مكتب الجزيرة في مصر.. صحي النوم
بقلم / د. عمرو مجدى
تسطر قناة الجزيرة هذه الأيام صفحات جديدة من التاريخ العربي، لا بمداد القلم كما اعتاد التاريخ أن يدون، وإنما بالصورة الناطقة كما اعتادت هي أن تدونه، في عصر احتلت فيه الصورة المكانة الأولى ربما فوق المدفع والقنبلة. وما تفعله قناة الجزيرة هذه الأيام في تغطيتها للحرب على غزة، يعزز ويكرس للدور الكبير الذي سجله ويسجله وسيسجله الباحثون والمؤرخون لهذه القناة في تغيير الوعي العربي، وكسر صخرة الجمود التي صنعتها الأنظمة السلطوية على مدار نصف قرن ومنذ أن دخل التلفاز الأرض العربية.
دور الجزيرة فاعل ومؤثر، سواء كنت مادحا أو حاقدا أو ناقما أو مراقبا، وسوف تذكر في التاريخ الحديث للعالم كأحد أهم مداخل الفهم لأسباب المتغيرات التي طرأت وتطرأ على الشارع العربي. وهو ماحدى بمؤرخ ومثقف في وزن الأستاذ محمد حسنين هيكل لكي يشير إلى "دورها التعبوي الممتاز" في الحرب الأخيرة، في حين أشار لدورها واحد من أهم الكتاب العرب وهو الأستاذ فهمي هويدي في أكثر من مقال له في جريدة الدستور المصرية.
وهي تثبت أيضاً – في رأيي – نهاية زمن الإعلام الأيدولوجي الموجه، وأن الإعلام المستقل يمكن أن يلعب دوراً أكثر خطورة وأقوى تأثيراً من الإعلام الأيدولوجي والحزبي.. وإن الإعلام المقاوم ليس بالضرورة أيدولوجياً أو حزبيا.. لكن ليس هذا هو موضوعنا الآن.
برغم كل ماسبق، لم أملك نفسي - كمصري وعربي وكمحب للجزيرة ومتابع لها - إلا أن أشتعل سخطاً منذ عدة أيام بسبب تغطية مكتب القاهرة الباهتة للتظاهرات والفعاليات الشعبية في مصر المتضامنة مع غزة.
وتبدو تلك التغطية أكثر هزالة إذا ما قورنت بنشاط مكاتب أخرى للقناة في إسرائيل ذاتها (رغم تضيقات جنود الاحتلال وحالة الطوارئ التي فرضها العسكر) وعواصم عربية صغيرة مثل عمان وصنعاء أو حتى اسطنبول خارج القطر العربي، ناهيك عن نشاط الزملاء المستمر داخل غزة نفسها.
المكتب الذي أخفق في ملاحقة الغضب الشعبي بكاميراته، تبدو له مبررات خاصة معروفة ومفهومة للعاملين في الوسط الإعلامي المصري.. فمصر دوناً عن بقية الدول العربية لها وضع أمني خاص، ويزداد خصوصية الآن، في ظل تعقدات الأوضاع ودخول الدولة المصرية كطرف في التجذابات السياسة الحادة المندلعة بالمنطقة.
يتعامل الأمن المصري بعنف شديد ودون أية لياقة حتى مع المراسلين الأجانب .. والقاعدة ترسخت منذ انتخابات مجلس الشعب الأخيرة وانتفاضة القضاة حين أدرك الصحفيون أنه ليست لهم أية حصانة ميدانية عندما يغضب النظام المصري، (وهي حصانة توهمها بعض الصحفيين أمام سطوة العدسات المسلطة)، لكن القاعدة التي جدت حينها هي أن النظام لم يعد يخجل حتى من أن يظهر جنوده على الشاشات وأمام العدسات وهم يضربون الصحفيين أو يكسرون كاميراتهم ويسحقونها بالأقدام. وهو ما وجد صداً لدى الصحفيين الذين باتوا أكثر حذراً وحرصاً على "سلامتهم" الشخصية، وسلامة الكاميرات باهظة الثمن التي بحوزتهم. والكلام السابق ينطبق على معظم الصحفيين دون تخصيص.
ومن ناحية أخرى يبرز مبرر آخر وهو أنه لا يوجد مراسلون بالعدد الكافي الذي تطلبه تغطية دولة مثل مصر وهذا خطأ غير مفهوم من إدارة القناة نفسها، ربما نابع من ضغوط أمنية أيضا، فمصر الدولة العربية الكبرى، وصاحبة الرأي العام الأكثر تفاعلاً، والتموجات السياسة الأكثر اضطراما في الآونة الأخيرة.. لا تحظى بنصف عدد مراسلي الجزيرة في غزة التي تمثل (360 كيلو متر مربع) .. وفي حين يطل نصف ضيوف برامج الجزيرة من شاشة القاهرة، وتنطلق معظم التفاعلات الدبلوماسية والسياسية من أروقة الحكم في مصر، فإن النقص في مكتب الجزيرة ازداد أثراً حينما رحل أحد المراسلين الأكفاء (عمرو الكحكي) إلى الجزيرة الإنجليزية.
لكن كل ذلك لا يبرر أن تظهر التغطية هزيلة إلى هذا الحد .. معظم الأخبار عن مصر تظهر في النيوز بار أو في النشرة بدون أي صور، وحينما تجيء فإنها تجيء متأخرة عدة ساعات على عكس التظاهرات في بقية العواصم العربية التي تبث مباشرة في الأغلب.
ومنذ اندلاع الحرب (بعد مضي 14 يوماً) لم يظهر سوى 3 أو 4 تقارير من مصر، وكانت هناك تظاهرات واشتباكات كبيرة لم يغطها مكتب الجزيرة.. وحين كان عشرات الآلاف من طلاب جامعة القاهرة وجامعات أخرى يشتعلون غضبا في تظاهرات حاشدة، كانت الجزيرة تبث مسيرة ل 500 طالب بجامعة قطر، التي ربما لا يبلغ عدد طلابها مجتمعين نصف عدد طلاب فصل دراسي واحد في كلية واحدة بجامعة القاهرة.
وفي اشتباكات مسجد الفتح بميدان رمسيس اكتفت الجزيرة باتصالات هاتفية مع بعض القيادات الحزبية هناك ولم تتعامل مع الخبر بحجمه فيما أعلم.
أعرف حجم الضغوط والأعباء الملقاة على عاتق العاملين في مكتب القاهرة، وحجم المهمة التي يضطلعون بها برغم ضآلة حجم المكتب والعاملين فيه.. لكني أعرف أيضا أن عيون المواطنين العرب الآن لا تتابع سوى الجزيرة وأنهم ينتظرون من رجالها في كل مكان أن يتخطوا كل العراقيل، ويبذلوا مزيداً من الجهد. وأعرف أيضا أن مكتب الجزيرة يتلقى – بحكم شهرته – إخطاراً مسبقا بكل الفعاليات الشعبية والسياسية في البلاد، بل ويتطوع العشرات من المكاتب الإعلامية للأحزاب والصحفيين الهواة إلى إعطائه نسخاً مجانية من صور التظاهرات وأشرطة الفيديو للفعاليات خاصة في المحافظات التي لا يتمكن المكتب من بلوغها. صحيح أن معظم تلك الأشرطة تكون رديئة الجودة وغير صالحة للنشر بمعايير البث الاحترافية، لكن هذا أيضا ليس مبرراً.
بقي أن أشير إلى أنه في حوار أجريته عام 2006 مع الأستاذ وضاح خنفر مدير عام القناة سألته عن عمليات توسعة مكتب القاهرة المخطط لها منذ عدة أعوام وأجاب أنها قيد التجهيز، ولم يحدث شيء حتى الآن (يناير 2009)، وفي حوار آخر مع الأستاذ أيمن جاب الله نائب رئيس تحرير القناة، في نهاية 2007 أجاب بدبلوماسية عن سؤالي حول تقصير مكتب القاهرة في نقل الأحداث، واعترف بالعبء الشديد على المكتب وحاجته لزيادة المراسلين.
لا أتابع القناة طوال اليوم، وإن كنت أزعم أني أتابع تغطيتها للحرب بكثافة (عدة ساعات في اليوم)، بالإضافة إلى إطلاعي على أرشيف التقارير في موقع الجزيرة نت وعلى اليوتيوب، لكن برغم كل ذلك ربما تكون أحكامي السابقة نابعة من قصور الإطلاع، وإدارة القناة ولجنة المتابعة وتقييم الجودة بها أقدر على الحكم على ما يبث في شاشتها طوال 24 ساعة، لكني لا أبالغ أبداً حين أقول إن موقفي السابق لا يعبر عن رأيي كفرد صغير، ومحدود الخبرة، بقدر ما يعبر عن شريحة واسعة جداً من أصدقائي والصحفيين العاملين في العديد من المؤسسات الصحفية في مصر.
والمشكلة الأهم التي ينبغي إدراكها، أن التقصير في نقل مشاعر وغضب المصريين ربما يظهر المصريين وكأنهم في خانة حكومتهم، وأنهم يحتلون نفس موقفها، خاصة بالنسبة للمشاهدين من العرب الذين لا يطلعون على الأحداث اليومية في مصر ولا تصلهم صحف مصر المستقلة. وتمثل الجزيرة نافذتهم الأساسية على الأحداث في مصر.
في النهاية أرجو أن يفرق الجميع بين محاولات الهدم والتشويه ، ومحاولات النقد للتصويب واوتصحيح المسار.. وألا يأخذ أحد الكلام السابق على محمل شخصي.. فكلنا في خندق واحد .
المصدر : نافذة مصر