من تراث رجالات الدعوة في مناسبة الهجرة
- الإمام البنا: الهجرة درس في حب الله
- الهضيبي: الدعوة تضحية بالوقت والجهد والمال
- التلمساني: المسلمون حياتهم كلها هجرة
تمثل الهجرة النبوية الشريفة مناسبةً يحتفل بها المسلمون كل عام، تتبارى في الاحتفاء بها الأقلام وألسُن الخطباء، ويحفظ التاريخ مقالاتٍ وخطبًا لرجالات الدعوة، ومن هؤلاء الأئمة حسن البنا وحسن الهضيبي وعمر التلمساني رحمهم الله جميعًا، وفيما يلي ننشر جانبًا من تراث هؤلاء الأعلام:
1- فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا يتحدث عن الهجرة:
محتويات
نظرات في الهجرة
نحمد الله تبارك وتعالى، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.. أما بعد!!
أيها الإخوان الفضلاء.. أحييكم بتحية الإسلام تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
إنكم أيها الإخوان في حفل تكريم الآن، وفي ذكرى رسول كريم؛ لأنكم اجتمعتم في تاريخ هجرته المباركة التي جاءت فاصلاً بين الحق والباطل، بل ظهر الحق وغاب الباطل ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
أيها الإخوة برغم هذا أعتذر إليكم إن لم يتسع لكم المكان، فقد وسعتكم صدورنا، فلا تضيق صدوركم من زحام شديد، فإن به الرحمةَ تتنزل والخير يفيض، أفسحوا لهذه الذكرى من صدوركم ومشاعركم، فإنها- بكل الحق- فيها العبرة والعظة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: الآية 21).
أيها الإخوة.. ونشكر لكم تلبيتكم هذه الدعوة، ونهنئكم بهذه الذكرى، ونسأل الله- تبارك وتعالى- أن يُعيدها على الأمة الإسلامية بالأمن والإيمان والطمأنينة والسلام، وإنه أكرم مسئول وأفضل مأمول.
أيها الإخوان.. إن الحديث عن الهجرة حديث يطول، ولكن سأستلهم من هذا الشعور الفياض وذلك التطور الجديد ذلك المعنى السامي الذي أحدثته الهجرة في النفوس.
لا شك أيها الإخوة أنَّ القلب الإسلامي والعقل الإسلامي والأمة الإسلامية في تطور جديدٍ وشعور جديد، أشرقت أنواره، وبدت مطالعه في هذه المظاهر البهيجة، وفي هذه العاطفة الروحية التي تزداد بها الأرواح إشراقًا، وتزداد بها الوحدة تماسكًا، تحسُّ أثرَه يا أخي في المساجد والجمعيات والجماعات، ففي كل مكانٍ يوجد مظهر، وفي كل ناحية من نواحي الخير تجد قلوبًا تتطلَّع إلى المستقبل المليء بالخير.
سأستلهم أيها الإخوة هذا المعنى الذي أتحدث إليكم فيه عن الهجرة ومعانيها السامية في كلمة رئيس الدولة في رسالته التي يخاطب بها شعبه، ويستنهض بها الأمةَ الإسلاميةَ، والتي قال فيها: "أذكر مع الذاكرين فيه الأماني، وتمتلئ القلوب قوةً وأملاً وإيمانًا بالله، تعالت قدرته، وعلت مشيئته.
إن هجرة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد أودعت ضمير الزمان مبادئَ شرفت بها الإنسانية، وسما بها قدر الإنسان، ومن حق الذين يحتفلون بذكرى الهجرة أن يهنأوا، فإليكم حقكم من هذه التهنئة الخاصة، وإلى المسلمين جميعًا في كل مكان تحياتي مشفوعة بأماني المجد لهم.
إنَّ رئيسَ الحكومة يهيب بالمسلمين في حديث الهجرة فيقول: "لقد هانت الحياة حين عزت العقيدة، وصغرت الدنيا حين كبر المقصد وسمت الغاية، فما قيمة الحياة بغير لبابها؟ بل ما غناء الدنيا بدون شرفها؟ وإن لباب الحياة لهو العقيدة، فإذا خلت منها فهي ذلٌّ وصَغار، وإنَّ شرف الدنيا أن يعمل الإنسان على إقالة العثار، ويعين على نوائب الحق، فإذا استنام للباطل، فليس له من الدنيا نصيب إلا ليل ونهار، والمرء بينهما خيالٌ سارٍ".
وإنَّ فضيلة شيخ الأزهر في حديثه عن الهجرة يقول: "إنه إذ يذكر مزاياها، إنما ننشر للناس ما يجب أن يعلموه من معاني الصبر والتضحية والثبات على المبدأ والحياة الشريفة أو الموت في سبيل المبدأ".
أيها الإخوان.. هذا تطور جديد في الشعور الإسلامي والقلب الإسلامي، والذي كانت قلوبنا تهتف به؛ لأنها لم تكن تقيدها القيود والرسوم، ولم تكن الأحوال الشكلية تحولُ بينها وبينه، وما كنا نطمع أن يهتف به عليةُ القوم وجلة الناس وأهل النفوذ فيهم، بل كنا نعتبر هذا أمنيةً، فإذا أحلام الأمس حقائق اليوم ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 4، 5).
وإذا كان رئيس الدولة يقول إن هجرة الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- قد أودعت ضمير الزمان مبادئَ شرفت بها الإنسانية، وسما بها قدر الإنسان، فإني أحب أن أتناول شيئًا من البيان لهذه المبادئ.. هذه المبادئ العليا- أيها الإخوان- قد أنتجتها هجرةُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأودعتها ضمير الزمان وشرفت بها الإنسانية، وأثَّرت في حياة الأمة الروحية، فليست حياة الأمة في الإصلاحات الاقتصادية ولا في نهضاتها الإدارية، ولا في أعمالها الشكلية، فإن هذا في حياة الأمم لا يساوي فيضَ الله- تبارك و تعالى- على القلوب والأرواح متى عرفت ربَّها وخالط الإيمانُ بشاشةَ قلوبها، تعالَوا- أيها الإخوان- نتلمَّس هذا الفيضَ من هجرةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة نجده واضحًا في تلك المبادئ التي أشرقت بها الدنيا وعلا بها قدر الإنسان، والتي امتحن بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابَه من المهاجرين والأنصار، بعد أن درس هذه المبادئ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجاءت تلك الهجرة نتيجةً لتلك الدارسات العميقة وانطباعها بتلك المبادئ القويمة، وكان من حظ الدنيا أن استجاب لها المسلمون واستحقوا بها الشهادة شهادةَ الله جلَّت قدرتُهُ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾(آل عمران: من الآية 110)
تعالَوا أيها الإخوة نتدارس تلك المبادئ؛ لعلنا نستطيع أن نصيبها بنحو ما أصابها أسلافنا من عدة قرون.
أيها الإخوة إن المبادئ التي جاء بها النبي- صلى الله عليه وسلم- والتي ركَّز لها كفاحه في مكة قد أُحيطت بقلوب رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فإذا نحن حاولنا أن ننجح كما نجحوا فعلينا أن ننتهج بنهجهم، ونسلك مسلكهم، وإنهم باعوا أرواحهم لله، وضحَّوا بأنفسهم في سبيل الله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: الآية 111)، واسمحوا لي أيها الإخوة أن أبيِّن لكم مبلغ ذلك العبء الذي احتمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في صقل النفوس وفي غرس المبادئ.
ومضى صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ عشرَ عامًا يغرس في النفوس مبادئه القويمة وتعاليمه النافعة، ويكرِّر ذلك حتى تعيَه القلوب وتمتزج به الأرواح، وهو بعد هذا يعتقد أن الله أقرب إليه من كل ما عداه، فإذا دعا فلله، وإذا تكلم فلله، وإذا أحسن عملاً فلوجه الله ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ (المجادلة: من الآية 7).
يؤمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حق الإيمان بذلك، ويعلم علم اليقين أن أهل السماء والأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوا أحدًا أو يضروه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 154) ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (الروم: من الآية 4).. هذا المبدأ يا أخي، وهذه الفكرة استقرت في قلوب طلبة مدرسته الأولية صلى الله عليه وسلم، واستولت على صميم قلوبهم، يعتزون بها ويعملون لها، وما كان لصاحب العقيدة السليمة أن يُفتَن في عقيدته ﴿وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: من الآية 2).
استقر هذا المبدأ وتمكَّنت هذه العقيدة في نفوس المؤمنين الأُوَل، ثم جاءت الهجرة وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ما هم عليه من العزم والقوة، يتأهبون لها ويسارعون لنيل شرفها، وما كان لهم من قوة يستنصرون بها إلا اعتزازهم بالله واعتمادهم على الله.. ها هو ذا عمر- رضى الله عنه- يتنكَّب قوسه ويطوف بالكعبة، ويمر بالملأ من قريش ثم يقول: من أراد أن تثكله أمه أو ييتَّم ولده فليتبعني، وها هو ذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستعد للهجرة وفي صحبته أبو بكر الصديق ثم يخرج ليلاً تاركًا وطنَه وحب قلبه، وأي ألمٍ للنفس وأي شدة لها من أن يترك الإنسانُ بلده ومسقط رأسه، ولكنه في طاعة الله وابتغاء مرضاة الله!!
والهجرة أخت القتل ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ (النساء: 66) وما كانت مكة بالبلد البغيض، بل هي أعز البلاد إليه، فها هو ذا- صلى الله عليه وسلم- يخاطبها عند فراقه لها فيقول: "يا مكة.. إنك لأحب البلاد إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت".
أيها الإخوة.. ذلك كان حبهم لمكة ولكن الله أحب إليهم من كل شيء ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: الآية 24).
أيها الإخوة.. ويخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارًّا بدينه من القرية الظالمِ أهلها، متوخيًا كيدَ أعدائه، فيختبئ في غار ثور، ثم يقول له الصديق أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله لو نظروا تحت أقدامهم لرأَونا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما.. لا تحزن إن الله معنا" ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا﴾ (التوبة: الآية 40).
أيها الإخوة.. لقد امتُحن الذين سبقوا من المهاجرين فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، وامتحن الأنصار بالوفاء والنصرة لهؤلاء، فنجحوا نجاحًا سجَّله الله عز وجل في كتابه: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 157).
وتمضي الأيام فإذا بهم يكونون له نماذجَ الوفاء، ما تردَّدوا وما تلكأوا، حتى في أحرج المواقف، فها هو ذا سعد بن عبادة- رضى الله عنه- يقول في إحدى الغزوات: إنا صُبُرٌ في الحق، فلا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. عاشوا على الحق وماتوا على الحق، فنالوا الدرجةَ العليا في سجل الدرجات ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: الآية 23).
أيها الإخوة.. ولقد كان من مفاخرهم أنهم كانوا يقاسمون المهاجرين أموالَهم وإن كانت محدودةً، ولكنَّ قلوبَهم كانت عامةً وغير محدودة وسِعَت كلَّ من وفد عليها، وهكذا تحققت معنى الوحدة الوحدة الحقيقية من معرفةٍ إلى صداقةٍ، ومن صداقةٍ إلى حبٍّ، ومن حبٍّ إلى إيثارٍ، ولا عجبَ أن سجَّل القرآنُ الكريم هذه المواقفَ في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: الآية 9).
هكذا يا أخي امتُحِن المهاجرون بالإيمان القوي والصبر، وامتُحِن الأنصارُ بالحب الكامل فنجحوا جميعًا، واستقر المجتمع بتلك المبادئ السامية التي علا بها قدرُ الإنسان وشرفت بها قيمة الإنسان.
أيها الإخوة.. هذه المبادئ التي توحيها الهجرة ها أنتم درستموها وقرأتموها، ولكني أصارحكم أنَّ الدرسَ شيء والعمل بها شيء آخر، كما أنَّ الأخلاق شيء والعمل بها شيء آخر، وعِلم الدين شيء والعمل بالدين شيء آخر، فقد نرى مستشرقًا عالمًا بالدين، وهو على فكرته وعقيدته، وعالمًا يؤلّف في الأخلاق وليس عنده من الأخلاق شيء، وقد لا ينطق الرجلُ بكلمةٍ ولا بجملةٍ من العلم، لكنَّ نفسه دَيِّنةٌ مشرقةٌ منيرةٌ، ولسان الهجرة يفيض كل عام، ويذكرها المسلمون، فهل المسلمون يعتبرون بهذا اللسان ويستمعون لهذا اللسان؟!
إنَّ القلوب لم تتَّجه بعد ولا تريد أن تؤدِّيَ الامتحانَ، وإذا كان هذا حالها فيا ضيعة العمر!! لهذا أهيب بالإخوان المسلمين إذا عرضوا لاحتمال شيءٍ عظيمٍ أهيب بهم إذا عزَّ ذلك على الأمة أن يكونوا نماذج للدعوة الحقة، فإذا رآهم الناس قد تحمَّسوا واعتزُّوا بالإيمان، وتحلوا بالصبر والوفاء والحب والتآخي والبذل والاستعداد والتضحية في سبيل الحق، فسيعملون بعملهم ويتحمسون بحماسهم، فإن الحقوقَ تُطلَب ويُكَافَح في سبيلها.
فسيروا أيها الإخوان على بركة الله، عاملين على إعلاء كلمة الحق، التي يجب أن تتجه إليها قلوبكم اتجاهًا قويًّا ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: الآية 139).. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
2- فضيلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي يتحدث عن الهجرة في الاحتفال بذكرى الهجرة بالمنصورة- المحرم 1373= سبتمبر 1953، تحدث فضيلة الأستاذ المرشد حسن الهضيبي فقال:
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أيها الإخوان.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأستاذ سيد قطب كان يقول في كلمته: إننا لا يجب أن نهتم كثيرًا بالخطب، ولا ننشر الدين بالخطب، ولهذا فسأكلمكم وأنا جالس؛ لأني لا أريد أن أكون خطيبًا، ولا أحب أن أكون خطيبًا. يا إخوان..
كنا زمانًا في المدرسة الثانوية، وحيث لم تكن هناك وقتها احتفالاتٌ بالعام الهجري بدرت عندنا فكرةٌ من الغيظ من الاحتلال.. فكرة نتنفس بها في جانبٍ من جوانب الحياة.. فقلنا نحتفل بالعام الهجري، وبعد تعبٍ أجبنا إلى أن نحتفل بهذا العيد، ثم مرت أيام وأنا فكرت: ما الذي استفدناه من الاحتفال بالعام الهجري؟! وجدت أولاً أنه لا فائدةَ لهذا الاحتفال بالمرة.. ندخل الاحتفال عُصاةً ونخرج منه عُصاةً، يعني مثلاً كنَّا ندخل بغير صلاة المغرب ونخرج ولم نصلِّ العشاءَ، وكنا ندخل ولا عِلْمَ لنا بآيةٍ واحدةٍ من القرآن، ونخرج بنفس الحال ولا نعرف آيةً واحدةً من القرآن.
كنا ندرس القانونَ في مدرسة الحقوق ولا نشعر بأنه ينقصنا شيء، وما كنا نشعر بأنَّ هناك دينًا اسمه الإسلام يستوجب علينا أن ندرسَ شريعةَ الإسلام على اعتبار أنَّها قانونٌ حيٌّ، على اعتبار أنها قانون لازم للحياة.. فما فائدة هذه الاحتفالات؟! وبقينا على هذه الحال، وكلما مرَّ الوقت قلَّ أملي في هذه الاحتفالات؛ لأنَّ الكلام الذي يُقال فيها "يدخل من أُذن ويخرج من أُذن"، ولا نتقدَّم به شيئًا.
أليس هذا هو الحق؟! نعم هو الحق وهو الواقع، وجاءت أحداث بالبلد أمَّلنا فيها خيرًا فلم ينتج عنها خير، إلى أن وقعتُ على دعوة الإخوان المسلمين، فعلمت أنَّ هذا قبسٌ من نور، وأنَّ هذا النور يوشك أن يهدي الناسَ كما هداهم أوَّل الأمر.
يا إخوان..
إنَّ دعوةَ الإخوان المسلمين ليست شيئًا جديدًا.. إنها الدين الخالص.. الدين الذي ليس فيه كتب لمطالعتها ليلاً ونهارًا ونرجع إليها.. إنها قولٌ بسيطٌ جدًّا: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. إنها الأخلاق.. إنها الفطرة السليمة.. إنها شيء عملي نعمله كل يوم.
وقد نظرنا حولنا فوجدنا أنَّ الإخوانَ المسلمين أوجدوا في البلد حياةً.. أوجدوا في البلد طائفةً من الشباب استعدَّت بالروح وبالجسم وبالمال لافتداء الدين والوطن، ووجدنا أنَّ هذه الفئةَ ثابتةٌ لا تتكلَّم، لا تهتف باسم أحد، ولا تعظِّم شخصًا ولا تحيِّي إنسانًا، إنما تحيِّي الله سبحانه وتعالى، تحيتهم هتاف لله سبحانه وتعالى، عاملين منيبين طيبين يتوجهون لله بالعمل الطيب، ويعملون في صمت وسكون، إلى أن أتت الأحداث فأثبتت أنهم جنود الله حقًّا.
الدعوة الإسلامية دعوةٌ تشمل الحياةَ كلَّها.. تدخل على الإنسان.. تغيِّر من عقيدته كما غيَّرت عقيدة عبدة الأوثان وعبدة الناس.. تدخل في قلوب الناس فتنير بصائرهم.. تدخل في قلوب الناس فتريهم الحقَّ حقًّا والباطلَ باطلاً.. تريهم الحق فيتبعونه وتريهم الباطل فيجتنبونه، هذه هي دعوة الإخوان المسلمين التي نتحدث عنها، ونقيم هذا الاحتفالَ في الحقيقة لا لنقول لهم العام الهجري فحسب، إنما لنُبيِّن شيئًا من حقيقة دعوة الإخوان المسلمين، ولا أريد أن أطيل في هذا الأمر، إنما أريد أن نرجع إلى يوم الهجرة فقط لأعرض بعض اعتباراتٍ نستفيدها من الهجرة.
يا إخوان..

الحاجة الأولى التي نستفيدها من كلام أخي عبد المعز وكلام أخي سيد.. استفدنا أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- منح الدعوةَ كلَّ وقتِهِ وكلَّ روحِهِ وكلَّ جسمِهِ وكلَّ مالِهِ إن كان عنده مال.
فيا أيها الإخوان.. لا تظنُّوا أنَّ كلامي لكم تملقٌ، إنَّ أمامكم الشيء الكثير الذي يجب أن تفعلوه، ولا تظنوا أنَّ مَن انتسب إلى دعوة الإخوان المسلمين قد بلغ منها حظه حقًّا، يجب على من يدخل الدعوةَ أن يهبَهَا ويمنحَهَا كلَّ وقتِهِ وكلَّ جهدِهِ وكلَّ مالِهِ وكلَّ نفسِهِ، فلا نكتفي بالحضور إلى الشعبة فيمكث الواحد فيها طول النهار، إنما يجب أن يمنحَ الدعوةَ كل وقته، وليس معنى كلامي الواحد يدور في الشوارع ينادي بدعوة الإخوان المسلمين، ولا أن ينصرف عن أعماله ولا يجعل له من سبيل إلا الكلام عن دعوة الإخوان المسلمين، ولكن أقول مع ذلك إنه يجب أن يمنحَ دعوةَ الإخوان كلَّ وقته وكلَّ جهده وكلَّ ماله وكلَّ نفسه، وذلك بأن يحقق في نفسه وفي عمله وفي سائر النشاط الذي يعمله في يومه معاني القرآن العظيم.
يجب أن يمنح الواحد هذه الدعوة يمنح هذا الدين كلَّ الوقت ليحققَ المثلَ الأعلى الذي بيَّنه القرآن، ونحن في هذا الطريق لنا مثل أعلى، وفينا من هو مثل أعلى، وفينا من يصلح، وفينا من لا يطيق، ولكن كلنا يريد الوصولَ لله سبحانه وتعالى، وكلنا يريد الصعودَ إلى جبلٍ.. فمنا من يصل إلى القمة، ومنا من يصل إلى منتصف الجبل، ومنا من يظل في السفح، ومنا من يبدأ، لكننا جميعًا لنا وجهةٌ واحدةٌ هي وجهة الله ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: من الآية 3).
فيا أيها الإخوان..
الدين الخالص يقتضينا في التجارة وفي الزراعة وفي معاملتنا للناس، التلميذ في مدرسته، الزارع في زرعه يعبد الله بإتقان عمله ويعبد الله بأن يفكر دائمًا في الله حين يعمل العمل، فيعمله لوجههِ تعالى.. إذن نكون قد منحنا الدعوةَ كلَّ وقتنا وكلَّ جهدنا وكلَّ مالنا، فلا يدخل على الحياة زَيف منها، ولا يدخل علينا الغرور من أي جانب من جوانب أنفسنا، فيجب علينا دائمًا أن نكون مستغرقين في دعوة الله سبحانه وتعالى كما كان رسول الله- عليه السلام- مانحًا كلَّ وقتِهِ بالليلِ والنهارِ، كل حاجة.. كل عمل من أعماله كان خالصًا لوجهه تعالى في تجارته.. في نشاطه.. في كل عمل من أعماله.. كان خالصًا لوجهه تعالى، وكان يؤدِّي هذا الواجبَ عن طيب خاطرٍ وهو شغوفٌ به، فيجب كذلك أن يكونَ لنا في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ، وأن نتَّجه إلى الله العلي العظيم بكلِّ أنفسنا وكل قلوبنا وبكل أرواحنا وبكل ما نملك ونعمل لهذه الدعوة، وبذلك يمكن أن نقول إننا أدَّينا شيئًا نلقى الله به بوجهٍ حسنٍ.
يا أيها الإخوان..
الدعوة كما سمعتم يا إخواني لا تزال كما كانت في أول الأمر، تحفُّها العقبات وتحفها الصعاب، وأراكم حين تشمون طعمَ العافيةِ تطمعون في هذا وتفكرون أنكم وصلتم إلى شيءٍ كبيرٍ.. فأنا أتمنى لكم الشدائد حتى تستحقوا أن تكونوا الإخوان المسلمين.
فنسأل الله أن يُديمَ علينا الشدائدَ حتى يُدِيم علينا الإيمانَ الكاملَ، فلا نستطيع أن نمضي في دعوتنا إلى الله إلا إذا أيقنَّا أننا أمام عقباتٍ كثيرةٍ وصعوباتٍ جمَّةٍ ويجب أن نجتازها.. والصعوبات والعقبات تتجدَّد كل يوم، ليس فقط اليوم، وليس فقط صعوبات وعقبات إبراهيم عبد الهادي، إنما ما زال أمامنا الكثير من هذه الصعوبات والعقبات، فيجب علينا أن نفكِّرَ في ذلك، ويجب علينا أن نكونَ مستعدِّين لذلك، ودعوة الإخوان المسلمين لا تحتاج إلا إلى يقظتهم، ولا تحتاج إلا إلى عنايتهم بعد عناية الله بطبيعة الحال؛ لأنَّ دعوةَ الإخوانِ المسلمين أصبحت من الدعوات العالميةِ التي لا يمكن لشخصٍ من الأشخاص أن ينالَ منها. إنَّ دعوة الإخوان لم تَعُدْ دعوةَ جماعةٍ أو جمعيةٍ في مصر يقال لها الإخوان المسلمون؛ إنما أصبحت دعوةً عالميةً.. دعوةً يعرفها المشرق والمغرب، دعوةً ينتظرها الناس جميعًا شرقيهم وغربيهم.. دعوةً ينتظرها المسلمون لإنقاذهم من كل ما هم فيه من بلاء.. ينتظرونها في مراكش وفي تونس وفي المغرب الأقصى وفي ليبيا وفي خليج العرب وفي إندونيسيا وفي تركيا وفي باكستان وفي كل مكان ينتظرون دعوة الإخوان المسلمين.. ويعتقدون أنه لا سبيل لإنقاذهم إلا بالإخوان المسلمين، فإذا كان هذا هو اعتقاد الناس فيكم، وإذا كان هذا أمل الناس فيكم فيجب أن تحققوا أمل الناس، ويجب أن تحققوا رجاء الناس، ويجب أن تهتموا بالدعوة وتتفانَوا فيها، وحينئذ لا يستطيع أن يمسكم أحد.
إنَّ دعوة الإخوان المسلمين ليست شُعَبًا وليست مكاتبَ إداريةً، وليست مكتبَ إرشادٍ، وليست حاجةً اسمها جماعة الإخوان المسلمين، إنما هي دعوةٌ أصبحت في القلوب، لا يمكن أن يحلّها إلا الله، قد تكفَّل لا بحلها ولكن بصيانتها، إنكم إن فعلتم كنتم مجاهدين في سبيل الله، والله تعالى وعد المجاهدين بالخير الكثير فقال ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: الآية 69) فإن فعلتم ذلك فلينصركم الله والله قد تكفَّل بالنصر؛ لأنَّ النصرَ ليس بالكثرةِ ولا بالقلةِ، وليس بيد مخلوق وإنَّما هو بيد الله تعالى في آيات القرآن الكريم جميعًا.
إنه اختصَّ نفسه بالنصر فلا يمنحه إلا لعباده العاملين إلا لعباده المتقين إلا لعباده الذين ينصرونه وينصرون دينه ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)﴾ (الحج)، فدعوة الإخوان المسلمين لم تصبح لعبةً في يد الناس، وإنما أصبحت حقيقةً في هذا البلد وحقيقةً في بلاد العالم الإسلامي، ولا بد من أن ننتصر ولا بد من أن ننال حقنا وواجبنا بتطبيق كتاب الله تعالى إن عاجلاً أو آجلاً.
يا أيها الإخوان..
لا أريد أن أطيل عليكم، وأرجو أن أراكم بخير وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
3- فضيلة الأستاذ المرشد عمر التلمساني يكتب عن الهجرة
1- المسلمون حياتهم كلها هجرة:
تطلع علينا شمس أول محرم ويومها يهيب بالمسلمين "يا ابن آدم: أنا خلق جديدٌ، وعلى عملك شهيدٌ، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة" فماذا أعددنا لعامنا الجديد بعد هذا النداء الصادق من ناصح مخلص وفيّ؟ لم تكن هجرة المصطفى- صلوات الله وسلامه عليه- نتيجةً لفساد المجتمع الذي قامت دعوةُ الإسلامِ فيه، فالدعوة الإسلامية على لسان نبي مرسلٍ لا تكون إلا لمجتمعٍ فسدت أوضاعُهُ، وتضاعفت شروره؛ رغبةً في إصلاحه، وإقامةَ معالم كل خير فيه، حتى يستقيمَ حالُهُ، ويسعد أهله بنوره، فإن لم تكن هذه هي الغاية المقصودة لَمَا كان هناك للرسل والأنبياء برسالاتهم ودعواتهم من مبرر ولا داعٍ.
تتعدَّد الآلهة عندهم فتطالبهم دعوةُ الإسلام بعبادة الواحد الديان، ويشيع الظلم فيأمرهم ربهم على لسان رسوله بعدم التظالم وإشاعة الحرية وبسط المساواة، ويتعالَى البعض على البعض معتزِّين بالمال والجاه والمكانة، فيحذِّرهم رسولهم من التنابز بالألقاب، ويبين لهم أنه لا تفاضلَ إلا بالعمل الطيبِ، ويقدِّم الإنسان الخيرَ لأخيه الإنسان بعيدًا عن الاستغلال والاستعباد، فالداعية لا يقوم إذن بدعوته إلا في وسط سادة العسف والفساد، فكيف إذًا يجوز للداعية أن يهجر موطنه لفساده وسوء حاله، بل الصبر على تأدية الرسالة حتى تؤتي ثمارها مهما قامت في طريقه العقبات، وانهالت عليه الويلات، وتنكَّر له أولئك الذين جاء لهدايتهم وإشاعة كل صور التعاون والحب والتكافل بينهم، فهل يسوغ لنا بعد ذلك أن نهجر موطننا لما شاع فيه من شر وسوء؟! لا أظن.
ولقد كان من أسباب الهجرة اشتداد الأذى بالداعية والمؤمنين معه، وضِيق مكة بالدعوة، فلا بدَّ لهم من موطن يبلغون فيه ومنه ما كلِّفوا به من رب العالمين، ولزامًا أن نراعي هذا المعنى تمامًا مُفرِّقين بين فساد المجتمع وبين الإمعان في الأذى الذي يلحق الداعيةَ ومَن معه من المؤمنين الذين آمنوا بدعوته.
الدعاة والمجتمعات
إنَّ الهجرةَ إذا تمت لا تكون لينعزل الداعيةُ ومن معه عن المجتمع الذي ارتحلوا إليه ثم حلوا فيه مستطيعين فيه أن يؤدُّوا واجبَهم وهم على شيءٍ من الأمن والاطمئنان، على المهاجر أن يعلم علم اليقين- اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم- أنَّه هاجر ليواصِلَ العمل وليبلّغ الرسالةَ وإلا فما بلَّغ الرسالة، أليس هذا أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام؟! ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: من الآية 67).. فأي مسلم بعد هذا الأمر الواضح الصريح يبتعد عن تبليغ دعوته، خاصةً إذا أتاح الله له من الظروف ما يستطيع معه أن يبلِّغ الرسالةَ على أي صورةٍ من الصور؟!
والهجرة كما يدل اللفظ انتقالٌ من حالٍ لحالٍ، ومن مكان إلى مكان، فهي بهذه المثابة حركة، والحركة عنصر من عناصر الدعوة الإسلامية لا تتم إلا به، فإذا كانت الهجرة حركةً فهي ليست فرارًا بمعنى كلمة الفرار، بل هي عملٌ، والإسلام قول وعمل لا ينفصل فيه أحدهما عن الآخر، فمن لم يقل كلمةَ الشهادتين فلن يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ومن قال بغير عمل فما ذلك بالإسلام؛ لأنه ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.
لم تكن الهجرة على التحقيق فرارًا ولا هزيمةً ولا قعودًا عن الإرشاد إلى الله ودينه، إنما كانت الهجرة قيامَ دولةٍ سادت الدنيا بأسرها وانتشارَ دعوةٍ شملت الكونَ كلَّه، واتساعَ حركةٍ ماجَ بها الوجود.. حياةً وحضارةً وعزةً ورفعةً وعلوَ شأنٍ.
الهجرة وليدةُ تفكيرٍ طالَ به العهد وأعدت له العدة، ونُظِّمَت له الطرق، ولم تكن فرارًا من شقاءٍ إلى نعيم، ولم تكن تركَ جهدٍ إخلادًا إلى راحة، لم تكن سببًا من ذلك على الإطلاق، بل إنَّ جهود المسلمين بعد الهجرة تضاعفت، ومسئولياتهم كبرت واتسعت، وعلموا أنهم دعاة الناس جميعًا إلى الهدى والرشاد.
إن الهجرة لجوء إلى كل حركة تخدم الدعوة، وهجرة من أسلوب إلى أسلوب ومن خطةٍ إلى خطةٍ، وتفتيح لمسالك التحرك المثمر، فالداعية الواعي إذا تعثَّرت به خطة لجأ إلى غيرها؛ سعيًا إلى الله وحرصًا على رضاه واستجلابًا للنتائج الطيبة، هذا مع الالتزام الكامل بأصول دعوته وفروعها، غير مبدل بحجة التطوير ولا مغيِّر بحجة التجديد، فما في هذا الدين من قصور يصلحه التطور، وليس فيه ما يبلى فيحتاج إلى تجديد.
الإسلام أصول وفروع، وكلها واجبة الالتزام والاتباع، أما محاولة النَّيل من العقيدة بحجة المحافظة على الأصول والتغيير في الفروع فهذا لا يكون في الإسلام أبدًا؛ لأنه من يوم أن نزل على هذه الأرض فهو صالح للناس جميعًا على مختلف أوضاعهم وصفاتهم ولهجاتهم وأجناسهم؛ لأنَّ محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول الله إلى الناس جميعًا، ويوم أن هتف بدعوته في قلب الجزيرة العربية لم يُنَادِ بها العربَ أو العجمَ، وإنما خاطبَ بها كلَّ إنسانٍ على وجه الأرض ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ (الأعراف: من الآية 158).
بين العزة والهوان
وكما أنَّ الإسلام جاء ليصلح القرون الأولى، فقد جاءَ ليصلح القرون كلها حتى تقوم الساعة، فالقول إنه ما عاد يصلح لزماننا هذا هو غباء في العقول، وضلال في متاهات لا أوَّل لها ولا آخر.. إنَّ الهجرةَ درس وعَاه أسلافنا الأمجاد كما وعوا كل الدروس، فسادوا وعزُّوا وقادوا الدنيا ولم يُقَادوا، ولم نَهُن على الناس إلا يوم أن ضللنا عن هذا الدرس وغيره من دوس النبوة، فتناوشنا الأعداء، وتطاولوا علينا حتى من لا يستطيع الدفع عن نفسه، فعلينا باستظهار الدرسِ والدروسِ بعيدين عن الطنطنة الفارغة والحماس في دنيا الأقوال، فإنَّ الأشد إسراعًا إلى القتال هو أقلهم حياءً من الفرار.
وعلى الشباب ألا يدع الهجرةَ أو أي درس من دروس النبوة يمر به ساهيًا ساهمًا مفرطًا مضيعًا، بل لينتهز شبابه قبل أن يعمر فينتكس في الخلق، وليستعن بحيويته على دفع دماء الدعوة النقية الطاهرة في شرايين المجتمع الذي يعيش فيه ليسموَ به فوق الضياع والتمزق، ويتجه به إلى النصر الصحيح والعزة والكرامة ويمسح من صفحات تاريخه كل بقعة سوداء لوَّثها بها كل عدوٍ غاصبٍ أو دخيل.
إنَّ الطريقَ رسمه الإسلام وحدَّد معالمه، والهجرة درسٌ على الطريق وما أكثر الدروس، وشبابنا مطمع الآمال فليمضوا في الطريق مجاهدين ومثابرين رافعين لواء الدعوة عاليًا خفاقًا عزيزَ الجانبِِِِِِِِ منيعَ الرحابِِِِِِِ، وليقوُّوا سواعدَهم ويرسِّخوا إيمانَهم تخضع الدنيا لهم وليعملوا منتظرين النصر من الله ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7)﴾ (محمد).
إنَّ الهجرة ماديةً كانت أو معنويةً تأتي بالخير والفتح المبين ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ (النساء).
2- طريق الهجرة والدعوة ليس مفروشًا بالحرير:
هذه الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة- على ساكنها أفضل صلاة وأكمل تسليم- كانت مقررةً منذ الأزل في سابق علم العليم الخبير، فكان لا بد أن تكون صورةً وزمنًا ومكانًا ليقترن العلم بالعمل.
آذى المشركون أولوا الجاه والنفوذ في مكة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأوائل- عليهم رضوان الله- إيذاءً بالغًا في النفس والأهل والمال والولد إيذاءً عصفَ بقلب فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- عصفًا أبكاها يوم أن رأت آثارَ الإيذاءِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ دمًا وجروحًا على وجه أبيها عليه الصلاة والسلام، ورأى الأب الرحيم دموعَ الألم والأسى تنحدر على الوجنات الطاهرة، فما زاد على أن قال: "أتبكين يا فاطمة؟! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى عمان لا يخشى على نفسه إلا الله والذئب على غنمه" أو كما قال.
الإيمان بصدق وعد لله
لم يكن طريق الرسالات والدعوات مفروشًا بالدمقس والحرير، ولكنه كان- وسيظل- مميزًا بالأهوال والأعاصير، ولأن كان القائمون على الرسالات قد حل بهم طوفان الأذى رغم مكانتهم عند ربهم، فكذلك قد لحق بصحابتهم وتابعيهم من هذا الضرِّ ما لحق بهم، فهذا أبو بكر الصديق آمن الناسُ بصحبتِه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يُضرَب حتى تختلط معالمُ وجهِهِ، وهو يذود عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصيح فى وجه المعتدين: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله" واضحًا غيرَ مستخفٍ بما يؤمن به.
وأبدى الصحابة- رضوان الله عليهم- من التمسك بالدعوة والاستبسال في الذود عنها والتفاني في سبيل الإعلام بها إلى مستوى التعرض لأفدح الأخطار راضين سعداء صابرين ومصابرين.
فهذا عبد الله بن مسعود (وهو أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم) يجهر بالقرآن على ملأ من المشركين، فينهالون عليه ضاربين حتى تسيل دماؤه، ولما رأى أصحابه ما عليه من إيذاء قالوا له: ما كان أغناك عن ذلك؟! فكان رده المفحم الباهر: "والله لأغادينهم به الغداة" لم يفزع لما أصابه ولم يأسَ عليه، ولكنه يصمِّم ويعالن المشركين بالقرآن، لا يوهن الإرهابُ من عزيمته، ولا يقللُ من تصميمه على تبليغ دعوته.
إنه مؤمن، والمؤمن الوثيق الصلة بربه لا يرهب الشدائدَ، ولا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه، ألم تقرأوا أنَّ عثمانَ بنَ مظعون كان داخلاً في جوار الوليد بن المغيرة، فسلِم من أذى المشركين تقديرًا لذلك الجوار، فلما رأى ما عليه من الأمن والسلامة، ورأى ما عليه رسول الله- عليه الصلاة والسلام- وإخوانه من الإساءة والاعتداء قال يحدِّث نفسه الأبيةَ: "أروح وأغدو في جوار مشرك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته يعذَّبون، والله ما هذا من الإيمان في شيء؟ "وانطلق إلى الوليد يرد عليه جواره الحامي المنيع، وعلِم المشركون أنه لم يعد ممتَّعًا بذلك الحِمى، فانهالوا عليه ركلاً وصفعًا حتى فقد إحدى عينيه، فلما عُتب عليه، قال الرجل المؤمن الصادق المخلص المحب المضحِّي في سبيل الدعوة بكل شيء: "والله إن عيني السليمة في حاجة لما أصاب أختَها ابتغاءَ وجه الله".
ثم يتعرض لفتنة الأمن والسلامة مرةً أخرى؛ إذ جاءه الوليد يعرض عليه العودةَ إلى جواره، ولكنه كان هو الرجلَ الكاملَ الرجولة، المُعِرض عن كل مغريات الحياة سعيًا في سبيل الله، حتى ولو راحت حياته، وهي أغلى على الناس من كل شيء.. كان ردُّه الرائع الذي سُجِّل له في صفحات الخلود: "لا حاجة لي بجوارك، جوار الله خيرٌ لي من جوارك".
وهكذا أنجاه إيمانه من فتنة الأمن والسلامة التي ينشدها الغافلون مهما دفعوا لها ثمنًا، هؤلاء الغافلون المدَّعون، الذين تراهم في الرخاء أسود الشرى، أعلى الناس صوتًا، وأبينهم خطابًا وأشدهم حماسًا، حتى إذا ما أبدى الشرُّ ناجذه، وكشرت المحنة عن أنيابها الداكنة، طارت قلوبهم شعاعًا، وساخت أقدامهم في خزي الانزواء، على مثل هذه الرجولة وهذه التضحية وهذا اليقين تقوم عزة الدعوات، وتنتصر وتسود، أما لو طلب كل مسلم السلامة لنفسه، ولم يبادل خصوم الدعوة النزال لخلا الميدان للطغاة الظالمين يصولون فيه ويجولون، لا رادعَ ولا مناضلَ ولا منكِرَ ولا حسيبَ، قد يكون من جراء الوقفة في وجه الظالم تعذيب وتشريد وتنكيل بل واغتيال كذلك، فما أثَّر ذلك على صاحب العقيدة الرجل وهو يكافح من أجل أشرف غاية وأسمى هدف؛ طلبًا لبالغ المثوبة التي لا تُحصى ولا تُعد ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية 10).
إنَّ طلب السلامة في مواقف الروع إن لم يقدرها صاحب الملك والملكوت رب العزة والجبروت لن يحصل عليها طالبها، حتى ولو تمرَّغ في قذارة المداهنة والنفاق، وقد حدث في العهد القريب غير البعيد أَنْ آثرَ بعضُ الدعاة السلامةَ على الفداء بالسير في ركاب الظالمين فلم يُغنهم ذلك الهوان من الله شيئًا، فنالهم من السجن والاعتقال ما نال غيرهم من الأُباة النافرين من الذلة المنكِرين للابتذال ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ (43)﴾ (العنكبوت).
اشتد الأذى بالمسلمين في مكة، وطال مداه، واستحكمت حلقاته، فكان لا بد من حركة، والحركة حياة الدعوات، وقبس نورها، وقوام أمرها، وسر نجاحها، وجوهر بقائها وسيرها واستمرارها جيلاً بعد جيلٍ، فكانت أول حركة من الحركات في سبيل الدعوة، هذه الهجرة المباركة، والهجرة: ترك الأهل والمال والولد.. المال.. يبسطه الرازق لمن يشاء، ويقبضه عمن يشاء، وقد مات عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود.. ماتوا وهم أثرياء الألوف والملايين وهم قد خرجوا من مكةَ لا يملكون شروى نقير ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)﴾ (النساء).
الأهل.. إن أُخوَّة الدين خير من أخوة الدم والنسب، وقد آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين من مكة والأنصار من المدينة، وصار لهم من الزوجات المؤمنات الصالحات ما قرَّت به عيونهم، وطابت به نفوسهم ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71).
الولد.. إنَّ في الله عوضًا عن كلِّ فائتٍٍ، ولقد وُلد للزبير بن العوام في المدينة عبد الله وعروة ومصعب، ولعلي بن أبي طالب الحسن والحسين وابن الحنفية وغيرهم، ولأبي بكر وعمر وغيرهم كثير ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49)﴾ (الشورى).. المسكن.. لقد اغتنى المهاجرون في المدينة، وبنَوا البيوت، واحتازوا المزارع ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)﴾ (النجم).
الوطن.. وكل مكان ينبت العز طيب، ثم أي وطن هذا الذي يأسى عليه الإنسان إذا ظُلم فيه واضطُّهد وحورب وعُذِّب ودِيسَت فيه حرماته، وهُضمت فيه حقوقه.
لقد أصبحت المدينة وطنَ المهاجرين، فيها قامت لهم دولة، وارتفعت لهم راية، وقويت شوكة، ومن بين دروبها انسالوا انسيال السيل الغدق، ينشرون الإسلامَ أعزةً كرامًا فاتحين.
إنَّ الأهوالَ والصعابَ سمةٌ من سمات الدعوات الخيرة، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا- مرشد الإخوان المسلمين الأسبق- فاقهًا لهذا المعنى تمامًا حين قال: "ستعذَّبون وتشرَّدون وتحاربون وتحبسون وتُقتَلُون، ويومئذ فقط تكونون قد بدأتم تسلكون طريق أصحاب الدعوات".. وقد صدَّقه الواقع، فقد حُلَّت جماعة الإخوان مرارًا، وسُجِن رجالُهَا وعُذِّبوا، ثم اغتيل هو نفسه، فماذا كانت النتيجة؟!
عادت الجماعة في كل مرة أقوى مما كانت ساعة الحل، واشتاقها الشباب للتفتح على إشراقة دعوة الله، يستوضحون أمرها، ويؤمنون بتعاليمها، ويتَّجِهون نحوها، ويتحدَّثون عن شهدائها في حب وإكبار، وبلغ صوتها مشارق الأرض ومغاربها، في غير ما عنف ولا تخريب ولا إرهاب، ولكن عن طريق الأثر الطيب، والأسوة المجيدة والقدوة اللامعة المضيئة، عن طريقٍٍ واحد ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: من الآية 127).
أُخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة فذهب إلى المدينة، وأُخرج المؤمنون منذ عهد غير بعيد من ديارهم وأموالهم وأهليهم إلى السجون والمعتقلات، فاعتبروها هجرةً إلى الله، لم يضيقوا بها، ولم ييأسوا على ما أصابهم، أخذوا لأواءَها وشدائدها أخذَ المؤمنِ الصابر الفاقه، إنها فترةٌ من فترات حياتهم، قضى الله في سابق علمه أن تكون على هذه الصورة، فأحسنوا استقبالها، وادَّخروا رصيدَها، وصبروا وصابروا معها، لم تتزعزع العقيدة في وجدانهم ولم تهتز، فبهم ثقةٌ، ولم يتبدل فيهم يقين، ثم كان ما كان.
إننا ما ذكرنا هنا أنَّ من المسلمين من تعرض لما تعرض له صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين الهجرة، لا نمنُّ فالفضل من الله وإليه، ولا ندلّ فإننا لا نبتغي من أحد جزاءً ولا شكورًا ، ولكننا نعرض الواقع الماثل، الذي ما يزال شهوده أحياءً، حتى يعلم شباب الجيل المؤمن أنَّ دينه حقٌّ يجب الثبات عليه.
إن الدعوة الإسلامية لو تعرَّض غيرُها من الدعوات لِما تعرَّضت له، ولو دُبِّر لغيرها من المكائد ما دُبِّر لها، ولو تحالف من القوى الطاغية على غيرها من الدعوات ما تحوَّلت عليها وضدها لكانت أخبارًا تُروى في صحائف التاريخ، ولكن دعوة الله باقية خالدة، لا تفنى ولا تتبدل، ولا تزول ولا تبلَى إلى يوم الدين﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)﴾ (يوسف).
ستظل المحاولات الضارية ٍتذهب وتجيء ضد الإسلام، وستظل قوى الشرِّ تحاول وتضغط على المسلمين في كل مكان على الأرض فيه مسلمون ليصرفوهم عن دينهم، ولكنَّ الزمانَ يسري في بطون التاريخ قرنًا بعد قرن حافلاً بما يُدَبَّر فيه للمسلمين، ومع ذلك سيظل المسلمون مسلمين رغم أنف الدنيا ومن فيها ﴿وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة من الآية 217).
فليقرأ المسلمون صحائفَ الهجرةِ مفكِّرين متعظين متدبرين عِبَرها، متفهِّمين دروسَهَا، ثم اجعلوها هاديًا لكم في كفاحكم إذا ألَمَّ بكم حدث، أو نزل بكم ظلم، أو نابتكم نائبةٌ، أو لاحقكم طغيانٌ، لا ضعفَ ولكن قوة، لا تتردد ولكن امضِ إلى الأمام ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35) ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)﴾ (آل عمران) ثم بعد هذا كله ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى﴾ (آل عمران: من الآية 111).
إذا ألموا كما تألمون فميزتكم عليهم أنكم ترجون من الله رضاءً وافرًا وأجرًا عظيمًا، وهم ليس لهم من هذا الخير الوفير حظٌّ ولا نصيبٌ، آراؤهم وأعمالهم ومكائدهم ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ (آل عمران: من الآية 117).
اقرأوا صحائفَ الهجرة ومثلها ومثاليتها، وتشبَّهوا برجالها، فذلك أعود عليكم بالنفع، اقرأوا تاريخَكم أولاً قبل أن تقرأوا تاريخ خصومكم، إنكم لو فعلتم حصَّنتم أنفسكم ضدَّ كل دخل قد يتسرب إلى أذهانكم.
والعام.. هذا العام، والعالم يموج بالأحداث الضخام، وقد أسفرت محاولات أعدائكم عن نواياهم السود، ووجهها الأصفر الكالح، هل تمرُّ ذكرى الهجرةِ كما مرَّت مثيلاتها من قبل.. كلمات تُرصُّ، وصفحات تُسطر، وأقوالٌ تُعاد وتُكرر، ثم صمت عميقٌ ولا شيء؟! أما آن للذين يؤمنون بنبي الهجرة- عليه الصلاة والسلام- أن يشعر العالم بوجودهم وبحرصهم على دينهم، وأن يُثبتوا للذين يستهينون بشأنهم ولا يأبهون بهم أنهم اليوم ليسوا كما كانوا بالأمس وأنهم استيقظوا ووعوا، وما عاد الوعيد والجبروت بالذي يثنيهم عن انطلاقهم.
اللهم إنك تعلم أنَّ الداعين إليك أبعد الناس عن التفكير في دنيا يصيبونها، أو التطلع إلى متعة يأملونها، إنهم لا يطلبون حكمًا، ولا يقصدون سلطانًا ولا مغنمًا.. اللهم إنك تعلم أنهم يريدون لدينك سيادةً، ولكتابك تحكيمًا، وللإسلام عزًّا، وللعالم أمنًا واستقرارًا ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)﴾ (الأنعام).
اللهم منك العون وبك الصون وإليك الوجهة وعليك المعتمد، والنصرة قدرتك، والهداية مشيئتك ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 126)، وعن طريق إرادتك وحدها السداد والتوفيق ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ (هود: من الآية 88).
عام مضى لا قدرةَ لنا على تغيير أحداثه، وعام بدأ، عهدنا فيه مع الله عمل متواصل وصبر متأصل، وإحسان متقبل ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ (الشورى: من الآية 23) وعلى الله قصد السبيل.
تراني قد وفيت للهجرة حقَّها؟ أبدًا وربِّ الهجرة، كلما ظننتني انتهيت، رأيتني وكأنني ابتديت، يتزاحم الفكر، وتنهمر العبر.
اللهم ربنا.. وَجهَكَ أردنَا، ودينَكَ أحببنَا، ورسولَكَ اتَّبعنَا، وبقرآنك اهتدينا، وفي سبيلك جاهدنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)﴾ (الحج).