مع الشراع لا مع الرياح..
بقلم: عامر شماخ
هذا مثلٌ فى الإيجابية وقوة الشكيمة، والثبات على المبدأ؛ فإن الخبير الذى يقود قاربًا شراعيا لا توجهه الرياح أينما اتجهت، إنما هو الذى يضبط شراعه كى يستغل هو هذه الرياح لدفع قاربه إلى الوجهة التى يبغيها، سواء كانت هذه الوجهة مع الرياح أو عكسها..
أقول قولي هذا للذين أجهدتهم الأحداث فاستسلموا للواقع، فتركوا الشراع تتقاذفه الرياح يمنة ويسرة، فمنهم من غرق قاربه، ومنهم من جنح به إلى الوحل فسقط فيه فلم يستطع سيرًا ولا حراكًا.
إن صاحب العقيدة جبل أشمّ في مواجهة المحن، لا تهزه ريح، ولا تغيره تقلبات الأحداث، وهو أمام الفتن صابر صامد ثابت، واثق فيما عند ربه، مدرك أن الأيام دول، والكيّس من صبر وصابر واتقى وأحسن العمل، فإن الله لا يضيع أجر أولئك الذين يستهينون بالدنيا وما فيها، ويعظمون شأن الآخرة وما فيها.
ولو صبر الأخ ساعة، ولو احتمل وعانى قدر الطاقة، لاستراح وأراح، ولعاش موفور الكرامة حسن السيرة مستور السريرة؛ فإن تلك قاعدة من قواعد الدين، لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، أما إن تعجل الثمرة، وبحث عن الربح السريع، فقد طفّ كيله وطاش سعيه، وصار مذبذب الهوى، تخيفه كل صيحة، يحسب الناس مجتمعين عليه، يعيش فزعًا هلعًا لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على من حوله، إمعة يسيء إذا أساء الناس، ويحسن إن أحسنوا.
يأتينى أحدهم فيقول: لا بد من الرضى بالواقع والتسليم بما عليه الناس، أقول له: ثم ماذا بعد؟! يقول: ثم يكون ما يكون، أقول: ما هذا فكر داعية، إنما ذلك فكر عبد ألِف حياة العبودية والعيش فى كنف الأسياد، خادمًا ذليلا يرضى بأدنى العيش غير طامح للعيش بحرية وكرامة.
ولا يحسبن أحدٌ أن الأنبياء أنفسهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاصطفاء والذكر الرفيع لمجرد أنهم مختارون لهذه المهمة، بل لأنهم جاهدوا وصبروا، وأوذوا حتى أتاهم نصر الله، فما يئسوا، وما جبنوا، وما خانوا، إنما كانوا مشاعل هدى وقدوات عظيمة في التصدي لأهل الباطل، والاستهزاء من باطلهم وما هم عليه من ضلال ورثوه كابرًا عن كابر.. وكانت تلك الجراءة والبطولة وثبات الجنان حربًا نفسية على الظالمين أوقعتهم في الهزيمة وخلخلت ما تبقى لديهم من قوى مادية، هي في الحقيقة أدوات بطش لا تغني عن صاحبها شيئًا.
ولنا في هؤلاء الكرام المثل، فإنه لا القوة ولا العدد يغنيان شيئًا، إن لم يكن صاحب الحق مخلصًا لله لا تشوب العلاقة التي بينهما شائبة تفسد هذا الإخلاص، أو تجعل صاحب هذا الحق في عداد العصاة المعرضين، فإن الله ناصر المجاهدين المضحين المنفقين، ولو كانوا قلة، لا ينصرهم بعدد ولا عدة، إنما ينصرهم بدينهم الذي أكرمهم به، ولكم رأينا فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، كان الفرق بينهما أن الأولى تسلحت بالله وتوكلت عليه، والأخرى كانت ظالمة غاشمة اعتمدت على قوتها المادية وعلى أهل الباطل وفريق الضلال.
من يكون في قوة وجبروت فرعون وقومه الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وغيرهم ممن جابوا الصخر بالواد، ومن شقوا الجبل وأقاموا المصانع وشيّدوا القصور وحفروا الآبار.. وهؤلاء وأولئك أهلكوا -بإذن الله- على يد المؤمنين الضعفاء الذين لا يؤبه لهم في نظر هؤلاء المجرمين.. هي قدرة الله -إذًا- التي تسحق الظالمين المفترين، وتورث الأرض للضعفاء المنكسرين { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251].
إن القوى والأنظمة والدول التي تقوم على الباطل، مثل العسكر الانقلابيين، لا يمكن أن يمتد بهم عمر، ومن المحال أن يكون لهم عمران؛ لأن ما بنى على باطل فهو باطل { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109]، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين، والمؤمن الحق لا يغترّ أبدًا بما عليه هؤلاء من بطش ورعونة، فإن هذا مما ينخر في عظام ذلك الجسد الفاسد، وإن هي إلا أيام أو شهور أو سنوات قلائل -على أقصى تقدير- ويكون هؤلاء في عداد الهالكين الذين ابتلعتهم الأرض ودفنهم التاريخ، وتبقى ذكراهم العفنة تزكم الأنوف؛ لتكون شاهدًا عليهم وعلى من يأتي بعدهم ويفعل فعلهم.. والذكرى تنفع المؤمنين.
المصدر
- مقال:مع الشراع لا مع الرياح.. موقع: إخوان الدقهلية