من المعية إلى الإمعية
- بقلم / الأستاذ عيسى بن الأخضر ... رئيس جمعية الإرشاد والإصلاح - الجزائر
علامة النهضة في الشعوب و الأمم بروز ذوي الهمم و التنافس في إحياء القيم، وقد كان هذا هو شأن الحركة الإسلامية المعاصرة في بلدان العالم الإسلامي ولدى الأقليات الإسلامية في المهجر منذ الثمانينيات، وبدأت الدراسات ترصد هذا التغير أو الصحوة أو التجديد في التعاطي الفكري والثقافي والأخلاقي لشباب الأمة. رافق هذا خطاب دعوي يركز على الأولويات وعظا وترشيدا أو تربية وتجديدا، كما كان الواقع يشهد أن ثمة نماذج من الرجال الدعاة أو المفكرين ودعاة التغيير من إذا صاحبته أو حظيت بمعايشة أبناء مدرسته، أو أتيحت لك فرصة الإقتراب الذكي من مشاريعه أحسست شيئا مما كان يعنـيه سيد قطب رحمه الله في تأمـلاته حول قول الله تعالى (... إنهم فتية آمنـوا بربهم و زدناهم هدى).
ولم تعد نظرات المـودودي مجرد أحـلام تائهـة، بل تجد مبرر ذلك في النماذج الربانية سمتا، و الإيجابية حيوية ميدانية، فتدرك قرب الصورة بين النص والواقع.. (إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنـون) ويصير مفهوم التقوى لديك ليس محددات إيمانية فلسفية أو تعقيدات لغوية فقهية، وإنما هي ببساطة نماذج قدوة تعيش بيننا ليس لها من تميز سوى أن الخاص والعام يدرك من خلال سمتهم وعطائهم وتقواهم وإحسانهم شفقتهم وصبرهم، أنهم يعيشون المعية مع الله حيث لم تعد هذه المعية في مشاعر الملتزمين وتصوراتهم مزاعم صوفية أو مثاليات مدارس مللية، أو خطابات أمزجة نفسية أومسوغات حزبية، بل صارت معالم هذه المعية في بعض الرجالات الذين عرفناهم أنك تستلهم الخير والإحسان في سلوكهم قبل أن تسترسل في متابعة خطاباتهم و محاضراتهم ، تجد نفسك أقل شأنا من أن تسمع لهم إن لم تبادر بالتضحية معهم لأنك من البدأ تدرك الرؤية التي يمثلون والحلم الذي يعيشون، ويصبح من يحذرك من هذا الطريق كمن يجهل الهدف وما أقربه والغاية وما أشد وضوحها، فترد على الفور بقوله تعالى (ترونه بعيـدا و نراه قريـبا) ولكن لندع الصورة الماضية – وستظل هي الصورة المرجوة التي ينبغي تصويب المسار وجهتها حتما– ولننظر إلى واقعنا في ساحتنا الإسلامية عموما، بل في الجزائر خصوصا حيث لا يتصور عاقل أن كيان التغيير الذي يمثله الإسلاميون اليوم هو من الوضوح في الرؤية بمثلما كان يعتقد ومن السمت العملي بمثلما كان الحلم !! ومن اليقظة في الفكر والمشاعر بمثلما كان يخطط له؟ أعتقد أن الشيئية التي تحدث عنها الأستاذ مالك بن نبي قد أصابت كيان الحركة الإسلامية عندنا كثيرا، فتحولت الحماسة للفكرة إلى تعصب للشيئ والتنافس في صناعة القدوة إلى نمطية الولاء الحزبي، والإبداع في التغيير إلى ابتداع في التعابير!! ويكفي هذا الواقع بؤسا أن تطمس المضامين وتقلد العناوين!! ثم لا يصبح من ملامح واضحة تفرق الكيان الذي ينشد النهضة و التغيير وغيره الذي ينشد السلطة والتزوير!!
قد يرى البعض في هذا التعبير تشاؤما، لكني لا أجد زوايا كثيرة للإيجابية في هذا الواقع للأسف الشديد – لأن أخطر ما يتهدد الأفكار و التيارات التغييرية ليس هو ما تصاب به في بعض أفرادها، و لكن المعضلة حين تضعف القيادة وينحرف الانقياد بمعنى أنه يقع ما حذر منه المصطفى صلى الله عليه و سلم(لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساؤوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس فأحسنوا و إن أساؤوا فلا تظلموا). وقد لا أكون مبالغا إذا قلت أن الانحراف في الانقياد قد يوقع أصحابه ليس في إتباع الناس ولكن في إتباع أضعف الناس.
رحم الله الشاعر القديم حين قال:
ذهب الكرام فأصبحوا أمـواتا **** ورقا تطيره الرياح رفاتا
و تبدلت عرصاتهم من بعدهم **** بسوى نبات الصالحين نباتا
وبقيت في دهر أحاذر شره **** و أخاف فيه من الطريقبياتا