقال. وزودته بعددٍ منها، وبالمال اللازم لنبدأ المشوار، أما أنا فلقد كنت مشغولاً بأمور أخرى مثل الحصول على الأجهزة اللازمة من أجل عمل بطاقات هوية مزورة، ومثل أستئجار عدد من الشقق بمدينة رام الله وغيرها من المدن، وكنت أقوم بتجهيز كل شقة من تلك الشقق بكل ما يلزم من أجهزة كهربائية وأثاث، أما الأهم فهو أني كنت أحول كل شقة من تلك الشقق إلى مركز قيادة متنقل بشكل كامل بحيث أني كنت أخصص غرفة لتكون مكان لصناعة العبوات الناسفة والأدوات اللازمة لذلك، وغرفة أخرى لتكون مكتب لأمور التقنية وأهم ما في ذلك أن كل تلك الشقق كانت على أسماء أشخاص وهميين من جهة وحقيقيين من جهة أخرى؛ فعبر اقتحامي للشبكة العنكبوتية استطعت الحصول على معلومات عن عدد كبير من بطاقات الهوية المسجلة في دائرة الجوازات الفلسطينية التابعة لوزارة الداخلية. وهكذا كنت أصدر بطاقات ذات معلومات حقيقية مائة بالمائة إلا أنها لم تكن تحمل صور أصحابها بل صور عبد الله البرغوثي، صوري أنا، فأنا الذي كان يتوجه لأصحاب الشقق من أجل استئجارها والحصول على عقد الإيجار الذي يسجل باسم شخصٍ آخر.

لم أكن أختار أناساً بشكل عشوائي بل كنت أنتقي أصحاب المهن البعيدة عن الشبهات مثل مهنة الطبيب المسيحي مثلاً أو الصيدلاني ابن طائفة السمرة بنابلس، وأكثر ما كنت أستعمل كانت مهنة المحامين ومعلمي المدارس.

أما ما يخص الهويات التي كنت أستعملها للتنقل بين المدن فلقد كنت أستعمل هويات من نوع آخر، هويات مقدسية أو هويات لأبناء الطائفة الدرزية، وبخاصة لأولئك المنخرطين في صفوف جيش الاحتلال الصهيوني.

ولكي أسهل تنقلي فلقد اشتريت عدداً من السيارات ذات اللوحة الإسرائيلية الصفراء، وبذلك كنت أتنقل بسهولة جداً بين المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وبين القدس والمدن المحتلة بداخل فلسطين مثل تل الربيع (تل أبيب) وغيرها.

وهنا يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس أصبحت أكرس كل وقتي لإعداد البنية التحتية للمقاومة، مما جعلني أبتعد عنكِ وعن والدتكِ كثيراً، بل إن جدكِ بدأ يشك وبدأت تلوح بعينه أسئلة كثيرة جداً وخاصة أنه في أحد الأيام عندما كنت في مدينة نابلس دخل على أحد المستودعات التجارية ليتفقده بسبب انقطاع التيار الكهربائي فوجد الأطعمة المحفوظة في الثلاجات قد تلفت، فأخرجها وألقاها في حاوية القمامة أما الأهم فهو أنه ألقى مواد متفجرة كانت محفوظة في علب مغلقة بتلك الثلاجات ولولا ستر الله عز وجل لحدث ما لا يحمد عقباه.

ووجد جدكِ في ذلك المستودع عدداً من قطع السلاح مخبأة بحقيبة على أحد الرفوف مما جعل ناقوس الخطر يدق عند جدكِ، وكما سبق أنه انتظرني عند مدخل القرية قبل أعوام خوفاً علي من أن أكون قد اعتقلت عندما دخلت فلسطين انتظرني هذه المرة بعد أن أدرك أني قد سرت على درب طالما حلمت بأن أسير عليه، وما إن عدت حتى قال لي: أهلاً بالسيف أهلاً وسهلاً بالسيف، ألم أقل لك أن السيف لا يمكن أن يصبح محراثاً أبدأً. علمت منه ما قد حصل فتوجهت مسرعاً لحاوية القمامة لأستعيد المواد المتفجرة التي وبحمد الله عز وجل وجدتها على حالها.

قلت له: اسمع يا والدي، لقد آن الأوان لأخوض المعركة التي طالما حلمت بها وتمنيتها، أدعُ لي بالتوفيق والنجاح فأنا يا والدي قد قررت أن أترك هذه الدنيا الفانية لأقاتل لعي أسقط شهيداً أو لعلي أنتصر، المهم يا والدي هو أني واثق بإذن الله أني قبل أن أصل لإحدى الحسنيين، سوف أسقط العشرات والعشرات من قتلى العدو، يا والدي أنت كنت تنوي السفر إلى عمان بعد موسم الزيتون والموسم قد انتهى، فسافر يرعاك الله ولا تنساني من الدعاء.

ودعني والدي وسافر إلى عمان، أما أنا فلقد قلت عدة جمل قلتها بهجاء الدنيا؛ دنيا الفناء:

عودي أو لا تعودي فلست مبالياً .... ما عاد قلبي يحبكِ معلقاً

وما عدت بعشقكِ هائماً ... فأنتِ الوهم لا الحقيقة حتماً

فزوالاً مصيركِ حكماً ... ألم يهبط إليكِ آدمٌ

من جنة الخلد ماشياً ... لما قطعت يده تفاحةً

فأنتِ الدنيا وأنا لست بقاطعٍ.... من متاعك الحقير شيئاً

فلقد وهبت روحي لربي موحداً .... قاصداً الجهاد والشهادة مسلحاً

فأنا بحب كتائب القسام متيمٌ ... وبعشق فلسطين والقدس مغرمٌ

ودرب جنة الخلد قاصداً ... وعلى ترك دنيا الفساد عازماً

فأعني يا ربي وكن لأمري ميسراً ... وأدخلني جنتك صائماً مصلياً

ربي رفعت يداي لك داعياً .... فأنتَ رب الخلق ورب محمد

فاجعل القرآن بقلبي حرزاً ... وسنة المصطفى نبيك منارةً

فبلا عونك أعود عاصياً .... لدنيا الفساد والإفساد مخالفاً

فأوصلني لدرب المقاومة قوياً... فأنا بالشهادة وبجنة الخلد مبشراً

ما إن وصل والدي لعمان، حتى قمت ببيع المحال التجارية التي كنت أملكها وبتصفية كافة أعمالي التجارية، ولم أكتفِ بذلك بل سحبتُ كل ما كنت أملكه من مال في البنوك وفتحت حساباً مصرفياً خاصاً لزوجتي ووضعت به بعض المال الذي يكفي لها و لكِ يا ابنتي لكي تعيشي عيشة كريمة إذا ما استشهدت.

في تلك الأثناء كان بلال قد انتهى من انتقاء عددٍ من العناصر المناسبة لنبدأ مشوارنا بدرب الجهاد والمقاومة، درب عياش والياسين درب عز الدين القسام، من خلال كتائب عز الدين القسام.

وهنا أقول لكِ يا ابنتي يا ملاكي الحارس أني لن أخوض بتفاصيل هذه الفترة لأسباب عديدة منها أني يا ابنتي أمضيت ستة أشهر كاملة في زنازين التحقيق دون أن أكشف عن أي شيء عن تلك الفترة التي امتدت لأعوام، ولكني وقبل أن أعتقل كنت قد حصلت على ما يسمى لوائح الاتهام التي قدمت بحق من عملوا معي، فأنا يا ملاكي الحارس قد رأيت الموت وكلمته وصارعته في جلسات التحقيق التي كسرت خلالها عظامي ولكن لم تكسر بها بوابة الدخول لأسري.

تلك الأسرار التي أقبع لأني ما زلت أحتفظ بها مدفونة بعقلي في زنزانة العزل الانفرادي الجائر منذ أن اعتقلت، ومنذ أن توقف التحقيق معي لكنه لم ينتهي منذ قرابة أعوام عشر فأنا يا ابنتي متهم من قبل قوات الاحتلال بأني قمت بتنفيذ مائة وثمانية عشر عملية ضد العدو الصهيوني خلال مشواري الجهادي.

بل إني خلال الأعوام الماضية تم اقتيادي للتحقيق أربع مرات على عدد من القضايا الأمنية الجهادية التي حدثت بعد أسري بإدعاء أن لي يداً بها.

رغم وجودي بالعزل الانفرادي الخاص إلا أني ما زلت حاله خاصة جداً بنظر ذلك العدو الصهيوني، حالة مستمرة بالمقاومة رغم الأسر رغم أنف السجان ورغم أسوار السجن، فهناك يا ابنتي عدداً من الملفات الأمنية التي لم تقفل بعد ولم يتمكن عدوي وعدو فلسطين من حلها بعد وكشف أسرارها، وبإذن الله لن يتمكن، أما ما سوف أتطرق إليه خلال كتابتي لكِ فهو يخص بعض أهم المراحل المفصلية التي مرّت بها كتائب القسام بالضفة الغربية والقدس الشريف، تلك المراحل التي تمكنت خلالها الكتائب من تمريغ أنف العدو بالوحل، وهي أيضاً من رفعت اسم ومصداقية حركة حماس عالياً في السماء، وأعادت لها مجدها ومجد العياش يحيى.

وهنا سوف تختلف طريقة كتابتي عن السابق بحيث لا تصبح سرد للأحداث، بل إضاءات على واقع ومراحل قد مرت معي، وهنا سوف أسمي كل مرحلة باسم من أضاءها، سواء كان شهيداً أو أسيراً، أو محرراً أو كان بلا اسم ظل حراً ولم يعتقل ولم يستشهد وسوف تكون أول تلك المراحل هي التالي:


الشهيد القسامي البطل عز الدين المصري

"الشهيد القسامي البطل"
"عز الدين المصري"

وهنا قبل أن نصل للشهيد عز الدين المصري يجب أن نسلط الضوء طريقٍ وعرٍ نوعاً ما؛ فبعد أن نفذنا عدة عمليات خاطفة وخاصة ضد العدو عبر الخلايا التي عملنا على تشكيلها أنا وبلال البرغوثي، طلبت من بلال أن يوصلني لمسئولي القسام بمختلف مدن الضفة الغربية والقدس المحتلة، فكان من أولئك المسئولين مهندسٌ فذٌ وذكيٌ بل عبقري اسمه أيمن حلاوة، وكان هذا المهندس قد تحرر من الأسر منذ مدة قصيرة جداً، ولم يكن قد شارك بالعمليات المسلحة، إلا أنه ومع اندلاع الانتفاضة بدأ العمل مع عدد من أصدقائه الأسرى المحررين أمثال المجاهد البطل العنيد " سليم حجي" وكذلك المجاهد "علي علان" ابن مدينة بيت لحم، فذهبت لمدينة نابلس لألتقي "بسليم حجي" الذي صحبني للقاء أيمن حلاوة، كنت أرغب من خلال ذلك اللقاء أن أنقل الخبرة الموجودة لدي للأخوة في مختلف المناطق، وهكذا اجتمعت مع أيمن حلاوة واستعرض أمامي إمكانيات الحركة في تلك الفترة بمدينة نابلس، فكانت صدمتي كبيرة جداً. فرغم أني كنت أمام مهندس عبقري بكل ما تحمل الكلمة من معنى مهندس فذ ذو موهبة واضحة جداً، إلا أنه بسبب مكوثه لمدة طويلة جداً في الأسر الصهيوني ،كان قد ابتعد عن الأمور التقنية الحديثة وظل يستعمل نفس المواد والأدوات التي استعملها يحيى عياش قبل استشهاده.

وسرعان ما تمكن أيمن حلاوة من مجاراتي، بل والتفوق علي بما صنعته وابتكرته .فلقد كان سريع التعلم وسريع البديهة فما إن كنت أريه مخططاً إلكترونياً حتى يقوم بفك رموزه وجمع خيوطه . وهكذا تمكنت بفضل ذكاء المهندس "أيمن حلاوة" من نقل كل خبرتي في مجال الصناعات العسكرية لعدد كبير من أبناء المناطق المحيطة بمدينة نابلس.

أما أيمن حلاوة فلقد قال لي بعد أول لقاء استحلفك بالله يا عبد الله هل أنت تنتمي لهذا العالم أم لعالم المستقبل؟ قل لي بالله عليك هل أتيت إلى نابلس عبر آلة الزمن؟ فما كان مني سوى أن أبتسمت وقلت له: أنا ابن هذا الزمن ولكني لست ابن هذا المكان، فقال: كيف؟ قلت: أنا لم أولد هنا ولم أتعلم هنا فقد ولدت في الخارج ودرست الهندسة في كوريا واستقيتُ علومي من بحر مراكز البحوث العلمية ومن شبكة الانترنت، أما أنت يا صديقي فلقد منعتك قيود الأسر وقضبان السجن من أن تكمل ما بدأته في جامعتك، وهذا هو الفرق بيني وبينك، ولكنك خلال أيام معدودة استطعت اللحاق بي بل استطعت تجاوزي فأنت مهندس مجتهد، أما أنا فمهندس كسول لا أجتهد إلا إذا واجهت مشكلة وعند ذلك أجتهد لأجد لها حلاً . حتى أني لا أنام أياماً طويلةً حتى أجد الحل، فقلت له: أعطيك مثالاً ما هي أكبر مشكلة تواجهها أنت وتعتقد أن حلها صعب بل أن حلها مستحيل؟ قال: حالياً ومع ما زودتني به لا أظن أن هناك أي مشكلة من هذا النوع، أما إن سألت عن مشكلة أبحث لها عن حل فهناك واحدة أبحث لها عن حل منذ أعوام وأعوام، وأشار إلى أحدى الأوراق أمامه، قال هذه الورقة هي المشكلة. وأكمل: كيف أستطيع إرسال هذه الورقة التي كتب عليها أحد البيانات التي قمنا بها في عملية الأمس، دون أن يكشف أمرنا، حيث يوجد بجوار كل وكالة للأنباء ألف عميل وعميل، وألف رجل أمن من رجال جهاز الأمن الوقائي والمخابرات، قل لي هل تستطيع جعل من يوصل هذا البيان خفياً لا يرى، هل تملك طاقية تمكننا من أن يصبح شبحاً؟ ضحكت وقلت: طبعاً أملك ألا تعلم، ضحك هو ولكنه سرعان ما أدرك أني لم أكن أمزح فقال: كيف؟ وعن أي طاقية تتحدث؟ قلت: أعود لك بعد أسبوع أو اثنين وأحضر لك الحل والطاقية.

ودعته ولكنه استوقفني على الباب وقال: بالله عليك عندك الحل؟ قلت: أدعو الله عز وجل أن أجد الحل. دلني على محل يبيع القهوة لأني أظن أني سوف أحتاجها لتعينني على سهر الليالي القادمة. صافحته وتوجهت من مدينة نابلس جبل النار إلى مدينة رام الله، رام الله التي أصبحت وكراً لسلطة الفساد والإفساد، وكراً للأجهزة الأمنية.

في تلك الفترة لم أكن مطارداً أو مطلوباً ولذلك كانت حركتي سهلة جداً ولأني معروف على أني أقوم بالتجارة فلم يكن تنقلي يثير الشبهة من قبل تلك الأجهزة الأمنية، حتى بعد أن صفيت أعمالي فلم يثر ذلك شكوكهم نحوي.

طوال الطريق كنت منشغلاً بالتفكير لإيجاد حل لتلك المشكلة التي لم أجد وقتاً طويلاً لإيجاد سيناريو حلها، بل أن سيناريو حلها ومَضَ برأس أثناء حديث أيمن عنها وهو جهاز الفاكس.

ولكن كيف أحول جهاز الفاكس من جهاز معلوم مكان إشارة الإرسال منه إلى جهاز مجهول مكان الإرسال ومجهول الهوية؟ عدت بعد أقل من أسبوعين لأقابل أيمن في نابلس، هناك على الطاولة أخرجت حقيبة كانت على كتفي: جهاز فاكس صغير الحجم ووضعته أمام أيمن حلاوة، ابتسم بعد أن قلّب الفاكس بين يديه وقال: الله يسامحك ألا تعلم أنه بمجرد أن نرسل رسالة واحدة من هذا الفاكس سوف يتم مداهمة المكان الذي أرسلت منه من خلال معرفتهم رقم الهاتف عبر أجهزتهم الالكترونية التي يستعملها جهاز الشاباك؟ قلت له: هذا الفاكس لا يحتاج لخط هاتف كي يرسل الرسائل بل لا يحتاج لأن يوصل بالكهرباء المنزلية ليعمل أصلا، كل ما عليك عمله هو وضع أي ورقة بداخله وهو سوف يرسلها بشكل آلي فوري إلى اثني عشر وكالة أنباء دون أن يتمكن أحد من تعقب مكان وجوده، ومكان وجود المرسل، بل إنك إن أردت أن يعمل الفاكس بشكل متنقل فكل ما عليك عمله هو وضع الرسالة بداخله وتركه يعمل لوحده في الوقت الذي نحن نعمل على برمجته به.

قال لي: بالله عليك ألم تأتي إلى نابلس بآلة الزمن؟ ألم تأتي هنا منذ عام 2050 أو 2100، فقلت: لا بل أتيت من تل الربيع هناك وجدت جهاز فاكس يعمل بالطريقة التي يمكنني التعديل عليها، فهو لا يحتاج لكم كبير من التيار الكهربائي ولذلك قمت بجعله يعمل عن طريق البطاريات ولكن ليس هذا هو المهم، المهم هو أني وعبر جهاز آخر استطعت وصله بجهاز الفاكس، وحولت إشارة بطاقة الهاتف الجوال إلى إشارة تستعمل في نظام الهاتف الأرضي؛ ولذلك فإن كل ما يلزمنا لتشغيل جهاز الفاكس بطارية وهي موجودة بداخله وبطاقة هاتف جوال توضع بداخله وهكذا تكون حصلت على طاقية الإخفاء، المهم أن تكون بطاقة الهاتف الجوال مجهولة المصدر وهذا سهل، أما الأهم هو أن تستبدل تلك البطاقة بعد كل استعمال، لكي لا يتم تعقبها، أي مرة واحدة فقط، وأن نرسل الفاكس من مكان عام بحيث تبرمجه وتضعه بحقيبة شخص متحرك في أي من الشوارع المزدحمة؛ وبذلك تبقى بعيد عن رصد أجهزة العدو، ولرسائلك وكما يقال الحاجة أم الاختراع، فالحاجة لجهاز الفاكس كانت الدافع لصناعته واختراعه وكان ذلك قد حدث في نهاية عام 2000.

أما ما حدث قبل ذلك فأعتقد أنه أكثر أهميه، ففي عام 1990 أي قبل عشرة أعوام من موضوع الفاكس وقبل اثنين وعشرين عاماً من عام 2012 عامنا هذا الذي أكتب به هذه الومضات، فلقد كان عمري في عام 1990 سبعةَ عشرةَ عاماً، ولم أكن قد أكملت عامي الثامن عشر، كنت قد أردت أن أفتح ورشة لصيانة السيارات وتصليحها، ولكني لم أكن أملك المال اللازم لكي أستأجر الورشة رغم أني استدنت بعض المال إلا أنه لم يكفي، فلقد كانت الورشة تقع في مجمع تجاري وصناعي جديد وكان صاحب المجمع من ذلك النوع البخيل الانتهازي فما كان أمامي من حل سوى أن قمت بصناعة جهاز للتصنت ولاستراق السمع، وضعت هذا الجهاز صغير الحجم بداخل كبريته وألصقتها بأسفل مكتب صاحب المجمع وبهذه الطريقة استطعت أن أحصل على المعلومة التي مكنتني من استئجار الورشة بالسعر المناسب، السعر الذي تستحقه لا أكثر ولا أقل.

الحاجة أمّ الاختراع، أما الحاجات التي أصبحت بحاجة إلى حلول فلقد كثرت جداً، وجعلتني لا أجد وقتاً حتى للنوم؛ فلقد كنت وطوال عدة أعوام لا أنام سوى خمس أو ست ساعات. وطوال تلك الفترة كان طعامي يقتصر تقريباً على السندوتشات الجاهزة. أما ما كان يزعجني في تلك الفترة: فترة تلبية الحاجات، فهو أداء الصلاة، نعم أداء الصلاة فلقد كان عقلي مشغولاً جداً مما كان يؤدي بي إلى نسيان عدد الركع التي صليتها أو نسيان ماذا قرأت من القرآن الكريم، وكنت دائماً ما أعيد الصلاة مرة أو اثنين حتى أتأكد من أني أديتها بشكل صحيح.

لقد كبرت في تلك الفترة المسؤوليات التي ألقيت على عاتقي فلقد كنت دائم البحث عن مصادر لشراء السلاح والعتاد بمختلف أنواعه، وكنت دائم البحث عن شقق ومخازن تجارية لاستعمالها للسكن ولتخزين المواد الناسفة والسلاح والذخيرة، أما الشيء الذي كان بمثابة رياضة الاسترخاء لي فلقد كانت المشاركة على رأس أي من الخلايا القسامية المقاتلة لمهاجمة موقع صهيوني أو لمهاجمة رتل من عرباته المصفحة بالعبوات الناسفة، فلقد كنت أشعر عند مشاركتي بمثل هذه الكمائن براحة نفسية عظيمة جداً، كانت هي الدافع لكي أعاود نشاطي للقيام بالأعمال الأخرى.

في تلك الفترة كنت قد قررت أن نكثف توجيه الضربات العقابية للعدو بمنطقة سلفيت وبمنطقة حوارة جنوب نابلس، حيث كان المستوطنون لا يخرجون من تلك المستوطنة أبداً أبداً، إلا بصحبة حراسات مشددة وباستعمال حافلات مصفحة، فلم يعودوا يستعملوا سياراتهم الخاصة خوفاً من الكمائن والعبوات الناسفة.

بعد عدة أشهر قدر الله أن يصاب أيمن حلاوة بحرق في وجهه ورقبته جراء اشتعال مادة تستعمل في الصناعات العسكرية، مما جعل أيمن وبسبب إصابته يلقي على عاتقي عبء تشغيل عددٍ من مقاتلي القسام هناك في نابلس، ولأني ما زلت غير مطارد فلقد كنت أقضي نصف أسبوع بمدينة رام الله مع بلال والخلايا التي شكلها، والنصف الآخر بمدينة نابلس بمتابعة بعض رجال أيمن حلاوة، وهنا حدث ما لا تحمد عقباه أبداً فلقد زاد طغيان العدو الصهيوني وبغيه وغدره. ولأنه لم يستطيع الوصول لقادت القسام ولا لعناصر القسام المقاتلة، فلقد قام هذا العدو الباغي بقصف مقر مخصص للصحافة والأخبار في مدينة نابلس مما أدى إلى استشهاد عدد من الشهداء كان على رأسهم الشهيد جمال سليم والشهيد جمال منصور، وهما أهم قياديين سياسيين بحركة حماس بنابلس بل بمنطقة الضفة الغربية بذلك الوقت، وبذلك الوقت أيضاً حدثت إحدى أهم الانعطافات بمسيرتي الجهادية؛ فلقد تعالت أصوات الحناجر المشيعة لجثامين الشهداء بالثأر والانتقام من العدو وكانت تلك الحناجر تطالب كتائب عز الدين القسام بالعمليات الاستشهادية، العمليات الاستشهادية التي أنا شخصيا -عبد الله البرغوثي- لم أكن أفضلها، فلقد كنت أفضل المواجهة المسلحة والكمائن والعبوات الناسفة والألغام، أما العمليات الاستشهادية فلقد كنت أرفض مجرد التفكير بها. أما أيمن الذي كان يعاني من جرحه فلقد كان يفضل هذا النوع من العلميات، فطلب مني وألح علي بل رجاني وحلفني بالله العلي العظيم أن أعمل على التخطيط لإحدى تلك العمليات. وهنا وبعد تفكير لم يطل كثيراً قررت أن ألبي النداء، وطلبت من "أيمن حلاوة" أن يرسل لي أحد الأشخاص الذين يريدون تفجير أنفسهم فسألني: هل هناك نوع معين من الأشخاص؟ هل تريده مثلاً أن يكون يجيد اللغة العبرية ليسهل تنقله ووصوله إلى المكان المستهدف؟ قلت له: أرسل لي شخصاً يرى ما لا أراه، أرسله بعد أسبوعين إلى أحد مساجد رام الله وأنا من هناك سوف أتولى باقي الأمور.

ودعت "أيمن حلاوة" واتجهت إلى رام الله اجتمعت ببلال البرغوثي وقلت له: أننا نريد تغير مهمة إحدى الخلايا القسامية التي تعمل معنا فبدلَ أن تقوم تلك الخلية بنقل العبوات الناسفة من مكان للآخر ومن مدينة إلى قرية أريد من تلك الخلية نقل استشهادي وعندها قال بلال: الحمد لله أنك قررت خوض هذا المجال، فقلت له: بالله عليك لا تناقشني في هذا الموضوع حتى لا أبدل رأيي، قال: حسناً حسناً، المهم أنك قد قررت خوض هذا المجال، هكذا تكون مهندس قسامي مائة بالمائة، فبعد الكمائن والاشتباكات المسلحة يأتي دور العمليات الاستشهادية.

بعد طول تفكير وقع الاختيار على خلية "محمد دغلس" لكي تنفذ هذه العملية، والسبب الرئيس هو أن "محمد دغلس" كان يملك عنصراً مهماً جداً جداً، وهو الأخت المجاهدة "أحلام التميمي" التي لم أكن أعلم عنها شيئاً. وهنا أقصد لم أكن أعلم اسمها أو إن كانت شاباً أم شابة، لكني كنت أعلم أنه تم اختيارها حسب أعلى المواصفات من حيث التكتم التام والحس الأمني العالي والإيمان بالصادق بدرب كتائب عز الدين القسام.

بعد عدة أيام وبعد أن رصدت أحلام أحد الأماكن في مدينة القدس أردت أن أجرب الإجراءات الأمنية المتبعة لذلك أرسلت عبوة ناسفة صغيرة الحجم لأحلام التميمي من خلال محمد دغلس ثم معاذ ثم بلال البرغوثي، بلال البرغوثي الذي جن جنونه عندما قلت له اذهب من قرية بيت ريما إلى مدينة رام الله لشراء ست علب بيرة ودجاجة مستوية وبعض المكسرات وأحضرها لي في القرية قلت له ذلك بعد صلاة الفجر بمسجد القرية فجن جنونه لكن بصمت دون أن ينطق بكلمة واحدة، لكن عيونه كانت تقول ما لم يقله لسانه.

انطلق بلال من القرية إلى رام الله مباشرة بعد الصلاة ولأن الحواجز الصهيونية كانت كثيرة جداً وكانت تغلق كل الطرق الرئيسية فلقد استغرق قطع المسافة التي كانت بالعادة لا تزيد عن نصف ساعة، نصف يوم، فاشترى العلب الست من البيرة والدجاجة والمكسرات وعاد إلى القرية في نفس اليوم، أي أنه أمضى يوماً كاملاً ذهاباً وإياباً. أعطاني ما أحضر لي فشكرته بعد أن أعطيته الدجاجة المستوية، واحتفظت بالمكسرات وعلب البيرة أمضيت عدة ساعات وأنا آكل المكسرات وأجهّز العبوة الناسفة التي صنعتها وأخفيتها بقلب إحدى تلك العلب. ووضعت تلك العلبة المفخخة بين العلب الخمسة السليمة بداخل الصندوق المخصص لها. وعند صلاة الفجر قابلت بلال وأعطيته كيساً ما إن حمله حتى قال هذه علبة البيرة، هذه علب البيرة لماذا أحضرتها لي فقلت له أنها من النوع الرديء وأني أريد من يعيدها إلى رام الله.

صمت بلال بغضب وقبل أن ينفجر غضبه، وهو الهادئ الملتزم، قلت له: أن أحد تلك العلب مفخخ وأن المطلوب إيصال تلك العلب "لمحمد دغلس" ومنه إلى "أحلام التميمي" لكي نزرعها بالموقع الذي قامت هي باستطلاعه، فحمل العلب مبتسماً مهللاً لأنه أدرك أن موعد تنفيذ العملية الاستشهادية قد اقترب. كانت عملية علبة البيرة أشبه ما يكون باختبار لأعصاب من سوف يقوموا بتنفيذ العملية الاستشهادية، فلقد أردت أن أرى مدى الانضباط والقدرة على العمل تحت ظروف مختلفة عن تلك الظروف السابقة، فعمليات إطلاق النار ونصب الكمائن المسلحة وزراعت العبوات الناسفة على جوانب الطرق تحتاج إلى نوع آخر من المقاتلين، أما العمليات الاستشهادية فنحتاج إلى نوع ذو أعصاب حديدية وقدرة على التحكم بالمشاعر بشكل مطلق وكامل، وسوف أتحدث عن هذه النقطة بومضة أخرى شاهدت خلالها أشد مقاتلي القسام وأقواهم عزماً يبكون ولا يكفون عن البكاء أثناء الإعداد والتجهيز لإحدى العمليات الاستشهادية.

حمل "بلال البرغوثي" صندوق علب البيرة الموضوع بداخل كيس بلاستيكي وانطلق إلى مدينة رام الله وسلمه لمحمد دغلس الذي سلمه بدوره للأخت المجاهدة أحلام التميمي، أحلام التي قامت باستطلاع المكان أولاً قبل أيام معدودة ثم بزراعة العبوة بعد أن مرت بها عبر حواجز الاحتلال من رام الله إلى مدينة القدس؛ مدينة القدس التي سوف تصبح فيما بعد مركز عملياتي الرئيس، هناك بأحد الأسواق التجارية زرعت أحلام العبوة الناسفة وبعد أن شغلتها انفجرت العبوة بالوقت المحدد، لم يكن المقصود إيقاع قتلى أو حتى جرحى في تلك العملية أبداً كما قلت.

نجحت العبوة بزرع الخوف في قلوب الصهاينة بأماكن السوق، لكن الأهم هو نجاح كامل لعناصر الخلية بأن يحملوا علبة بيرة، بيرة وهي شيء تهابه يد المسلم المؤمن ، لكن انضباطهم وشفافيتهم جعلتني أبدأ بالخطوة الثانية من تلك العملية، وهنا توجهت إلى رام الله لإحدى الشقق التي كنت أمتلكها هناك للجلوس بعيداً عن صخب الانتفاضة وبعيداً عن إزعاج ولدي أسامة الذي ولد بتاريخ 24/5/2000 ولد وأنا منشغل تماماً عنه، حتى أني لا أذكر أني حملته بين ذراعي منذ أن ولد وبعدة أشهر، بل حتى أني لا أذكر تحديداً سبب تسميتي له بأسامة ولكني أعتقد أني أسميته أسامة لأن لي أربعة أصدقاء اسمهم أسامة، وأعتقد أن ذلك هو السبب الأرجح أما عدم حملي إياه وحتى عدم حضوري يوم عملية تطهيره فلأني كنت دائماً بسفرٍ من مدينة إلى أخرى ومن قرية لأخرى، فلم يكن لي دقيقة لبيتي ولزوجتي ولتالا وأسامة.

في تلك الشقة أمضيت يومين وليلتين، وطلبت من بلال أن يذهب لقضاء يومه في المدينة وليلته بشقة أخرى كنتُ قد استأجرتها على اسم شخصٍ آخر.

في صباح اليوم التالي حضر بلال مبكراً دون أن يعلم أن اليوم هو موعد وصول الاستشهادي "عز الدين المصري" من نابلس إلى رام الله لأحد المساجد ليصلي هناك وينتظر شخصاً سوف يأتي ليصطحبه لتنفيذ العملية.

طلبت من بلال أن يذهب إلى المسجد مع "محمد دغلس" للقاء عز الدين ولكي يقوموا بشراء ملابس تتناسب مع الموقع الذي تم رصده وهو أحد المواقع التي استطلعتنها "أحلام التميمي" في القدس الشريف.

بعد أن أعطيت بلال كلمة السر وكلمة التعارف انطلق فأحضر "عز الدين المصري" وجهز له الملابس الخاصة ووضعه وتركه أمانة عند "محمد دغلس" في إحدى الشقق التي استؤجرت، لتكون بيت أمن، أي بيت لا يوجد في داخله أي شيء أبداً سوى الأثاث والطعام، أي بيت عادي جداً دون سلاح ودون مختبر للمواد الناسفة.

وعاد بلال الى شقتي فأخبرني بما فعله فقلت له: حسناً، وطلبت منه أن يذهب إلى أحد المحال التجارية لبيع الآلات الموسيقية، ليشتري لي قيثارة، حددت له مكان المحل ومكان القيثارة ولونها وطلبت منه أن يشتري لها بيتاً من الجلد، سألني لماذا قيثارة ماذا تريد أن تفعل بها؟ قلت: أريد أن أعزف عليها فأنا أشعر بالملل.

بلال رغم أنه عنصر قسامي منضبط إلا أنه كان يجن من أجوبتي عليه، فهي أجوبة غير مفهومة بالنسبة له أبداً، تريد قيثارة لتعزف عليها وهناك استشهادي ينتظرنا بالبيت الآخر على أحر من الجمر؟ ذلك ما أراد بلال قوله لكن حسن خلقه وانضباطه جعلاه يقول: حسناً سوف أحضرها على الفور. وفعلاً خلال نصف ساعة عاد بلال ومعه القيثارة فأمضيت طوال فترة العصر والمغرب وحتى حلول ساعات الليل المتأخرة أعزف على القيثارة وكان بلال يشاهدني بصمت وبصبر ولم يسأل أي سؤال ولم يزعجني رغم إزعاجي له بألحاني المزعجة.

تعب بلال وغلبه النعاس فقلت له: اذهب لكي تنام عند "محمد دغلس" وعند "عز الدين المصري"، وعُد يوم غدٍ باكراً. أمضى بلال ليلته مع أخويه بقراءة القرآن والصلاة، أما أنا فلقد توقفت عن العزف وذهبت لكي أنام، فالنوم سلطان كما يقال.

استيقظت على صوت الباب الذي كان يطرقه بلال ففتحت له وأجلسته في غرفة الضيوف حيث كنت أعزف ليلة البارحة، استلقيت على أحد المقاعد متعباً نعساً وطلبت من بلال أن يحضر القيثارة من الغرفة المجاورة، وقبل أن أنهي جملتي شعرت أن بلال سوف يقوم بكسر القيثارة ألف قطعة، فلقد قال لي أنه لم ينم وأمضى الليلة بطولها مع أخويه بالعبادة، لنقترب من الله لعله يسهل هذه العملية، ولذلك وقبل أن يصل بلال باب الغرفة التي كنا نجلس فيها قلت له احذر أن تمس القيثارة بسوء وارفعها بحذر شديد جداً جداً، فالقيثارة مفخخة بمواد ناسفة تكفي لتنسف المبنى كاملاً. احذر بالله عليك وسم باسم الله قبل أن ترفعها. عاد بلال ووضع القيثارة على الطاولة، وقال: لمن القيثارة؟ هل هناك عملية أخرى غير عملية الاستشهادي فقلت له: لا أبداً اليوم لا عملية سوى عملية "عز الدين المصري". فرد: أين الحزام الناسف؟ فقلت: الأحزمة الناسفة كان لها زمنها أما الآن فزمن الألحان الناسفة.

طلبت منه بعد ذلك أن يطلب من "محمد دغلس" أن يستدعي "أحلام التميمي" للحضور لمدينة رام الله، "أحلام" في تلك الفترة لم تكن تعلم أي شيء مطلقاً. وفعلاً ذهب بلال لإبلاغ محمد بما طلبته منه وعاد ليجدني نائماً، غارقاً في النوم، فأنا في الليلة السابقة لم أنم سوى عشر أو خمس عشرة دقيقة فقط ثم قمت لكي أستحم وأبدأ بإعداد القيثارة وتفخيخها ولقد استغرق ذلك طوال الليل وما إن انتهيت ووضعت رأسي على الوسادة لكي أنام حتى استيقظت على صوت طرق الباب بالصباح الباكر وها أنا استيقظُ على طرقه مرة أخرى، ليخبرني أن أحلام قد وصلت لرام الله وأن ساعة المساء قد حانت، تلك الساعة التي أردتها أن تكون في منتصف النهار.

أي عند الظهرية بنفس التوقيت الذي قصفت به طائرات الاحتلال المكتب الصحفي الذي كان بداخله الشهيدين "جمال منصور" و"جمال سليم" أردت أن يشهد العالم كله العقاب الذي سوف يتلقاه أولئك الصهاينة المحتلين جزاء جرائمهم بحق أبناء فلسطين.

أعطيت بلال القيثارة وتوجه بها إلى مكان وجود محمد دغلس والاستشهادي عز الدين المصري، هناك بداخل تلك الشقة قام بلال ومحمد وعز الدين بقضاء عدة ساعات حرجة من الانتظار والترقب، الانتظار للضوء الأخضر لانطلاق تنفيذ العملية، فلقد كلفت مجموعة مكلفة بعدة مهام، منها:

أولاً:

مراقبة المسجد الذي كان من المفترض أن يصل إليه الاستشهادي ولقد بدأت تلك المهمة من المراقبة منذ ساعات الفجر الأولى واستمرت حتى ساعات ما بعد صلاة العصر من ذلك اليوم، وكان تقرير المراقبة يقول أن الأمور طبيعية مائة بالمائة وأن الاستشهادي وصل بالموعد المحدد أي قبل صلاة العصر وصلى ثم انتظر بالركن المحدد له بمسجد جمال عبد الناصر بمدينة رام الله، وبعد ذلك دخل أحد الأخوة ليصطحبه من هناك وطول تلك المدة كانت الأمور هادئة ولم يكن أحداً يتابع أو يراقب أي من الاستشهادي أو الأخ الذي اصطحبه معه، ولقد بقينا بداخل المسجد وحوله قبل وبعد الوصول والمغادرة ولم نلاحظ أي شيء.

ثانياً:

لقد كانت المهمة الثانية تحتوي على جزأين أولهما متابعة عز الدين وبلال منذ خروجهم من المسجد ومرورهم بالبيوت لشراء الملابس، ثم مراقبة المنزل الآمن الذي مكث به كل من بلال ومحمد والاستشهادي عز الدين المصري، ولقد جاء بتقرير المراقبة الذي وصلني صباحاً أن الأمور قد سارت على أكمل وجه، ولم يكن هناك سوى نقطة واحدة استثنائية جاءت بذلك التقرير سوى أن أضواء شقة البيت الآمن كانت مضاءة طوال الليل، ولقد أرجعت ذلك لأن الثلاثة كانوا قد مضوا تلك الليلة مستيقظين لأداء الصلاة وقراءة القرآن الكريم، لكنني قررت أنه فيما بعد يجب أن لا يتمكن أي أحد خارج أي بيت آمن من مشاهدة أضواء الإشارة نهائياً، ولذلك عملت على تزويد كل الشقق بستائر من النوع الثقيل الذي لا يسرب الضوء.

ثالثاً:

وهي المهمة الأصعب فلقد كانت نركز على رصد ومتابعة حركة السير من مدينة رام الله وصولاً إلى مدينة القدس المحتلة، ومتابعة الحواجز العسكرية الموجودة على امتداد ذلك الطريق سواء كانت حواجز ثانية أو حواجز استثنائية وفجائية، ولقد جاء بذلك التقرير الذي كان محصلة عدة أيام من المراقبة بأن نؤجل العملية، حتى تهدأ الأوضاع، لكنني وجدت عكس ذلك تماماً لأنه رغم أن حالة الاستقرار والتفتيش كانت دقيقة إلا أنه كان ثابتاً ولم يتغير على مدى تلك الأيام. أي أنه أصبح روتيني والهدف منه التضييق والتخويف ليس إلا، وهنا بعد أن صليت ركعتين صلاة استخارة قررت أنه قد حان موعد الانطلاق.

وأرسلت إشارة لبلال البرغوثي لكي يرسل الاستشهادي "عز الدين المصري" مع "محمد دغلس" لكي يوصله للأخت "أحلام التميمي" وبعد ذلك وبوضح النهار وخلال أقل من ساعة ونصف على إشارات البدء، كانت "أحلام التميمي" قد سلمت الاستشهادي وأوصلته للقدس بعد أن مرت عبر الحواجز دون أن تفتش ودون أن تتعطل فلقد كانت تحمل تقرير صحفي يسهل لها التنقل بين المدن ولأنها فتاة فلم تلفت الانتباه.

وهنا أقول أن تعمدي لاختيار أخت تعمل بالمجال الصحفي كان مرده أن تكون رسالة القسام واضحة وضوح الشمس، أي أنتم أيها الصهاينة قمتم بقصف مكتب إعلامي وصحفي ولا يوجد به أي مسلح ولا يوجد به أي نشاط عسكري، وأنا أرد عليكم بأن تكون الصحافة هي من توصل الاستشهادي إلى موقع العملية، وأن تكون الصحافة هي من تصور وتبثت وقائع تلك العملية.

وهكذا كانت "أحلام التميمي" تلك المجاهدة البطلة القسامية ثابتة الأعصاب وشديدة العزم والإيمان، هي الصحفية الفلسطينية القسامية الأولى التي توصل استشهادي ، وتعلن عن نبأ العملية عبر شاشة التلفاز الذي كانت تعمل به؛ لأنه كان يجب أن يدرك العدو الصهيوني أنه اذا ما تجاوز خطاً أحمراً، فسوف نتجاوز نحن أيضاً ذلك الخط. وهكذا كانت مع تقدم أيام الانتفاضة الأم كانت الخطوط تقصف الواحدة تلو الأخر.

وصل الشهيد "عز الدين المصري" إلى أحد مطاعم القدس القريبة إلى مطعم رصد بعناية فائقة وهو مطعم للبيتزا اسمه مطعم اسبارو، واجتاز الشارع ليصل إلى المطعم حاملاً القيثارة، أما سبب اختيار القيثارة فيعود لأمر واحد لا غير هو أنّ حمل الآلات الموسيقية والدخول بها لذلك المطعم بالتحديد كان أمراً روتينياً جداً جداً، فعندما قدم تقرير المراقبة قبل العملية جاء بذلك التقرير وصف للمكان وللأماكن التي كانت حوله، ولأني أثناء إقامتي بالقدس أعرف المكان جيداً، فلقد قررت أن يكون القيثارة هو الوسيلة لا الحزام الناسف، لأنه كان هناك مقابل مطعم اسبارو معهد لتعليم الموسيقى، ومحل لبيع الأدوات الموسيقية، وكان عدد من مرتادي المعهد يتجولون بآلاتهم الموسيقية في ذلك الشارع عند تنقلهم، وكان بعضهم في يدخل لتناول البيتزا بذلك المطعم حاملاً الآلة الموسيقيه دون أن يتعرض للتفتيش من قبل الحارس الموجود على بوابة المطعم، وهكذا وصل "عز الدين" دون أي عائق من أي نوع؛ كان فلقد كان منظره طبيعي جداً من ناحية الملابس التي اخترتها له لكي يرتديها أو التي كان يحملها.

ففجر الاستشهادي "عز الدين القسامٍ " نفسه ليرقى للسماء، مسدداً بذلك ضربة من ضربات العقاب للصهاينة المحتلين، وهنا يجب أن أقول ان أهم ما حدث في تلك العملية، أهم من كل تلك الإجراءات والاستعدادات التي قمت بها وقام بها كل من شارك في تلك العملية.

إن أهم ما حدث هو ذلك الذي رآه الاستشهادي "عز الدين المصري" ولم نره نحن البشر، نعم نحن البشر أي أن "عز الدين المصري" لم يكن من البشر أبداً أبداً.

عندما طلبت من "أيمن حلاوة" أن يزودني بمقاتل قسامي يريد أن ينفذ عملية استشهادية قلت "لأيمن" جملة واحدة عندما سألني عن مواصفات الاستشهادي قلت له أريد من الاستشهادي "أن يرى ما لا أراه".

هذا فعلاً ما حدث رغم أن "عز الدين المصري" لم يكن يعلم سوى أنه سوف ينفذ عملية استشهادية إلا أنه قال في تلك الليلة التي أمضاها مستعيناً بالله مع بلال ومحمد، قال لهما: سوف أقتل اليوم إن شاء الله ما بين خمس عشر وستة عشر صهيوني، وسوف أصيب بإذن الله عز وجل ما بين مائة وخمس وعشرون ومائة وثلاثون بجراح، كثيراً منهم سوف يبقوا معاقين، أي أحياء لكنهم أموات بسبب إصابتهم الخطيرة.

"عز الدين المصري" رأى ما لم نره، وعاهد الله عز وجل على ذلك فلقد صدق، صدق برب الكعبة واستطاع أن يقتل خمس عشرة صهيونياً وأن يجرح مائة وستة وعشرون أغلبهم أصيبوا بعاهات وإعاقات دائمة.

صدقت يا "عز الدين المصري"، ورأيت ما لم نرهُ، نجحت وتفوقت علينا نحن البشر رغم كل ما قدمناه إلا أنه لا يساوي نقطة واحدة ببحر ما قدمته أنت وأنجزته، إلى جنات الخلد يرعاك الله.

وهنا أقول لكِ و لكِ يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس أني أنا عبد الله البرغوثي الوحيد، الوحيد الذي لم ير الشهيد "عز الدين المصري" ولا مرة واحدة ولا حتى بنظرة واحدة طوال مراحل تنفيذ العملية، لم أكلمه ولم أوصيه ولم أودعه، لم أعانقه فلقد كنت منشغلاً بأن ترى عيوني وتسمع آذاني كل ما يدور حول العملية من إجراءات أمنية وتقنية لكي تنجح العملية ولكي ترى النور.

ومنذ تلك العملية حرصت على أن يمضي الاستشهاديون القادمون يومهم وليلتهم الأخيرة عندي بصحبتي لكي نصلي ونتعبد لله؛ فبلا عون الله وتوفيقه لن نصل إلى أي هدف وغاية.

فإما حياةٌ كريمةٌ حرّة

وإما شهادةٌ في سبيل لله

عاد كل العناصر في خلايا كتائب عز الدين القسام سالمين وصعدت روح الشهيد "عز الدين المصري" إلى ربها، لكني لم أعد سالماً، نعم لم أعد سالماً بعد تلك العملية، فرغم أني اهتممت بكل شيء إلا أني أبقى إنساناً بشراً، ويبقى من معي من مقاومين بشراً أيضاً؛ فقد وقع خطاٌ ما، فوقعت أنا وبلال في الأسر للمرة الأولى.

لم يدم أسرنا طويلاً ولكن خسارتي كانت كبيرة جداً جداً، وفقدت الكثير الكثير جراء وقوعي في الأسر المرة الملعونة، فلقد خرجت من تجربة الأسر حراً، ولكن من نوع آخر، نوع جعلني أصبح منذ ذلك اليوم أميراً للظل، أميراً يعيش في الظل رغم أنف من أشعلوا مصابيحهم ليبحثوا عني ويجدوني.


الاعتقال الأول

بعد أن عاد كل العناصر لممارسة حياتهم بشكل طبيعي بعد إيصال الشهيد عز الدين المصري للقدس، وقبل أن ينفذ عز الدين العملية بنحو نصف ساعة تقريباً، كنت أنا في طريقي لاستلام شحنة من الأسلحة والذخائر مخبأة بطقم للكراسي الضخمة والفخمة، بقلب تلك الكراسي والأرائك ثم وضع السلاح والذخيرة وإخفائها بشكل محترف من قبل أحد إخواننا الذي كان يعمل بمجال تنجيد الأثاث المنزلي بإحدى المدن الفلسطينية . سلمته السلاح والذخيرة هناك وطلبت منه أن يخفيه بأحد الأطقم التي كنت قد اشتريتها من تلك المدينة، فأخفى الأمانة بداخله وأرسله لي مع سائق نقل عام وأعطى السائق اسماً وهمياً، كنت قد أبلغته لذلك الأخ المنجد. قبل وصول السائق للمكان المحدد، وصل بلال بعد أن أوصل هو الآخر عز الدين المصري للأخوة ليوصله لهدفه.

قابلت بلال وانتظرت أنا وهو وصول السائق مع الأمانة التي لم يكن يعلم بوجودها بداخل طقم الكراسي والأرائك، والأهم من ذلك هو أن بلال أيضاً لم يكن يعلم ماذا كنت أفعل هناك أصلاً، فكل ما كنت قد طلبته من بلال هو أن يوصل عز الدين ويلاقيني في هذا المكان.

ما هي إلا دقائق بعد وصول بلال حتى انقض عدة أشخاص مسلحين وملثمين على بلال البرغوثي ليعتقلوه وعلي أنا الآخر، أولئك المسلحون كانوا عناصر جهاز الفساد والإفساد الفلسطيني عناصر جهاز الأمن الوقائي كلاب جبريل الرجوب كلب بن صهيون، أعتقل بلال واعتقلت معه ولم أكن أنا الشخص المطلوب بل بلال، لأنه قد تم رصد حركته من قبل جهاز الأمن الوقائي بسبب نشاطه وحركته الكبيرة خلال الأشهر الماضية، فخلال ما يقارب العشر أشهر كان بلال البرغوثي قد نفذ وأدار وقاد عدداً كبيراً من العمليات عبر الخلايا التي قمنا بتشكيلها، فاعتقل هو وما زاد الطين بله هو ما كان يجيب بلال؛ فبعد التحقيق معه لعدة ساعات ظل صامتاً لا يتكلم فاقتادوه للزنزانة في أحد مقرات جهاز الأمن الوقائي بمدينة رام الله وهناك بالمقر الثاني فتشوه وجدوا بأحد جيوبه ما يلي:

أولاً:

عقد إيجار شقته التي برام الله وهو عقد باسم شخص آخر، ووجود عقد إيجار شقة أخرى كانت مستودع للسلاح والذخيرة والمال، والمواد المتفجرة.

ثانياً:

وهو الأهم بل ما قد قسم ظهر البعير وظهري أنا أيضاً، هو أنهم وجدوا الورق التي كانت تحمل وصية الاستشهادي "عز الدين القسام"، الذي كان قد فجر نفسه قبل عدة ساعات فقط، أي بعد اعتقال بلال وبعد انتهاء التحقيق الأولي معه بمركز جهاز الوقائي الفرعي.

هنا جن جنون جبريل الرجوب عندما علم أن بلال البرغوثي له صلة بعملية مطعم اسبارو الذي حدث فجر اليوم في القدس، ولقد ربط محققوه وجود عبد الله البرغوثي المهندس بالقضية من هذا الباب، وما زاد الطين بلةً هو أنهم وجدوا مسدساً مع بلال أثناء اعتقاله عندما كنا ننتظر السائق الذي كان يحمل الأمانة.

وهنا داهمت قوات جهاز الفساد والإفساد الفلسطينية جهاز الأمن الوقائي بقيادة كلب بني صهيون جبريل الرجوب التحقيق التي كانت عناوينها مكتوبة على عقود الإيجار تلك العقود التي حملها بلال معه تحسباً من وجود ثغرة أمنية أثناء عملية مطعم اسبارو ولذلك فضل أن يحمل كل الأوراق التي تمت له ولنا بصلة ويحتفظ بها.

ما إن وصلوا لتلك الشقق حتى وجدوا عدة مئات من كيلو غرامات من المواد الناسفة وعدة مئات من اللترات من المواد الحارقة التي تستعمل بإنتاج المتفجرات، ووجدوا عدداً كبيراً من السلاح وعدداً أكبر من الذخيرة وحواسيب ومناظير ليلية، والكثير الكثير من التجهيزات الالكترونية، كل ذلك لم يكن يهم أبداً، فكله يشترى بالمال، المال هو ما وجدوه، لقد وجدوا مالي الذي كنت قد سحبته من البنوك وجدوا مالي الذي قبضته ثمناً للمحلات التجارية التي بعتها للسوبر ماركت ولمحل الأدوات الكهربائية، كل المال وجدوه واستولوا عليه بل نهبوه.

وما زاد الطين طيناً هو ذلك الفاسد الآخر توفيق الطيراوي الذي كان يرأس جهاز المخابرات الفلسطينية، فلسطينية بالاسم صهيونية بالعمل والولاء.

داهم توفيق الطيراوي وقواته منزلي بقرية بيت ريما داهموا قلعة والدي، وداهموا عدداً من المخازن التجارية التي كانت أمام الناس فارغة وغير مستعملة، وهي في الحقيقة كانت مليئة بالمواد الناسفة، وهكذا استولى جهاز المخابرات على ما تبقى من مواد ناسفة ومن مال ما زال بقرية بيت ريما، وهكذا أصبحت معتقلاً أسيراً لدى أجهزة العمالة الفلسطينية، اعتقلت "أحلام التميمي" لدى الصهاينة واعتقل "محمد دغلس" أولاً لدى الصهاينة الذين اعتقلوه بناء على صلته ببلال البرغوثي بعد أن نقلت تلك المعلومات من جهاز الأمن الوقائي لجهاز الشاباك الصهيوني.

بقينا أنا وبلال معتقلان عدة أسابيع وخلالها وأعلنا إضراباً عن الطعام، فبدأت الأخبار تصل خارج أسوار المعتقل وهكذا خرجت مظاهرات طلابية ضخمة من جامعة بيرزيت ومن عدد من الجامعات الفلسطينية باتجاه المعتقل مطالبة بإطلاق سراحي، سراح مهندس كتائب القسام ذلك الاسم الذي أطلق علي منذ تلك الأيام ومطالب بإطلاق سراح القائد القسامي بلال البرغوثي، يدي اليمنى وكتفي الذي أستند عليه.

قدر الله أن تكون للمشوار تتمة، فلقد كانت عملية مطعم اسبارو عملية مهمة جداً من ناحية التوقيت، فلقد كان الشارع متعطشاً لها، راغباً بمعاقبة الاحتلال والثأر منه، مما دفع الشارع للغليان مطالباً بإفراج منفذي العملية، وقدر الله أن ترتكب إسرائيل جريمة أخرى بحق أشرف رجال فلسطين وأطهرها، وهو الشهيد "أبو علي مصطفى" الأمين العام للجبهة الشعبية، حيث قصفت قوات الاحتلال مسكنه القاطن بمدينة رام الله فصعدت روحه لبارئها، وصعدت معها المظاهرات مطالبة بالإفراج عن سراح المعتقلين الفلسطينيين من داخل المعتقلات الفلسطينية وعلى رأسهم سراح قادة القسام.

وهكذا وبنفس يوم استشهاد "أبو علي مصطفى" وبعد إحدى المسيرات والمظاهرات التي توجهت إلى معتقل جهاز الوقائي تم إطلاق سراحي وسراح "بلال البرغوثي".

شيع جثمان الشهيد "أبو علي مصطفى" بذلك اليوم لكننا لم نشارك بذلك التشييع، ولم نحمل جثمانه؛ فلقد كنا نحتاج لمن يحملنا ويساعدنا، أما "أحلام التميمي" فقد كانت تخضع للتحقيق أيضاً بسجن المسكوبية في القدس حيث كان "محمد دغلس" يخضع للتحقيق هو أيضاً وهنا أقول أن ما جرى لي عند التحقيق كان أهون بكثير مما جرى لأختي أحلام وأخي محمد، فأنا لم أعذب عند جهاز الأمن الوقائي أما أخوتي فذاقوا المر والعلقم هناك عند الصهاينة. لم نحمل الجثمان لكنا حملنا بعيداً.


المطارد

نعم أصبحت مطارداً بعد عام على العمل العسكري السري منذ بدء الانتفاضة، أصبحت مطارداً، وأي مطارد، وقد كنت منهكاً من الإضراب عن الطعام الذي خضته وأنا معتقل لدى أجهزة الأمن الوقائي، وبلال كان يعاني كثيراً بسبب الإضراب لأنه كان يملك كلية واحدة فلقد فقد كليته الأولى في الانتفاضة الأولى، وكاد يفقد الثانية نتيجة الإضراب، لولا ستر الله ولطفه به.

كنا بدون شقق، أو بدون مكان آمن نلجأ إليه، بدون سلاح وعتاد، وبلا مواد ناسفة وبلا بنية تحتية من حواسيب وأجهزة الكترونية، أما الأهم هو أني مطارد فقير، فقير معدم لا أملك قرشاً واحداً، لأن المحن تأتي مجتمعة ولأن الابتلاء قد كتب علي في تلك الفترة الزمنية الصعبة.

تلك الفترة التي كنت أشعر فيها بالعجز والضعف، بعد أن كنت قد بدأت أجيد فنون المقاومة، وهنا يا ابنتي الجميلة ويا ملاكي الحارس جاء الدور عليكِ لأن تمدي لي يد العون والمساعدة، ولتعيني كتائب عز القسام على النهوض مرة أخرى رغم أن عمركِ لم يكن قد تجاوز العامين، ورغم أنكِ وطول العام الماضي الذي كنت أعمل فيه بشكل سري لم أركِ سوى أيام معدودة رغم كل ذلك كنتِ أنتِ أول من قدم لي وللقسام يد العون.

عندما ولدت قبل عامين كنت أنا ثري، فاحش الثراء ولذلك كنت دائم إحضار الهدايا لك وبالأخص الهدايا الذهبية، وهكذا أصبح لديكِ الكثير من تلك القطع الذهبية التي كنت أوصي صديق لي يملك محلاً للمجوهرات لكي يصنعها لكِ خصيصاً ولكي تناسب صغر يديكِ وخفة وزنكِ، ولأني عندما كنت أذهب لإحضار تلك القطع الذهبية من عند صديقي الصانع فلقد كنت اشتري من عنده أيضاً قطعاً ذهبية لوالدتكِ لزوجتي الحبيبة، أما قطع الذهب الخاصة بوالدتكِ، فلقد كانت كبيرة وثقيلة جداً، حتى أن والدتك كانت دائماً تقوم باستبدال تلك القطع بقطع أصغر لتتناسب مع ذوقها هي، فلقد كان ذوقها أرقى بكثير من ذوقي.

وهكذا فلقد كان أول ما فعلته عند خروجي من معتقل الوقائي هو بيع كل ذهبكِ باستثناء خرزة زرقاء وكل ذهب والدتكِ باستثناء دبلة خفيفة أبقيتها كرمز للزواج، أنتِ لم تعارضي أبداً أما أمكِ فهي من اقترح علي تلك الفكرة أصلاً بل إن والدتك قامت بسحب كل المال الذي كنت قد أودعته بحسابها قبل عام عندما قررت أن أسير في درب المقاومة والمال الذي سبق أن جمعته من هدايا ونقوط خلال زواجنا.

وثاني ما قمت به هو الوصول للصديق الذي أودعت عنده الأمانة تلك الأمانة: طقم الكراسي المليء بالسلاح والذخيرة، فهو صديق وفي أرسلت له أثناء اعتقالي عند الوقائي رسالة فقام بانتحال الاسم الذي ذكرته له وحصل على الأمانة واحتفظ بها عنده. وعندما ظننت أن الأمور قد بدأت تسير بسلام، وخاصة عندما استأجرت شقة وأعدت شراء الحواسيب وأصبحت أملك عدة هويات مزورة، قدر الله أن أفقد من حولي الرجال، الواحد تلو الآخر. فاعتقل بلال البرغوثي مع ثلاثة من المجاهدين عند جهاز الأمن الوقائي وبعد ذلك بفترة قصيرة فقدت أهم عقول حماس الهندسية المهندس أيمن حلاوة، حيث قصفت إسرائيل السيارة التي كان يقودها بمدينة نابلس، نابلس جبل النار.

وبعد ذلك فقدت حماس بل فقدت فلسطين وكتائب القسام، سيد القساميين الشهيد محمود أبو هنود، حيث استشهد الأسد الجسور الذي أذاق الصهاينة المر، ومرغ أنوفهم بالتراب منذ سنوات طويلة من الانتفاضة الأولى وصولاً للانتفاضة الثانية، وهكذا أصبحت مثل الطفل الصغير بلا أخوة وبلا آباء، نعم بلا أخوة وبلا آباء؛ فأيمن حلاوة كان أباً للقسام ومحمود أبو هنود كان أباً وقائداً عظيماً للقسام. أما الأخوة فهم كثر، فلقد اعتقل في تلك الفترة أيضاً سليم حجو وهو أهم حلقة الوصل بين نابلس ورام الله، بين جناحي الضفة الغربية. ولأن يحيى عياش قد خطها على القرآن الكريم "كن مع الله ولا تبالي" فلقد أعز الله فلسطين والقسام، بقائد قسامي لم أكن قد سمعت عنه من قبل، قائد كان معتقلاً منذ سنوات لدى أجهزة الأمن، سلطة الفساد والإفساد، معتقل منذ اغتيال يحيى عياش.

اعتقلته الأجهزة الأمنية طوال تلك الأعوام بسبب علاقته مع عياش. قدر الله له أن يخرج من أسر السلطة وقدر الله لي أن ألتقي به. لم يكن من حملة السلاح ولا من قاذفي العبوات الناسفة، ولم يكن طويلاً عريضاً ،لكنه كان عقلاً، عقلاً مفكراً بارعاً في إيجاد كل ما تحتاجه المقاومة، كان صوت العقل والحكمة: شجاعٌ صبورٌ، صامت وأعني بالصمت كل ما تحمله الكلمة من معنى، أي أن طوال عامين كاملين من العمل المشترك ومن المطاردة سوياً وطوال أيام طويلة وليالٍ طوال، ظلَّ صامتاً أقسم أن حديثنا معاً لم يتجاوز خلال العامين سوى ساعتين أو ثلاثة كحد أقصى، كان يفهم علي دون أن أتحدث ،وكنت أعلم ما يريد دون أن يقول، وكما يقال: اللبيب من الإشارة يفهم، لكني أقول أن ما كان بيننا هبة ربانية وهبة لكلينا حتى نتمكن من خوض المعركة بصمت وقوة.

وللآن ما زال ملف التحقيق معه مفتوحاً، أمام القضاء الصهيوني فسوف أكتفي بأن أسميه باسم السلوادي، وهكذا بدأت أنا والسلوادي من جديد هو خارج من المعتقل وأنا كذلك هو رافق المهندس عياش وأنا المهندس أبحث على من يرافقني ويعينني على دربي ودرب رجال القسام.


كلمات متشابكة

وهنا بعد أن بدأت ألملم أفكاري وأعيد صف صفوفي التي بعثرها جهازي الأمن الوقائي والمخابرات، وجدت نفسي أقول تلك الكلمات، الكلمات المتشابكة:

ألست على دين صلاح الدين... وابن الخطاب عمر أمير المجاهدين

ألست من الموحدين المسلمين ... ألم ننطق الشهادة لرب العالمين

ألم ترى كيف نذبح بفلسطين ... وكيف يحاصر أهل غزة المساكين

سحقاً لك أيها الجبان .... أنت ما عدت اليوم إنسان

بل أصبحت عميلاً للطغيان .... تباً لك يا ابن الغربان

ما دمت تقبل بالظلم والهوان ... لأهلك أهل القدس والأقصى وفلسطين

أعُميت أم أنت أعمى بلا عيون ... وبلا سمع وبلا آذان

أليس هذا فعل من خان ... وتحالف مع العدو بإمعان

أم أن دينك عليك هان ... استيقظ من غفلتك ولا تحزن

فعدوي وعدوك واحد لا اثنان ... إنه حلم احتلال بني صهيون

ألم يمنعو الصلاة وإقامة الأذان ... ومنعوا الشيخ من قراءة القرآن

مطارداً أخاطبك يا حليف الطغيان ... فأنا ابن كتائب القسام عز الدين

فأنا بدين محمدٍ أدين ... أنا ابن رام الله وابن جنين

أنا ابن القسام عز الدين ... أنا ابن القسام عز الدين

وأنت أصبح العدو هو ربك ... وهو من له أنت تدين

حسبي الله ونعم الوكيل بكل من باع وهادن وقبل الذل والهوان، حسبي الله بتلك الأجهزة الأمنية التي أصبحت عبئاً في فلسطين على المقاومة والثائرين،أصبحت إماراتٍ ومماليك لقادتها الذين يتكالبون على المقاومة إرضاءً لأسيادهم الصهاينة.

وهنا قبل أن أعاود ضرب العدو من جديد قررت أن أضرب تلك الأجهزة الأمنية لكن ليس من خلال إراقة قطرة دم واحدة بل من خلال اختراقها بشتى الوسائل والطرق؛ بالمال والتكنولوجيا، والأهم من خلال بعض العناصر، عناصر تلك الأجهزة القائمين عليها وعلى قيادتها.

قاوموها بعد أن عرفوا حقيقتها، وعرفوا أنها أدوات بأيدي قادتهم لتحقيق أوامر المحتل، ولأنها بيت من ورق، سرعان ما تمكنت من معرفة كل ما يدور بداخل دوائر تلك الأجهزة الأمنية وأقسم بالله العلي العظيم أنني أصبحت أعرف أدق التفاصيل التي تدور فيها أحاديثهم، وكنت أعلم المهام المكلفين فيها قبل أن يعلم بها العناصر التنفيذية، أي كنت أعلمها من المصدر، حتى أني أصبحت أعلم متى سوف تقتحم قوات الاحتلال وأين سوف تقتحم . كان ذلك يتم بالتتبع مع قادة تلك الأجهزة العملية بقيادة جبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي.


العقاب، ثلاثيٌّ هذهِ المرّة

كان واجبٌ على كتائب عز الدين القسام أن ترد رداً موجعاً بعد استشهاد كلٍ من محمود أبو هنود واستشهاد المهندس أيمن حلاوة، بل وكان واجباً علي بشكل شخصي أن أرد على تلك الجرائم بسبب علاقتي بأولئك القادة العظماء.

لكني عندما استشهدا كنت ما زلت ألملم خيوط إدارة المعركة من جديد، ومع ذلك وقبل أن أجمع كل الخيوط ،قررت تنفيذ أكبر وأعقد عملية تنفذها كتائب القسام بذلك الوقت في القدس المحتلة بالتحديد، العملية الثلاثية.

لقد قررت أن أنفذ ثلاث عمليات بيوم واحدٍ في القدس لكي يعلم العدو أن العقاب قادم، قادم رغم أنفه، قادم بعون الله وهنا وقع الاختيار على اثنين من الاستشهاديين لينفذا تلك العملية وهما الشهيدان أسامة حلبية وأيمن بحر، فهما صديقان منذ الطفولة وكانا قد طلبا من أحد الأخوة أن يبلغ مهندس القسام عبد الله البرغوثي عن رغبتها بالشهادة في سبيل الله، ولأني كنت لا أفضل ذلك النوع من العمليات في ذلك الوقت السابق فلم أبدي موافقتي على ما طلباه ولكن بسبب إلحاحهما الشديد، والقوي فلقد وصل بهما أن أقسما أنه إن لم أوافق على إعدادهم وتجهيزهم لينفذا عملية استشهادية أقسما أن يحملا سكاكين ويطعنا جنوداً على إحدى الحواجز العسكرية. وهنا تلاقى إصرارهما مع الحاجة الملحة لتلقين العدو درساً قاسياً بعد عمليات الاغتيال التي نفذها.

كان كلا الاستشهاديين من مدينة القدس وهذا ما جعلني أكلفهما باستطلاع عددٍ من الأماكن التي كانت يمكن استهدافها، والتي كنت قد زرتها أنا عندما كنت أقيم بمدينة القدس قبل الانتفاضة وفي بدايتها، قبل أن أصبح مطلوباً لقوات العدو.

وخلال جولتين من الاستطلاع وقع الاختيار على أحد الشوارع المليء بالملاهي الليلية، وهنا أقول شارع أي أننا لم نستهدف ملهىً ليلي بعينه وإنما الصهاينة المتجمهرين أمام تلك الملاهي الليلية وهم غالباً من شبان جنود الاحتلال الذين يمضون ليلهم بالسهر والسكر ونهارهم بارتكاب الجرائم ضد أبناء فلسطين المحتلة.

طلبت منهم شراء سيارة ليستعملاها بتنفيذ العملية، على أن لا يتم شراؤها من رام الله أو من القدس، تجنباً لِلفت الأنظار لهما، وبعد ذلك حددنا موعد لتنفيذ العملية، فحضرا إلى إحدى الشقق التي كنتُ قد أعددتها لتكون مختبراً للعبوات الناسفة، وهناك زودت إحدهما بحزام ناسف لأنه كان يستطيع بسهولة - بسبب أن الفصل كان شتاءً - إخفاءه بواسطة جاكيت شتوي. أما الثاني فأعطيته جهاز كمبيوتر مفخخ ولقد أمضيا تلك الليلة الرمضانية بعد تناولهما طعام الإفطار بتصوير عددٍ من أشرطة الفيديو لهما : شرائط للإعلام وللعائلة من أجل توديع أهلهم.

أمضينا طوال تلك الليلة وهما يقرآن القرآن ويصليان وعندما جاء موعد السحور وودعتهما لينطلقا إلى القدس ليبقيا بها حتى حلول منتصف الليلة وبعد ذلك بتفجير نفسيهما بالأماكن المحددة مسبقاً.

هنا عندما قلت أن العقاب سيكون ثلاثياً، فأنا أعني ذلك حرفياً، فلقد كان ثلاثياً قوياً.

عندما تم رصد مكان تنفيذ العملية كان مكاناً يناسب ثلاث عمليات لا أكثر ولا أقل، فلقد طلبت من الاستشهادي الأول أن يفجر نفسه بوسط الجنود الصهاينة المتواجدين عند بوابة أحد الملاهي الليلية عبر جهاز الكمبيوتر الذي كان يحمله معه وكان ذلك شيئاً عادياً أن يحمل أي شخص جهاز حاسوب، أما الاستشهادي الثاني فلقد طلبت منه أن يفجر نفسه من خلال الحزام الناسف الذي كان يرتديه على جسده الطاهر بوسط مجموعة أخرى من الجنود الذين يرتادون نادياً ليلياً آخر يقع في شارعٍ آخر.

وفعلاً وبمجرد سماع دوي انفجار جهاز الحاسوب من الاستشهادي أسامة حلبية قام الاستشهادي أيمن بحر وحسب التعليمات وحسب الوقت المعلوم مسبقاً قام بتفجير نفسه. وهكذا أوقع كلا الاستشهاديين عدداً كبيراً من قتلى وجرحى العدو الصهيوني.

بعد ذلك امتلأت الشوارع بسيارات الإسعاف وبقوات الاحتلال وبالمحطات الفضائية التي كانت تنقل البث المباشر لما يحدث هناك، ولقد كان من عادة قوات الاحتلال أن تقفل بداية الشارع الذي حدثت به العملية ونهاية الشارع، وهذا ما حدث فعلاً وهذا ما شاهدته على التلفاز وأنا أتابع البث المباشر وعندما رأيتها تقف شامخةً وكأنها تريد أن تحلق بالسماء قلت لها مع السلامة.

مع السلامة بعد أن اتصلت من خلال الهاتف الجوال الذي كان بحوزتي وهاتف آخر كان بحوزتها، فودعتني وانفجرت. فلقد قمت بتفخيخ السيارة أثناء الليل عندما كان كلا الاستشهاديين يصليان ويقرءا القرآن الكريم وبعد أن فخختها وضعت عليها إشارة بأعلى السقف لكي أستطيع مشاهدتها عبر التلفاز.

قبل أن ينطلق الاستشهاديان وأثناء وضعنا للخطة قررنا أن يقوما بإيصال نفسهما لموقع العملية وأن يقوما بركن السيارة على الطرف الآخر من الشارع؛ الطرف الذي كان بعيداً عن موقع العمليتين، والذي كان وحسب معرفتنا بالمنطقة سوف يكون هو الطرف الذي تقوم قوات الاحتلال بإغلاق الشارع من عنده، وهذا ما حدث بحمد الله ولقد صورت هذه العملية بالصوت والصورة عبر البث المباشر، فكانت بحمد من الله وتوفيق منه صفعة وعقاب قوي يتلقاه العدو الصهيوني جراء جرائمه بحق أبناء شعب فلسطين المحتلة.

وهكذا تم الرد وتم توجيه العقاب المناسب رداً على استشهاد كلٍ من المهندس "أيمن حلاوة" وقائد كتائب القسام "محمود أبو هنود"، رحمة الله عليهما، وكتب الله لهما، وللشهيدين "أسامة حلبية" و" أيمن بحر" الخلود بجنات الخلد والنعيم، هذه العملية أفقدت العدو توازنه بشكل كبير جداً مما جعله يكثف بحثه عني من خلال عملائه أولاً ومن خلال عملاء جهازي الوقائي والمخابرات.

وأصبحت صورتي تملأ جيوب أولئك العملاء الذين كانوا يجوبون الشوارع والمساجد ليلاً نهاراً بحثاً عني، فلم أتمكن من أداء الصلاة بداخل مسجد منذ تلك العملية وحتى يومنا هذا أبداً .وأطرف ما في هذا الموضوع أن جهاز الرصد الخاص بكتائب الشهيد عز الدين القسام الذي عملت على تشكيل عددٍ من أفرعه بالمناطق التي كنت أقيم بها قد أشار بأحد التقارير أنه لاحظ وجود عميل لجهاز الأمن الوقائي وعميل لجهاز المخابرات وعميل آخر للعدو الصهيوني، كلهم يقفون بجوار أحد مساجد في منطقة البيرة الصناعية التي كانت المعلومات تشير لهم أني أقيم بها في ذلك الوقت.


طغى وتجب

هناك بعيداً عن رام الله والقدس حاصرت دبابات "المركافا" قريتي بيت ريما فوصلني الخبر، فعرفت على الفور أن المقصود من ذلك الحصار هو الوصول إلي، بل الوصول لقلعتي واعتقال زوجتي هناك، فتوجهت مع إحدى المجموعات القسامية المقاتلة عبر الطرق الالتفافية الترابية لمحاولة دخول القرية وخوض المعركة هناك، ولقد تزودنا بكل ما يلزم من عبوات ناسفة وقنابل يدوية وأسلحة نارية ومناظير ليلية وبعض بنادق القنص، لكننا لم نتمكن من دخول القرية ولأننا كنا بموقع مكشوف قررنا التروي حتى يحل الظلام؛ فالليل حامي وساتر بعد الله عز وجل.

وما إن حل الظلام حتى سبقتنا دبابات المركافا والمجنزرة التي تعمل بدون الحاجة لوجود جندي عندها، فهي تعمل عبر أوامر من داخل المجنزرة أو الدبابة. فبدأت تلك الدبابات بإطلاق نيرانها على كل أرجاء القرية فلم تترك منزلاً يقع ضمن مرماها حتى قامت برشه بوابل من الرصاص والقذائف.

استمر القتال طوال الليل وحتى طلوع الفجر، فامتلأت القرية بالشهداء والمصابين، واعتقل المئات من أبناء القرية وفرغت المنازل من كل الرجال من كل من كان عمره أكبر من خمس أو ستة عشر عاماً ، هناك اقتيد عددٌ من أعمامي وأبنائهم وأخذ جزء منهم لكي يتعرفوا على جثتي من بين الشهداء الذين كانت جثثهم أشلاء ممزقة بفعل قذائف الدبابات، فلم يستطع أحد أعمامي التعرف على جثتي المفترضة.

في ذلك اليوم استشهد نحو ثماني شهداء أما الجرحى فكانوا بالعشرات لا بل بالمئات، لكني لم أكن لا أنا ولا أخوتي مقاتلي القسام من بين الشهداء أو الجرحى، فنحن كنا مسلحين ومجهزين مما اضطر قوات العدو بأن تحضر عدداً من طائرات الأباتشي لتمشط المنطقة التي كنا فيها، ولكن قدر الله لنا أن نخوض اشتباكاً طويلاً دون أن نفقد قطرة دم واحدة، وفرض حظر التجوال لعدة أيام على القرية، بقينا خلاله نناوش العدو من التلال المجاورة مما جعل القوات المحتلة تغادر القرية وتلاحقنا في تلك التلال والجبال، وبفضل الله عز وجل وبمساعدة العبوات الناسفة وبنادق القنص استطعنا أن نوقع عدداً من جنود العدو بين قتيلٍ وجريح.

زوجتي لم تكن بالقلعة عند مهاجمتها وإمطارها بوابل من القنابل مما أدى إلى احتراق جزءٍ منها ودمار جزءٍ آخر، أما زوجتي الحبيبة وملاكي الحارس وأسامة ابني الصغير، فلقد حماهم الله من تلك القنابل ومن الاعتقال أيضاً.

وما إن انسحبت قوات العدو حتى بان الدمار أكثر وأكثر، فلقد سحقت سيارتين كنت أملكهما وكانتا تقفان أمام منزلي فحولتا إلى كومة من الحديد، وتم تفجير ثالثة كانت تقف في داخل أحد المخازن التجارية التابعة لي أما السيارة الرابعة فلقد وجد نصفها فقط أما النصف الآخر فوجد مهروساً في أحد أطراف القرية ويبدو أنه كان قد علق بأسفل أحد الدبابات أثناء تلك المجزرة، مجزرة بحق البشر والشهداء وبحق المنازل والسيارات وبحق أشجار الزيتون، فلم يبقَ شيئاً قد سلم من تلك الآلة، آلة الظلم والطغيان آلة الدمار، أما أنا فلم يتأخر ردي عبر عددٍ من العمليات المكثفة نفذت على الطرق الالتفافية وضد نقاط التفتيش والحواجز الصهيونية.


بناء ما تم تدميره

عندما عدت إلى رام الله بعد أن شاهدت حجم الدمار الذي حل على قريتي، قرية بيت ريما، قررت أن أتخذ عدة إجراءات لعلي أساعد ولو قليلاً على التغلب على هذا الدمار.

فكلفت أحد الأقارب لكي يقوم بإعادة بناء منزل والدي الذي تهدم جزء منه واحترق جزء آخر وأعطيته المال المناسب لذلك ثم قمت بمساعدة كافة الأشخاص الذين كانوا مديونين لي بمال من أهل القرية، ذلك المال الذي كانوا مديونين به جراء شرائهم السلع الاستهلاكية من المحلات التجارية التي كنت أملكها حتى بداية الانتفاضة، لأنه عندما صفيت وبعتُ تلك المحلات بقيت أحتفظ بسجل الديون. ولم أكتفِ بهذا فالدمار كان قد طال الكثير والكثير من البيوت والأسر، فأرسلت جزءً من المال لعلي أساهم بصمود أهالي القرية على المحتل ولعلي أتمكن من إعانتهم على إعادة البناء.

وما هي إلا أسابيع قليلة جداً حتى عادت القرية على أحس حال وأفضل وضع، وما فاجأني هو أن أهل القرية كانوا متكاتفين ومتعاونين جداً حتى أن جزءًا كبيراً من المال الذي كنت قد خصصته لإعادة إعمار منزل والدي (قلعة جدي) ظل على حاله لأن عدداً من العاملين في مجال البناء تبرعوا لي: تبرعوا لعبد الله البرغوثي ، بعملهم وبمواد البناء اللازمة لإتمام تلك الأعمال، وعندما سُئلو قالوا: لنفدي أبو أسامة "عبد الله البرغوثي " مقاتل بني صهيون وسوف نبني ما دُمِّرَ من قبل بني صهيون فهذه معركتنا أيضاً.

حمدت الله على تكاتف القرية بل على تكاتف أهل فلسطين الذين كانوا يسارعون إلى الخير وإلى البناء وإلى تقديم كل ما يملكون في سبيل تحقيق ذلك رغم ضيق الحالة المادية لهم.


أبو علي السلوادي

في تلك الفترة وبخاصة بعد اعتقال "بلال البرغوثي" وعددٍ ليس بالقليل من عناصر كتائب عز الدين القسام، سواء على يد أجهزة السلطة الأمنية، أو على يد أجهزة الأمن الصهيونية، أصبحت العلاقة قوية ومتينة وأصبح هناك بعض المشاكل أيضاً، كانت تلك المشاكل تعود لسبب واحد وهو أن أبو علي السلوادي كان يخشى أن يفقدني وكان يخاف علي من الاعتقال أو الاستشهاد، وكان يردد جملة دائماً على مسمعي يقول بها إن فقدناك يا أبو أسامة البرغوثي فإننا لن نتمكن مهما حاولنا من تعويضك وتعويض ما تملكه من خبرة ومهارات عسكرية وأمنية. كنت أرد عليه ضاحكاً فلسطين ولاّدة سوف تنجب من هم خير بألف مرة فلا تقلق، لكن قلق "أبو علي السلوادي" كان بمحله؛ ففي تلك الفترة كانت قوات الاحتلال تناوش حول المدن الكبرى ولم تكن قد اقتحمت أياً منها، وبإحدى تلك المناوشات والمعارك على أطراف مدينة رام الله، وتحديداً منطقة أم الشرايط، كنت مع عددٍ من رجال القسام، وهم "سيد الشيخ قاسم" و"أبو أحمد الخطيب" وعنصرين آخرين خضنا اشتباكاً فجرنا خلاله العديد من العبوات الناسفة وأطلقنا العشرات من الرصاصات باتجاه قوات العدو التي كانت تحاول اقتحام منطقة أم الشرايط، قدّر الله لي في ذلك اليوم أن أصاب بإحدى الرصاصات لتستقر هذه الرصاصة بفخذ قدمي الأيمن مخلفةً نزيفاً حاداً، وقبل أن يتمكنوا من نقلي بعد إصابتي كنت قد دخلت في غيبوبة نتيجة نقص الدماء من جسدي بسبب النزيف الحاد، استيقظت بعد ذلك بيومين بإحدى الشقق الآمنة بعد أن كان الأخوة سيد الشيخ قاسم وأبو أحمد الخطيب قد نقلوني إليها بمساعدة أخوين قسامين آخرين.

في تلك الفترة وخلال تماثلي للعلاج أدركت أن كلام "أبو علي السلوادي" صحيح ومهم جداً وأدركت كم كنت مخطئاً وكم كان هو صائباً وحكيماً، فأبو علي كان يتضايق مني بأمرين اثنين أولهما كثرةُ تنقلي بين المدن الفلسطينية وقراها فلقد كنت لا أفضل المكوث بأي من المدن سوى فترة محدودة أو بمعنى آخر كما كنت أقول "لأبي علي السلوادي" عندما يصبح عملي ووجودي بأي مكان روتيني فأنا أنتقل لمكان آخر فأنا لا أحب الروتين فهو يقتلني، ويدمر حماسي ورغبتي في التجديد هي ما تدفعني للنجاح. أما الشيء الثاني الذي كان يضايق "أبو علي السلوادي" مني فلقد كان حبي لخوض الاشتباكات المسلحة وعشقي للكمائن التي كنا ننصبها لقوات الاحتلال.

ما إن بدأت أسترجع عافيتي حتى قررت أن أبدأ أوسع برنامج لتدريب كل من يمكن تدريبهم من عناصر القسام على تقنيات صناعة العبوات الناسفة واللوحات الالكترونية اللازمة لذلك، وهنا كان دور "أبو علي السلوادي" دوراً محورياً ورئيسياً للغاية فلقد كان ينتقل من مكان لآخر ويجوب المدن الفلسطينية منتقياً أفضل شباب كتائب القسام الذين يصلحون ويملكون القدرة على التعلم وعلى القيادة أيضاً، فنحن خلال البرنامج التدريبي الذي استمر نحو عامٍ كامل، كنا ندرب ونعد عدداً من قادة القسام ليكونوا قادة المرحلة القادمة حتى لا يكون هناك فراغ ونقص إذا ما استشهد قائدٌ ما وخاصة أن القبضة الأمنية من أجهزة السلطة الفلسطينية ومن قوات الشاباك الصهيوني كانت قوية وشديدة جداً.

أما برنامج التدريب فلقد كان مكثفاً ومضغوطاً لدرجة كبيرة ومتعبة، فلقد كان الدور أن تعقد بمجملها بمدينة رام الله ومدينة البيرة في عدة منازل أُعدت وخصصت لتلك المهمة.

بعد تقدم برنامج التدريب بشكل جيد بفضل "أبو علي السلوادي" كان قد أدار هذا البرنامج بحكمة واقتدار وبفضل كل من سيد الشيخ قاسم وأبو أحمد الخطيب اللذان كانا مساعدي الشخصيان وكانا يمضيان كل وقتهما إما في تجهيز الشقق وإعدادهما وإما بإحضار المتدربين وإعادتهم للأماكن التي قد حضرو منها، وتلك المهمة كانت الأصعب.

فلقد كان إحضار متدرب واحد ليتلقى برنامج التدريب يطلب إجراءات أمنية سريعة ومعقدة في ظل الملاحقة الأمنية التي كانت حركة المقاومة حماس وذراعها العسكري كتائب القسام تتعرض له من قبل قوات الأمن الفلسطينية التي كانت تجوب المدن والشوارع والمباني السكنية بحثاً عنا ،ومن خلال قوات العدو الصهيوني التي كانت تبحث عنا عبر عملائها وعبر وسائلها التقنية من طائراتٍ للاستطلاع، تلك الطائرات التي لم تكن تفارق المدن الفلسطينية أبداً ومن خلال أجهزة رصد المكالمات الهاتفية مما جعل مهمة "سيد الشيخ قاسم" و"أبو أحمد الخطيب" من أصعب المهام، ولكن بفضل الله أنهما طول عملهما معي لم يرتكبا أي هفوة أو خطأ. بل كانا يملكان نوعاً من البصيرة الربانية وحساً أمنياً فائقاً، يُجنبنا الوقوع بمصائد العدو.

أما أبو أحمد الخطيب فلقد كان مثل السيف إذا ما ضرب ضربة فإنه لن تكون هناك حاجة ليعيد الضربة مرة أخرى فضربة واحدة منه تكفي وتزيد.

عندما أعددت برنامج التدريب، قسّمته لعدة مساقات؛ النظري والعلمي والميداني، أما النظري فلقد حولت كلما كان بداخل رأسي من معلومات تقنية وكل ما بداخل جهاز الحاسوب أي أوراق مطبوعة، مطبوعة بلغة سهلة جداً، واضحة بحيث أن المتدرب رغم عدم إلمامه بعلوم الهندسة الالكترونية، أو بعلوم صناعة العبوات الناسفة، فإنه كان يتمكن من فهم تلك الأمور لخلوها من التعقيد والإطالة المملة، فأنا من خلال تلك الأوراق المطبوعة المزودة برسوم هندسية وتوضيحية أردت أن تكون الصورة واضحة بسيطة. ثم أني قمت بالعمل على أن يحصل المتدرب على نسخة من تلك الأوراق قبل وصوله للتدرب لدي بعدة أيام لكي لا يفاجأ بما سوف يتم إعداده وتدريبه عليه، ثم من الناحية العملية، فلقد كنت بعد انتهاء الشرح النظري أبدأ بالتدريب العملي مع المتدرب، فأعلمه كيف يقوم بإعداد الدوائر الالكترونية وتجهيزها وكيف يقوم بإعداد المواد الناسفة وتجهيزها ضمن عبوات مختلفة الأشكال والأحجام، عبوات تتناسب مع كل عملية يراد التحضير لها.

أما من الناحية الميدانية فلقد كنت أدرب عنصر القسام على التعرف على أنواع الأسلحة المختلفة وعلى الذخائر المستعملة ثم أدربه على كيفية فك وجمع تلك الأسلحة من مسدسات ورشاشات وقنابل يدوية، وبعد أن يتقن هذه المرحلة التي كانت تتم بداخل المنزل المخصص للتدريب، كنتُ أبدأ مهارة عمليه فإنه يؤخذ إلى أحد المناطق القروية النائية للتدرب .

حرصت على شيءٍ مهم وأتمنى أن يحرص عليه كل من يعمل بميدان المقاومة، وهو أنه لم يتمكن أي أحد من رؤية وجهي أبداً ولا من التعرف على صوتي، فلقد كنت مقنّعاً طوال مدة التدريب مهما طالت. وكنت أتحدث بالغة الفصحى وليس اللغة العامية، وكنت أطلب من سيد الشيخ قاسم أن يلبس كل متدرب قبل أن يدخله لمقاتلين قناعاً لكي لا أتعرف أنا على هويته. وكان سيد يطلب منهم التحدث باللغة الفصحى مثلي تماماً، وكنت أعطي كل واحد منهم اسماً حركياً أتعامل معه به .أما هم فلم يكونوا يقولوا لي سوى كلمة واحدة وهي "الشيخ"، "الشيخ" كان لقبي عند تدريسي لكل تلك العناصر القسامية المقاتلة. بعد أن تمكنت من تدريب كافة تلك العناصر بدأت أنتقى عدداً منهم لتكليفه بمهمات جهادية خاصة.

كان الانتقاء يتم حسب المهارة الذي أبداها المتدرب أثناء تدريبه الأول لدي، فكنت أخضعه لتدريبٍ مكثف متخصص بحيث يكون هذا التدريب يتناسب مع المهام التي سوف يكلف بها. وسوف أتطرق لبعض أبرز من قمت بتدريبهم وإعدادهم، وسوف أبدأ من القدس الحبيبة على قلبي.

ولقد وقع اختياري على مجاهد اسمه "وائل العباسي" وعنصر آخر قادرين على استعمال السلاح وصناعة العبوات الناسفة وزراعتها، ولقد قامت تلك الخلية بعدة عمليات لزراعة العبوات الناسفة بأنحاء مدينة القدس، فلقد كنت أزود تلك الخلية بالعبوات الناسفة لتلك العمليات لأن الخلية لم تكن تملك مكاناً أمناً بمدينة القدس لصناعة لتلك العبوات فكنت أصنعها بمدينة رام الله وكان وائل العباسي يأتي لأخذها من هناك.

ولقد كان الشيخ قاسم هو الضابط المسئول عن عمل تلك الخلية؛ فلقد كان ينسق أعمالها مع أخٍ مجاهد اسمه صالح التلحمي وبعد عدة عمليات ناجحة، قررت مع الأخوة "أبو علي السلوادي" و"أبو أحمد الخطاب" أن نوسع نشاط تلك الخلية المقدسية خلية "وائل العباسي"، ولقد جاء هذا القرار بعد عملية جبانة قذرة أقدمت عليها قوات البرابرة الصهاينة.

فلقد قامت تلك القوات بقصف سيارة زوجة القيادي بحركة حماس" حسين أبو كويك"، لم يكن الشيخ "حسين أبو كويك" في تلك السيارة أصلاً، فهي سيارة زوجته التي كانت تقل أطفاله بعد أن أحضرتهم من المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، فاستشهدت واستشهد أبناءه أيضاً واستشهد عددٌ من التلاميذ في المدرسة الذين كانوا بالمكان؛ ولذلك كان لا بد من توجيه العقاب للعدو الصهيوني عبر عملية موجعة وسريعة.

فكانت القدس هي الهدف و"وائل العباسي" هو من استطلع وأعد الترتيبات اللازمة لإيصال الاستشهادي للمكان المناسب، وهو مطعم ومقهى "مومنت". أهمية هذا المقهى تكمن أنه يقع على بعد أمتار قليلة من بيت رئيس حكومة العدو الصهيوني شارون، والأهم هو رواد هذا المقهى "مومنت"، فلقد كانت المعلومات تشير أنه دائماً - وفي تلك الفترة من اليوم- يمتلئ المقهى بموظفين في الحكومة الصهيونية، الذين يقضون به أوقاتهم ليكونوا قريبين من رئيس حكومة الإرهاب الصهيوني شارون.

وهنا أحضر لي سيد الشيخ قاسم، الاستشهادي فؤاد الحوراني فقمت بتجهيزه بحزام ناسف ثم بتصويره وكتابة وصيته وبعد ذلك إلباسه ملابس تناسب الموقع الذي سوف يتوجه إليه، حدث ذلك خلال ساعتين لا أكثر، عادَ سيد القاسم بعدها ليجده جاهزاً مستعداً فاصطحبه معه ليوصله لوائل العباسي الذي عمل مع مساعديه من الأخوة القساميين على إيصال الاستشهادي إلى موقع العملية.

قدر الله أن يصل الاستشهادي فؤاد الحوراني بسلام إلى القدس، قادماً من مدينة رام الله رغم أن الوقت كان ليلاً، ورغم وجود عدد كبير من الحواجز العسكرية الثابتة والمتحركة، وقدر الله أن يقترب أكثر فيصل إلى بعد عدة أمتار من مقر شارون من بيته في القدس، وما إن دخل الاستشهادي فؤاد الحوراني حتى فجر نفسه مخلفاً خلفه عشرات القتلى والجرحى الصهاينة ومنهم عدد من موظفي حكومة العدو وتحديداً موظفي شارون، العاملين في وزارة الخارجية.

بعد تلك العملية جن جنون شارون وصب جام غضبه على الضفة الفلسطينية بأن قام بتشديد الحصار حول المدن دون أن يقتحمها، وعلى قطاع غزة من خلال زيادة عمليات القصف، ولأنه لم يتمكن من الوصول لمقاتلي كتائب عز الدين القسام، فلقد استهدف القادة القساميين ، وهكذا قصف شارون قطاع غزة موجهاً نيران طائراته نحو المهندس "إسماعيل أبو شنب"، ذلك المهندس المدني والقائد السياسي ، فاستشهد، وخرج بعد استشهاده أسد فلسطين "عبد العزيز الرنتيسي" ليتوعد بالحساب والعقاب.

ولأن الأمور كانت تسير بوتيرة سريعة جداً فلقد كلفت خلية "وائل العباسي" بأن تستطلع مكان آخر خارج مدينة القدس المحتلة، لكي لا تثير الشبهات حول تلك الخلية. فلقد طلبنا منهم أن يكون المكان بين وسط وشمال فلسطين المحتلة ولقد وجدوا مكاناً مناسباً، والأهم هو أنهم وجدوا استشهادي مناسب جداً لتلك العملية، ولأن أسد فلسطين قال عندما توعد بالرد والعقاب أن الرد سوف يكون مزلزلاً وأن بنيان الصهاينة سوف يهدم على رؤوسهم، فلقد كانت عملية مزدوجة مركبة بحيث قمت بإعداد حزام ناسف لاستشهادي ليضعه حول جسده وقمت بصناعة عبوة ناسفة شديدة الانفجار ووضعتها بداخل حقيبة، طلبت من الاستشهادي أن يزرعها في أحد أركان موقع العملية المستهدف، هذا الاستشهادي قام بدور حاسم بتحديد موقع العملية مع وائل العباسي، فلقد كان يعرف دروب الجبال والوديان، فلأنه كانت المدن محاصرة ولأن العدو حاصر مناطق العبور إلى أرضنا المحتلة عام 1948، فلقد اضطررنا لسلوك الجبال للوصول إلى الأهداف التي أردنا تنفيذ العمليات فيها.

وهكذا فلقد صنعت حزاماً ناسفاً من نوع مختلف عن الأحزمة الناسفة التي كنت قد صنعتها فيما سبق فهذا الحزام كان يربط حول الخصر ويثبت أيضاً حول الكتف عن طريق حزام جلدي ولأنه سوف يكون على الحزام أن يكون قوياً ثابتاً على جسد الاستشهادي خلال قطعه لمسافة طويلة سيراً على الأقدام قاطعاً جبالاً وودياناً فلقد كانت المواد المصنوعة منها المادة المناسبة حتى لا تتأثر بالضغط أو الحرارة أو الحركة الناتجة عن المشي. ولقد زودته أيضاً بعبوة ناسفة ووضعتها بحقيبته، ولأن ذلك الاستشهادي كان يملك جسداً قوياً وبنية جسدية كبيرة فلقد كان رغم صعوبة قطع الجبال ، قادراً على الوصول للطريق الآخر، حيث لاقاه هناك وائل العباسي ونقله بسيارته لنادي للقمار اسمه نادي (شفره) وهناك زرع الحقيبة الناسفة بإحدى أركان النادي الليلي وفجر نفسه بواسطة الحزام الناسف بالركن الآخر من النادي الليلي.

ولأن النادي الليلي كان يقطن بأحد الطوابق العليا لبناية تجارية فلقد انهارت أجزاء كبيرة من تلك البناية التجارية جراء قوة المواد المستعلمة في تلك العملية، هذا الاستشهادي لم أذكر اسمه لأنه كان أحد ألغاز العمل المقاوم، لغزاً قسامياً فلقد كان هذا الاستشهادي قد قدم من الأردن ولأنه كان على علاقة وطيدة بعدد من عناصر حركة المقاومة القسامية ، فلم نشأ أن يعرف أحد باسمه إلا بعد مرور ما يزيد عن ثمانية أعوام على هذه العملية، ولم نعلن عنه إلا بعد أن شاهدت وأنا أقبع داخل زنزانتي نداءاً موجهاً من والدته في الأردن تطالب بمعرفة مصير ولدها.

وهنا أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام عن اسم منفذ تلك العملية الاستشهادية، العملية التي قتل بها عشرات الصهاينة وأصيب المئات، ولقد كان الاستشهادي يعلم أنه لن يتم الإعلان عن اسمه لتلك الأسباب قبل أن يقرر تنفيذ العملية، ولأنه يعلم أن فلسطين المقاومة تستحق كل تضيحه، فلقد أقدم على الشهادة مجتازاً الجبال والوديان حاملاً معه وزناً كبيراً من المواد الناسفة.

يشهد الله على رغم أنني لم أقابل هذا الاستشهادي إلا أن من قابلوه أبلغوني أنه أمير الاستشهاديين . أميراً طلب الشهادة بإلحاح وأصر عليهما ولأجلها اجتاز الصعاب ووصل إلى هدفه مقداماً ثابتاً عازماً على أن يلقن العدو درساً بالمقاومة: عذراً أم الشهيد عذراً أبا الشهيد عذراً أهل الشهيد، على تأخر كتائب عز الدين القسام عن الإعلان عن اسمه للأسباب التي ذكرت، وعذراً لأني لم أكتب اسمه بين صفحات هذا الكتاب، لأني أكتب من داخل زنزانتي ولم أتمكن من الحصول على اسمه بسبب سجني ولأني معتقل بزنزانة خاصة، اسمها زنزانة العزل الخاص، زنزانة تملأها كاميرات المراقبة ويمنع بها زيارات المحامين، زنزانة أقرب ما تكون بالقبر، بل هي القبر بذاته.


تالا تحت الحصار

نعم يا ابنتي الجميلة ويا ملاكي الحارس لقد كنتِ تحت الحصار. فلقد أصبحت أنت وأمكِ وأخيكِ أسامة، أسامة الغضنفر تحت الحصار والمراقبة الشديدة من قبل عملاء الاحتلال ومن قبل عملاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

لقد كانوا يحاصرون كل حركة تقومين بها أنتِ وأمكِ وأخيكِ، فلقد وصلتني معلومات من خلال وحدة الرصد الخاصة التي كانت مكلفة بمتابعة عمل جهاز الأمن الوقائي، إن هذا الجهاز لم يكتفِ بعملائه الذين كانوا يراقبون البيت من الخارج ليلاً نهاراً، بل أنه أرسل عميلاً خاصاً بعد أن قام بتدريبه بمنطقة أريحا تدريباً محترفاً على يد مدير استخبارات حضر من الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد أرسله جورج تنت ليدرب ذلك العميل ويزرعه في داخل منزلي، ذلك المنزل الذي كنتِ أنت وأمكِ تقيمين به مع أخيكِ الصغير أسامة.

الصعب بل المحزن بالنسبة لذلك العميل أنه كان من أقاربي من أبناء عائلة البرغوثي، وكان صغير العمر وبمت بصلة قرابة مباشرة مع زوجتي.

ولقد كلف هذا العميل بمتابعة ما يدور في داخل المنزل لعله يتمكن من الوصول إلي، ولقد كان من المفترض أن يقوم بزرع أجهزة تنصت في داخل منزلي بالإضافة إلى كاميراتٍ للمراقبة.

لكن الله، الله خير الماكرين،فيمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، الله عز وجل الذي سهل وصول المعلومة لي عبر جهاز الرصد مما جعلني أقوم بعملية من نوع آخر لم أقم به من قبل وهو كسر الحصار وتهريبكِ مع أمكِ وأخيكِ بعيداً عن القرية، قرية بيت ريما لتصلي إلي، إلى البيت الآمن.

فبمجرد وصول تلك المعلومة التي حددت موعد انتهاء الدورة التدريبية لذلك العميل وموعد وصوله من أريحا إلى قرية بيت ريما محملاً بتلك الأجهزة السمعية والبصرية التي كان مكلفاً بزراعتها ببيتي فلقد كانت هناك وحده خاصة قسامية قامت باعتقاله قبل أن يقوم بأي من نشاطه، وقامت فرق قسامية أخرى بنقل زوجتي وأطفالي من القرية إلى رام الله بشكل سري، وبعد ذلك قاموا بنقل العميل أيضاً إلى رام الله لأبدأ التحقيق معه بشكل شخصي، أجمل ما في ذلك التحقيق هو أنه ما إن جلس على الكرسي حتى بدأ العميل بسرد قصته لوحده دون أن يوجه له سؤال واحد، وبعد أنهى سرد ما عنده وجهت له بعض الأسئلة الخاصة حول مواضيع متنوعة.

مما قاله أنهم أثناء التدريب بمنطقة أريحا على يد ذلك المدرب الأمريكي الذي يتحدث اللغة العربية هو أن المدرب طلب منه أن يشتري لكِ يا ابنتي الصغيرة بعض الحلوى لكي يستدرجك بالكلام عني، رغم أن عمركِ لم يكن قد تجاوز العامين بعد؛ إلا أنهم كانوا يريدون أن يعلموا أي شيء مهما كان صغيراً، فلقد علمت أيضاً من خلال جهاز الرصد القسامي أن مكالمة قد جرت بين عرفات وجورج تنت مدير المخابرات الأمريكية حث بهذه المكالمة بإلقاء القبض علي، كما حثه أيضاً في تلك المكالمة بإلقاء القبض على الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الرفيق أحمد سعدات أبو علي مصطفى، فلقد كان الرفيق أحمد سعدات مطلوباً بشكل كبير جداً جداً؛ لأن الصهاينة كانوا قد اتهموه بتنفيذ عملية نوعية جداً قتل بها وزير السياحة الصهيوني "رحبعام زئيفى".

بعد انتقال زوجتي وأطفالي ليعيشوا بأحد المنازل الآمنة في مدينة رام الله، أصبح من السهل علي زيارتهم هناك، وهكذا أصبحت زوجتي مطلوبة لقوات الاحتلال من جهة ومطلوبة من قبل قوات أمن السلطة، فعممت لها صورة، مما جعل تنقلها صعب جداً حيث أن قوات الاحتلال كانت تصنع عدداً من المجندات على الحواجز لفحص النساء والتدقيق بصورهن.

ولذا، فقد ظلت زوجتي طوال فترة المطاردة تعيش بمدينة رام الله، لم تكف أجهزة أمن السلطة عن البحث عنها أو عني مما جعل أقاربي عرضة للاعتقال لدى تلك الأجهزة وعرض منازلهم للمداهمة الدائمة والتفتيش المستمر، بتلك الحجة.


صلاح شحادة

في أحد الليالي قامت طائرة من طراز F16 بقصف إحدى البنايات السكنية الموجودة بمدينة غزة في حي اسمه حي الدرج، تم قصف تلك البناية بتقنية ضخمة حولها لأنقاض، فاستشهد الشيخ "صلاح شحادة" قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام بفلسطين واستشهد معه زوجته وبعض أطفاله، واستشهد أيضاً عدداً من سكان تلك البناية السكنية ومن الجدران التي تحيط بمنازلهم ؛ ولذلك وجب أن ترد الكتائب على تلك الجريمة النكراء ولكن كيف نرد ونحن نعيش داخل سجن حقيقي بمدينة رام الله، سجن فرض علينا القتال المستمر مع العدو والمواجهة الدائمة معه بقلب المدن الفلسطينية.

قبل فترة من استشهاد القائد "صلاح شحادة"، قام مهندس فلسطيني قسامي بعملية نوعية قلبت موازين وقواعد المواجهة، ذلك المهندس ابن مدينة طولكرم "عباس السيد".

"عباس السيد" هو مهندس فلسطيني درس الهندسة بالمملكة الأردنية، وأنهى دراسته بنفس العام الذي بدأت أنا فيه الدراسة بكوريا الجنوبية، أي بعد حرب الخليج الأولى، ولقد كان ناشطاً أثناء دراسته بجماعة الإخوان المسلمين، ولذلك كان ولكونه فلسطيني يتعرض للمضايقات والمطاردة من قبل أجهزة الأمن الأردنية آنذاك.

عاد "عباس السيد" إلى فلسطين وأكمل نشاطه السياسي بانضمامه لحركة المقاومة الإسلامية حماس بمدينة طولكرم، وتدرج حتى وصل إلى أن أصبح ممثلها وناطقها في تلك المدينة، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى ظل يمارس عمله السياسي كالمعتاد، إلا أن هذا المهندس الهادئ قرر أن يتجه للعمل العسكري بعد أن ازدادت جرائم الاحتلال وفاقت الوصف، ففي تلك الفترة لم يكن قد مر أسبوع واحد بلا مجزرة أو جريمة ترتكب ضد أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف بقاع فلسطين.

لذلك قام هذا الذكي الهادئ، هذا المهندس عباس السيد بتشكيل عملية قسامية وقام بإعداد عبوة ناسفة، هي الأضخم والأقوى في تاريخ كتائب القسام في الضفة الغربية والقدس، وأرسل تلك العبوة مع استشهادي إلى أحد الفنادق، فانفجرت العبوة واستشهد المقاوم ولقد خلفت تلك العبوة قرابة ست وثلاثين قتيلاً صهيونياً وعدة مئات من الجرحى جزء كبير منهم أصيبوا بإعاقات دائمةٍ.

وهنا اتخذ رئيس حكومة العدو تلك العملية الذريعة وقام باجتياح كافة المدن الفلسطينية، وبعد ذلك الاجتياح قصفت غزة واستشهد الشيخ صلاح شحادة رحمة الله عليه.

وهنا أصبح الرد على جريمة اغتيال قائد كتائب القسام واجباً، ولكن الطرق كانت قد أصبحت أكثر صعوبة على تنفيذ هذا الرد بل أصبحت أكثر خطورة من أي وقت مضى، فلقد قلت أنا كنا نعيش بداخل سجن، وأنا أعني ذلك بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فلقد حولت قوات العدو الصهيوني البناية السكنية التي كانت تقع بها الشقة التي تسكن بها زوجتي مع أطفالي إلى ثكنة عسكرية وحولت سطح المبنى إلى مرتع للقناصة وأساسات المبنى إلى مرتع للدبابات والمجازر، وحولت كل شوارع المدينة إلى طرقات خالية بعد أن قامت الجرافات الصهيونية بحفر حفر كبيرة تقطع تلك الشوارع، ولم تكتفِ بذلك فحسب؛ بل فرضت حظراً للتجوال دام أياماً طويلة وصلت إلى خمسة وعشرين يوماً متواصل، رفع بعدها حظر التجوال لعدة ساعات ثم أعيد فرضه من جديد.

خلال تلك الساعات القليلة تمكنت من الوصول إلى إحدى الشقق التي لم يصل إليها العدو، وكانت تحتوي على كل ما أحتاجه لإعداد لعملية، عملية الرد على اغتيال صلاح شحادة رحمة الله عليه، ولقد كان معي في تلك الأثناء مراقبي سيد الحاج قاسم وأبو أحمد الخطيب ولقد صنع عبوة ناسفة ووضعتها بحقيبة وأرسلتها مع سيد القاسم لنقطة تم الاتفاق عليها مسبقاً مع وائل العباسي فأخذ العبوة وأوصلها للقدس المحتلة وهناك قام مع مجموعة من رجاله المقاومين بقصد أسوار الجامعة العبرية بالقدس وفجروا تلك العبوة عبر هاتف محمول. وبذلك ورغم الاجتياح والحصار، تمكنا من الرد وبقوة في قلب العاصمة الأبدية لدولة فلسطين بإذن الله.

فتحت تلك العملية الأعين على خلية وائل العباسي مما جعل عمل تلك الخلية صعب. ولكن ، ولأن تلك الخلية كانت تملك عدداً من العبوات الناسفة الصغيرة التي لا يتجاوز وزن الواحدة منها نصف كيلو جرام، فلقد تمكنوا من تنفيذ قرابة أربع عمليات استهدفوا صواريخ للوقود عبر إلصاق تلك العبوات بها واستهدفوا أيضاً عدداً من عربات القطار من خلال زراعة العبوات بمناطق قريبة من العربات.

بعد ذلك بأيام معدودة اعتقل أفراد تلك الخلية القسامية التي كانت أكبر خلية لكتائب الشهيد عز الدين القسام بمدينة القدس منذ قيام دولة العدو باحتلال تلك المدينة. وهنا على الفور بدأت بتنشيط خلية قسامية جديدة كنت قدر دربت من أوكلت له أمر قيادة تلك الخلية القسامية قبل عدة أشهر وهو المهندس القسامي "محمود شريتح" ابن مدينة الظاهرية التي تقع بجنوب الضفة الغربية بجوار مدينة الخليل، فلقد كان المهندس "محمود شريتح" يدرس الهندسة بجامعة يحيى عياش :جامعة بيرزيت ولقد كان من أنصار الكتلة الطلابية هناك فاختاره أبو علي السلوادي ليكون مهندسنا في جنوب الضفة الغربية، فقمت بإعادة تدريبه من جديد رغم أن المدن كانت محتلة من قبل دبابات العدو وقمت بالإعداد معه لعمليتين استشهاديتين فزودته بقطع السلاح اللازمة لتشكيل خلية مسلحة تتصدى لقوات الاحتلال بجنوب الضفة الغربية ،وزودته بحزامين ناسفين فأوصلهما لمدينة الظاهرية وهناك أعد مع الخلية التي قام بتشكيلها الخطة اللازمة فنفذ انطلاقاً من الجنوب عمليتين استشهاديتين فجر خلالهما الاستشهاديين أحزمتهما الناسفة بباصين اثنين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، كانت تلك الخلية خلية المهندس "محمود شريتح" من أسرع الخلايا تشكيلاً ،ومن أسرع الخلايا اعتقالاً، فلم تدم تلك الخلية سوى عدة أسابيع فقط لا غير، نفذت خلالها عمليتين استشهاديتين وبعد ذلك اعتقل كل أفراد تلك الخلية وعلى رأسهم مهندسوها وقائدها محمود شريتح، وهنا قمت باستدعاء مقاوم آخر ممن قمت بتدريبهم مسبقاً لكي أعيد تدريبه وإعداده من جديد.

هذا المقاوم الوحيد الذي وجهت له توبيخاً قاسياً عندما قمت بتدريبه أول مرة، فعند بدء التدريب كنت أنا وهو وعنصرٌ آخرٌ كان معه مقنّعون وكنا نتكلم باللغة الفصحى، فقال لي أنه يفضل أن يتلقى تدريبه على العلوم العسكرية على يد المهندس "عبد الله البرغوثي"، قبل أن أسأله عن السبب قال أنه يريد أن يتقن عمله العسكري من "عبد الله البرغوثي" لأنه يشكل بالنسبة له امتداد ليحيى عياش، فوبخته بقسوة وقلت له ليس هناك من هو بمرتبة الشهيد "يحيى عياش" وأن هذا الذي اسمه "عبد الله البرغوثي" ما هو إلا مجرد مهندس عادي بل أقل من عادي ولقد قسوت عليه قليلاً أثناء التدريب، الغريب بهذا المقاوم أن "أبو علي السلوادي" عندما أحضره للتدرب أول مرة لم يشر بهويته سوى أنه مقاوم قسامي فأعطيته اسماً رمزاً للتواصل معه مثل باقي المقاومين الذين سبق لي تدريبهم ولكن أفصح لي فيما بعد أن أحد أبناء عمومتي وأنه المقاوم القسامي "جاسر البرغوثي" ابن قريتي، ولم أعلم حقيقة هويته إلا بعد اعتقالي بعدة سنوات عندما التقينا صدفة بأحد السجون، فتعرفنا إلى بعضنا البعض بعد أن علم هو حقيقة هويتي وعلم أنه من قام بتدريبه أن ذاك هو عبد الله البرغوثي ابن عمه.

هذه هي كتائب الشهيد عز الدين القسام، الصمت والسرية والعمل الجهادي المتواصل، دون كلل أو ملل، لقد استطاعت خلية المقاوم القسامي "جاسر البرغوثي" بعد أن عاودت تدريبه مرة أخرى وتزويده بعدد من العبوات الناسفة والأسلحة المختلفة استطاع أن ينفذ عدداً من العمليات الموجعة للعدو الصهيوني.

في تلك الفترة خشيت من أن يكون مصير خلية المقاوم "جاسر البرغوثي" الاعتقال المبكر مثل خلية المهندس "محمود شريتح"، ولذلك قمت بتنشيط عددٍ من الخلايا القسامية بعدة مدن أخرى كان أهمها على الإطلاق مدينة الخليل، خليل الرحمن، لأن مدينة الخليل كانت تملك الآلاف من المقاومين القسامين وكانت بحاجة للمهندسين والقادة فمن الله على خليل الرحمن بالقائد الحاج عبد الله القواسمي وأبناء أحد إخوانه فتجلت مدينة خليل الرحمن وأخرجت أجمل وأحلى العمليات القسامية في تلك الفترة المحرجة، فترة الاجتياحات.

وهنا يجب أن أوضح نقطة مهمة هي أني لم أكن أعلم أي اسم من أسماء المقاومين الذين عملت معهم طوال تلك الفترة الممتدة ما بين عامي 2000 وعام 2003 وأن الأسماء التي أذكرها الآن قد عرفتها بعد سنوات من اعتقالي فهي ليست أصحاب تلك الأسماء ، فهم إما معتقلين مثل "محمود شريتح "و"وائل القاسم " و"جاسر البرغوثي" و"أحلام التميمي" وغيرهم إما أصبحوا شهداء عند ربهم يرزقون.

فلقد تركت موضوع الأسماء خط أحمر منعت أحداً من الاقتراب منه، ولذلك أقول أن الشهيد سيد الشيخ قاسم رغم أنه رافقني على مدى تلك الأعوام هو وأبو أحمد الخطيب إلا أني رفضت أن أعرف أسماءهم أبداً أبداً.

وكنت أحرص دائماً على أن تكون الخلايا التي أكونها متقنة من ناحية القيادة والإدارة، حتى لا يؤدي اعتقال أحد تلك الخلايا إلى إحداث ضرر كبير بكتائب القسام.


الاجتياح

في إحدى الاجتياحات الصهيونية للمدن الفلسطينية تم اجتياح مدينة رام الله والبيرة وتم محاصرة مقر جهاز الأمن الوقائي بالدبابات، لم يكن هذا الحصار سوى لعبة أقدم عليها أحد أخطر العملاء بتاريخ الشعب الفلسطيني وهو "محمد دحلان" بالتنسيق مع قوات الاحتلال الصهيوني وجهاز الشاباك من أجل هدفين أولهما أن يقضي على منافسة القوي آنذاك في الضفة الغربية :جبريل الرجوب، وأن يزيحه من طريقه ليستولي محمد دحلان على الأجهزة الأمنية بالضفة الغربية ويسيطر عليها كما سيطر على تلك الأجهزة في قطاع غزة.

فلقد كان عرفات بتلك المرحلة محاصراً وضعيفاً فأراد دحلان أن يكون رجل جورج تنت ورجل شارون في الضفة الغربية واعداً إياهم بعد تسلّمهِ وسيطرته على الأجهزة الأمنية بأن يقضي على المقاومة المسلحة بشكل تام وكامل.

هذا السبب رغم خطورته لم يكن يعنيني كثيراً فكلهم سواء، جبريل الرجوب، أو محمد دحلان كلاب للاحتلال، لا أكثر ولا أقل، أما السبب الذي كان يعنيني هو أنه يوجد بداخل ذلك المقر العشرات من مقاتلي القسام والجبهة الشعبية ومنهم بلال البرغوثي ابن عمي ورفيق دربي بمقاومة الاحتلال.

ولذلك خضت عدة معارك وكمائن من أجل فك الحصار دون جدوى ودون أي فائدة، فلقد كانت القوات الصهيونية أقوى منا بكثير من ناحية العتاد والسلاح، وبخاصة سلاح الجو فلقد كانت طائرات الأباتشي تقصف دون توقف أي هدف تشتبه به.

اعتقل "بلال البرغوثي" واعتقل العشرات من المقاومين بذلك اليوم بعد أن تكاتف العملاء مع العدو الصهيوني ضد المقاومة، حزنت بل لقد بكيت لأني شعرت بضعف أمام آلة الدمار الصهيوني وخاصة عندما كنت على بعد أمتار أشاهد أخوتي وهو يعرون من الملابس ويقادون إلى مجنزات العدو لينقلوا إلى المعتقلات الصهيونية، لم أشعر بلحظة ضعف مثل تلك المرة طوال حياتي، حياتي التي رأيت خلالها كل ما يمكن رؤيته، وكل ما يمكن أن يؤثر على أقسى الرجال إلا أني لم أتأثر أبداً، إلا في ذلك اليوم وتلك الليلة التي كانت من أطول الليالي في حياتي على الإطلاق.

ما إن بزغ الفجر حتى عدت إلى زوجتي وابني أسامة وابنتي لكي أودعهم متوجهاً بعد ذلك لله عز وجل لعلي ألقاه شهيداً. ودعتهم وتوجهت أنا وسيد القاسم وأبو أحمد الخطيب إلى منطقة وسط رام الله وهناك في منطقة سوق الخضار وبجوار مسجد جمال عبد الناصر، خضنا اشتباكاً مسلحاً دام قرابة العشرين يوماً فجرناً خلاله العشرات من العبوات الناسفة وأطلقنا المئات من الرصاصات ولم ننهي تلك المعركة إلا عندما تلقيت قذيفة أطلقت من إحدى الدبابات فأصابت القذيفة المكان الذي أهاجم العدو منه، فأصبت إصابة شديدة كدت أفقد خلالها يدي اليمنى فنقلني أخوتي سيد وأبو أحمد إلى أحد المحلات التجارية وهناك عولجت ولقد تركت تلك القذيفة أثرها على من عدة نواحي الناحية الجسدية فلقد أصابت ذراعي بالكسر من عدة أماكن وكاد كف يدي أن يبتر، وكدت أفقد أصبعي بل أهم أصابع يدي وهو أصبع السبابة الذي كنت أطلق من خلاله زخات الرصاص فلقد أصيب ذلك الأصبع وتم خياطته بما لا يقل عن ثماني قطب، مما جعلني غير قادر على خوض المعارك المسلحة لعدة شهور بعد تلك الإصابة، وهنا يجب ألاّ أنسى أن أخي أبو علي السلوادي عندما علم بعد ذلك جن جنونه، ولكن أحمد الله أنه علم بعد أن تماثلت جراحي للشفاء. أما من الناحية النفسية فلقد جعلتني أقرب إلى الله عز وجل من أي وقت آخر.


قلب أمي

في إحدى مراحل مطاردتي تعرض قلب والدتي للجلطة مما جعلها تدخل المستشفى لعمل عملية جراحية حيث كانت تقيم هي ووالدي بالعاصمة الأردنية في عمان، وعندما وصلني الخبر كان لزاماً علي أن أطمأن عليها بنفسي رغم أن هناك من كان يزورها ويطمئني عليها، إلا أني ولخطورة وضعها قررت أن أطمئن عليها بشكل مباشر وأن أطمئنها علي لكي أرفع من معنوياتها وأشد من عزيمتها فلقد كان قد مضى على مطاردتي عدة أعوام لم أتمكن من الحديث الهاتفي معها أو مع والدي بشكل نهائي.

ويجدر القول هنا أني طوال فترة مطاردتي لم أستعمل الهانف الجوال أبداً وتحت أي ظرف من الظروف بل كنت أسافر من مدينة لمدينة لكي أنهي أمراً لا يتجاوز الحديث عنه سوى بضع دقائق، فلقد كنت أعلم مدى خطورة استعمال تلك الهواتف النقالة، ومدى قدرة العدو على تعقب المكالمات، وتحديد موقع المتصل . ولأن العدو يملك عدداً من طائرات الاستطلاع المزودة بصواريخ موجه تحلق على مدار الساعة بأجواء مختلف المدن الفلسطينية، فلقد كان الحديث عبر الهاتف الجوال ضرباً من ضروب الجنون، الجنون والتحدي هو عشقي وهوايتي، ولذلك رفعت الهاتف الجوال وتحدثت مع والدتي لعدة دقائق وما إن انقطع الإرسال حتى أمسكت الهاتف الأرضي وعاودت الاتصال ثانيةً بعد أن اطمئن إحدانا على الآخر، وبعد أن أصبحت معنويات والدتي عالية تعانق السماء فلقد مازحتها كثيراً حتى قيل لي إن عينيها اللتين كانتا تبكيان على فراقي وتبكيان حزناً علي، أصبحت تبكي من شدة الضحك على النكت التي كنت أقولها لها، بتلك البساطة اتصلت وبتلك البساطة كانت خطوط الاتصال تقطع الواحد تلو الآخر، أما سبب تلك الانقطاعات فلقد كانت سقوط القذائف الواحدة تلو الأخرى، أين وكيف؟

عندما اتصلت أول مرة من هاتف نقال وبعد عدة دقائق قد تكون تجاوزت الخمس عشرة دقيقة أو أقل، قامت قوات الاحتلال وعبر طائرة الاستطلاع بقصف سيارة متوقفة بأحد شوارع مدينة نابلس، بعدة صواريخ موجهة من تلك الطائرة، فلقد قمت بتركيب شبكة من أجهزة مقاومة التعقب وأجهزة بتوجيه التعقب نحو مكان آخر وركبت تلك الأجهزة على بعض أبراج الإرسال وركب إحداها على إحدى السيارات التي قمت بشرائها وتجهيزيها لهذا الهدف ،وهو تضليل أجهزة العدو الاستخبارية والالكترونية، فقصف العدو السيارة ظناً منه أني موجود وأجري تلك المكالمة منها فأصبحت السيارة كومة من الصفيح المحترق.

أما أنا فتناولت تفاحة من صحن للفاكهة كان موضوعاً أمامي ووضعتها بعد أن قطع إرسال الجهاز النقال واتصلت من جهاز اتصال أرضي هذه المرة وبدأت بأكل التفاح الواحدة تلو الأخرى، وبالحديث مع والدتي وإلقاء عليها النكتة تلو الأخرى حتى أني أقول أنها رغم عدم سماعها لصوتي منذ مدة طويلة إلا أنها ملت من تلك النكت فكنت أودعها مراراً دون أن يغلق أحدنا السماعة حتى قام الاحتلال بإغلاقها هذه المرة أيضاً بواسطة قذائفه؛ فلقد داهمت قوات الاحتلال الصهيوني إحدى المباني السكنية التي كانت قيد الإنشاء بمراحلها النهائية، وأمطرت تلك البناية بوابلٍ من القذائف طالبني بتسليم نفسي.

وعندما لم أستجب لها قام باقتحام تلك البناية، ولقد سبق جنودها المقتحمون كلاباً تحمل كاميرات مراقبة تنقل لهم الصورة، وتنقل لي أيضاً نفس تلك الصورة فلقد كنت بمرحلة سابقة قد فككت الشفرة المستعلمة بإرسال الصور عبر تلك الكاميرات، فأصبحت أرى ما يرونه وعندها قمت بتفجير عبوة ناسفة أدت لقتل أحد الكلاب وإصابة أحد الجنود.

أما أنا فرغم عمليات البحث والتفتيش التي استمرت لساعات عديدة فلم يجدوني لأني في تلك الأثناء كنت مشغولاً بأكل البرتقال بعد أن لم يعد لدي تفاح، لم أكن بمدينة نابلس حيث فجروا السيارة ولم أكن بمدينة رام الله حيث دمروا تلك البناية، بالمناسبة تلك البناية تعود لأحد عملاء إسرائيل الذين كانوا يتاجرون بالأراضي الفلسطينية ويبيعونها للصهاينة ولذلك فلم أهتم بدمار تلك البناية بل كنت مسروراً جداً لما حل بها.

كنتُ هناك جالس على إحدى الشرفات المطلة على المسجد الأقصى في القدس، كنت هناك بقلب المدينة المقدسة وهنا حمدت الله على نجاتي وعلى تلك الصفعة التقنية التي وجهتها لذلك العدو.

لقد كلفت تلك الصفعة التقنية عدة عشرات الآلاف من الدنانير، وعِدة أيام من العمل المتواصل من قبل رجال كتائب القسام: أعز الله بهم الإسلام وأعز الله بهم فلسطين: أم الرجال وصانعة الرجال.

آه من قلب أمي وألف آه، دعواتكِ لي يا أغلى مخلوقة بالوجود يا أمي الحبيبة، دعواتكِ دعواتكِ.


صفعتها فهل ينقض وضوئي

لقد حدث أني قمت بصفع امرأة ليست من محارمي كفاً على خدها فهل ينقض وضوئي جراء تلك الصفعة؟

الصحيح أن الإجابة على هذه الأسئلة الدينية لم تكن هي ما يشغل بالي لأني لا أذكر أصلاً أني كنت على وضوء عندما صفعتها أم لم أكن على وضوء فبعد أن صفعتها توضأت وصليت.

إن الذي كان يهمني هو سبب تلك الصفعة، صفعة قوية بل إنها مؤلمة جداً تلك التي نالتها المرأة مني، تعود جذور تلك الحادثة عندما أوصل لي جهاز الرصد القسامي عدة طلبات من امرأة تطالب لقائي لأمر هام .ولقد كانت تلح كثيراً على هذا الطلب ولأن الناحية الأمنية كانت لا تشكل خطراً علي فلقد وافقت على لقائها بعد أشهر من تكرار الطلبات.

قالت: السلام عليكم.

قلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، خير يا أختي؟

قالت: أريد أن أكون شهيدة في سبيل الله.

قلت: هناك مئات من الاستشهاديين الرجال ينتظرون دورهم للمشاركة بذلك النوع من العمليات.

قالت: ألم تعمل أحلام التميمي معك؟

قلت: نعم عملت، ولكني لم أكن أعلم أصلاً أنها فتاة إلا بعد أن اعتقلت.

قالت: أريد أن أكون شهيدةً.

قلت: لماذا؟ وقبل أن تجيب أشرت لها بأن تضع يدها على المصحف الشريف.

قالت: بعد صمت طال على أنها متزوجة منذ أعوام طويلة وأنها لم تكن تنجب وأنها ما إن تحمل حتى يموت الجنين بداخلها، وأن أهل زوجها قد أثقلوا عليها وحولوا حياتها لجحيم وأنه رغم حب زوجها لها إلا أنه نفسه لم يعد يقوى على الصمود بوجه أهله ولذلك أريد أن أفارق الحياة لأرتاح من همومها.

ما إن رفعت يدها عن المصحف حتى كانت يدي تحط على وجهها كأنها مطرقة، فسقطت على الأرض باكية وبكت معها إحدى الأخوات التي كانت موجودة هناك مع زوجها المقاتل القسامي.

قلت، قلت لها اذهبي إلى بيتكِ وكوني واثقة بأن الله سوف يرزقكِ بثلاث أولاد وثلاث بنات، اذهبي وتوكلي على الله فمشكلتك حلها بسيط عودي إلى بيتكِ توضئي وصلي وادعِ الله، الله مجيب الدعاء، الله الذي يجب أن لا تقنطي من رحمتهِ أبداً.

تركتها فأوصلها المقاوم القسامي مع زوجته إلى منزلها .بالطريق كفت عن البكاء وسألت زوجة المقاوم، هل قال عبد الله البرغوثي ثلاث أولاد وثلاث بنات؟ فردت عليها: نعم، قال ثلاثة وثلاثة.

عاد المقاوم القسامي بعد أن أوصل المرأة، عاد إلي فوجدني صامتاً ورغم أنه أمضى طوال اليوم معي فلم يسمع صوتي إلا وأنا أقرأ القرآن في الصلاة.

كان هناك سؤال يحيرني إن فجرت تلك المرأة نفسها هل تكون شهيدة أم قاتلة، شهيدة أم قاتلة؟ فأنا لست بعالم دين ولا أستاذ بعلوم الفقه الإسلامي .لستُ مفتياً وحتى أني لست شيخاً من أولئك الذين يمضون وقتهم بالمساجد ودور العالم وبحضور جلسات دروس الدين، أنا "عبد الله البرغوثي" مسلم لا أكثر ولا أقل، أصلي نعم أصلي وأصوم، وأمارس السنة النبوية قدر الإمكان، نعم قدر الإمكان.

أنا مجرد مهندس قسامي، مهندس فقط لا غير، مهندس قسامي لا يكذب أيضاً يا الله لقد قلت لها أن الله سوف يرزقها بثلاث أولاد وثلاث بنات يا الله نحن الآن في شهر رمضان المبارك، ولقد وعدت وأقسمت، أعنّي يا الله أعنّي يا الله.

ما هي إلا أيامٌ معدودة حتى كنت أجهز أحد الاستشهاديين وأظنه أنه كان أيمن بحر فقال لي يا شيخ أوصني: قل لي ماذا تريد أن أقول لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا ما استشهدت صعدت روحي للجنة، فقلت له سلم لي عليه وادعُ لي الله أن ييسّر لي أمري، قال: هل تريد منى أن أتشفع لك عند الله فأنا استشهادي . وهنا تذكرت الصفعة، تذكرت المرأة فقلت له لا تشفع لي فسوف يشفع لي أخاك أسامة حلبية إما أنت فأريد منك أن ترجو الله عز وجل أن يبعد الغم والهم عن أختي فلانة بنت فلان وأن يرزقها بثلاث أولاد وثلاث بنات، فلقد وعدتها بذلك، وقصصت القصة على كل من أسامة حلبية وأيمن بحر.

ما إن انجلي شهر رمضان المبارك وحل العيد الصغير وما إن جاء العيد الكبير بعد نحو شهرين ، حتى وصلني خبر حمل تلك الأخت وما هي إلا أشهر معدودة حتى كانت قد أنجبت ولداً جميلاً اتبعته بعد نحو عشر أشهر بولد آخر أجمل من السابق ثم ولداً ثالثاً ، اسمته عبد الله.

تلك الأسئلة الفقهية كانت دائماً تزعجني ولكن الحمد لله أنه كان حولي من الأخوة من هم أكثر مني علماً ومعرفةً بأمور الدين، أعلم أنه من يقتل في سبيل الله ولله وحده فإن مصيره الجنة والمغفرة، وأن من قتل لحاجة من حاجات الدنيا الزائلة فإن مصيره العذاب الأليم ونار جهنم، أعلم ذلك، ولكني أعلم أني لست بعالم دين فأنا مجرد مهندس على الطريق.


مجرد مهندسٍ لا أكثر ولا أقل

بالله عليكم لا تحملوني أوزاركم، بالله عليكم، هذه المرة كاد أن يقتل لولا ستر الله ولولا لطفه بي وبكتائب القسام. وصل لي استشهادي كان قد أعده الأخوة ليذهب إلى إحدى العمليات الاستشهادية، استشهادي هكذا أراد هو لكني لم أرد ،ولم أسمح له بذلك رغم أنفه.

هناك بكوريا الجنوبية قبل دراستي للهندسة درست مساقات الأدب الكوري. وكان أحد تلك المساقات هو قراءة الوجوه وتفسير تعابيرها، هناك في كوريا الوجوه أكثر إخفاءً لما بداخل القلوب، أما هنا في فلسطين فإن الوجوه مرآة للقلوب، والعقول، جاءني بعد إجراءات أمنية أُعدت سلفاً لاستقباله وإعداده للعملية الاستشهادية، فقمت بتصويره وإلباسه الحزام الناسف وإعداد الملابس المناسبة للموقع المستهدف.

لم أكلمه ولم أسأله أي سؤال، طول تلك الفترة، لكن عندما وصل إلى الباب صافحته وشددت على يده وقلت لماذا تريد أن تفجر نفسك؟ لماذا تريد أن تكن شهيداً؟

صمت وطال صمته فقمت بالإطاحة به أرضاً وقمت بتكبيله وفك الحزام الناسف عن جسده وطلبت من أخوتي المرافقين لي سيد الحاج قاسم وأبو أحمد الخطيب أن ينقلوه للأخوة في وحدة أمن القسام.

لم يسألني الأخوة عن سبب ما فعلته، فلم تكن تلك عادةً لهم فهم قساميين صامتين وهو يعلمون أن الأمر خطير بل أشد من الخطير، فلذلك سارعوا بإيصاله مكبلاً مغطى العينين والفم إلى الأخوة بوحدة الأمن القسامي في الضفة الغربية والقدس الشريف، ما إن عادا إلي مسرعيين حتى أعطيتهم عنوان نقطة معينة،فذهبا إليها وأحضرا أخاً استشهادياً كان ينتظر في تلك النقطة، فقمت بإعداده وتجهيزه وذهب بعد ذلك إلى حال سبيله، إلى لقاء ربه بعد أن وصل ونفذ عمليته الاستشهادية، بعد ذلك انشغلت عدة أيام لمتابعة أعمالٍ جهادية بمدينة أخرى فما إن عدت للمدينة التي كانت ساحة تلك الحادثة حتى ذكرني الأخوة بذلك الشاب، فذهبت لرؤيته فوجدت شاباً قد أنهك من التحقيق بشكل كامل.

فقلت لسيد الشيخ قاسم أنا لم أطلب التحقيق معه أنا طلبت أن يوضع هناك لدى أمن القسام فقط لا غير، وهنا أقول أن التحقيق معه كان قاسياً جداً أوصله لشفير الموت بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فلقد وجدت شبه شابٍ ولم أجد تفسيراً لما حدث سوى سوء تنسيق كنت أنا المسئول عنه، وليس سيد الشيخ قاسم أو الأخوة بأمن القسام؛ فلقد ظنوا أن هناك داعياً أمنياً لما حدث وخاصة بعد أن شاهد سيد الشيخ وأبو أحمد كيف قمت أنا بالتصرف مع ذلك الشاب عندما قمت وأطحتُ به أرضاً وكبلته، ونزعت من عليه الحزام الناسف. طلبت منهم أن يهتموا به وأن يعيدوا له صحته التي كان قد فقد منها الكثير.

عدت له بعد يوم واحد وسألته لماذا تريد تفجير نفسك، قال: أنا لست عميلاً أقسم بالله العظيم.

قلت: أعلم ذلك علم اليقين ولكن ما لا أعلمه هو سبب إقدامك على أن تكون استشهادياً، قل لي واذهب بحالك.

قال: أنا والدي كان عميلاً بالانتفاضة الأولى، قلت: أعلم ولكن والدك قد تاب وحج بيت الله وقد توفي إلى رحمة الله منذ أعوام. قال: رغم ذلك فإن سمعته السيئة ما زالت تلاحقنا، قلت: كيف؟ قال: لقد انهت أختي الدراسة الجامعية ولقد تم خطبتها لأحد زملائها في الجامعة ولكن قبل موعد الزواج فسخ ذلك الشاب خطبته وفسخ عقد الزواج وسافر خارج فلسطين إلى الأردن.

ولأني أكبر أخوتي قررت اللحاق به وسؤاله عن سبب ما قام به، فقال لي أنه قام بما فعله لأن أهل القرية كانوا يلومونه على خطبته من ابنة والدي، والدي الذي كان - رغم توبته وحجه وموته- ما يزال عميلاً ينظر أهل القرية، ولذلك أريد أن انفّذ عملية استشهادية حتى يقال أن عائلتي هي عائلة الشهيد، الاستشهادي المقاوم البطل، اعلم يا أخي أن والدي قد أنجب ست بنات من أمي وابنتين من زوجته الأخرى، فكيف أستطيع صيانة عرضي وصيانة عرض أخواتي إن لم أقم بما أردت القيام به!

قلت: ألا تعلم أن الله عز وجل يسأل كل من يقتل عن سبب قتله، وأن الله يعتبر من قتل ليقال عنه أنه بطل، فهو قتيل لا شهيد، وأن مصيره جهنم وبئس المصير.

قال: أعلم والله أني أعلم، ولكن الله غفور رحيم. اعتذرت منه عما لحق به من جراء التحقيق معه واعتذرت منه لعدم موافقتي على أن يكون استشهادياً. ودعته، وأوصله الأخوة الى حيث كان يريد: إلى قريته.

مضت عدة أيامٍ لم تطل عن أسبوع قام خلالها ذلك الشاب بشراء مسدس وانطلق لإحدى المدن الصهيونية بعد أن ترك وصية يقول بها أنه يقصد وجه الله بعمله هذا، فأطلق النار وأصاب عدداً من الصهاينة وقتل، قتل أم استشهد لا أعلم ولن أعلم أبداً فلا يعلم ما في القلوب سوى رب القلوب.

أما أنا فمجرد مهندس لا أكثر ولا أقل. عندما كنت أنظر إليه أثناء تسجيل شريط الفيديو عندما كان يقرأ وصيته التي كتبها هو بنفسه، فإنه لم يذكر عدداً من الكلمات التي كنت أسمعها ممن سبقوه ليكونوا استشهاديين، فهو لم يقل بكلمة بإذن الله، ولا كلمة بعون الله، ولا حتى كلمة إن شاء الله، لم يقل بسم الله وعليه أتوكل، أو أنا الشهيد الحي بإذن الله فلان، قال أنا فلان ابن فلان ابن فلان، أما وجهه فلم أرَ به نوراً أو هالةً بل رأيت غضباً وحزناً. حزناً ؟! كيف يحزن وهو ذاهب عند رب العباد ؟ غضباً ؟! وكيف يغضب وهو من طلب أن ينفذ تلك العملية وأصر على تنفيذها.

الآخرون الاستشهاديون كانوا كلهم سعداء فرحين متعجلين للقاء الله بل إني أقسم بالله العظيم أنا بداخل زنزانة العزل الانفرادي الخاص أن بعض أولئك الاستشهاديين كان هو من يشد الحزام الناسف حول نفسه،وكان يطالب بكمية أكبر من المواد الناسفة، بل إن كثير من الاستشهاديين قال - والله يشهد على ذلك- عدد من سوف يقتلهم ، ويصيبهم، ولقد صدق كلهم دون استثناء.

أحمد الله على أني لم أرسله وأحمد الله على أنه لم يمت أثناء التحقيق معه عند الأخوة، قلت أنا مجرد مهندس لا أكثر ولا أقل، فأعني يا الله على أن لا أخطأ ولا أزل.


الشهيد مجد البرغوثي

أظن أنكِ يا ابنتي الجميلة ويا ملاكي الحارس، قد لاحظتِ مدى كرهي وسخطي على من يسمون أجهزة الأمن الفلسطينية، مثل جهاز الأمن الوقائي وجهاز المخابرات العامة، هذا السخط والكره مرده عدة أسباب:

أوله ذلك الفساد المالي والنهب الذي مارسه قادة تلك الأجهزة الأمنية والذين كانوا مجرد أناس عاديين، وأقل من عاديين فأصبحوا بعد توليهم لقيادة تلك الأجهزة أصحاب أموال وعقارات في كل مكان: من دبي مروراً بعمان وصولاً إلى ما وراء البحار، وبسبب فسادهم المالي أصبحوا ألعوبةً بيد من يدفع لهم أكثر سواء من كان يدفع من الصهاينة أم من الأمريكان أم البريطانيين أصحاب وعد بلفور المشئوم.

عندما شكلت جهاز الرصد القسامي بالضفة لمعرفة ما يدور في تلك الأجهزة بعد اعتقالي لدى إحداها بمطلع الانتفاضة، فلقد علمت من خلال ذلك الجهاز القسامي الراصد العجب العجاب من أولئك القادة ومحافظي المدن مثل محافظ مدينة رام الله من كانوا يديرون بيوتاً للدعارة ويديرون عصابة للاتجار بالمخدرات والسيارات المسروقة، بل إن قادة تلك الأجهزة الأمنية كانوا يبتزون العملاء الذين كانوا يعملون في جهاز الشاباك الصهيوني، ويجبروهم على دفع مبالغَ مالية جراء التغاضي عمن كانوا يفعلونه ضد أبناء فلسطين من تجسس عليهم وأعمال ضدهم، بل إن هناك من قادة الأجهزة الأمنية الفاسدة من كان يقوم بإسقاط بعض الشبان الفلسطينيين الوطنيين عن طريق بنات الهوى، هؤلاء البنات اللواتي كن يعملن ضمن إطار هذه الأجهزة الأمنية، ولم يكن عملهن سوى استدراج الشبان للوقوع بالرذيلة ثم ابتزازهم وإسقاطهم في شباك العمالة لصالح تلك الأجهزة ولصالح الصهاينة فيما بعد. أما أكثر ما كان يؤلم فيما اكتشفناه عن تلك الأجهزة القذرة هو استعمالهم لأشد وأقسى أساليب التعذيب ضد أبناء المقاومة، وأقاربهم .ورغم أني قد أُسرت وأصبحت في داخل زنزانتي بعيداً عن ساحات وشوارع الضفة والقدس ، إلا أن المعلومات وبحمد الله ما زالت تضاء لي كلما أمكن، من رجال الظل القسامي.

لقد وصلني يا ابنتي الحبيبة كيف قامت تلك الأجهزة الأمنية الحقيرة بتعذيب عمٍ لك وهو مجد البرغوثي بداخل جهاز المخابرات العامة تعذيباً جنونياً حيوانياً لا إنسانياً، استمر ذلك التعذيب لأيام وأسابيع طويلة.

كنت أنا في داخل زنزانتي أغلي قلقاً عما كان يجري لمجد البرغوثي هناك بزنازين تحقيق المخابرات، تلك الزنازين التي كانت في داخل مقر جهاز المخابرات العامة الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة جداً عن مقر ذلك الحقير العبثي محمود عباس. كان التحقيق يجري بإيعاز منه شخصياً من أجل القضاء على ما تبقى من رجال حركة المقاومة الإسلامية حماس في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وليس بعيداً عن تلك الزنازين كان خالكِ عبد الله البرغوثي يتعرض لأشد صنوف العذاب على يد جهاز الأمن الوقائي بمدينة رام الله وكان حوله الكثير من أبناء عائلتي وأبناء حركة المقاومة الإسلامية حماس ممن يعذبون، ليس لسبب ، سوى أنهم مقاومين، أو مناصرين لنهج المقاومة.

مرت الأسابيع فصعدت روح عمكِ الشهيد مجد البرغوثي ابن قرية كوبر، مجد البرغوثي المؤذن بمسجد تلك القرية البرغوثية المقاومة، استشهد تاركاً عدداً من أطفاله بلا أب، وتاركاً القرية ومسجدها بلا مؤذن.

حزنت القرية وتألم وبكى أطفاله على فراقه وبكى الرجال، الرجال عندما شاهدوا جثمانه الطاهر قد امتلأ بعلامات التعذيب بالسياط، وعذاب الكهرباء صعقاً، فاستشهد. بعد أشهر طويلة على استشهاد الشهيد مجد البرغوثي، أطلق سراح أخِ أمكِ عبد علي البرغوثي من زنزانة التحقيق عند جهاز الأمن الوقائي، أطلق سراحه بعد أن شارف على الموت شهيداً تحت سياط التعذيب، لكن الله قدر له النجاة، وقدر الخزي والعار لرجال سلطة الفساد والإفساد سلطة ذلك العبثي محمود عباس ولصوصه محمد دحلان وجبريل الرجوب وتوفيق الطيراوي.

وهنا يا ابنتي الجميلة ويا ملاكي الحارس اسمحي لي أن أذكر بعض الأبيات والكلمات المتشابكة لعلي أنفس قليلاً ما بداخل صدري من ألم وحرقة على ما آلت إليه أمور فلسطين في ظل حكم أولئك الطغاة.


مساجد الدار

قرآن ربي وسنة النبي المختار

مستوطن محتل طغى وتجبر

كلاب العدا بقرانا تدور

أماتوا الجهاد ودمروا المشوار

تعاهدوا مع المحتل بل أكثر

يقتلون أبناء جلدتهم فاحذر

فهم زرع شيطان بقلب الدار

شل عقلي وأصبح بلا تفكير

فالله لما بالقوم لا يغير

قم يا مؤذن كبر وأعلن الاستنفار

ألم يحرق مجنونهم المنبر

وأحاطونا بأسوء حصار

ألسنا عباد الواحد القهار

أم أصبحنا خرافاً تنحر

اين المجاهدين اين الاحرار

هل أصبحوا شهداء في القبور

أصبحت رماداً فأين الثوار

وسلطة العهر ترى وتتمختر

وأشباه رجالٍ تشترى بالدولار

باعوا الوطن والدين والثوار

تحولوا لسجانين جلادين وأحقر

فإن فلسطين براء من أولئك الأشرار

عملاء احتلال بلا مشاعر

فالوضع بات أخطر من الخطير

إن عملهم بيدهم لم يتغير

على المحتل وعلى عميله الأحقر

ألم يبنوا ويعلو الجدار

ألا يكفينا صبراً وانتظار

ألسنا عباد رب الأبرار

قل لي بربك باختصار

اين رجال فلسطين الانتصار

أم أصبحوا نسياً بأقبية الأسر

أعلم أن الشمس سوف تشرق ،وأعلم أن ظلم عباس ومن معه لن يدوم وأن مصيرهم لن يكون سوى مزابل التاريخ وأعلم أيضاً أنه ليس بعد القدوس إلا القدس، والقسام.


مريانا، أمْ صفاء

بعد أعوام على مطاردتي مع زوجتي وابنتي تالا وابني أسامة قدر الله أن تحمل زوجتي في تلك الظروف الصعبة، ففي بداية الانتفاضة كنت أملك المال، بل أمتلك الكثير والكثير من المال، ولكن بعد اعتقالي لدى أجهزة أمن السلطة ونهب تلك الأموال، اضطررت لبيع ما يمكن بيعه من ذهب وسحب ما كانت تملك زوجتي من مال، لكن الانتفاضة والمقاومة أكبر بكثير من أن يستطيع رجل واحد تلبية ولو جزء بسيط من احتياجاتها.

فلقد وصل سعر الرصاصة الواحدة لمبلغ ثلاث دولارات، نعم ثلاث دولارات، وصولاً لخمس دولارات حسب نوع الرصاصة والسلاح لإطلاقها، ولذلك بحسبة بسيطة جداً فإن أي جولة تخوض بها أشتباك مسلح، كنا نطلق عدة مئات من الرصاصات وهذا يعني آلاف من الدولارات بكل جولة اشتباك مسلح.

عدا عن شراء الأسلحة التي أصبحت نادرة وأصبحت أسعارها جنونية، فالضفة الغربية محاصرة ولا مجال لشراء الأسلحة بها سوى من داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 من تجار السلاح ورجال المافيات، ومع تقدم أعوام الانتفاضة العام تلو العام كانت الأسعار تتقدم وترتفع، ولذلك أصبح أبو علي السلوادي هو من يمول كل تلك النفقات وأكثر من ذلك فلقد كان ويمول كل ما تحتاجه كتائب القسام وبمول احتياجات أسر مقاتلي القسام المطاردين.

خلال تلك الفترة شهدت المقاومة حالة من الاستقرار المادي ومن القوة الكبيرة جداً من خلال شراء كل ما تحتاجه من سلاح وعتاد وسيارات، ومن استئجار مساكن ومواد للصناعات العسكرية، لكن بعد تلك الفترة من الاستقرار المادي قامت قوات الاحتلال بشن حملاتها واقتحاماتها ضد البنوك والمصارف المالية، وضد محاولات الصرافة وتبديل العملة، واعتقلت كل من يشتبه به بأنه من ممولي المقاومة الفلسطينية، واستولت على الملايين من الأموال، مما أدى إلى وقوعنا بضائقة مالية أكبر بكثير من السابقة، وخاصة أننا كنا قد توسعنا كثيراً بعملنا ولقد كان هناك التزامات مالية مثل أجور المنازل المستأجرة ،ومصروف المطاردين، ومصروف عائلاتهم المطاردة معهم، في تلك الظروف قدر الله يا ابني أن تولد أختكِ؛ فبسبب الاعتقالات الكبيرة أصبحت حركتي صعبة جداً وأصبحت حركة مساعدينا أصعب وأصعب، فلقد أصبح سيد الشيخ قاسم وأبو أحمد الخطيب مطلوبان أيضاً لقوات العدو، وأصبحت حركة أبو علي السلوادي مستحيلة في ظل تلك الظروف.

وقدر الله أن تتساقط الثلوج بشكل كبير مما أدى إلى إغلاق شوارع مدينة رام الله لعدة أيام، مما أتاح لعدد من رجال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من الفرار من أحد المعتقلات المجاورة لمدينة رام الله وهو معتقل عوفر، ففرضت قوات الاحتلال منعاً للتجول على المدينة، وأصبحت مجنزرات تلك القوات تتجول بشوارع المدينة بين الثلوج التي كانت تكسو تلك الشوارع. وفي مساء يوم الجمعة يوم 31/1/2003 توجب نقل والدتكِ للمستشفى، لم يكن بذلك اليوم وبتلك الليلة، وفي الظروف التي قد ذكرتها، سوى أنا وأمّكِ وأنت يا تالا وأخيكِ الرضيع أسامة.

كنت قد أعددت خطة لإدارة عملية ولادة أختكِ الصغيرة، لكن الظروف الميدانية منعت تلك الخطة من أن ترى النور، لكن الله عز وجل كان دوماً مع رجال فلسطين المقاومة، فلسطين أرض الرباط والمرابطين، وهنا طلبت منك أن ترعي أخيكِ الرضيع، ورغم أن عمركِ في تلك الأيام لم يكن قد تجاوز الثلاثة أعوام ونصف إلا أنك قمتي برعايته ورعاية نفسكِ جيداً.

تركت المنزل أنا ووالدتكِ محاولين التوجه بالسيارة إلى أحد المشافي المجاورة وهو مشفى الهلال الأحمر بمدينة البيرة، لكن السيارة لم تتمكن من السير بشوارع المدينة التي كانت قد أقفلت بسبب الثلوج. ولأن جنود الاحتلال كانوا لا يتنقلون إلا بواسطة مجنزرات فلقد استطعت أن أميز الشوارع التي سلكتها تلك مجنزرات في إطار فرضها لمنع التجوال وبحثها عن الفارين من رجال الجبهة الشعبية الأبطال من معتقل عوفر، ولأن معتقل عوفر ومدينة رام الله ومدينة البيرة متلاصقون بشكل كبير، فإن المساحة التي كانت متاحة للفرار، كبيرة جداً مما أدى لنجاح تلك العملية المميزة.

سيراً على الأقدام فوق الثلوج اجتازت زوجتي الطرقات وصولاً إلى المشفى هناك وضعت ابنتي "مريانا" ، أقصد "صفاء". فلقد قمت بتسجيل المولودة من خلال عقد زواج مزور وبطاقات للهوية مزورة أيضاً، تفادياً لتسريب الخبر للعدو الصهيوني من جهة ولقوات الأمن الفلسطيني من جهة أخرى.

بعد أن وضعت أمك المولود، عدت أدراجي لأطمئن على أطفالي هناك وبقيت عدة ساعات أتنقل بين المشفى والمنزل، حتى طلع الصباح وبدأت جرافات بلدية البيرة تحاول فتح الطرقات بعد انسحاب مجنزرات العدو. وهكذا أحضرت سيارتي لنقل زوجتي من المشفى للبيت بمجرد أن فتحت الطرقات صباحاً، في تلك الليلة لم يكن في المشفى إلا عدد قليل جداً يعد على أصابع اليد الواحدة مما جعل الأمور بداخل المستشفى تسير بدون مشاكل ووالدتكِ رغم ألمها، فقد ساعدها ربنا وسهل أمور ولادتها بحمد الله.

بالمناسبة يا ابنتي فلقد كان اسم صفاء في تلك الأوراق مريانا ولم تكن مسلمة بل كانت نصرانية من بيت لحم. فلقد كانت تلك إحدى الهويات التي تسترت بها بتلك الفترة من المطاردة فلقد كنت نصرانياً وكذلك زوجتي وأنتِ يا تالا وأخيكِ أسامة لم يكن طبعاً أسمكِ تالا ولا اسم أخيك أسامة بل كنتِ سارة وكان أخيكِ إلياس.

بعد اعتقالي بقرابة العام تذكرت أن أختكِ لم تكن تملك شهادة ميلاد باسمها واسمي واسم والدتها الحقيقيين ، فكلفت المحامية بثينة وقامت مديرة جمعية مانديلا المختصة بشؤون الأسرى بالحصول على بطاقة شهادة ميلاد لمريانا لتصبح صفاء، صفاء عبد الله البرغوثي.

عندما اعتقلت لم يكن أحد بالدنيا يعلم أني قد أصبح لدي ثلاثة أطفال، حزنت والدتي على اعتقالي ولكن سرعان ما فرحت عندما علمت بالمولودة الجديدة التي كانت تحمل اسمها: اسم والدتي ففرحت أمي صفاء البرغوثي لأجل ولادة صفاء عبد الله البرغوثي.

زوجتي التي كانت عضداً وسنداً لي طوال فترة مطاردتي لم تكن يوماً عبئاً علي بل كانت دافعاً لي لأستمر بمقاومتي بسبب صبرها وإيمانها بما أقوم به، فبعد أن كانت تعيش حياة ملئها الرغد وبحبوحة الحال أصبحت تعيش مطاردةً بلا بيت ثابت ولا مكان هانئ، فلقد كنا ننتقل خلال تلك الأعوام من مدينة إلى أخرى ومن بيت إلى آخر حتى أني لا أكاد أذكر عدد تلك البيوت والأماكن، عندما ولدت تالا ارتدت أكثر من مائة فستان بأول مائة يوم لها بهذه الدنيا وارتدت الحلي الذهبية، أما صفاء فلم ترتدي سوى فستانين اثنين فقط لا غير بسب ضيق الحالة المادية، وبدل أن ترتدي الحلي الذهبية، ارتدت قطعة أسواره بلاستيكية من المشفى كتب عليها مريانا بنت أنطوان.


زراعة العقيدة، سيد الشيخ قاسم

زراعة العقيدة صعب جداً، لكن اقتلاع تلك العقيدة بعد أن زرعت أصعب ألف مرة، بل يكاد أن يكون مستحيلاً، وهنا أقول أن عقيدة أبناء القسام زرعت بالفطرة الطبيعية التي كانت بوصلتها الإسلام والعزة، فلم أشاهد قسامياً واحداً طوال عملي الجهادي لا يقدم نفسه للشهادة ويتقدم للصفوف مثل أولئك القساميين. طوال سنوات عمل هذا المقاوم معي كان بمثابة الدرع الحامي لي، فلقد كان يحرص على أمني ويتبع كل الأمور التي قد أسهو عنها. كنت محملاً بأمور عديدة متنوعة متشعبة من متابعة أمور المقاومة وعملياتها ، إلى التحديث على وسائل تلك الخلايا المقاومة وصولاً للأمور التقنية عبر أجهزة الحاسوب التي كنت أبحر بها - قرصاناً في الشبكة العنكبوتية- لعلي أجد ما ينفع المقاومة، وبقدرٍ من معلومات يسهل اختراقها وأرى ما بداخلها.

أما سيد فلقد كان يشاهد كل ذلك بصمت دون أن يسأل أي سؤال فلم أكن أدرك أن بين يدي معدناً نفيساً لا يقدر بثمن. كان سيد القاسم يعمل في مجال تركيب تمديدات الماء للمنازل، ولم يكن له أي علاقة بتلك الأمور الالكترونية والكهربائية التي كنت مشغولاً بها طوال وقت تواجدي، خصوصاً في حالة عدم وجود عملٍ عسكري أقوم به.

حدثَ أن احتجت لإحدى العمليات؛ عدة عشرات من العبوات الناسفة فطلبت من سيد أن يفعل مثلما أفعل لم يتردد بل بدأ على الفور يؤدي ذلك العمل بصورة مذهلة، فأوقفته عن العمل وسألته كيف تقوم بتلك الأمور من لحام ووصل للقطع وتجميعٍ لها، كيف؟ قال: لقد كنت بجوارك طوال عشرات جلسات التدريب التي كنت تدرب بها المهندسين والفنيين على تلك الأمور، وكنت أراقب وأشاهد وأقرأ ما كنت قد كتبته في كراسات تلك الدورات وأشاهد الرسوم الهندسية وهكذا حفظت الكثير منها وكنت أنشغل برسمها بشكل تفصيلي، لأني كما تعلم كنت الشخص الوحيد الذي كان يسمح له بالتجول بحرية مطلقة معك ومع المتدربين، ولقد كنت في بعض الأحيان بعد أن أنتهي من التدريب أقوم بإعادة الأدوات التي تدرب عليها المهندسون إلى أماكنها وهكذا تعلمت.

في تلك اللحظة وعندما سمعت ما قاله توقفت عن صناعة ما كان بين يدي من عبوة ناسفة، وبدأت بإعطائه دوره مكثفة استمرت عدة أيامٍ وليالٍ تمكنت خلالها من صقل أحد أهم الفنيين بل أحد أهم المهندسين القساميين، فلقد أصبح سيد القاسم بعد فترة التدريب يقوم بإعداد الكثير من العبوات متعددة الأغراض والأشكال.

لقد دربت العشرات من المهندسين الذين كان بعضهم قد أنهى دراسة الماجستير ويعد لدراسة الدكتوراه ولكن يشهد الله أن سيد الشيخ قاسم فاقهم سرعةً بالتعلم واتقاناً لصنع ما تعلمه.

لقد أكمل سيد القاسم من بعدي مشواره على درب مهندس القسام فصنع أقوى العمليات تقنياً، وأدارَ أفضل الخطط عسكرياً، سيد الشيخ قاسم مهندس على الطريق.

وهكذا أقول أن صعوبة التدريب الذي تلقاه طوال تلك الأيام جعل إدارته المعركة سهلةً وبسيطةً، صعب في التدريب سهل في المعركة:

وهكذا زرعت - بجوار عقيدة القسام بقلب سيد القاسم- علوم هندسة القسام، فلم يتمكن أحد من اقتلاعها أبداً. بل قام ابن القسام بزراعة تلك العلوم والعقائد بداخل صدر وعقول شباب الإسلام ورجال القسام.


ترس، وتروس

بهذه الومضة أريد أن أعرض "آلة القسام"، تلك الآلة التي كانت مليئة بتروس القساميين ، تلك التروس التي تمارس عملها بصمت وثبات واقتدار.

وهنا يا ابنتي الحبيبة ويا ملاكي الحارس يجب أن تعلمي أنني عندما قصصتُ عليكِ ما حدث من أمور وأحداث جرت خلال مسيرتي الجهادية ، أنني لست سوى مجرد ترس صغير جداً جداً في تلك الآلة التي تحوي على التروس، التروس التي سيطرت بعملها المتواصل بجد وصمت أروع صفحات المقاومة على تراب فلسطين، كل فلسطين.

وهنا عندما أعرج على اسم أحد تلك التروس القسامية فأنا أعرج على ما قمت أنابه معه، لا على ما قام به هو خلال مقاومته للعدو الصهيوني، فعندما ذكرت المهندس أيمن حلاوة فلم أذكر ما قام هو بهِ بعيداً عني، أو ما قام به منفرداً من أعمال مقاومة وأعمال جهادية . فلقد قام هذا الشهيد المهندس أيمن حلاوة بعددٍ كبير من تلك الأعمال المقاومة بل قام بأحد أهم تلك الأعمال والعمليات وهي عملية "الدولفيتاريو" على شاطئ بحر فلسطين المحتلة تلك العملية التي قتل خلالها العشرات وأصيب المئات عندما فجر الاستشهادي "سعيد الحوتري" نفسه بين الصهاينة عندما كانوا يلعبون ويسكرون في ذلك الملهى الليلي الذي يقع بجوار شط البحر، بعد أن قام المهندس "أيمن حلاوة" برسم الخطة وإعداد المادة المتفجرة التي وضعت بداخل طبلة عزف عليها الاستشهادي لحنه، لحن المقاومة.

وما هذه إلا مثل بسيط جداً على تلك الأسماء التي جاء ذكر بعضها خلال كتابتي هذه الأوراق، تلك الأسماء التي يحتاج كل اسم منها كتابً بل كتب خاصة لتروي سيرته الجهادية، على طريق تحرير فلسطين كل فلسطين والقدس والأقصى، ولذلك يجب أن تعلمي أن هناك العشرات بل المئات من مقاومين آلة القسام الذين قاموا بأضعاف أضعاف ما قمت به، لكنهم يا ابنتي صامتون منهم من كتب الله له الشهادة ، ومنهم من كتب له الله الأسر، ومنهم ما يزال قابضاً على جمر المقاومة، يقاوم ويرابط بصمت. ولذلك آمل منكِ عندما تكبرين بأن تسطري تجارب أولئك المقاومين القساميين في كتب، لترى النور تلك السيرة الطيبة لأولئك الطيبين: شهداء كانوا أم أسرى، أم مقاومين.

تثور النار إن خنقت بالحطب ... فكيف لا يثور ابن القسام وقد غضب على دم شعب يسكب .... ويحرق كل من للحق اغتصب

والنور بنشر سير أولئك المقاومين، هي ثورة لا تقل على ثورات من يحمل البندقية ويقاوم بها، فالكلمة الصادقة في هذا الزمن الصعب قد تكون أقوى من الرصاص وأشد تأثيراً من العبوات الناسفة.

واعلمي يا ابنتي أنه من لا يشكر الناس لا يشكر الله عز وجل ولذلك فأنا أشكر كل من علمني حرفاً أو كلمةً ، كل من أمدني برصاصة لأقاوم بها، أشكر كل من قاتلت إلى جوارهم أشكرهم وأشكرهم وأتشرف لمجرد أني قابلتهم هناك بساحات المعركة، واعلمي يا ملاكي الحارس أننا لا نختار المعارك التي نخوضها بل المعارك هي من تختارنا .


طي الجراح

اشتدت حملات المداهمة والاعتقال وأصبحت أكثر تركيزاً على كل من يعتقد أنه يمت بصلةٍ ما لي ، من قريب كانت أو من بعيد، وخلال عدة أعوام أعتقل العشرات من مهندسي القسام ومن القادة الميدانيين لأولئك القادة والمهندسين، كان هناك دائماً بديل يسارع إلى إيجاده أبو علي السلوادي وأقوم أنا بالتكفل بإعداده وتدريبه لكي ينخرط في ميدان المعركة.

أما من كان إيجادهم صعباً فهم المساعدين الشخصيين والمرافقين فلقد كنت أدير هذه الدائرة بشكل مغلق ولقد كان عدداً من أولئك الأشخاص أمثال سيد القاسم وأبو أحمد الخطيب قد أمضى برفقتي عدة سنوات ولذلك فلقد كان استبدال أي أحد منهم صعباً للغاية ولكن بسبب ارتباطهم المباشر مع مهندسي القسام والقادة الميدانيين - من أجل التنسيق بيني وبينهم - فلقد أدى ذلك لأن يصبحوا مطلوبين لقوات الاحتلال بعد أن كانوا يقومون بكل نشاطاتهم السابقة بدون أن يكون الاحتلال قد صنفهم على أنهم ممن يعملون في مجال المقاومة، وهكذا أصبح كل عناصر الدائرة الأمنية المحيطة بي مطلوبون مطاردون، فكان لزاماً حمايتهم ومتابعة شؤونهم على أكمل وجه، ولأن الأحداث كانت متسارعة، فلقد كان مطلوباً مني أن أبدأ بالبحث عن أماكن جديدة للإقامة،غير تلك القديمة التي تشكل خطراً على أمني. ولأني كنت آنذاك منشغلاً بزوجتي وأطفالي الثلاثة فلقد كانت الأمور أكثر صعوبة بسبب اضطراري للخروج كثيراً لإحضار مستلزمات المعيشة من طعام وشراب وبخاصة أن زوجتي قد مرضت بعد ولادتها لابنتي صفاء، وظلت راقدةً في السرير عدة أسابيع كنت خلالها أراعي أطفالي وأقدم لهم احتياجاتهم اليومية. في ظل تلك الظروف، وبعد خمس وثلاثون يوماً من ولادة زوجتي ورقودها المتواصل على سرير الشفاء ، اضطررت لإيجاد مسكنٍ جديدٍ يكون أكثر ملاءمةًً من مسكني الحالي الذي كنت قد أطلت الإقامة به.

خلال عمليات البحث عن شقة سكنية تم رصدي من قبل أحد العملاء وهو صاحب لمكتب عقارات وتأجير شقق. بالطبع لم يتعرف على من خلال اسمي ولكنه استطاع التعرف علي من خلال ملامحي ومن خلال صورة التقطت لي بإحدى الكاميرات الموجودة بداخل مكتبهِ والتي عرضها هو على جهاز الشاباك فتعرفوا على شخصين وهكذا تم استدراجي من خلال موعد أتفق عليه لمشاهدة إحدى الشقق وكان ذاك الموعد بجوار بلدية البيرة.

في صباح يوم 5/3/2003 توجهت إلى المشفى صباحاً لمعالجة ابنتي تالا التي كان واجباً عليها مراجعة طبيب العيون، ولأن والدتها كانت هي الأخرى راقدة بفراش المرض، ولأن كل المرافقين الذي كانوا يعملون معي أصبحوا مطلوبين للعدو، فلقد اضطررت للذهاب بنفسي لمعالجتها.

لم يكن الطبيب المعالج قد حضر على موعده المحدد.وقيل لي أنه بعيادته التي كانت بإحدى المشافي الخاصة أنه سوف يحضر خلال ساعة أو أكثر ولأن هناك موعداً مسبقاً مع صاحب مكتب تأجير الشقق فلقد اضطررت إلى أخذ ابنتي معي لذلك الموعد على أمل مشاهدة الشقّة والعودة ثانياً إلى مشفى العيون.

وما إن وصلت إلى موقف سيارات بلدية البيرة ونزلت من السيارة وعلى يدي ابنتي ،حتى هاجمني كلبان بوليسيان، فقمت بالإسراع بقذف ابنتي تالا بداخل السيارة وإغلاقها عليها محاولاً التصدي للكلبين اللذين كان إحدهما قد بدأ ينهش قدمي والآخر بدأ ينهش السترة الشتوية التي كنت أرتديها. قبل أن أتمكن من التخلص من الكلبين البوليسيين كانت مجموعة من قوات الاحتلال تحيط بي مصوبةً بنادق رشاشاتها نحوي فألقوني أرضاً وكبلوني وعصبوني واقتادوني إلى سيارة كانت قد توقفت حولهم أثناء مهاجمتهم لي .تم اقتيادي إلى معسكر تحقيق ومعتقل عوفر المجاور، قبل الوصول تم رفع الغطاء عن رأسي مع إبقاء العصبة عن وجهي وما إن توقفت السيارة بداخل المعسكر حتى تم إزالة العصبة على وجهي لأجد نفسي أمام شخص مقنع نظر لي وهز رأسه كان ذلك المقنع هو صاحب مكتب تأجير الشقق. لقد عرفته فلقد كان قصيراً سميناً يرتدي حذاء ذو كعب عالي نوعاً ما، ثواني معدودة تلك التي لزمته للتعرف علي قبل أن يهز برأسه المغطى وثواني هي أيضاً تلك التي لزمتني لأقرر رغم أني مكبلاً مقيداً بأن أقوم بإعدامه.

لقد أقسمت أن أول عمل سوف أقوم به هو إعدام ذلك الحقير العميل .لم تكن عندي مشكلة بإعدامه دائماً كانت المشكلة تكمن بالطريقة التي سوف أعدمه بها، فما لا تعلمينه يا ابنتي هو أني على مدار أعوام من المقاومة قمت بإعدام عددٍ من العملاء كنت أقوم بإعدامه بالطريقة التي تتناسب مع جريمته التي ارتكبها، فمن تسبب بسقوط قذيفة أدت إلى استشهاد مقاوم من أولئك العملاء فلقد كنت أحول جسده إلى أشلاء بعد إلقائه بداخل حفرة تكون قد لغمت بالمواد الناسفة، فلا يعقل أنه بعد أن تسبب ذلك العميل بتحويل جسد أحد المقاومين أي أشلاء جراء إحدى قذائف العدو التي وجهت بناء على معلومات ذلك العميل أن لا أقوم أن بعد ثبات التهمة عليه بتحويل جلده لأشلاء، فالعين بالعين والسن بالسن، والبادئ أظلم. وأنا لست ممن يعفون عن العملاء الظالمين.

أما العملاء الذين كانوا يتعاونون مع المحتل دون أن يؤدي تعاونهم وخيانتهم إلى استشهاد أحد من أبناء المقاومة فلم أقسم بقتلهم بل بفحصهم وكشفهم وتحويل حياتهم بداخل الضفة والقدس جحيم ،مما كان يدفعهم إلى الفرار إلى أحضان العدو إلى مدينة بداخل أراضينا المحتلة عام 1948م.

لم أتطرق بإسهاب لموضوع العملاء لأنه موضوع أمقته جداً ولا أحبه. وكنت غالباً مرغماً على التعاطي مع قضاياهم القذرة بحق أبناء المقاومة وأبناء فلسطين، فالعملاء هم أقذر ظاهرة عرفتها فلسطين جراء الاحتلال الصهيوني سواء عملائه المباشرين أم عملائه بالوكالة، قادة أجهزة أمن السلطة الذين كانوا يعلقون أوسمة العمالة متفاخرين بها راقصين على دماء شهداء فلسطين. قبل أن أعود لما قد حصل معي سوف أعرج قليلاً لما حدث معكِ بعد أن ألقيتكِ داخل السيارة وأغلقت الباب عليكِ.

وما إن تم انقيادي بعيداً عنكِ حتى تم فتح السيارة والإلقاء بكِ أرضاً بموقف سيارات بلدية البيرة وقاموا بأخذ سيارتي معهم ظناً منهم أن سيارتي تحتوي على ما يمكن أن يفيدهم بخصوص قضيتي.

قيل لي بعد فترة من اعتقالي عبر أحد المحامين الذين كانوا يتابعون قضيتي من الناحية القضائية أنه بعد أن ألقى جنود الاحتلال بكِ أرضاً جاء عددٌ من موظفي البلدية الذين شاهدوا عملية مداهمة قوات الاحتلال لي واعتقالي فقاموا بأخذك محاولين التعرف على شخصيتكِ وهويتكِ.

وعندما سألوكِ قلتِ لهم أن أسمكِ لينا أشرف وأنكِ من مدينة نابلس، فلقد كان هذا هو آخر اسم قد أطلقته عليكِ بعد اسمكِ السابق الذي كان سارة.

لم يتمكنوا من تحديد هويتكِ بأي شكل من الأشكال، لأنه لم يكن أحد قد شعر بغيابكِ أو افتقدكِ فأنا معتقل وأمكِ مريضة ترقد على سرير الشفاء ولقد كنت قد تركتها نائمة هي وأخيك أسامة وصفاء عندما تركنا المنزل صباحاً.

وهكذا بقيتِ يا ابنتي حتى ما بعد ساعات المساء دون أن يتم التعرف على هويتكِ فلم يكن عمركِ قد تجاوز الأعوام الأربعة بعد ، ولأنكِ أمضيتِ ما يزيد عن نصف تلك الأعوام الأربعة متنقلةً من مسكن لآخر ومن مدينة إلى أخرى فلقد جعلتِ كل من يحاول سؤالك عن أي معلومة سواء بالاسم أو مكان الإقامة يدخل بمتاهة لا يمكنه الخروج منها بأي نتيجة.

بدأت المحطات الفضائية والتلفزيونية بنقل ما حدث ونقل صوركِ في تقاريرها الإخبارية ولحسن حظكِ فلقد تعرفت عليكِ جدتكِ رغم أنها لم تَرَكِ منذ عامين وأكثر إلا أنها عرفتك وصاحت بأخوالك هذه تالا اذهبوا للمدينة وأحضروها فوراً هذه حفيدتي.

وصل أخوالكِ بعد منتصف الليل إلى مدينة رام الله حيث كنتِ قد نقلتِ إلى هناك إلى أحد منازل أبناء العائلة الذي أخذكِ من بلدية البيرة بناء على طلب أخوالكِ منه، ثم تم نقلكِ إلى القرية لأحضان جدتكِ وطبعاً لم تفلح جدتكِ وأخوالكِ بالحصول على أي معلومة منكِ وسوى وصفكِ لما جرى معي من اعتقال وكلاب وكلاب وكلاب.

كانت زوجتي متعودة على غيابي لساعات طويلة عن البيت إلا أن هذا الغياب يكون عادة غيابي أنا وحدي وليس غيابي مع أي أحد من أطفالي. قلقت وانتظرت فلقد كانت تعلم أن عليها الانتظار في حالة غيابي المفاجئ لمدة أربع وعشرين ساعة قبل أن نعود إلى القرية، ولأن قلقها قد زاد، قامت بتشغيل جهاز التلفاز متابعةً نشرات الأخبار حيث علمت عن اعتقالي وأسري لدى قوات العدو الصهيوني.

انتظرت حتى صباح اليوم التالي وعادت إلى القرية مع ما بقي معها من أبنائي وهم أسامة والرضيعة صفاء؛ صفاء التي كان عمرها يوم اعتقالي خمسة وثلاثون يوماً، ما إن وصلت زوجتي القرية حتى داهمت قوات الاحتلال القرية، ومنزل عمي والد زوجتي واعتقلوا كل من كان هناك، وتعرضت زوجتي للتحقيق المستمر لكنهم لم يتمكنوا من معرفة أي شيء منها ولم يحصلوا على أي معلومة مفيدة، فزوجتي لم تكن تعلم أصلاً عن أي عمل من الأعمال التي كنت أقوم بها، فلقد كانت مهتمة برعاية الأطفال طوال مدة وجودها مطاردة عندي، ولم تكن قد شاهدت طوال تلك المدة وجه أي أحد من مساعديِّ نساءً كانوا أم رجالاً.

ولذلك بعد انتهاء التحقيق معها تم إطلاق سراحها، وهكذا عاد اسم تالا لتالا، ولم تقتنع هي بهذا الاسم. وتسلم به إلا بعد عدة شهور من تكرار مناداتهم بها بهذا الاسم رغم مرور أعوام على عودة اسمها الحقيقي لها إلا أنها تفضل اسم لولو وهو اسم الدلع الذي كنت أناديها به عندما كان اسمها لينا، وظل اسم لولو اسماً رديفاً لإسمها حتى اليوم.

أما جميلة الجميلات صفاء فلقد ولدت تحت اسم مريانا فلقد أصبح اسمها صفاء واعتادت عليه منذ عودتها إلى قرية بيت ريما، أما أسامة أو إلياس أو خمس، فقد استرجع هو الآخر اسمه بشكل أسرع من تالا لأنه كان ما يزال صغيراً ولأننا كنا نناديه في داخل المنزل باسم الغضنفر، فلقد بقي الغضنفر لقباً له حتى يومنا هذا وأسامة اسماً له.

وبالعودة لما جرى معي بعد اعتقالي، اعتقالي الذي عبرت عنه ببضعة جمل متشابكة، فقلت واصفاً حالتي الجسدية والنفسية في ذلك اليوم الأول الذي تواصل ليصبح سلسلةً من الأيام التي توالت على مدار ستة أشهر من التحقيق المتواصل، بيوم بدأ ولم ينتهي إلا بانتهاء الأشهر الست أو المائة وثمانون يوماً التي جمعت لتصبح يوماً، يوماً واحداً.

قلت في ذلك اليوم:

مكبل اليدين والقدمين معلق ... سقف الزنزانة من المرفق

فجر رصاص بلا شمس تشرق ... وبلا أمل وعيون تشرق

احتلال تجبر وقلب المنطق ... سؤال واستجواب تمّ تحقيق

جسدي يتألم وسياطهم كالحريق .. عظام تكسر وعظام تسحق

بحري هائج وفكري غريق .... قلبي يتألم وأشعر بالضيق

أسرت وعذبت ولم يسقط البيدق ... وصعدت روحي من شدة الألم للخالق

لا روحي لم تصعد للسماء .... لم استشهد وما زلت بالمحقق أحملق

نعم، لم أستشهد ولكني كنت بين الوعي واللاوعي أصارع ألم جسدي لكي لا تكسر إرادتي ولكي لا يتدمر ما قمت به طوال عدة أعوام في صفوف المقاومة من بنيان مع رجال المقاومة، رجال القسام.

كنت أدرك أن مثل هذه اللحظة قد تأتي، فلم يكن أمام من يقاوم الاحتلال سوى الشهادة أو الاعتقال أو النصر، النصر كان صعباً لظروفٍ عديدة لا داعي للتطرق لها ولا لأسبابها تلك الأسباب التي جرت على أهل فلسطين النكسة والنكبة وأوسلو والكثير غيرها، ولذلك فلقد كنت مستعداً للشهادة عبر إخلاص النية لله وحده لله عز وجل، فالمقاومة لم تكن لا لسلطة ولا لجاه بل كان لله لرب العزة رب فلسطين، الذي كتب علينا الجهاد طريقاً لتحرير المقدسات.

أما الاعتقال فلقد كنت مستعداً له من عدة نواحي وبطرق مختلفة كان أولها جسدياً، فرغم انشغالي طوال الأعوام الماضية بأعمال المقاومة إلا أني كنت ما أزال أحافظ على لياقتي البدنية على أفضل حال، فلقد واصلت تدريبي وتقوية عضلاتي لاستعمالها في خوضي المعارك المسلحة، أو في خوض معركة كسر الإرادة في زنازين التحقيق ،سواء كانت تلك الزنازين لدى الصهاينة أو لدى أعوانهم من أجهزة أمن السلطة. أما من الناحية الأمنية.

فلقد كانت استعداداتي تنقسم إلى قسمين:

أولها: تلك الخبرة الكبيرة والمعرفة التي تعلمها مني "أبو علي السلوادي" و"سيد القاسم" و"أيمن حلاوة" وغيرهم من رجال القسام الذين كانوا قد مروا بتجارب اعتقال سابقة ومتكررة على مدى الأعوام السابقة. فمن خلال تجاربهم الاعتقالية تمكنت معهم من وضع تصور لما سوف يحدث معي أو مع أي أحد من المقاومين إذا ما تم أسره ولذلك قمنا بإعداد كراسة يشرح بها الأخوة أبو علي السلوادي وسيد القاسم وأيمن حلاوة كيفية إدارة المعركة الاعتقالية، وهكذا ورغم عدم اعتقالي لدى الصهاينة من قبل إلا أني كنت أحمل بعقلي تصوراً كاملاً لي سوف ألاقيه عندهم ولكيفية ردود فعلي على ما سأواجه به هناك، بأقبية التحقيق.


ثانيها : فلقد كان من نوع آخر فضلت أن أقوم به لأسباب تطورت وتعددت أسبابها، فلقد كنت على مدى أعوام أقوم بجمع كل المعلومات التي قد يكون أدلى بها بعض المعتقلين الذين تربطهم بي علاقة عمل جهادي من خلال معلومات حصلت منها بعد أن أنهوا التحقيق وتم وضعهم بداخل السجون، أو من خلال المعلومات التي حصلت عليها عبر المحامين الذين كانوا يملكون لوائح الاعتراف ولوائح الاتهام التي قدمت إلى المحاكم الصهيونية، وبذلك كنت وبنسبة تجاوزت التسعين بالمائة أعلم ما تم تداوله عني تحديداً. وأعلم التهم التي سوف توجه إلي، تلك التهم لم تعنيني أبداً؛ فأنا مقاوم مهندس .

أما ماذا كان يهمني ويعنيني فهو عدم كسر حوار الصمت بما يخص العمل الهيكلي لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وبما يخص خطتها المستقبلية وأهدافها. أو مخازن السلاح والذخيرة ومستودعات المواد المتفجرة .ذلك ما كان يعنيني أولاً.

أما ثانياً فهم المقاومين الذين عملوا معي ولم تكن هوياتهم قد كشفت لدى قوات العدو، تلك الهويات التي أقسمت برب العزة على أن أستشهد قبل البوح بها وقبل تمكن العدو من أولئك القساميين أمراء الظل، أو أن أمكن العدو من الحصول على رصاصة واحدة من رصاصات القسام.

على هذه الأرضية التي بنيت عليها إستراتيجيتي توكلت على الله أما الصهاينة فلقد أوكلوا أمرهم للشيطان وبنوها على أرضية ما يعرف باسم التحقيق العسكري، التحقيق العسكري هو التحقيق الذي يمارس به الصهاينة كل الأساليب اللاإنسانية من أجل انتزاع المعلومات من المعتقل، طوال شهرين من التحقيق معي بمدينة القدس بمركز التحقيق سجن المسكوبية، كسر ما كسر من عظامي ووصلت حالة جسدي إلى حافة الإنهيار، لكن الله عز وجل أعلى وأقوى، الله رب القدس حيث كنت أعذب في تلك الأقبية المظلمة على يد طغاةِ الزمان ومدنسي المكان، مدنسي بيت المقدس ومدنسي اجساد الاسرى والمعتقلين . ما إن انقضى الشهران حتى تم اصطحابي إلى مركز تحقيق آخر لا اسم له ولا عنوان على الخارطة، مركز يصطلح على تسميته بالمركز السري الخاص، سري وخاص . فعلاً هناك بدأت جولة جديدة استمرت نحو أشهر وأكثر كنت خلالها ميتاً يحمل بقايا أنفاس، أنفاس أجراها الله بجسدي حارماً إياي من الشهادة التي كنت أطمع بها، فالشهادة كانت هدفي وغايتي التي كنت أسعى إلى الوصول إليها عبر تحدي أولئك الصهاينة البرابرة، لم أستشهد وأخذت على نقالة إلى زنزانة بسجنٍ في القدس مرةً أخرى. هناك في القدس عدت أشلاء إنسان ،محمولاً على نقالة لا ينقصها سوى كيس أسود من تلك الأكياس التي توضع بداخلها الجثث.

ألقيت في تلك الزنزانة نحو أسبوعين أو أكثر، ثم تم نقلي مرة أخرى إلى شمال فلسطين: إلى معتقل "مجّدو". هناك وصلت ففكوا الرباط عن عيني ثم وضعوني بلا قيد بأحد الأقسام هناك للمرة الأولى من ما يزيد عن ثلاثة أشهر ونصف، رأيت الشمس للمرة الأولى، وأيضاً رأيت أناساً غير المحققين الصهاينة، لكن أولئك الناس كانوا ذئاب بأجسام بشر، ما إن وصلت على ذلك المعتقل وإلى ذلك القسم الذي أعد خصيصاً لي ولاستقبالي، حتى وجدتهم يصلون فتوضأت وأسرعت لأقف خلفهم لأصلي، لأصلي ولم أصلي، لم أصلي بنية الجماعة بل صليت بنية الفرد، رغم أن إمامهم كان طويل اللحية وكبيراً في العمر إلا أني لم أرتح له لأني عندما دخلت لأصلي لمحت عينه ترقبني أثناء توجهي من الباب لأقف في آخر صف، فلقد كان باب خيمة الصلاة يقع على يمين الصف المقابل وهو يمين الخيمة، لم أرتح لنظراته ولا لطريقة أدائه للصلاة، فلقد كان هو وكان من معه من عدة عشرات من المصلين مثل العازفين بجوقة موسيقية مدربة على أحسن تدريب لم يكن بينهم أحد نشاز كانوا مثل الرجال الآليين، ذئاب بأجساد رجال، ورجال أشباه آلات تتحرك بتناغم مستفز.

ما إن انتهيت من الصلاة حتى كان العديد منهم قد مر من أمامي متجهاً إلى باب الخيمة للخروج بقي إمامهم الأكبر مع اثنين من مرتدي اللحى، تلك اللحى التي حاولوا من خلالها إخفاء حقيقة هويتهم عني، فسلموا علي ما إن انتهيت من الصلاة وعرفوني بأنفسهم على أنهم فلسطينيين من مناطق فلسطين المختلفة وعلى أنهم مقاومين وثائرين.

قدموا لي الطعام، الكثير الكثير من الطعام والحليب .وهكذا مضى اليوم الأول صلاة بنية الفرد وطعام عن مئة فرد. في اليوم الثاني قدم لي إمامهم الأكبر حقيبة مدعياً أنها قد وصلت من الشيخ "جمال أبو الهيجاء" آمر المقاومة القسامية بمدينة جنين، وقد كان الشيخ "جمال أبو الهيجاء" قد اعتقل منذ نحو عام، ما لم يكن يعلمه إمامهم الأكبر الذي قدم لي الحقيبة على أنها من الشيخ "جمال أبو الهيجاء" هو أني كنت أعلم أن الشيخ موجود في سجن، سجنٍ آخر أكثر حراسة، سجن مبني من الإسمنت والحديد وليس هنا بسجن الخيام؛ لأن الصهاينة كانوا لا يضعون بسجن الخيام "مجدّو" أو سجن خيام "عوفر" من ثمّ حكمهم واقترب موعد إطلاق سراحهم، فكيف يكون أبو الهيجاء معتقل في مجدو وكيف أصلاً يتم إحضاري، إحضار عبد الله البرغوثي الذي يوجه له تهماً لا تعد ولا تحصى إلى سجن ضعيف الحراسة وأشبه ما يكون بالمنتزه المليء بالخيام؟

فتحت الحقيبة فوجدت بها رسالة من "جمال أبو الهيجاء" كان الشيخ كما يدّعي قد كتبها لي، كتب بها كلمات للاطمئنان عن أحوالي ووضع بنهايتها عدداً من أرقام الهواتف التي تخص قيادات سياسية مثل الأخ خالد مشعل، والأخ عبد العزيز الرنتيسي وغيرهم أسماء كثيرة وأرقام أكثر، لكن لم يكن بين تلك الأسماء والأرقام رقم من أرسل إلي الحقيبة رقم الشيخ جمال أبو الهيجاء، ولم أسأل أحداً عن رقمه حتى لا يشكوا أني قد أصبحت أشك بهم.

ظللت عدة أيام على حالي أصلي منفرداً وأنا خلف إمامهم دون أن أثير شكوكه ودون أن يدري أو يعلم، وكنت أنام كثيراً بسبب التعب الذي كان قد لحق بي خلال جولتي بالتحقيق في المسكوبية بالقدس وبالمركز السري، وكنت أتناول الطعام والشراب كلما تمكنت.

كان هناك صوت يواصل تذكيري أني سوف أخوض جولة ثالثة من التحقيق فلا يمكن أن يكون الصهاينة قد استسلموا بهذه السهولة فهم لم يتعبوا رغم أنهم سهروا الليالي في جلسات التحقيق إلا أنه كان يتم تغيير طاقم المحققين بين الحين والآخر، أما أنا فلم يتم تغيري طوال تلك الأشهر.

مضت عدة أيام أظنها قد تجاوزت الأسبوع، أتى بعدها إمامهم الأكبر ليسألني إن كان قد فرغ شحن بطاريات الهواتف النقالة التي معي تلك التي أرسل منها جمال أبو الهيجاء اثنين وليس واحداً موصول عبر شبكة الاتصال الفلسطينية وهو للاستعمال داخل فلسطين كما كتب لي والهاتف الآخر مشبوك عبر أحد شركات الاتصال الصهيونية وهو للاستعمال الخارجي، فقلت لا أدري إذا ما كانت البطاريات قد فرغت أم لا لأني لم أستعمل تلك الأجهزة أصلاً، وقبل أن يسأل عن السبب قلت له أني كنت قد نسيت وجودها أصلاً بسبب تشوش أفكاري وتعب جسدي، أما الحقيقة فلقد كانت أني أحاول أن أكسب أكبر وقت ممكن في هذا المكان لعلي أسترجع بعضاً من قوتي الجسدية لجولة تحقيق شعرت بأنها قادمة لا محالة.

في أحد أركان إحدى الخيام جلست لكي أجري أول مكالمة لي بمجرد أن تركني إمامهم وذهب لحاله، اتصلت بزوجتي فردت علي قلت لها لا وقت عندي قد ينتهي شحن البطارية فلا تتحدثي واتركيني أتحدث أنا، فطمأنتها عن أحوالي وحاولت إراحة نفسها جراء فراقي، ووقوعي في الأسر. طلبت منها أن تعطني ابنتي تالا، تالا ملاكي الحارس وبدأت بالتحدث لها كانت تسألني باستمرار عن مكان وجودي فكنت أرد عليها أنا عند أصحابك وأصدقائك، فكان من حولها يطلبون منها إعادة السؤال عن مكان وجودي فكنت أكرر أنا عند أصحابك، أصحابك الحلوين وأقفلت السماعة مودعاً.

أصحاب تالا الحلوين

كانت تالا تملك عصفورين من العصافير المغردة، بقيت محتفظة بهما طوال أعوام وجودها مطاردة معي، وعندما كان أحد تلك العصافير يموت، كنت على الفور أقوم بشراء عصفورين آخرين جديدين وإعادة العصفور الحي الذي بقي وحيداً لصاحب محل بيع الطيور.

وهكذا وطوال أعوام كانت تالا لا صديق لها إلا عصافيرها المغردة التي كانت تقوم بإطعامهم كل يوم وتطبق قفصهم، ما إن انهت تالا مكالمتها معي حتى ذهبت إلى قفص العصافير لتبحث عني بداخله، فلقد قلت لها أني عند أصحابها الحلوين جالس بداخل القفص وأتناول طعامي، ولأن غالبية أفراد أسرتي هم أسرى سابقون فلقد انتبهوا لمعنى ما قلته لتالا وعلموا أني موجود في قسم العملاء والجواسيس ذلك القسم الذي يطلق عليه فلسطينياً باسم العصافير أو غرف العار.

بعد ذلك تحدثت مع والدتي ووالدي بعمان مكالمة طويلة محاولاً طمأنتهم عني وعن أحوالي، ولم أعاود استعمال الهواتف النقالة مرة أخرى طوال الأيام التالية، خوفاً من أن يخطئ أو يزل أحد من أبناء عائلتي بأي كلمة أو معلومة فتضر هذه الكلمات أخوتي بالمقاومة، ما إن اكتمل الأسبوع الثاني حتى تم اخباري من قبل إمامهم الأكبر أني سوف أنقل إلى قسم آخر.

عند أولئك العملاء وطوال تلك الفترة قدم لي أفضل الطعام ولم يسألني أي أحد عن أي شيء. فلقد كان المطلوب منهم توفير وسائل الراحة لي، وجعلي أتحدث عبر الهاتف ظناً منهم أنهم سيتمكنوا من تعقب تلك الكلمات فيصلوا إلى شيء ما ضد المقاومة ورجالها.

ارتديت حذائي، وأعطيت الحقيبة وما بداخلها إلى إمامهم وكبير جواسيسهم، وغادرت ذلك القسم متوجهاً إلى الباب الخارجي له، هناك كان ينتظرني عددٌ من جنود قوات الاحتلال الذين قاموا بتقيد يدي وقدمي ثم وضعوا عصبة على عيني واقتادوني إلى عربة انطلقت مسرعةً إلى مدينة القدس، إلى مركز تحقيق المسكوبية، هناك بدأت معي جولة جديدة من التحقيق لم تختلف عن الجولات السابقة، إلا أني تعرضت في أول يوم لتلك الجولة كسر ذراعي، كان الدافع الذي يحرك الصهاينة ويدفعهم لفقد أعصابهم مرده أن رجال كتائب الشهيد عز الدين القسام وعلى رأسهم أبو علي السلوادي وسيد القاسم قاموا بعدة هجمات على قوات الكيان الصهيوني الغاصب عقاباً لجرائمهم التي لم تكن تتوقف أبداً ضد كل فلسطيني مدنياً كان أم عسكرياً مقاوماً كان أم مسالماً، مما جعل قيادة الشاباك الصهيوني تصاب بهستيريا عمياء أرادت من خلالها كسر إرادتي وجعلني أنهار وأنكر كاشفاً أسرار المقاومة وخباياها.

في تلك الفترة ومن شدة العذاب أقسم أني شاهدت الموت وتحدثت معه وجهاً لوجه، لامسته وعرفته عن قرب صادقت الموت وصادقني مشفقاً علي مما حل بي من عذاب، قدر الله لي أن لا أستشهد وقدر الله لملك الموت أن لا يقبض روحي.

بعد مضي شهرين على هذا الحال وتلك الليالي الطويلة كان قد مضى على وجودي في الأسر وداخل أقبية التحقيق قرابة ستة أشهر، وعدة أيام، تم اقتيادي بعدها من مدينة القدس الحبيبة، إلى صحراء فلسطين الأسيرة، إلى صحراء النقب إلى سجن بئر السبع، هناك وصلت مودعاً القدس، مودعاً إياها والكلمات تدور بداخل رأسي دون أن تتمكن شفاهي من النطق بها من شدة التعب وألم الجسد؛ فقلت مودعاً مناجياً القدس الحبيبة وأسوارها الشامخة وظلال أسوارها، أسوار البراق، وأسوار الأسر، قلت:

يا ظلال القدس قومي وناجيني .... أسواركِ باتت صامتةً لا تحاكيني

غاضبة مني لأني من الأسرى المساجين.... أم لأني لم أستشهد مع المجاهدين

بربكِ كبري وعلى الأذان.... ولا تخضعي للظلم والاستبداد والطغيان

حزينٌ انا لاجلك يا نة الرضوان ... يا مدينة المحبة والعفو والغفران

ألستِ درة تاج الأرض وفلسطين... وأسواركِ معراج سيد المرسلين

ألم يستشهد لأجلكِ الاستشهاديين... ألم يضحوا بالروح والغالي والثمين

فلماذا أنت صامتةٌ وأنا حزين ... فالنصر قادم بإذن رب العالمين

فكل محتلٍ لأرضك لترابك فانٍ ... وسوف تبقي شامخةً بلا هوان

فأنتِ مدينة العدل والميزان ... وأنت جوهرة الدر المكنون

فتراب القدس ليس مجرد طين ... فالقدس مباركةٌ وما حولها بالقرآن

فأنتِ أوّل قبلة المؤمنين المصلين ... وأنتِ يا قدس ثاني الحرمين الشريفين

يا ظلال القدس يا جنة الجنان .... أسمعيني صوتكِ وأسمعيني الأذان

فالنصر قادم والعدو المحتل فان ... فقلوب رجال القسام مليئةٌ بالإيمان

يا ظلال القدس أسمعيني الأذان ... يا ظلال القدس أسمعيني الأذان

فأنا الأسير الشهيد الولهان ... لسماع صوتكِ من خلف القضبان

أنا من لا يبيع ولا يهادن ... أنا من بدين رب القدس دان

أنا من بدين رب القدس دان ... يا ظلال القدس أسمعيني الأذان

وصلت إلى سجن بئر السبع وتم وضعي بقسم العزل الانفرادي، كان قسماً يحتوي على عشر غرف يسكن بكل واحدة منها أسير أمني أو سجين مدني، هناك في تلك الغرف المعزولة عن باقي أقسام السجن، كان موجود شيخي ووالدي الغالي علي وعلى قلبي الشيخ جمال أبو الهيجاء، وكان بإحدى الغرف الأخرى يقبع صديقي العزيز أسد مقاومي بيت لحم أحمد المغربي وحيداً، وعددٌ آخر من ضمنهم مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح والذي كان قد مد لي يد العون عند خروجي من معتقل جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، مد لي يد العون رغم صعوبة وضعه لكونه كان مطارداً مطلوباً من قوات الاحتلال.

بعد عدة شهور أمضيتها بين أولئك الأسرى المقاومين الأبطال، تم اقتيادي للتحقيق مرة أخرى، هذه المرة لم يكن السبب يدور حول نشاط كتائب القسام بل يدور حول اختفاء عميلهم الذي أرشدهم إلي، صاحب مكتب تأجير الشقق، مكثت في التحقيق أسبوع واحد لا أكثر ولا أقل، ولكني لم أعد للقسم الذي كان به أخوتي المقاومين بل تم وضعي بقسم خاص لا يحتوي إلا على غرفة واحدة فقط لا غير اسمه قسم الحراسة المغلقة، غرفة يوجد بداخلها عدة كاميرات مراقبة، تراقب كل حركة أقوم بها وكل نفس أتنفسه، مكثت في تلك الغرفة لمدة عام وثمانية أشهر لم أرَ خلالها أي مخلوق سوى ضابط صهيوني واحد وثلاث جنود كانوا هم المكلفين بحراستي ومتابعة أموري.

كنتُ عندما اعتقلت قررت أن أقتل ذلك العميل ولكني كنت محتاراً بطريقة قتله، لكني خلال أشهري الست في داخل أقبية التحقيق قد توصلت لأفضل طريقة ممكنة أن أعاقبهُ بها وأجعل من موته عبرةً ودرساً لكل من تسول له نفسه بأن يتعاون مع العدو ويبيع شرفه ودينه، ذلك العميل كان يقيم بالضفة الغربية تحت ستار أنه صاحب لمحل ومكتب تأجير العقارات فهو كان من أبناء منطقة أخرى ومدينة أخرى لن أذكرها، أما طريقة موته فسوف أذكرها، فبعد التحقيق معه بمجرد أني قمت بإرسال اسمه لأخوتي رجال القسام، اتضح أن له دوراً بتصفية اثنين من أبناء أحد التنظيمات الفلسطينية بمدينة رام الله، وما إن أكمل الأخوة تحقيقهم معه حتى أرسلوا لي على سجني نتيجة ذلك التحقيق منتظرين ما سوف أصدره من حكم على ذلك العميل الذي سلمني لقوات العدو من جهة والذي أدت عمالته لاستشهاد عدد من الثوار.

طلبت من الأخوة أن يبحثوا عن إحد مواقع البناء الجديد التي تقرر إنشاء مجمع أو بناية ضخمة عليها . فوجدوا المكان ، وهناك تم دفن العميل حياً تحت الاسمنت الذي بنيت عليه أساسات ذلك البناء، كم أكره العملاء وكم أرغب بحرقهم جميعاً حتى أطهر المجتمع الفلسطيني منهم.

ما إن مر العام والأشهر الثمانية حتى عدت إلى نفس القسم الذي كان به الأخوة المقاومين والثائرين، لكني لم أجد أي أحد منهم فلقد كان بعضٌ منهم قد انتقل إلى أقسام السجن العادية وتم نقل الآخرين إلى أقسام للعزل في سجون أخرى، في ذلك القسم وجدت تسع مجانين، مجانين بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كانوا طوال الليل لا يكفون عن الصراخ عن طريق الأبواب وعن سكب الماء خارج غرفهم، مكثت على هذا الحال نحو عام أو يزيد قليلاً بعدها ، بدأ عدد أولئك المجانين التسعة يتناقص شيئاً فشيئاً ويحل محل كل من يغادر منهم أحداً من الأخوة المقاومين .كان أول الواصلين "أحمد المغربي" صديقي العزيز وابن أمير مدينة بيت لحم، ثم "حسن سلامة "ثم وصل عدد آخر من الأخوة الأسرى الأمنيين.

طوال تلك الفترة الممتدة من خروجي من التحقيق كنت أعمل على عدة أمور من أهمها تعلم وإتقان اللغة العبرية قراءةً وكتابة. ولقد حققت هذا الهدف خلال بضعة أشهر، وأصبحت أقرأ الصحف العبرية والكتب العبرية أيضاً.

أما الهدف الثاني فلقد كان إعادة ما كنت قد خسرته من كتلة عضلية أثناء أشهر التحقيق الست بسبب قلة الحركة وانعدامها وبسبب القيود والسلاسل وبسبب قلة الطعام، إن كان ما يقدم يسمى طعاماً أصلاً.

ولقد تمكنتُ بحمد الله من استعادة صحتي الجسدية إلى ما كانت عليه سابقاً إن لم يكن أفضل. فلقد كنت أقوم بالجري لمدة ساعة كاملة كل يوم ؛ وهي الساعة التي يسمح لي بالخروج بها من الزنزانة. كنت أمارس تمارين الضغط وتمارين تقوية عضلات المعدة. وباختصارٍ شديد كنت أقرأ كل أنواع الكتب التي يمكنني الحصول عليها، وكنت أحافظ على جدول تدريبي الرياضي بدون أن أسمح لأي عامل خارجي للتأثير على ذلك الجدول، وبعد ذلك بدأت محاكمتي وتم الحكم علي سبع وستون مؤبد وخمسة آلاف ومائتي عام !!

في ذلك اليوم الذي حكم علي به حكم على قلعة جدي بأن تفجر، ففجروا القلعة وأصبحت كومة من ركام الحجارة المكومة فصعد أبنائي إلى أعلى الكومة وغرسوا عليها علماً فلسطينياً وعلماً أخضراً حمساوياً كتب عليه: الله أكبر.

لم أحزن يوماً من الأيام على أي شيء قمتُ به طوال حياتي سواء كانت تلك الحياة قبل أن أدخل فلسطين، أو بعد أن دخلت فلسطين إلى قلب المقاومة إلى قلب العزة والكرامة.

خلال الأعوام التي قاربت العشر التي مرت علي وأنا معزول في زنزانة العزل الانفرادي تم اقتيادي للتحقيق عدة مرات كانت كلها عادية، بلا طعم أو لون أما ما ضايقني وجعلني أستشيط غضباً كان عندما عرض علي محققي الشاباك الصهيوني تسجيلاً مصوراً لاعترافاتٍ أدلى بها مقاومان قساميان كان بادياً عليهما التعذيب الشديد والإعياء، لم يكن هذان المقاومان معتقلان عند أجهزة المخابرات الصهيونية ولم يعذبا هناك، بل كانا قد خضعا للتحقيق على يد قوات أمن سلطة محمود عباس، تلك السلطة التي عرفت أسفل درك من دروك الفساد والإفساد حتى أصبحت العمالة في نظر قادة أجهزتها الأمنية عقيدة زرعت وتغلغلت عميقاً أكثر من ما يتصور البعض.

ابنتي الحبيبة وملاكي الحارس، اعلم وليعلم كل من تقرأ عيناه هذه الكلمات والومضات أن الحياة واحدة وأن الرب واحد، فإما عيشة تتوجها الكرامة والعزة وإما موتة يقصد بها وجه الله عز وجل لترتقي بعدها الروح صاعدةً لله رب العزة. إنّ فلسطين بأقصاها وقدسها تستحق كل ما قدمت لها ولأجلها ويشهد الله، إذا ما ظل بجسدي نفس، فلن أبخل به على وطني السليب، فليس بعد القدوس إلا القدس وليس بعد القدس إلا القسام.

القسام رجال عملية الوهم المتبدد، ذلك الوهم وذلك الحلم الذي حلمت أن أصحو منه محرراً حراً، حلمت أن أعود إلى كومة حجارة قلعتي إلى أطفالي إلى زوجتي وأبي وأمي إلى كل من أحبوني من أخوة وأخوات، الوهم المتبدد الذي جعلني أعيش أملاً وحلماً، استيقظت من الحلم وعاد من عاد إلى أهله وذويه من الأسرى المحررين، عادوا إلى غزة الحصار والانتصار عادوا إلى القدس وإلى الضفة، وغادر من غادر مبعداً إلى بلاد الغربة، أما أنا عبد الله البرغوثي أما أنا حسن سلامة أما أنا ابراهيم حامد أما أنا جمال أبو الهيجاء أما أنا عباس السيد أما أنا محمود عيسى، أما أنا أحمد المغربي أما أنا بلال البرغوثي، أما أنا وائل العباسي أما أنا فبقيت مقيداً ملقى بزنزانة العزل الانفرادي حتى يومنا هذا، فذهب الوهم المتبدد أدراج الرياح وبقيت بل بقينا تحت جبروت السجن والسجان، ألم يعد هناك معتصم نعصتم به بعد الله لعله يفك أسرنا ويكسر قيدنا، أم عدنا نحيا في دنيا الوهم، والأوهام المتبددة.


أكتب يا قلمي من داخل أسرك

أكتب من داخل عزلك فأنت قلمٌ حرٌ بيدِ أسيرٍ حرٍ، أكتب بالله عليك أكتب، فأنا أشعر بالضيق، أكتب يا قلمي، أكتب أستحلفك بالله أن تكتب:

أكتب بحبرك عني وعبر ... فزنزانتي خرساء صامتةٌ كالقبر

أكتب ولا تخف فأنت حر ... أما أنا اسيرٌ أتجرع المر

اصنع من حبرك كلمات الحرية النصر... لتحلق عالياً بسماء الحرية وتطير

اصنع القصة وأكتب عني الخواطر... واروي حكايات كل ثائر

فالقيد يكبل معصم الأسير وأنا أسير... أما معصمك فلا يكبله إلا الضمير

فخط بهذا الدم الانتصار... واجعله ساطعاً بالسماء كالبدر

أمنتك بالله بالكتابة أن تستمر ... وأن تقول وتجول بالمعركة ولا تفر

أكتب بحبرك عني وعبر ... فزنزانتي خرساء صامتةٌ كالقبر

فأنت قلم حر لا يشترى بدينار... ولا يباع بسوق الصهاينة والكفار

فحبر حريتك عليهم خطر... وحريتك لنا لفلسطين هي الظفر

فاظفر للحق والدين وخاطر... واحرقهم بحبر دمك المستعمر

وبالعميل ألحق الذل والعار ... وبكل معتد محتل غدار

فأنت اليوم فارس المنبر... وأسد أسود عرين الغضنفر

اضحد كذبهم وطهر التزوير... وأطفأ نار كفرهم الشرير

فما عدت اليوم طفلاً صغير ... فحلق بالسماء كالصقر وطِر

واحذر شباكهم شباك الغدر... واحذر من كل عميل حقير سمسار

وكن بيد المجاهد كالخنجر... وكسيف قسامي مجاهد يبتر

وابقى على درب الحق سائر ... وبِقدم النصّر هلل وبشر

أكتب يا قلمي، اكتب ولا تتوقف، أكتب أنت حر، أنت عبد الله غالب البرغوثي، زوج فائدة وأبو تالا وأبو أسامة وأبو صفاء وأخ رائف وأخ محمد وريم وفائدة وابن غالب وابن صفاء وابن القسام، أكتب يا قلمي وعبر فأنا ابن الإسلام والقسام.

أوراق كتابي هذا الذي كتبت تحت عنوان

"مهندس على الطريق" أمير الظل...

قد شارفت على الانتهاء، بل انتهيت وحان وقت طي صفحات الكتاب وصفحات الجراح، أما قصتي لا لم تنتهي فإن للحكاية بقية باقية، وأن ما بقي أكثر وأكبر بل أعمق بكثير مما كتب وروي ضمن صفحات هذا الكتاب، كتاب مهندس على الطريق "أمير الظل".

كُتب هذا الكتاب في زنزانة العزل الانفرادي بداخل معتقل رامون في الجنوب الفلسطيني، وقريباً من حدود مصر العربية مصر الثورة والثوار، كُتب بعد الربيع العربي، الربيع الذي آمل أن يتحول لعاصفة على الصهاينة.

عبد الله غالب عبد الله الجمل البرغوثي

من اقوال المجاهد عبدالله البرغوثي هذه الكلمات جائتني بعد ارسال مسودة الكتاب ارجو اختيار المكان المناسب لها مع جزيل الشكر.

لا تنسوا المهندس في عتمة عزلته لقد كان فيكم للحريه عنوانا

( الحبيبة والبنين )

عيني تبكي وقلبي حزين

على فراق الحبيبة والبنين

فائدة التي الفؤاد والياسمين

انت شمعة قلبي السجين

بوجهك البسمة كل حين

وفي قلبك حبي الدفين

فانتي حياتي وماء العين

يا وردتي واجمل الرياحين

سيبقى حبي لك قوي متين

مهما فرقنا العدو اللعين
( اسير بلا كفن )

عبدالله يا ساكن الوجدان

يا صلاح هذا الزمان

اليوم بت فارساً بلا حصان

اسيراً بسجن بلا عنوان

شهيداً حياً بلا كفن

بزنزانة العزل العفن

صابرً على المصائب والمحن

رغم ظلم العدو اللعين

يامن بذل الغالي والثمين

من اجل ان يرفع الجبين

ويمشي منتصب القامة لا يهين

كهزيج الرعد بسماء فلسطين

عزيز النفس كالتين والزيتون

كصخرة الاقصى ومعراج السنين

ابا اسامة يا وحش لا يلين

ستبقى منارة المجاهدين

صفحة الغلاف الاخير ( غلاف الكتاب توضع بجوار صوره له )

امير الظل

- المهندس الكاتب قال :

اعلم انني اليوم اعيش في ظلمت زنزانة العزل الانفرادي منذ سنين طويله .. طويلة جداً حتى انني لم اعد احصيها .

ولكن اذكر قبل دخولي الى العزل انني عشت ستت اشهر في زنازين التحقيق شاهدت خلالها الموت وكلمته وكلمني لمسته في لحظات عديده ولكن تغلبت عليه بعون من الله القاهر القهار..

ولكن اذكر انني عشت قبل ذلك اجمل واروع ايام عمري فلقد رفعت رأسي عالياً ورفعت راية التوحيد والجهاد اعلى .. في زمن الذل والهوان .

غداّ سوف تأتي قطره زيت لكي تضيئ سراج الاقصى وقنديل القدس ..

غداّ قادم فلا تقنطو من رحمة الله فهو الرحمن الرحيم .. وهو الغالب الجبار القادر على كل شيء .

المهندس عبدالله البرغوثي
ابو اسامه
امير الظل
امير الصمت
امير الطريق