من تراث المستشار حسن الهضيبي.... رضوان سلمان حمدان

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
من تراث المستشار حسن الهضيبي(المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين)
المستشار الهضيبي.JPG


رضوان سلمان حمدان



﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: من الآية 9.

ليس في الدنيا كتاب أحاط بمسائل الحياة وربط بين شؤونها، وجعل بعض هذه الشؤون أسبابًا لبعض، وحل مشاكلها في بساطة ويسر كالقرآن الكريم.

﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ فصلت، فإذا قرأته، وتدبرت آياته وجدته كلاًّ لا يقبل التجزئة، ووجب أن ترجع ما فيه من أحكام إلى أصولها، حتى يتبين لك الحق فيها، فلا تقتصر على حكم دون أن تلقي بالاً إلى ما يتعلق به من الآيات الأخرى، كما فعل ويفعل بعض المسلمين في كثير من المسائل.

ولنضرب لذلك مثلاً الآية الكريمة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾ المائدة.

لا شك أننا إذا قرأنا هذه الآية وحدها منقطعة عن باقي القرآن، وفهمنا السرقة بمعناها المنصوص عليه قانونًا من أنها: "اختلاس مال مملوك للغير" شعرنا بشيء من التردد في أن يكون الأمر كذلك وأن يعاقب السارق بقطع يده، أو شعرنا بأن العقوبة رهيبة لا تتفق رهبتها مع تفاهة السرقة في حد ذاتها، أو تفاهة المسروق أحيانًا، وهذا ما يعترض به كثير من المسلمين، والأجانب على العموم، ويبدون امتعاضًا من هذا الجزاء الصارم وهم معذورون في ذلك؛ لأنهم لا يعرفون من أمر الإسلام ما يدعوهم إلى الاطمئنان إلى أنه حق من عند الله ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ الإسراء: من الآية 105.

إن القوانين الوضعية لا تستقصي حالة السارق وقت السرقة، ولا تستقصي أثر الحكم فيه، وفي أهله وولده، بل تعاقبه مطلقًا، جاهلاً كان أم عالمًا فقيرًا أم غنيًا، بل ربما كان علمه وغناه من أسباب تخفيف العقوبة عليه لا من أسباب تغليظ العقاب، والأمر ليس كذلك في دين الله.

إن الله عز وجل أراد أن تنشأ العفة من داخل النفس أولاً: فينصرف الإنسان من المعاصي وهو في خلوته لا يطلع عليه أحد من الناس، ويشعر بأن ربه معه أينما كان مطلع على أعماله، لا تخفى عليه منه خافية ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ المجادلة: من الآية 7.

وقد ذكر الله تعالى عقاب السرقة مرة واحدة، ولكنه كرر النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وصوَّره في صورة مؤثرة ترد من تحدثه نفسه بأن يمد يده إلى مال غيره دون حاجة إلى التخويف بالعقاب الدنيوي ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)﴾ النساء، ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188(﴾ البقرة.

وفي الحديث عن الرسول عليه السلام : "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".

وتأمل قول الله تعالى : ﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)﴾ النساء.

تأمل: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾ أعني أنه يجب أن تبلغ الدعوة إلى السارق، ويتهذب بالتهذيب القرآني، ويعرف ما له وما عليه، مما يتعين معه القول بأن التعليم في الإسلام إجباري ووجب على الفرد، وحق له في الوقت نفسه.

فإحياء روح الإنسان وضميره وتزكية نفسه، وتطهير قلبه واجب أول في الإسلام، عليه أكثر المعول في أن يسلك الإنسان سلوكًا حسنًا في الجماعة التي يعيش فيها..

وإذا كنا ندرك أثر التعليم العادي في نفوس الناس، فما بالنا بتعليم القرآن الذي هو أساس لكل الفضائل ولكن لا يكفي أن تهذب الشخص، وتطهر قلبه وتزكي نفسه، وتحيي ضميره لكي يكون إنسانًا فاضلاً فإن حاجاته الضرورية التي بها وقاية نفسه تغلبه على الفضائل أحيانًا؛ لذلك قضى أحكم الحاكمين وأعدل العادلين بأن يوجد في الدين من النظم ما تندفع به حاجة الإنسان إلى السرقة، وبمعنى آخر لا بد من أن نتأكد قبل أن نعاقب إنسانًا أن عذره في ارتكاب جنايته قد سقط، وأنه لم يرتكبها إلا بغيًا وعدوانًا، وحاجات الإنسان الضرورية هي:

بيت يسكنه يواريه عن أعين الناس، ويجعله في أمن من العادين والباغين.

طعام يحفظ به نفسه.

ملبس للصيف والشتاء.

وأقول: إن الآيات والأحاديث التي أخذ منها الفقهاء النص على هذه الأشياء الثلاثة تستوجب القول بأنه يجب أن يكون مضمونًا لكل إنسان العلاج المجاني من الأمراض، متى لم يكن قادرًا عليه، هذه الضرورات لا يحصل عليها امرؤ بالاستجداء، بل لا بد من العمل، ودينه يحضه على ذلك: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾ التوبة: من الآية 105.

وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يد عامل وَرِمَت من العمل فأخذها وقبلها وقال : "هذه يد يحبها الله ورسوله"، وجاءه رجل يسأله فلم يعطه ما سأله؟ بل أعطاه أداة العمل، ووجهه إليه، وقال "ارجع إليّ لتنبئني بحالك".

فيجب حينئذ على ولي الأمر أن يساعد الناس على إيجاد أعمال لهم، ويهيئ لهم أسباب العمل ويتعهدهم حتى تصلح حالهم.

فإذا كان دخل إنسان لا يكفيه ولم يجد عملاً، أو كان غير قادر على العمل فهو في كفالة الدولة تمده بأسباب الحياة الضرورية التي بيناها.

أما المال الذي يلزم لذلك فيؤخذ من الزكاة التي جعلها الله في أموال الأغنياء حقًّا للفقراء فإن لم تكف الزكاة لسد حاجات الفقراء أصبح فرضًا على كل من عنده فضل من مال أن يعود به على الفقراء حتى يستوفوا حاجتهم.

فإذا منح الفقير حقه فله أن يقاتل عليه؛ لأن الله يأمر بمقاتلة الباغين ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ الحجرات: من الآية 9، ولا شك أن مانع الحق باغٍ.

فلما كفل الله عز وجل للفقير حقه وأباح له القتال عليه؛ كانت العقوبة الهينة مفسدة للمجتمع، ولا تتفق مع المسئوليات التي فرضها الله على الناس، فكان جزاء من سرق- بعد أن استوفى حقه- أن تُقطع يده، وليس بعد ذلك توازن في الحقوق والواجبات ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً﴾ النساء: من الآية 122.

لا شك أن الإنسان حين يعلم ذلك، وينتهي إلى أن النص على عقوبة السرقة مكمل بنظام اجتماعي محكم تستريح نفسه إلى عدالة العقاب وتطمئن إلى حكمة العزيز الحكيم.

هذه العقوبة الغرض منها زجر البغاة من أن تمتد أيديهم إلى مال الناس بالباطل، وهذا يكفي لانقطاع السرقة من المجتمع الذي تسود فيها العدالة الاجتماعية على هذا النحو.

وهكذا يجب أن نقرأ القرآن، ونتدبر آياته، ونربط بعضها ببعض ونربطها بما ورد عن المعصوم عليه السلام المبين عن ربه، لكي نعلم أن كل ما جاء به القرآن الكريم إنما هو حق لا شائبة فيه.

عدل الله:

نحن في حاجة في هذا الزمان، وفي كل زمان، إلى أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى ونتذكر ما أوصانا به من خير، فنستزيد منه، وما نهانا عنه من شر فنجتنبه ولقد غشيت هذه الأمة غواشي الظلم، وانسدل عليها من محنه وأرزائه ما يجعلنا نستروح نسمات العدل الإلهي في كتاب الله، وكيف يكون، لعل الله يريح نفوسنا، فنلزم طريقه ونعدل عن طريق الفتنة، ولا نتمادى في إتباع الهوى، فقد أضلنا عن سبيل الله.

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ الأنعام: من الآية 153، فعدل الله كامل شامل، لا يختص به فريق دون فريق، هو عدل يشمل الناس جميعًا غنيهم وفقيرهم، قريبهم وبعيدهم، عدوهم وصديقهم، مسلمهم وغير مسلمهم، وقد جعل المتعالي المرجع في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله حتى لا تكون فتنة وحتى لا يتبع الناس أهواءهم في سن قوانين يزعمون أن من اتبعها ومن حكم بها فقد عدل، ومن لم يحكم بها فقد جاوز العدل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)﴾ النساء: الآية 59.

فطاعة الله واجبة وطاعة رسوله واجبة، وطاعة أولي الأمر واجبة ما التزموا كتاب الله وسنة رسوله، فإن اختلفنا وجب أن نرد أمورنا إلى الله ورسوله، ولا شك إننا نجد فيهما الحكم المراد ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ الأنعام: من الآية 38، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ المائدة: من الآية 44.

فهذا هو القانون الذي يرجع إليه العادل في عدله، ومهما التمس العدل في غيره فهو ظالم أو فاسق أو كافر ولن يقبل الله من أحد أن يرجع إلى غيره وغير رسوله عند التنازع، ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر: من الآية 7.

وقد يحكم الإنسان بحكم الله، ولكن الهوى يدخل على قلبه فيؤثر قريبًا أو يحابي صديقًا، ويظلم بعيدًا أو عدوًّا أو ذميًّا، فلا يكون متبعًا لأمر الله إلا في ظاهر الأمر دون حقيقته، ويكون عمله من التدليس الذي إن خفي على الناس فلا يخفى على الله الذي يعلم السر والنجوى، لذلك كان تحذير الله من مثل ذلك شديد، تنقل فيه- عز وجل- من الأمر بالعدل بصفة عامة إلى التحذير من أسباب الميل التي قد تسوفها الأهواء للنفس الضعيفة التي لا تخالطها بشاشة الإيمان الصادق.

قال تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ النساء: من الآية 58، فهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل فيه جميع الخلق، ففي الحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ كلكم مسئول عن رعيته"، قال تعالى : ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ الحجرات: من الآية 9.

وفي النهي عن محاباة الأقارب يقول الله عز من قائل : ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ الأنعام: من الآية 152، ويقول في النهي عن ظلم الأعداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ المائدة.

ومن أروع الآيات التي نزلت في تحقيق العدالة ما نزل في قصة بن أبيرق يكشف للرسول عليه السلام عن حقيقة الأمر فيها وما دبره الخائنون لصرفه عن الحق حتى كادوا يوقعونه في ظلم بريء لم يستحق إثمًا، ويسمهم بما هم أهله.

سرق ابن أبيرق درعًا لجار له، فأمر رسول الله صلى الله عليه السلام بقطع يده.. ففر وجاء أهله إلى الرسول وزعموا له أنه لم يسرق الدرع إنما الذي سرقها هو فلان اليهودي، وما زالوا به حتى مال إلى قولهم، فأنزل الله هذه الآيات التي تعتبر دستورًا لأعظم نوع من العدل الصرف العدل الذي يشمل الإنسانية كلها، العدل الخالص البريء من الهوى ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113(﴾ النساء، إلى آخر سورة النساء.

سقنا هذا القرآن لنتدبره ونعرف كيف يكون العدل الذي فرضه الله علينا ونقيس ما نحن عليه بهذا المقياس الرباني، لنعلم أين نحن من ذلك في تفكيرنا وما يجول بخواطرنا، وفي أقوالنا وأفعالنا في أنفسنا وأقاربنا ومن نحب ومن نكره، ونعرف مقدار ما أصبنا من حرصنا على الحق والعدل، وما أصبنا من شر يبعدنا عنه والتفريط فيه، فنعود إلى الله ونستغفره ونرجو رحمته.

وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلمًا حقًّا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءًا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه فيكون عادلاً مع الناس جميعًا، ويحذر نوازع الهوى أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه، فلا يذكر إخوانه بسوء ولا يغتابهم، ولا يلمزهم، فإن أكثر الشرور إنما تنشأ عن مثل ذلك.

ثم ننظر كذلك فيما يعتبره غيرنا عدلاً وهو غير ذلك، فإن هؤلاء لا يعدلون- إذا عدلوا- إلا بين بني جنسهم، أما بينهم وبين غيرهم فالعدل أبعد ما يكون منهم، وأمثلة ذلك كثيرة يمكن أن يقرأها الإنسان في كل تصرفاتهم وأحكامهم، حتى يبدو دينًا لنا على حقيقته، ونعلم أن الله أراد ببني الإنسان الخير في إتباعه والاهتداء بهديه والعمل به وصدق الله العظيم : ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: من الآية 9.


* المصدر

مجلة المسلمون، العدد الرابع والخامس، السنة الأولى، جمادى الآخرة ورجب 1371هـ الموافق مارس 1952م.

بقلم: د. إبراهيم الزعفراني

أثارت لقاءات السيدة علية حسن الهضيبي الابنة الصغرى للإمام حسن الهضيبي والبالغة من العمر 68 عامًا في لقاءاتها صيف عام 2007 م مع أخوات الإسكندرية الرغبةَ الشديدةَ في التعرف على أُسرةِ الإمام من الداخل، ولنبدأ بزوجته الكريمة السيدة (نعيمة) أم أسامة.

* كيف اختارها الأستاذ؟ وهل هي من أقاربه؟

    • أجابت السيدة علية: لم تكن أمي تمتُّ بأي صلةِ قرابةٍ لأبي؛ فأبي من عرب الصوالحة وأمي قاهرية وُلدت وترعرعت في القاهرة، ولقد جمعت بينهما الأقدار حين توجَّه أبي إلى القاهرة لاستكمال دراسته الجامعية وكان يبحث هو وأصدقاؤه عن مكانٍ لاستئجاره فدخلوا إحدى الدور، وفي الحديقة كانت تجلس فتاةً صغيرةً سألوها: هل أنتم تؤجرون مكانًا للسكنى؟ فأجابت في طلاقةٍ وشجاعةٍ نعم! فسألوها ممن نُؤجِّر قالت: أنا أؤجر لكم! ودخلت ونادت والدها الذي أعلمهم أنه لم يسبق لهم تأجير لأحد، وأنه نزولاً على كلمةِ ابنته نعيمة سوف يستضيفهم، وأُعجب أبي بشخصية هذه الفتاة وبطريقة تعامل أبيها معها وتعلَّق بها حتى تمَّ لهما الارتباط بالزواج، وكان الفارق بينهما في العمر عشرة سنوات.

* ما هي ثقافتها؟

    • أمي كمعظم بناتِ عصرها يحصلن على الابتدائية لإجادةِ القراءة والكتابة ثم لا يُسمَح لهنَّ بإكمالِ الدراسة، ولكنَّ أمي تعلمت اللغة الفرنسية وأجادتها وهي أم لأربعة أولاد لمجرد أنها رأت صديقتها زوجة وكيل النيابة الذي كان يعمل مع زوجها في إحدى المحاكم القريبة من المنصورة تتقن الفرنسية وتتحدث بها مع عاملاتِ المتاجر الكبيرة في عاصمة الدقهلية، فأكبرت أن تكون لزوجةِ وكيل النيابة قدرة على التحدث بلغةٍ لا تعرفها, وهي زوجة القاضي الذي يعلو في المرتبة على وكيل النيابة، وسرعان ما استأجرت مُدرِّسةً كانت تجلس معها لحظاتِ فراغها النادرة لتتلقى عنها الفرنسية؛ حيث أجادتها في عدة أشهر، وصارت بعدها تتحدث مع زوجها بالفرنسية إذا دعت الحال ومع زوجاتِ زملاءِ زوجها.

* كيف كانت تتعامل مع زوجها في المنزل؟

    • استحيت السيدة علية من الإجابة على هذا السؤال بالتفصيل واكتفت بالقول: "إن أمي رغم قوة شخصيتها وصلابتها إلا أنها كانت مثالاً في دماثةِ الأخلاق، كانت سيدة دائمة البشر تملأُ البيتَ بهجةً، وكذلك مع المحيطين بها".

وأنا أنقلُ- مُختصِرًا- مثالاً لتعاملها مع زوجها عن السيدة آمنة أخت الأستاذ عبد الحكيم عابدين والمذكور في كتاب (الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية) للأستاذَيْنِ الفاضلَيْنِ محمود الجوهري ومحمد الخيَّال؛ حيث ذهبت آمنة للعلاج بالإسكندرية ومكثت في بيتِ الإمام أسبوعًا، فتقول: "كان الأستاذ حاضرًا في الأيام الثلاثة الأولى، فكانت السيدة نعيمة زوجته تبالغ في التحببِ إليه وإدخال السرور على قلبه، فلا تُلاقيه في الظهر بثيابِ الصبح، ولا في العصر بثيابِ الظهر، وإذا ودَّعته حين يخرج ساعةَ الأصيل تجهَّزت بثيابٍ أجمل حين تستقبله بالمساء، ولا تخلو في كل ذلك من التزين له بما يناسب أهل الكمال والوقار، وكانت تنشط لتوديعه وتتأهب لاستقباله حين يرجع بأعزب ما يصنع عروسان متوافقان، في الأيام الأولى من الزواج!".

* كيف كان أسلوب التربية في بيتكم؟

    • تستطرد السيدة علية قائلةً: "لم يكن أبي يأمرنا بشيء، وكان سعيدًا بتعلمنا وتفوقنا؛ حتى إن أختي الكبيرة "سعاد "كانت من أوائل مَن تخرجن من كلية الطب، وهي زميلة لكلٍّ من د. زاهية ود. زهيرة عابدين وأختي "خالدة" من أوائل خريجات كلية العلوم وأنا خريجة كلية البنات بالزمالك، هذا هو شأنه مع بناته الثلاث، فما بالكم بتفوق أبنائه الذكور، ولم تكن كل الأسر تهتم بتعليم بناتها، خاصةً أنَّ أبي من قبائل عرب الصوالحة.

وكان أبي أثناء اصطيافنا في الإسكندرية في منطقة العصافرة الذي كان يستمر أربعة أشهر وأثناء وجودنا على الشاطئ إذا حضر موعد الصلاة قال لأخي الأصغر إسماعيل أذِّن للصلاة يا إسماعيل ثم يقوم للصلاة دون أن ينظر وراءه مَن صلَّى ومَن لم يصل مع أننا جميعًا كنا نحرص على الصلاةِ خلفه، حيث كان أبي يترك كل منا لذاتيته في عباداته وفي دراسته وعمله.

كان أبي إذا أراد تعليمي شيئًا يحكي لي موقفًا يتضمن هذا الشيء، وكثيرًا ما كان يتبع قصته بكلمة: "بقولك هذا من أجل أن تعرفي"، ولا يزيد على ذلك.

وفي ذات يومٍ اشترى لي ساعة، فقال له الأهل ما مناسبة هذه الهدية؟ هل نجحت علية؟ فقال ما علاقة الهدية بالنجاح؟! الهدية تقديرٌ واحترامٌ، ولا علاقةَ لها بشيء آخر.

كما تحكي عن والدتها فتقول: "ذات مرة رأت أمي ونحن في المصيف بالإسكندرية أن أحدَ رجال البلدية حضر للجيران وأغلق محبس الماء؛ لأنهم لم يدفعوا فاتورةَ المياه، وبعد أن انصرف موظف البلدية، قال الرجل لابنه: "اذهب يا ولد وافتح المحبس"، فتألَّمتْ والدتي وقالت: "لقد علَّم ابنه وأولاده أن يأخذوا ما لا حقَّ لهم فيه، وهذه هي بداية تعليمهم الظلم وأكل حقوق الآخرين، بل والسرقة أيضًا إن استطاعوا".

* كيف كانت علاقة السيدة نعيمة بدعوة الإخوان قبل أن يصبح زوجها مرشدًا لهم؟

    • تقول السيدة علية: كانت هناك صداقة بين الإمام الشهيد حسن البنا ووالدي، وكنتُ صغيرةً في السنِّ لم أبلغ العاشرة، وكنت ألحظ أن أبي وأمي يسعدان بالزيارات المتكررة التي كان يتابعنا بها الإمام حسن البنا في منزلنا بالروضة، وكانت علاقات سهلة وبسيطة وعادية، وكانت أمي تهتم بهذه الزيارات وتعد لها ما لذَّ وطاب من كرمِ الضيافة، وكذلك دعوة الأقارب للحضور عندنا وقت زيارة الإمام ليتعلموا من حديثه وكلماته، كما كانت تدعو أقاربنا من النساءِ لسماع خطباءِ الجمعة من الإخوان في مسجد (شريف) القريب من المنزل، والذي كان يتناوب فيها الخطبة الأستاذ حسن دوح والأستاذ سعيد رمضان.

وكان أبي يحدثها أن الإخوان ليسوا كغيرهم من الجمعياتِ التي كانت تجمع التبرعات للقيام ببعض الأنشطة الاجتماعية المحدودة ولكنهم جماعة تعمل للإسلام الشامل المتكامل.

* ما دور والدتك وموقفها من اختيار الوالد مرشدًا للإخوان؟

    • لقد لعبت والدتي دورًا مُهمٍّا بما لها من شخصيةٍ ومكانةٍ عند والدي في إقناعه بقبول هذه المهمة الصعبة، ولقد لجأ إليها الإخوان، وكانوا يأتون إلينا في منزلنا ويطلبون من والدتي مساعدتهم في إقناع أبي بقبول هذه المهمة، وأتذكر آخر حديثٍ دار بينهما قبل قبوله هذا المنصب، وكان أبي قليل الكلمات؛ حيث ردَّ على أمي التي جلست تسوق له القناعات بضرورةِ قبوله هذه المهمة قال لها: "هل أنتم على استعدادٍ أن يُقطَع عنكم الراتب؟ وتتعرضون للجوع أو السجن؟ ويُحال بيني وبينكم أو أن نُسجَن جميعًا؟ أو نُساق إلى المشانق؟ أو أن ألقى مصير حبيبي الإمام حسن البنا؟ فأجابته أمي بلا ترددٍ: "إن كان ذلك في سبيل الله فنحن لها إن شاء الله، وهنا قال أبي: "خلاص وأنا قبلت".
  • ماذا كان موقف الوالدة (نعيمة) من القبض على الإخوان وإغلاق الدور والشُّعب الإخوانية عام 1954 م؟
    • كانت أمي تقول للإخوان: "لن يقف نشاط الإخوان إذا أغلقت الحكومة الدورَ، فإن بيوت الإخوان كلها دور وشُعب للإخوان"، وكانت أمي تجمع الأخوات في بيتها وتُشجعهن على الاستمرارِ في الدعوة إلى الله وسط الأهل والجيران.

وعندما قبضوا على الإخوان الرجال ومنعوا عنهم الرواتب قام شبابٌ من الإخوان بجمع أموالٍ سرًّا وكانوا يوزعونها على بيوتِ الإخوان المسجونين في أظرفٍ من تحتِ الأبواب، ولكن النظامَ الناصري قام بالقبض على هؤلاءِ الشباب بتهمةِ تنظيم الجهاز المالي.

فاجتمعت أمي بنساءِ الإخوان وطلبت من كلِّ واحدةٍ أن تُتقن عملاً منزليًّا تتكسب منه لها ولأولادها كالخياطة والتطريز والمخبوزات والطهي وغيرها، ومَن لا تستطيع إجادة شيء من ذلك فلتعد قدرةً من الفول ولتبيعها للجيران في أطباقٍ شهية، وكانت تجعل من منزلها معرضًا لبعض منتجاتِ نساء الإخوان يأتي الجيران والأقارب لشراءِ احتياجاتهم منه، وكانت تطلب من نساءِ الإخوان إجادة الصناعة بأعلى درجةٍ من الجودة، وتقول: "لا يجب أن يشتري الناسُ منا إنتاجنا تعاطفًا معنا، بل يجب أن يشتروه لجودته ورخص ثمنه عن ما يماثله من منتجات".

وكانت تكرر كلمتها الشهيرة لنساء الإخوان اللائي سُجن أزواجهن: "مفيش حاجة اسمها فقير يا أخواتي، ولكن فيه قلة حيلة وسوء تصرف"، فالمرأة صاحبة الحيلة والقدرة على التصرف لا تشتكي الفقر أبدًا.

وكانت تقول لهن: يجب أن يطمئن أزواجنا إلى أننا نعيش بغير معاناةٍ ماليةٍ حتى لا يُمثِّل ذلك ضغطًا على أزواجنا في سجونهم، نُريد أن نساعدهم على الثبات والقوة في وجه الظلمة والمستبدين.

* ما مكانة السيدة نعيمة (أم أسامة) في الدعوة؟

    • أنقل مرةً أخرى من كتاب (الأخوات المسلمات) للأستاذين محمود الجوهري ومحمد الخيَّال نقلاً عن مقال الأستاذ عبد الحكيم عابدين لمجلة الشهاب البيروتية عدد (15) 1974 م: "بعد تولي الأستاذ المستشار حسن الهضيبي مسئوليةَ المرشد العام للإخوان المسلمين سارعت الأخوات إلى حرم المرشد الجديد يطلبن منها تقلُّد زمام قيادة الأخوات المسلمات لما كان معروفًا عنها من رجاحةِ عقلٍ وسعةِ ثقافةٍ وأصالةِ إيمان، واستجابت (أم أسامة) بمثل تواضع زوجها لحملِ نصيبها من الجهاد، وكانت السيدة أم أسامة دعوةً ناطقةً بعملها وخُلقها وإيمانها، كما كانت كذلك بأحاديثها وجولاتها وإرشاداتها متعاونةً مع الأخوات الفضليات فاطمة البدري وسنية الوشاحي وسنية عبد الواحد وآمال العشماوي وغيرهنَّ كثير".

* ماذا عن ورعها عن الاستفادة بمكانتها في الدعوة؟

    • يجيب الأستاذ عبد الحكيم عابدين- سكرتير الجماعة في ذلك الوقت- في نفس المقال السابق فيقول: "عندما سافر الأستاذ الهضيبي في صيف 1954 م إلى السعودية وبعض بلاد الشام.. وجهتُ سائق سيارة الأستاذ المرشد بسيارته ليكون تحت تصرف السيدة أم أسامة حرم المرشد، ولكنها لم تقبل استقبال السيارة".

وهنا تُكمل السيدة علية الهضيبي: إن أمي قالت للأستاذ عبد الحكيم: "إن هذه السيارة يستعملها الأستاذ حسن الهضيبي بوصفه مرشد الإخوان وليس شخص حسن الهضيبي، فهي للدعوة فقط"، وحين تحدَّث إليها الأستاذ عبد الحكيم عابدين تلفونيًّا أن تقبل السيارة فإن لم تقبلها بوصفها حرم المرشد فرجاء أن تقبلها بوصفها مسئولة عن الأخوات وتنتقل بين الشُّعب والبلاد لتفقد العمل النسائي في مصر، ولكنَّ الداعيةَ الحصيفةَ الواعيةَ لم يستدرجها هذا المبرر الجديد لقبول السيارة كليةً فقالت: "إنني أتفقد الشُّعب والأخوات وفقًا لجدولٍ أضعه، وعلى سيادتكم أن تعتمده، وأن تحتفظَ بالسيارةِ حتى إذا أرسلت لك جدولَ زياراتي واعتمدته، فأرسل لي السيارة في أوقاتِ الجولاتِ فقط حسب الجدول المعتمد".

* ماذا كان رد فعل الوالدة يوم أن حُكِم على والدكِ بالإعدام من محكمة الثورة؟

    • تحكي السيدة علية فتقول: إن أخي المستشار محمد المأمون اتصل بنا من غزة؛ حيث كان عمله هناك، وكان مشفقًا على والده ومشفقًا علينا فأمسكتْ أمي بالتليفون وسمعتُها تقول له: "إيه يا مأمون عاوزني أقول لك: "خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطانٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله"، بابا من حزب سيدنا حمزة، إحنا حننسى مبادئنا ولا إيه، وكمان قول الرسول- صلى الله عليه وسلم" -: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائر".

وكانت هذه الكلمات بردًا وسلامًا على قلبه وقلوبنا، ثم جاء أهلنا وطلبوا من أمي أن يكتب أصغر أولاده- وهو أنا- التماسًا لتخفيفِ الحكم عن أبيها، وقالوا: "خلاص خلي علية وهي حبيبة صغيرة هي التي تتقدَّم بالالتماس لرئيس الجمهورية لتخفيفِ الحكم عن حسن الهضيبي"، وهنا نهرتهم أمي قائلةً: "يبقى عاوزين تعدموه مرتين، مرة بيد عبد الناصر والمرة الثانية بإيدينا إحنا.. حسن الهضيبي هو الرجل الأول في الإخوان، وهو قدوتهم ولو قدَّمنا التماسًا إلى عدوه وعدو الله يبقى إحنا بنقتله مرتين؛ مرة قتل معنوي ومرة قتل جسدي".

ويذكر الأستاذ عبد الحكيم عابدين في نفس المقال السابق موقف السيدة نعيمة (أم أسامة) تجاه هذا الحدث فيقول: ذهبت السيدة روحية زوجة أحد الإخوان لزيارة بيت الأستاذ المرشد في هذا التوقيت إبرءًا للذمةِ ورفعًا للملامة؛ إذ كانت شديدة التشيع لآل الإمام حسن البنا، وكانت لا تُطيق أن ترى بيتًا يخلف هذا البيت حتى ولو كان بيت حسن الهضيبي.. ولكنها فوجئت بامرأةِ حسن الهضيبي تملأها البشاشة وحولها بناتها الثلاثة (إذ كان الذكور في السجن) وعلى وجوههن الاطمئنان والسكينة، فنهضن جميعًا يستقبلنها ويرحبن بها وشملتها زوجةُ المرشد الجديد بكل لطفٍ وإيناس.

حتى أن السيدة روحية انقلبت مشاعرها وأفكارها رأسًا على عقب وانطلقت تقول: "هكذا يجب أن يكون المرشد، وكذلك ينبغي أن تكون زوجته وبناته".

وتحكي السيدة (روحية) أنه أثناء وجودها مع أسرة الإمام حسن الهضيبي حضرت السيدة (سعدية) زوجة الوزير (أحمد حسن) لتواسي زوجة الإمام وبناته قائلةً لأم أسامة: "هوني عليك (أحمد حسن بك) بعثني لأطمئنكِ بأنه مستمرٌّ في أقصى الجهود حتى لا يُعدَم زوجك وإن كانت كلمة المرشد لا مجالَ لها بعد الآن".

قالت زوجة الإمام: "يا سيدة سعدية هانم، اسمعي مشكورةً وبلغي السيد الوزير أن حسن الهضيبي ما تولَّى قيادة الإخوان المسلمين إلا وهو يعلم أن سلفه العظيم حسن البنا قد اغتيل وأُهدر دمه علنًا في شارع رئيسي بالعاصمة، وما رضي الهضيبي أن يكون خليفةً إلا وهو ينتظر هذا المصير، وقد باع نفسه لله، وبعنا أنفسنا معه فلن يرانا أحدٌ إذا كان هذا قدر الله إلا نماذجَ سكينةٍ واطمئنان، سعداءَ بأن نحتسبه عند الله، وتكتمل سعادتنا بأن نلحق به شهداء.

ثم تلفتت زوجة الإمام إلى بناتها الثلاث وقالت لهن: "هذا ما عندي، فماذا عندكن يا بنات؟ فتنبعث الصيحة من علية وخالدة وسعاد: "ليس عندنا إلا ما عندك يا أماه!!".

  • ماذا عن تدخل الملك سعود لدى عبد الناصر لتخفيف حكم الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة عن الإمام الهضيبي؟
    • يتحدث الأستاذ عبد الحكيم عابدين في نفس المقال السابق الذكر بأن أحد أفراد الإخوان بالسعودية قد اطَّلع على الخطابِ الذي بعثت به أم أسامة زوجة الإمام إلى الملك سعود بعد تدخله وتخفيف حكم الإعدام عن زوجها إلى المؤبد.

كان الملك سعود مأخوذًا بدهشةِ الإعجاب والإجلال من هذا الخطاب الذي نقلته إليه سفارته بمصر بتوقيع زوجة الهضيبي وبناته الثلاث.. تقول بعض كلمات الخطاب: "يا جلالة الملك؛ إننا إذْ نشكر كريم عاطفتكم نؤكد لكَ أننا على عهدِ الدعوة وميثاق الجهاد، سواء استُشهد الهضيبي أو طالت حياته، فلن تقف عجلة الصراع؛ لأنه ليس صراعًا بين الهضيبي وعبد الناصر، ولا بين الإخوان والثورة، ولكنه الصراع الأزلي الأبدي بين الحقِّ والباطل، بين الهدى والضلالة.. بين جنودِ الله وحزب الشيطان وسيظل لواء الدعوة مرفوعًا وعملها موصولاً ولو ذهب في سبيله آلاف الشهداء، من رجالٍ ونساءٍ حتى تعلو كلمة الله ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون".

* هل تعرَّض بيت الإمام الهضيبي للسجن؟

    • تقول السيد علية الهضيبي: لقد تعمَّد عبد الناصر وزبانيته محاولة إذلالِ الإخوان وتمزيق معنوياتهم، فبعد القبض على إخوتي الذكور مع أبي ما عدا أخي المأمون تأخَّر القبض عليه، وجاءوا للقبض عليَّ وأنا أصغر بنات أبي أغلقتْ أمي في وجههم الباب، وكانوا يهددون بكسره وهي ترفض فتحه وتكيل لهم التبكيت والإهانة لانعدام رجولتهم وانحطاطِ أخلاقهم؛ حيث جاءوا للقبضِ على امرأةٍ حاملٍ في شهرها الخامس، وجاء أخي المأمون وجعل يرجو أمي أن تفتح الباب؛ حيث إن هؤلاء عندهم أوامر لا يملكون إلا تنفيذها حتى ولو استخدموا أقذر الوسائل، وبعد إلحاحٍ فتحت أمي البابَ واقتادوني إلى السجن الحربي في سيارةٍ عادية، وكانت معي في السجن السيدة هالة والسيدة المجاهدة زينب الغزالي التي كان يُحقق معها كل ليلةٍ مع تعذيبها، وكنا نسمع أصوات تعذيب الإخوان طوال الليل، ومكثتُ شهرَيْن ولم أخرج إلا بعد تقديمِ طلبٍ لكي أتمكَّن من الولادةِ في أحد المستشفيات.

وبعد أيامٍ حضر البوليس إلى منزلنا للقبضِ على أمي وكان المأمون موجودًا وكان الأمر قاسيًّا عليه؛ إذ كيف يُقبَض على أُمِّه أمام عينيه وتماسك أخي المأمون وطلب منهم أن يقوم هو بتوصيلها إلى السجن بسيارته الخاصة مراعاةً لكبرِ سنها بدلاً من سيارةِ السجن، وقام أخي بتوصيل أمه إلى سجن القناطر.

أخي القارئ.. لو كنتَ عرفتَ هذا الموقف للأستاذ المأمون قبل وفاتِه- رحمه الله- لقبَّلت رأسه وقدميه.. كم كان عنده من جلدٍ وقوةِ تحمل؟ كم كانت نفسيته كبيرة أن يقود السيارة بنفسه لإيصال أمه إلى السجن؟ (آه يا أستاذ مأمون) كيف تحمَّلت ذلك الموقف؟ إنَّ الجبالَ الرواسي لا تتحمل مثل ذلك الموقف، وكيف بقيت بعدها على قيد الحياة وتحمَّلت السجن بعدها ست سنوات ثم أكملت مشوار الدعوة عضوًا في مكتب الإرشاد ثم مرشدًا للجماعة حتى توفاك الله!! ما أعظمك وما أعظم شأنكم آل بيت الهضيبي!!

لقد سُجنت أمه ستة أشهر في سجن القناطر وسُجن هو وإخوته الذكور ست سنوات.. هنيئًا لهذا البيت الكريم بثباته وجلادة رجاله ونسائه، وجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خيرًا.

وفي ختام حديثنا عن الجانب النسائي من هذا البيت أذكر بيتًا للمتنبي الذي قال فيه:

ولَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ عَرَفْنَا لفُضِّلتِ النَّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ

فَمَا التَّأَنِيثُ لاسِمِ الشِّمْسِ عَيْبٌ وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌلِلْهِلالِ