ملحمة لا مأساة
بقلم : فهمي هويدي
أخشي ما أخشاه في اللحظة الراهنة أن نتلقي الرسالة الغلط مما جري ويجري في الأرض المحتلة, فيحجب مشهد الدم والخراب إشعاعات الفجر الآتي, بحيث نري في المشهد إرهاصات الانكسار بأكثر مما نري من بشائر الانتصار, ودلائل الهزيمة بأكثر مما نري من قوة الثبات والصمود, والعجز والقنوط بدلا من القدرة والعزم. وتلك لعمري ليست محاولة للافتعال والتجمل, لكنها دعوة للإنصاف وإحقاق الحق, إن شئت فقل إنها دعوة لتجاوز النظر إلي نصف الكوب الفارغ, والانتباه إلي نصفه الملآن.
(1)
ليست مصادفة أنني حيثما أذهب لقيت أناسا استبد بهم الحزن وتسرب اليأس إلي نفوسهم, وأصبحوا يعانون الاكتئاب في الوقت نفسه. فما لقيت أحدا ممن أعرف إلا وحدثني عن مثل تلك الأصداء التي لا أشك في أن البث الفضائي لعب دورا رئيسيا في إشاعتها بين الناس. إذ لاريب أن الفضائيات قامت بدور جليل في إيقاظ وعي الناس وتنبيههم إلي فظاعة ما يحدث, ومدي وحشية العدو واستعلائه, الأمر الذي أدي إلي إسقاط الأقنعة الزائفة التي ما برحت النخبة الإسرائيلية تتخفي وراءها, وهي تشاغلنا بلعبة السلام وتموه باتفاقياته. ليس ذلك فحسب, وإنما أدي أيضا إلي إعادة تعريب القضية الفلسطينية إذا جاز التعبير, من حيث إنها أخذت مكانها مرة أخري في الوجدان العربي, بعدما تآكلت تلك الصورة بدرجة أو أخري خلال السنوات الأخيرة, ولأسباب عدة.
أكثر من مرة قلت إن ما يفعله الإسرائيليون في الضفة الغربية, فعلوا أضعافه في سنة48, ومذبحة جنين الأخيرة ارتكب الإسرائيليون ثلاثين مذبحة مماثلة لها في تلك الفترة, لترويع الفلسطينيين وتهجيرهم. لكن الفرق بين ما يحدث الآن وما جري من قبل هو أن ما جري في آخر الأربعينيات لم يره الناس ولم يسجله أحد, وإنما لا يزال الباحثون الفلسطينيون إلي الآن يكتشفون حقائقه ويتعرفون علي أبعاده. أما ما يجري هذه الأيام فنحن نراه علي الهواء مباشرة ـ أغلبه إن شئت الدقة ـ بحيث لا تختفي منه سوي بعض التفاصيل, الأمر الذي يعني أن الجميع, حتي في أقاصي الأرض, أصبحوا يعيشون الحدث يوما بيوم, ولا يحتاجون إلي من يدلهم علي الفظاعات والبشاعات. وهو ما ضاعف من غضب الناس لاريب, وتعبئتهم ضد ثلة مجرمي الحرب الإسرائيليين, فضلا عن أنه كشف قسمات الوجه الدميم للمشروع الصهيوني في مجمله, وهو ما أدركه الإسرائيليون جيدا, حتي قرأت لأحدهم أخيرا قوله إنه لو كان التليفزيون موجودا في عام48 لما قدر لدولة إسرائيل أن تقوم أصلا.
(2)
يعيب الدور الجليل الذي قامت به الفضائيات أنه نقل إلينا المأساة ولم ينقل البطولة, لسبب جوهري هو أن مصوري الفضائيات ومندوبيها عادة ما يذهبون إلي مسرح الحدث بعد وقوع الجريمة, حيث يستحيل عليهم أن يكونوا هناك قبل ذلك, من ثم فانهم ينقلون إلينا البيوت التي تهدمت علي من فيها, وجثث القتلي المعبأة في أكياس البلاستيك, أو أشلاء الضحايا, ينقلون إلينا بعضا من صور الجرحي, وتجليات فزع الناس وترويع الأطفال وصيحات النسوة وغير ذلك, ولأن ما نراه لا يتجاوز حدود الخراب ورائحة الموت وآهات الثكالي ودموع المحزونين, فلا غرابة في أن يخرج المشاهد من ذلك كله معبأ بالغضب ومشحونا بالكراهية للقتلة ومن لف لفهم, وفي الوقت نفسه مثقلا بخليط من مشاعر الهوان والاستضعاف والقنوط.
هذا الذي نراه هو صورة صادقة للنصف الفارغ من الكأس, وربما رحب الإسرائيليون بتعميم تلك الصورة لتخويف الآخرين وترويعهم, إلي جانب إذلالهم والنيل من عزائمهم, لإشاعة الرهبة واليأس في نفوسهم. وقد أشرت توا إلي أن ذلك كان أحد الأهداف الأساسية للمذابح التي ارتكبوها في حرب عام48 وما بعدها.
المأساة وجه للحقيقة لاريب, لكن البطولة التي أظهرها الفلسطينيون جميعا وبلا استثناء, تشكل وجها آخر لها, أتمني أن يأخذ مكانه في الإدراك العام, حتي لا نفتئت علي الحقيقة من ناحية, ولا نبخس النضال الفلسطيني حقه من ناحية ثانية, وحتي لا نظلم أنفسنا ونجلدها من ناحية ثالثة, وحتي لا نستسلم للشعور بالإحباط والعجز, ونفسد علي العدو حرصه علي تخويف الأمة والتهوين من عزيمتها من ناحية رابعة, وأخيرا حتي نظل علي ثقة في قدرة شعوبنا علي الصمود, وعلي ثقة من انتصار الحق في نهاية المطاف, ومن أنه برغم كل شيء فإن سنة الله في خلقه ماضية ولن تخيب, إذ لن يصح إلا الصحيح, وحيث إن الزبد مهما استعلي وطال أجله فإنه سيذهب جفاء لاريب, أما ما ينفع الناس فوحده الذي يمكث في الأرض.
والأمر كذلك فلا يغرنك ما تراه, فمشهد الدم الذي يلوح في الأفق ليس نهاية المطاف, وليس بوسعه أن يوقف عجلة التاريخ أو يعطل مسيرة السنن الكونية, وما نحن بإزائه ليس سوي حلقة في الصراع الممتد والأزلي, بين الحق والباطل. وإذا جاز لشارون وأمثاله أن يقولوا إن حرب الاستقلال مستمرة, فمن حقنا ـ بل من واجبنا ـ أن نعتبر أن حرب تحرير فلسطين بدورها مستمرة, وأن طواغيت الأرض إذا كانوا قد استطاعوا أن يقتلوا آلاف البشر, فإنهم عجزوا علي مدار التاريخ أن يوقفوا عجلة التاريخ ويغتالوا أحلامهم في الحرية والكرامة والاستقلال.
(3)
هزني ما قرأته عن عندليب خليل بنت العشرين عاما, التي كانت خامس شهيدة فلسطينية, تمنطقت حزاما ناسفا, وفجرت نفسها بعد ظهر يوم الجمعة4/12 عند مدخل سوق محني يهودا أكبر سوق شعبية لليهود في القدس الغربية, فقتلت ستة من الإسرائيليين وجرحت95, وكادت تقتل رئيس بلدية الاحتلال في القدس, الليكودي المتطرف إيهود أولمرت.
هذه الفتاة النحيلة, التي لم يتجاوز وزنها45 كيلوجراما, خرجت من بيتها في قرية بيت فجار شمال مدينة الخليل, عازمة علي الموت دفاعا عن الحلم الفلسطيني, لكنها بعد أن تجاوزت باب البيت عادت إلي أمها وعلي وجهها ابتسامة عريضة, وقالت لها بصوت مبتهج: هذا المساء سيأتي أناس لكي يطلبوا يدي منك, فأرجو أن تحتفي بهم بما يليق بمنزلتي عندك. ابتسمت الأم, ولم تأخذ كلام ابنتها علي محمل الجد, ثم حثتها علي التحرك بسرعة حتي لا تثقل علي زميلتها في مشغل الخياطة الذي تعمل به( قرب بيت لحم), حيث كانت الزميلة تنتظرها بالباب. في المساء جاء الخبر, وعرف أنها فجرت نفسها عند السوق, وأدركت الأم التي كانت تنتظر بين مصدقة ومكذبة حكاية الخطاب الذين سيطلبون يد عندليب, أن ابنتها كانت صادقة فيما قالته في الصباح, لكنها اختارت أن تكون عروس السماء, وأن تفدي وطنها بروحها وجسدها النحيل.
يعجز المرء عن وصف شعوره وهو يقرأ هذه التفاصيل التي تضمنها تقرير نشرته الشرق الأوسط وبعث به من غزة الزميل صالح النعامي, وهي قليل من كثير تحفل به التقارير الصحفية الخارجة من الأرض المحتلة, لكنها لا تستلفت الانتباه وسط هول الأحداث وسيل المعلومات الأخري الذي يتدفق كل يوم من هناك.
في لحظة سمو نادرة, زهدت عندليب في كل ما يشغل الفتيات في سن العشرين من أشواق وأحلام, وأعرضت عن خطاب الأرض وهيمن علي إدراكها وحلمها شيء واحد: أن تكون عروسا تزف إلي السماء في يوم الجمعة الذي يشهد لحظة تفتح فيها أبواب السماوات.
يستشعر المرء قشعريرة وهو يقرأ قصة عندليب في اللحظات التي سبقت خروجها من البيت, ويتراءي أمام عينيه شريط صورها, منذ أن أدت صلاة الفجر وجهزت نفسها للحظة الخروج, ثم ألقت نظرتها الأخيرة علي كل ما حولها, واتجهت صوب أمها والبشر يطفح من وجهها, لكي تخبرها نبأ خطاب المساء, وإلي حين غادرت البيت مودعة المكان والزمان والدنيا كلها.
القشعريرة نفسها يستشعرها المرء وهو يقرأ ما كتبته في وصيتها طالبة جامعة النجاح في نابلس دارين أبو عيشة(22 سنة), بعدما قضت ليلتها في قراءة القرآن, وخرجت من بيتها وهي صائمة, لكي تفجر نفسها وسط جنود العدو عند حاجز مكابيم علي مشارف مدينة القدس.
في الوصية التي أشرت إليها من قبل قالت دارين إنها وهبت نفسها رخيصة في سبيل الله لكي يعلم كل جبابرة الصهاينة أنهم لا يساوون شيئا أمام عظمة الله وعزة إصرارنا وجهادنا, وليعلم الجبان شارون بأن كل امرأة فلسطينية ستنجب جيشا من الاستشهاديين, وإن حاول وأدهم في بطون أمهاتهم علي حواجز الموت, وأن دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقصورا علي بكاء الزوج والأخ والأب, بل إننا سنتحول بأجسادنا إلي قنابل بشرية تنتشر هنا وهناك, لتدمر وهم الأمن للشعب الإسرائيلي.
في الرسالة الوصية, ذكرتنا دارين بالعزة والشرف وعشق الحرية والشهادة دفاعا عنها, ولم تنس وهي توقع الرسالة أن تشير إلي أنها: الشهيدة الحية.
قبل دارين وعندليب وبعدهما كانت وفاء إدريس وآيات الأخرس وإلهام الدسوقي, التي سقط اسمها وسط سيل الأخبار, وكانت قد فجرت نفسها في أثناء اقتحام قوات الاحتلال لمنزلها في مخيم جنين, فقتلت ضابطين إسرائيليين وجرح عشرات الجنود الذين أذهلتهم المفاجأة.
(4)
كان النقيب حازم كبها, البالغ من العمر45 عاما, قائدا لكتيبة الشبان الذين تصدوا للعدو الصهيوني في أثناء اجتياحه لمخيم جنين, وهم الذين حاربوا وتحدوا علي مدي تسعة أيام الآلة العسكرية الباطشة لإسرائيل والولايات المتحدة معا, حيث تصدوا بشجاعة أسطورية لأرتال المهاجمين علي الأرض, بعتادهم ومجنزراتهم وجرافاتهم, ولم يأبهوا لسيل الصواريخ الذي أمطرتهم به الطائرات الأمريكية التي غطت سماء المخيم, من طائرات إف16 إلي أباتشي, وكان صمودهم ذاك هو الذي تسبب في عزل قائد مجموعة الاجتياح لفشله في مهمته, وأجبر رئيس الأركان الإسرائيلي علي أن يحضر بنفسه لكي يشرف علي المعركة من طائرة حلقت فوق المكان, بعدما فوجئ ببسالة المقاومة وقوة الصمود.
النقيب حازم, وكنيته أبو جندل, كان أبا لثمانية أطفال, وزوجته في آخر أيام حملها في طفلها التاسع, قبل استشهاده بيومين اتصل هاتفيا بأبيه في بلدة بعبد بالضفة الغربية, وأبلغه أنه باق في المخيم وسوف يقاتل حتي آخر رمق, وأوصاه بأن يرعي أبناءه, راجيا ألا يحملوه بأكثر مما يحتمل, وأخبره بأن زوجته ستلد طفله التاسع في وقت قريب.
انصرف أبو جندل بعد ذلك لمهمته, واشترك مع رفاقه في صد الهجمات المتتالية للقوات الإسرائيلية بثبات وبسالة مدهشين, إلي أن جاء يوم واجه فيه بعض الجنود الإسرائيليين مباشرة, فقتل منهم أربعة, وظل يطلق رصاص رشاشه حتي نفدت ذخيرته, فعاجله أحد جنود العدو برصاصة أوقعته جريحا, ثم جره بمساعدة آخرين إلي مركز المخيم, وهناك أعدموه بالرصاص, وحين نقل جثمانه إلي مستشفي جنين, وجدوا وصيته في جيبه, التي كتبها لأفراد عائلته ولرجال المقاومة, وكان مطلبه الوحيد أن يستمر الجميع في مقاتلة العدو حتي تتحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني!
بعد يوم واحد من استشهاد أبو جندل وضعت زوجته طفلها, وأطلقت عليه اسم صمود!
ليس أبو جندل او عندليب او دارين من النموذج الاستثنائية في المشهد الفلسطيني, لكنها حالات عادية جدا وطبيعية للغاية في الأرض المحتلة, وما فعلوه هو ما يفعله كل المناضلين المجهولين الذين يتسابقون إلي الشهادة, ويقدمون دماءهم وأرواحهم كل يوم دفاعا عن حلمهم الذي يحاول الإسرائيليون جاهدين اغتياله, وفشلوا في ذلك منذ عام48 حتي هذه اللحظة.
يوم قرأت قصة ابوجندل رأيت علي شاشة التليفزيون سيدة فلسطينية جالسة وسط حطام البيوت في مخيم جنين وأحزان الدنيا تملأ عينيها, وحين فاتحها المذيع في أمر أسرتها, فإن كل ما قالته إن لديها ستة أبناء وبنات, تتمني أن يصبحوا يوما ما شهداء علي أرض فلسطين.
(5)
في الشهر الماضي, حينما اجتاح الجيش الإسرائيلي مخيم جباليا, صعقت المدرسة سميرة أبو سمك حينما سمعت طفلة تبلغ من العمر ستة أعوام وهي تبحث عن قنبلة أو مسدس, وكانت تصرخ أريد أن أكون شهيدة, ولم تجد المدرسة بدا من تهدئتها, وإخبارها بأن عليها أن تنتظر حتي تكبر لكي تحقق مرادها بكفاءة أفضل. وفي خان يونس شاهدت طفلة الدبابات الإسرائيلية تجوب الشارع قرب بيتها, فما كان منها إلا أن اندفعت نحو المطبخ, وحملت سكينا لكي تواجه بها الدبابات, إلا أن أمها لحقت بها ومنعتها من الخروج بالقوة.
كما أن في كل بيت فلسطيني شهيدا فعلي كل لسان فلسطيني قصص من ذلك القبيل, كلها تصب في مجرد الفداء والبطولة والإصرار علي تحقيق الحلم.
إذا كان الأمر كذلك, فكيف يمكن أن نعتبر ما جري مأساة ولا نري فيه الملحمة وآيات البطولة؟ ولماذا يهتز يقين البعض وثقتهم في الله وفي بزوغ الفجر, أمام لحظات الضعف الذي تورثه مشاهد وحشية الطغاة وغارات المتجبرين؟ وإذا لم يكن الثبات مطلوبا في مثل هذه اللحظات الحاسمة, فمتي يكون إذن؟
في4/18 نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية تحليلا جيدا للموقف كتبه أوري افنيري, استهله بالعبارة التالية: غداة انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل قبل105 سنوات, سجل هرتسل في مذكراته العبارة التالية: في بازل أسست دولة اليهود. وفي الأسبوع الماضي كان يجب علي أرييل شارون أن يسجل في مذكراته: في جنين أسست دولة فلسطين.
أضاف الكاتب المتفهم للموقف الفلسطيني أن شارون أراد تحطيم الوطنية الفلسطينية, ولكن أمام الهجوم الكاسح لآلة الحرب الإسرائيلية انتصبت قامة الشعب الفلسطيني علي نحو غير مسبوق, وقال: كان الهدف هو تدمير البنية الإرهابية, ومثل هذا التعريف يدل علي الغباء, لأن البنية الإرهابية توجد في روح ملايين الفلسطينيين وعشرات الملايين من العرب الذين تتفجر قلوبهم من الغضب, وكلما قتلت إسرائيل المزيد من الفلسطينيين والانتحاريين, تتفجر قلوبهم من الغضب, وازداد المقاتلون والانتحاريون المستعدون لاحتلال مكانهم. لقد وضع شارون وموفاز بما فعلاه البنية التحتية للعنف, ومن خلال ذلك قاما بإرساء أسس الأمة الفلسطينية والدولة الفلسطينية.
لقد طال علينا زمن العسر حقا, لكننا ينبغي أن نظل علي يقين من أن بعد العسر يسرا!.
المصدر
- مقال:ملحمة لا مأساةموقع:الشبكة الدعوية