من "المخترع الصغير" إلى "بوجي".. هجرة العقول في دولة الانقلاب
(18/05/2015)
مقدمة
عندما تسيطر العقلية العسكرية على مقاليد الأمور في الوطن المنكوب، ويتحول اقتصاد البلد المنهار إلى خدمة القبضة الأمنية وكبت الحريات وتكميم الأفواه، وتكتظ السجون والمعتقلات بالعلماء والمفكرين والمثقفين وقادة الرأي والأحرار وأساتذة الجماعات، لا يمكن أن تكون تلك البيئة حاضنة للعقول أو خصبة للإبداع وإنما مناخ طارد ومستنقع وجب الفرار منه.
الأمر عام في كافة المجالات ولا يقتصر فقط على من رفض الانقلاب العسكري وناهض تحول البلاد إلى معسكر يعيث فيه الجنرالات فسادًا، وإنما طالت أيضًا من تلوثت عقولهم ورانت قلوبهم بتأييد حكم البيادة ومرت على أكتافهم المجنزرات إلى السلطة، ليشترك الجميع في الفرار من دولة الاستبداد إلى رحابة الحرية والكرامة الإنسانية.
"بوجي" الانقلاب
المصارع الأولمبي محمد عبد الفتاح "بوجي" لم يرحل عن مصر فحسب بعد أن تجاهله الجميع وتنكر له المسئولون عن الرياضة في دولة الانقلاب، وإنما قرر طواعية أن يخلع العباءة الثقيلة ويحصل على الجنسية البحرينية ليمثل البلد الخليجي في البطولة الأسيوية بعدما 20 عامًا من الدفاع عن ألوان العلم المصري.
هجرة بوجي - وهو المؤيد لحكم البيادة - صنعت حالة من الجدل في الشارع المصري، خرج معها اتحاد المصارعة بقرارات عنترية ليغسل يديه من رحيل اللاعب الأولمبي، وقرر شطب "بوجي" وحرمانه من تمثيل مصر مجددًا في محاولة لذر الرماد في العيون.
غير أن اللاعب لم يلبث أن فضح حالة التجاهل التي تمارسها مصر بحق أبنائها المتفوقين؛ حيث أكد أنه منذ اتخذ قرارًا بالاعتزال عقب دورة ألعاب المتوسط عانى من التجاهل والتهميش من جانب اتحاد اللعبة رغم عمله في مجال التدريب في أمريكا، حتى عرض عليه أحد أصدقائه الحصول على الجنسية البحرينية.
وكشف بوجي أن الفكرة لاقت قبولاً عنده باعتبارها دولة شقيقة وقفت بجانب مصر وقت الانقلاب، موضحًا أن البحرين أرسلت إلى الاتحاد الذي خرج بتصريحات وقرارات عنترية خطابًا للحصول على موافقة حول تجنيس المصارع، وبالفعل رد رئيس الاتحاد حسن الحداد بالموافقة.
وأوضح المصارع الأولمبي أن الاتحاد الدولي أخطر الاتحاد المصري بالموافقة على تجنيس بوجي خاصةً أن الخطاب به توقيع حسن الحداد رئيس الاتحاد، مشددًا على أنه مستاء جدًّا من القرار وحملات التشويه لأنه في النهاية يبحث عن مورد رزق بعد تجاهل بلاده له وانقطاع الاتصالات تمامًا مع الاتحاد، ولو أراد الهجرة من البداية لكان فعلها قبل 20 عامًا.
المخترع الصغير
قصة بوجي لم تكن بطبيعة الحال هي الأولي منذ الانقلاب العسكري، وإنما سبقتها الكثير من العقول التي قررت الفرار بعلمها ومستقبلها من مفرمة الجنرالات، حيث سبقه هروب الطالب الفذ عبدالله عاصم "المخترع الصغير" بعبقريته وإبداعاته واختراعاته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فرارًا من الملاحقات والتضييق بسبب مناهضة للانقلاب العسكري.
وتحول "المخترع الصغير" من طالب في الثانوية العامة إلى حالة تلخص وضع مصر برمتها في 2014، حتى صار يمكن القول إن عاصم بات قضية وطن، بعدما وجهت سلطة الانقلاب لتلك العقلية الفذة اتهامات بحرق سيارة شرطة، في محالة لوأد برعم يمضي قدمًا في مجاله التقني الذي أبدع فيه وأظهر ملكات غير عادية في مجال الابتكار الإلكتروني حتى توصل إلى ابتكار نظارة تساعد مرضى الشلل الرباعي على التواصل مع محيطهم.
عاصم تقدم بابتكاره إلى شركة "إنتل" العالمية التي كانت تنظم مسابقة بين المبتكرين من صغار السن، وعلى رغم أنه لم يفز بالمركز الأول في المسابقة، إلا أنه اختير للانضمام إلى البعثة الشابة المسافرة إلى الولايات المتحدة لحضور معرض الشركة. في تلك الأثناء، كانت حياة عاصم تسير في اتجاهات أخرى، فقد ألقي القبض عليه مساء يوم 25 أبريل الماضي في ميدان التحرير بتهمة - رفع شارة رابعة - وتم ترحيله إلى أســيوط وحبسه لمدة 15 يومًا لإنهاء التحقيقات، وهو ما حال دون سفره إلى أمريكا.
وبعد محاولات مستميتة لإقناع السلطات المصرية باشتراك الفتي المخترع في المسابقة العالمية، نجح عاصم في حزم حقائبه إلى الولايات المتحدة التي قرر البقاء بها حفاظًا على مستقبله، وساق مسوغات الرحيل عن مصر بالخوف على مستقبله العلمي وخوفًا من الاعتقال وفرار من دولة الظلم.
مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية أو "كير" تكفل بـالمخترع الصغير مخصصًا له محاميتين أمريكيتين لتفعيل إجراءات بقائه بشكل قانوني داخل البلاد، معلنًا أنه أقدم على تلك الخطوة لاعتقاده أن حياة المخترع الصغير ومستقبله في خطر حال عاد إلى مصر، ومن ثم فإن المجلس يجهز أوراقه لتقديمها إلى السلطات الأمريكية لاعتباره لاجئًا سياسيًّا.
54 ألف عالم
ولأن دولة الطواغيت لا تبحث إلا عن مصالحها الضيقة ولا تنظر إلى التاريخ أو تتعلم من دروس الماضي، فلم تتوقف كثيرا أمام دراسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بالتعاون مع أكاديمية البحث العلمي التي كشفت أن هناك 54 ألف عالم وخبير مصري في الخارج يعملون في مختلف التخصصات العلمية، وهو الرقم الذي تنامى وتفشى عقب انقلاب 3 يوليو.
الدراسة التي سبقت الثورة وانتهت في مناخ علمي فاشل وبيئة تقترب من الواقع الدموي ولا تماثله، وثّقت أن من بين العقول المهاجرة 11 ألفًا في تخصصات نادرة، و94 عالمًا في الهندسة النووية و36 في الطبيعة الذرية و98 في الأحياء الدقيقة و193 في الإلكترونيات والحاسبات والاتصالات.
وتبين الإحصاءات أن أمريكا تحظي بالنصيب الأكبر من الكفاءات والعقول المصرية المهاجرة بنسبة 39% تليها كندا بنسبة 13.3% وإسبانيا في المؤخرة بنسبة 1.5%، وتؤكد أن عدد العلماء المصريين بالخارج من ذوي التخصصات النادرة يقدرون بنحو 618 عالمًا في تخصصات متباينة جمعهم حب الوطن وفرقهم الاستبداد.
وحذرت دراسة علمية – في وقت سابق - من استمرار النزيف والهجرات الدائمة للعقول والكفاءات في جميع المجالات إلى دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا وكندا وأستراليا، وكشفت وجود 720 ألف مهاجر مصري بهذه الدول، بينهم 450 ألفًا من أصحاب الكفاءات الماهرة في المجالات المختلفة.
وأكدت الدراسة أن التقديرات المبدئية لتكاليف المبعوث المصري لنيله درجة الماجستير أو الدكتوراه في جامعات أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية تصل لنحو 100 ألف دولار، وهو الأمر الذي يعني أن هجرة 450 عالمًا يؤدي إلى خسارة مصر لـ45 مليار دولار، مما يقود إلى إحداث فجوة حقيقية في القدرات المطلوبة للنهوض بالمجتمع، وتنشيط عمليات التنمية.
ورغم كل تلك المحاذير لا زالت دولة العسكر تذبح المبدعين المصريين بدم بارد، وتلاحق الطلاب بالسحل والاعتقال والقتل والإعدام، وتئد البراعم المزهرة في مهدها بالتجاهل والقمع والروتين والمحسوبية، وتضع المواهب والمبدعين والمفكرين أمام خيارين لا ثالث لهما إما الضياع على عتبات العسكر أو الهجرة إلى بلاد تقدر الإبداع وتحترم الحريات.
المصدر
- تقرير: من "المخترع الصغير" إلى "بوجي".. هجرة العقول في دولة الانقلاب موقع بوابة الحرية والعدالة