مقومات البناء التنظيمي.. بين التأصيل والتطبيق

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

بقلم / د. محيي حامد


لقد تناولت في المقال السابق- مقومات البناء التنظيمي- ثلاثة مقومات أساسية لهذا البناء؛ وهي الأخوة والثقة والطاعة، وكنت حريصًا على تأصيلها بكلمات للإمام المؤسس حسن البنا- رحمه الله- بهدف التوضيح والتذكير بأصول هذه الدعوة التي يجب أن نحيا بها، ونعمل على تحقيقها خلقًا وسلوكًا في واقعنا المعاصر، ولقد ذكرت بعض الوصايا والمفاهيم التربوية المنوطة بكل فرد على حدة، والتي تسهم عمليًّا في تحقيق هذه المقومات، ولقد حرصت على قراءة كل ما كتب- من تعليقات على المقال- بعناية شديدة وبحرص على الاستفادة بكل ما ذكره الإخوة الكرام- جزاهم الله خيرًا- من نصائح أو استفسارات، ومن هنا جاءت فكرة هذا المقال الذي أريد فيه التأكيد على بعض آليات تطبيق هذه المقومات، وكيفية التعامل مع إشكاليات التنفيذ الوارد حدوثها وفق المبادئ والقيم والنظم التي تعلمناها وتربينا عليها في هذه الجماعة المباركة.


أولاً: آليات اختيار القيادات

لقد مرت الجماعة بصور متنوعة في آليات اختيار قياداتها، وفقًا لطبيعة المرحلة والظروف المحيطة بها، ففي مرحلة التأسيس الأولى (1928- 1954م) كان هناك دمج بين آلية الانتخاب والتعيين فمثلاً:

تقوم الجمعية العمومية للشعبة- كما كانت تُسمى من قبل- بانتخاب أعضاء مجلس إدارة الشعبة، ويقوم المركز العام بتعيين مسئول الشعبة، وفي مرحلة المحن القاسية (1954- 1974م) التي مرت بها الجماعة كانت آلية التعيين هي الغالبة مع بعض الآليات لممارسة الانتخاب، حسب ما يقتضيه الوقت والظرف، وفي مرحلة التأسيس الثانية (1974- 1990م) كان هناك دمج بين آلية التعيين والانتخاب، وفقًا لطبيعة كل مهمة وظروف كل مكان، وفي مرحلة الانفتاح على المجتمع (1990- 2009م)، كانت آلية الانتخاب هي الغالبة، وتمت بصورة متدرجة بدأت من مكتب الإرشاد والمكاتب الإدارية؛ حتى أصبحت الآن تتم على مستوى الشعب والمناطق، ومن خلال هذا التسلسل التاريخي نخلص أن الأصل في آليات اختيار القيادات عند جماعة الإخوان المسلمين هو الانتخاب والاستثناء هو التعيين حسب مقتضيات الظروف أو المرحلة التي تمر بها الجماعة، وبناء على ذلك أود التأكيد على بعض المتطلبات الأساسية لتحقيق حسن اختيار القيادات في المستويات المختلفة وفق الآلية المعتمدة لذلك وهي الانتخابات:

التعارف المتين:

من الأمور الأساسية الواجبة واللازمة لحسن اختيار القيادات هو حدوث حالة من التعارف المتين بين أبناء هذه الدعوة المباركة، يتيح لهم سلامة التصور وحسن الاختيار، ولهذا جعل الإمام البنا- رحمه الله- التعارف ركنًا من أركان الأسرة الإخوانية التي يحرص أبناء هذه الدعوة على تحقيقها في واقعهم العملي، وكان من وصاياه- رحمه الله-: أن يتعرف الأخ إلى كل من يلقاه من إخوانه، وعندما سُئل الإمام حسن الهضيبي- رحمه الله- من هم الإخوان المسلمين، قال: مجموعة من الناس أحبوا بعضهم، وانصهروا في بعض، ولعلنا إذا بذلنا الجهد والوقت لتحقيق التعارف الشامل الكامل الذي يشمل الجوانب الفكرية والنفسية والسلوكية لبعضنا البعض نكون بذلك قد وضعنا الأساس المتين الذي يقوم عليه البناء كله.


الوعي العميق:

وعندما نتحدث عن آلية الانتخاب لاختيار القيادات؛ فلا بد من الوعي والإدراك الجيد لطبيعة المهمة والمسئولية المطلوبة، وما المواصفات والشروط المناسبة لها، ولعل كثيرًا من وحدات الجماعة تم تحديد الوصف الوظيفي لها والمتطلبات الأساسية لشاغلها؛ ما يسهم في الوصول إلى حسن اختيار القيادات.


الحوار الوثيق:

إن الحوار المبني على حرية تبادل الآراء، ومناقشتها في جو من الود والمحبة والصفاء وملتزمًا بالآداب الإسلامية الأصيلة هو الأساس؛ لتكوين رؤية واضحة لما يحمله الأفراد من آراء وأفكار، ما يساهم في تحقيق التواصل الفكري والعقلي، ما يسهم في اختيار الأخ المناسب في المكان المناسب وفقًا لقاعدة "كلُ ميسر لما خلق له".


الإخلاص الكامل والتجرد الدقيق:

بعد تحقق التعارف المتين والوعي العميق والحوار الوثيق بين الأفراد؛ يكون لزامًا علينا أن نتجرد لله في اختياراتنا دون الميل القلبي أو التعلق بالأشخاص أو التأثر بالأهواء، بل الحرص الشديد والتجرد الدقيق وطلب العون والتوفيق من الله لحسن الاختيار الذي سوف نُسأل عنه أمام الله عز وجل.


ثانيًا: آليات ممارسة الشورى

وأسلوب تطبيق الشورى يتدرج إلى ثلاث مراحل هي:

مرحلة تبادل المعلومات:

تعتبر هذه المرحلة أساسًا لممارسة الشورى؛ حيث يتحقق فيها توفر وتبادل المعلومات اللازمة لكل صاحب رأي، حتى يستطيع أن يشارك بفاعلية، ويطرح ما عنده من أفكار تسهم في اتخاذ القرار المناسب.


مرحلة صنع القرار:

وهذه المرحلة يقوم بها أصحاب الرأي والمشورة في الجهة المنوط بها اتخاذ القرار، وفيها يكون على كل من يتولى القيادة أن يتواضع فيكون بين مستشاريه كواحد منهم، ويشعروا هم بهذا حتى يقدم كل منهم ما عنده من رأي وفكر واجتهاد.


وفي هذه المرحلة تطرح التصورات، وتمحص البدائل، وتساق الحجج، بما يناسب الموقف، وبما يحقق المصلحة الشرعية، وفي هذا المجال تناقش الآراء وحيثياتها دون خشية صاحب الرأي ومقدم المشورة، وهذا يتطلب من القيادة سعة الصدر، ولين الجانب، وإشاعة الطمأنينة في قلوبهم ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وكما يتطلب أيضًا تشجيع أصحاب الآراء بما يشحذ الهمم والطاقات في طرح أفكارهم وآرائهم ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية159).


فالجو الذي يجب أن يسود؛ هو جو تأليف القلوب وتطييبها، كما يغلب عليه روح العفو والاستغفار الذي يستمر إلى ما بعد انتهاء مجلس التشاور، وهو عفو واستغفار عما يكون قد وقع فيه من لغو في القول أو الحديث دون قصد إساءة أو تجريح ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159).


مرحلة اتخاذ القرار:

وهذه المرحلة تقوم بها القيادة وأصحاب الرأي والمشورة في المستويات المختلفة، ويكون للقيادة أحد احتمالين:

- إما أن يكون رأي القيادة موافقًا لرأي أغلبية المشاركين، فيكون هذا هو القرار الذي يجب اتباعه.

- وإما أن تميل الأغلبية إلى رأي يخالف رأي القيادة، فيكون القرار على مقتضى رأي الأغلبية، ولا يجوز الاحتجاج بأن القادة يملكون رؤية أوسع، إذ كانت لديهم الفرصة لوضع كل الحقائق والمعلومات أمام من يشاورهم.


ولعل هذا هو الذي يوافق السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؛ لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرة قريش لقتاله، حتى بلغوا مسافة خمسة أميال من المدينة، بعث من تحسس الأخبار، كي لا يتخذ القرار إلا على معلومات مؤكدة، ثم استشار أهل الرأي فانقسموا إلى قسمين:

- البعض أشار بالتحصن بالمدينة وقتال العدو فيها، كعادة أهلها من قبل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا الرأي.

- البعض الآخر أشار بالخروج لملاقاة العدو ردعًا له، وإظهارًا لشوكة المسلمين، وقد تغلب هذا الرأي في النهاية.

فكان أن اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره على مقتضى ما أشارت به الأغلبية، رغم مخالفتها لما كان يراه.


مرحلة تنفيذ القرار:

- وهي المرحلة التي تلي اتخاذ القرار، وفيها تكون القيادة وأصحاب الرأي والمشورة قد استنفدوا جهودهم، وأخذوا بالأسباب، وأدوا كل ما هو مطلوب منهم، فيتوكلون على الله لأن النتائج والأقدار بيده سبحانه لا شريك له، وليس لنا إلا اتخاذ الأسباب، وقد تم ذلك في المرحلتين السابقتين، فلا يجوز العودة لفتح باب الشورى أو مناقشة أي جانب من جوانب الموضوع، إذ على الجميع أن يتوجهوا مباشرةً إلى وضع القرار موضع التنفيذ، مستعينين بالله، مطيعين لما يأمر به متخذ القرار ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، ولعل خير مثال على ذلك هو ما حدث بعد اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالخروج لملاقاة الكفار عند جبل أحد، وانصرف بعدها للاستعداد للمعركة دون أن يلتفت إلى قولهم (ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك، والأمر إلى الله ثم إليك)، وكان قوله صلى الله عليه وسلم "ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها؛ حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه"، ولقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن العزم، فقال مشاورة أهل الرأي، ثم اتباعهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".


ثالثًا: آليات التناصح والمراجعة

التواصل الفعال:

عندما نتحدث عن بعض الأخطاء التي قد تحدث أثناء الممارسات القيادية؛ فإننا ندرك بشرية هؤلاء القادة، ونعلم أنهم قد يصيبون أو يخطئون؛ ولذا فإنهم في أمس الحاجة إلى المراجعة والتناصح، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تحقيق التواصل الفعال مع هؤلاء القادة؛ حتى تكون قلوبهم مفتوحة ومهيأة لتلقي النصيحة اللازمة في جو من الحب والود والوفاق، وهذا يتطلب بذل الجهد والوقت لتحقيق التواصل الفكري والإنساني والاجتماعي بين القائمين على إدارة شئون الدعوة كلُ في موضعه.


التناصح السليم:

أننا في أمس الحاجة إلى تحقيق التناصح السليم المبني على آداب وأخلاق الإسلام، والحرص الشديد على كسب قلب المنصوح، وكان من توجيهات الإمام البنا- رحمه الله: )أنصح أخاك سرًّا، واصبر عليه شهرًا، ثم أبلغ مسئوله)، ولعلنا نشاهد الآن ما قد يحدث من البعض من إثارة الأقاويل، وتناول ذلك بأسلوب وصور غير مناسبة؛ ما قد يترك الأثر السلبي في نفس المنصوح دون بذل الجهد لتبيان الحقيقة من صاحبها أو تقديم النصيحة الرقيقة المناسبة له دون إعلان أو تشهير، ولذا فإن من أولوياتنا تنقية المناخ وإشاعة جو من النصيحة الصادقة الخالصة.


التعاون المتواصل:

ربما قد يكتفي البعض منا بتقديم النصيحة دون بذل الجهد لمعاونة المنصوح على التحلي بما ينصح به، ومن هنا وجب علينا أن نتقدم للدعم والمساعدة والمعاونة الجادة؛ حتى تثمر النصيحة، ويكون لها أثرها الفعال في الارتقاء بجوانب ومجالات العمل المختلفة.


التغافر الجميل:

إن التغافر ملازم للتناصح، فربما قد يصيب الناصح بعض الألم أو الأذى؛ ما قد يتعرض له أثناء قيامه بالنصيحة، ولذا لزمه التغافر القلبي قبل اللفظي؛ لأنه يعلم أن الله يعلم السر وما أخفى.


رابعًا: آليات المتابعة والمحاسبة

وضوح المهام والاختصاصات:

إن كل مستوى قيادي له مهام محددة وصلاحيات منوطة به؛ ولذا يجب علينا معرفتها قبل أن نقوم بالمتابعة والمحاسبة، وهي تعرف في العلوم الإدارية بأسس المساءلة.


التعهد والمتابعة الدائمة:

إن كل مستوى قيادي في أمس الحاجة للمتابعة وتقويم الأداء؛ ولذا حددت الجماعة لكل مستوى قيادي مستوى شورى يقوم بالمراجعة والتقويم المستمر، وأيضًا مستوى قيادي أعلى يرجع إليه لتصحيح الأمور والحزم إذا لزم الأمر.


المرجعية الحاكمة:

إننا عندما نقوم بدورنا وواجبنا في مراجعة ومتابعة أي مستوى قيادي؛ علينا أن ندرك ونستوعب نظم ولوائح الجماعة والمبادئ والقيم الحاكمة لها، حتى نستطيع أن نقوم بهذا الدور وفق أسس ومعايير لا يختلف أحد حولها.


المؤسسية الحاسمة:

بعد بذل الجهد والوقت في القيام بواجب المتابعة والتقويم، ثم تقديم التوجيه والتذكير الدائم، فإذا تمت الاستجابة والتصحيح يكون قد تحقق المراد، وقد يتطلب الأمر الحسم إذا لزم ذلك، وهذا يتطلب قيام المؤسسات الشورية والقيادية بدورها في إرساء المبادئ والقيم والنظم واللوائح في ضوء الواقع والحقائق الواضحة التي لا لبس فيها أو غموض، وبعيدًا عن الأهواء الشخصية أو العصبية المقيتة، بل يكون ذلك كله في جو من الحب والود والأخوة التي تربينا عليها.


أحسب أننا قادرون بإذن الله تعالى على التغلب على كثير من إشكاليات التطبيق والتنفيذ، إذا استطعنا تحقيق مثل هذه الآليات المقترحة، من أجل حسن اختيار القيادات وممارسة الشورى وفق أسس واضحة، والقيام بدورنا في التناصح والتذكير الدائم، وأيضًا القيام بدورنا في المتابعة والمراجعة الصحيحة، ووفق المرجعية الحاكمة والمؤسسية الملزمة الحاسمة.


وأسأل الله عزَّ وجلَّ التيسير والعون في إعداد مقالات تالية حول منزلة القيادة عند جماعة الإخوان والشروط والمواصفات والسلوكيات اللازمة لها.

وأسأل اللهَ القدير أن يلهمنا التوفيق والسداد..

المصدر : نافذة مصر