مصر تحترق

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

بقلم / عبد الحليم قنديل


ليس هذا مجازا فى اللغة، بل حقيقة ناطقة بإشارات اللهب، فمصر الآن تحترق بالقطعة، وربما تنزلق إلى يوم الحريق بالجملة، وعند أول ناصية خطر، وأول إشارة مرور إلى الجحيم . صورة مصر ـ فى عين الكاميرا ـ تبدو لبلد يحترق، ولا يكاد يمر يوم واحد دون حريق كبير، وفى يوم واحد كانت القاهرة تحترق من الجنوب للشمال، حريق هائل في حلوان لسلسلة محلات تجارية كبرى، واحتراق فى الشمال ـ منطقة الشرابية بشبرا ـ لمئات المنازل، ولا أحد يصدق الأسباب المعلنة من السلطات، ومن عينة انفجار مصباح كهربائى، أو 'جركن بنزين' وعود ثقاب ألقى به عاطل على مغلق أخشاب، فلا أحد يصدق أن مصادفات صغيرة تنتهى إلى حرائق كبيرة، وبأحجام دمار مفزعة، وغموض وتضارب فى الأقوال، وحرائق تستمر لساعات طويلة، وأحيانا لأيام، وتشل مظاهر الحياة فى القاهرة تماما، ثم أن الحرائق موصولة، وبوتيرة متسارعة، وقبل شهور كان حريق مبنى مجلس الشورى الأثري التاريخي، ومن بعده احتراق المسرح القومي، ثم عشرات الحرائق الكبرى من بعد ومن قبل، وكأن هناك يدا خفية تنتقل باللهب، ولأسباب لا تبدو مقنعة، وحتى لو كانت أسبابا حقيقية وواردة الاحتمال، لكن لا أحد يصدق، وكيف يصدق أحد دولة تحترق بالعجز، وسوس الفساد ينخر فى عظامها البالية، وتدني الكفاءة وانحطاط الأداء يبدو ظاهرا فى قلب الصورة، وزوال الجهاز المدني والبيروقراطي يبدو جليا، فقد ظهرت أجهزة الإطفاء المدني عاجزة عن إطفاء حريق فى شقة لمدة 24 ساعة، رغم أن الحريق نشب فى عقار ـ بشارع رمسيس ـ على بعد أمتار من مقر القيادة العامة لشرطة المطافئ، وصار استدعاء الجيش لإطفاء الحرائق من أحكام العادة المستجدة فى مصر، وكأننا بصدد حرائق تشتعل لأسباب حربية، وظهر الأداء العسكري غاية فى التواضع، وظل الناس يتندرون، ويطلقون النكات أيام حريق الشورى، وهم يرون طائرات ـ التدريب العالي (!) ـ تحوم كطفل تائه، وتلقي بمخزون المياه إلى الشرق، بينما الحريق فى الغرب، ثم كان استدعاء الجيش فى حريق الشرابية بلا بديل، فقد بدا الحريق المهول كأنه يد النار فى طريقها لالتهام مدينة، وبدت قصة العاطل وعود ثقابه كأنها الإشارة الرمزية لحرائق تأتي، وأيقظت فى الذاكرة وقائع حريق القاهرة الشهير قبل شهور من ثورة 1952، ودون ان يعرف أحد أسبابه إلى الآن، وتحول إلى موضوع بحث تاريخي مسكون بالألغاز والروايات المتضاربة .


كانت العادة فى مصرـ زمان ـ أن تشتعل حرائق صغيرة فى موسم الجرد المالي، وكانت تنتهي إلى دمار غرفة الأرشيف، أو احتراق أوراق وكشوف حسابات بالملاليم، وكان المتهم الجاهز ـ بيروقراطيا ـ هو الماس الكهربي إياه، بينما تبدو حرائق اليوم مسا من الجن، وفى الصور المنشورة بالصحف أو على شاشات الفضائيات، تبدو الحرائق العملاقة مشابهة لاحتراق برج التجارة العالمي في نيويورك، بينما تبدو الدولة المصرية كفأر صغير، ويبدو التسليم بأقدار الحرائق كأنه الخيار الاستراتيجي، فقد تضاءلت ـ إلى جوار ما يجرى الآن ـ حرائق موسم الجرد المالي، وصرنا ـ على مايبدو ـ بصدد حرائق موسم الجرد السياسى، ففى الحساب الأخير تحللت الدولة، واحترق ظلها، وبدت كأنها ناطور الحقل القماشي أو خيال المآته، أنهكها النهب العام، وضعف الموارد، وما تبقى من موارد تكفل كبار الموظفين بإضافته إلى حسابهم الشخصي، وتحولت أجهزة السلامة العامة إلى أجهزة دمار عام، وإلى خرابة حطام ينعق فيها البوم، وبدت 'الخصخصة المجازية' سارية بالتآكل فى جهاز الدولة، ولم تعد المسؤولية العامة تنتمي إلى معنى الخدمة العامة، بل صار كل مسؤول يلي وظيفة كأنه فى بعثة نهب عام، وبدا كأننا إزاء كيان يرتدي ثوب السلطة فى حفلة تنكرية، عائلة تحكم وتتفرغ لملاهيها وملياراتها، ومماليك من المليارديرات من حول بيت السلطان، وجهاز أمن متضخم ـ 1.7 مليون منتسب شرطي ـ لا وظيفة له غير ملاحقة المعارضين وتعذيب المواطنين، وتشريعات تصدر كجواز مرور لصفقات الكبار، وحشود من الزحام تخنق العاصمة، ومبان من تراب حائل تتراص كأنها فى طابور الجنازة، أو كأنها شواهد قبور، وأكوام من البطالة والفقر والعنوسة والمرض وخراب الذوق العام، وكأننا بصدد بلد قرر الانتحار، وانتهى إلى كومة قش تنتظر أعواد الثقاب .


وبين الهروب والانتظار ينقسم المصريون الآن، الهاربون نوعان، هاربون بالمليارات، وهاربون من جحيم التعاسة، الأخيرون تراهم زحاما فى سوق الجثث، جثث منتفخة من الغرق في البحر، أوسيالة بالدم على الأرصفة، أو صرعى أمراض تفتك كالسرطانات والفشل الكلوي والالتهاب الكبدي الوبائي، وقليلا ما يموت أحدهم بكرامة على سرير مستشفى، فهم يموتون دون فرصة حتى لبلوغ حافة سرير، والظاهرة بعشرات الملايين من الناس، ويكفى أن تعرف أن الالتهاب الكبدي القاتل ـ وحده ـ يفتك بخمسة عشر مليون مصري في أقل التقديرات تشاؤما، أضف ـ إلى احتراق الأجساد والأكباد ـ دواعي إهدار الآدمية، وتفشي الفقر والبطالة وانهيار نظام القيم، وسريان حالة من التربص وانفلات الأمن الاجتماعي، وانتشار العنف والتضاعف المرعب فى معدلات الاغتصاب والسرقة والقتل، فأربعة أخماس المصريين تحت خط الفقر الدولي المقدر بدولارين في اليوم، ونحن بصدد أفقر شعب فى المنطقة، وبصدد تجريف أصول خلق أغنى طبقة في المنطقة، فطبقة أمراء مصر الجدد أغنى من طبقة أمراء الخليج، وهؤلاء لهم مهارب أخرى، يهربون بالمليارات إلى حسابات سرية ببنوك أوروبا وغيرها، ويهربون بالأجساد المتخمة إلى أماكن إقامة موقوته خارج المدن والكتل السكنية الكبرى، وفى منتجعات و 'كومباوندات ' خاصة ومغلقة جدا، وعلى بعد عشرات الأميال من قلب الصورة، وكأنهم يبتعدون بأنفسهم وأهليهم عن مدار اشتعال الحرائق النارية والاجتماعية، بينما يهرب الرجل الكبير ـ السيد الرئيس ـ إلى شرم الشيخ، والتي يقيم فيها أغلب الوقت، وفى المنطقة منزوعة السلاح المصري شرق سيناء، ويفضل التماس الحماية تحت حد الحراب الإسرائيلية، فقد ترك البلد يحترق بناره ومرضه وفقره، وراح يسبح بخيالاته فى مياه شرم الشيخ الزرقاء، ويبدو كأنه الجنرال المثقل بعمره الثمانينى، والهارب من الحريق إلى المتاهة .


هل من أفق مصري لاينتهي إلى حريق شامل؟، لايبدو أن الجرة سوف تسلم هذه المرة، فالنظام يبدو مفزوعا إلى الحد الأقصى، ويشعر ـ بالغرائز ـ أن النهاية اقتربت، ولايبدو مطمئنا إلى فرصة نجاة، تأمل ـ مثلا ـ سيرة امتناع مبارك عن الذهاب إلى قمة الدوحة الأخيرة، قد لاتكون للقمة قيمة، ولا لغياب مبارك أو حضوره قيمة مضافة، لكن السبب الجوهري للغياب بدا لافتا بشدة، ودليلا مضافا على فزع الروح، فقد أراد ' رئيس مصر الكبرى!' أن يحصل على ضمانة إعلام من أمير قطر الصغرى، وأن يساعده الأخير على بقاء نظامه، وأن يوقف نقد شخصه ونظامه فى قناة 'الجزيرة'، وهي القناة التي استهان بها مبارك في سنوات خلت، ووصفها لصفية صفوت الشريف بأنها في حجم ' علبه كبريت'، بينما يبدو مفزوعا من كلمة تذيعها الآن، وكأن منع الأستاذ هيكل أو عبد الباري عطوان أو عبد الحليم قنديل من الحديث عن مبارك ـ في علبة الكبريت ـ ربما يطيل عمر نظامه، إلى هذا الحد بلغ رعب نظام مبارك، وإحساسه الغريزي بأننا على شفا الحريق، وفى بيئة اقتصاد يفلس، وإضرابات اجتماعية تتدافع، ودولة متهالكة، ونذر انفجار تدق الأبواب .


المصدر : نافذة مصر