مصر بين مطلب تحنيط الاحياء وكارثة وراثة الحكم
مصر بين مطلب تحنيط الاحياء وكارثة وراثة الحكم .... بقلم / محمد عبد الحكم دياب
عاد حديث الثوريث يفرض نفسه بقوة في الأشهر الأخيرة، بسبب ما يتردد عن الوضع الصحي لحسني مبارك وعن حالة الاستعجال المسيطرة على عائلته بعد وفاة حفيده منذ أسابيع، والأنباء تترى عن نشاط محموم لحسم قضية الخلافة بأسرع ما يمكن.
وتعددت مصادر الأخبار وتنوع الرواة الذين أكدوا حل مجلس الشعب وانتظار تعديلات دستورية ضرورية تحتاجها هذه المهمة، وتهدف إلى إعادة توزيع الحصص البرلمانية على جماعات غير الإخوان المسلمين والمستقلين أعضاء المجلس الحالي. تحت وهم أن إبعاد هؤلاء الأعضاء يجعل التوريث عملا ممكنا ومقبولا!.
بدأت التعديلات باستحداث حصة للنساء مقدرة بأربعة وستين مقعدا برلمانيا. وكلما زاد الحديث عن التوريث تتاقضت تفاصيله وتضاربت الأقوال حوله. ويبدو أن ذلك متعمد استغلالا للارتباك القائم لصالح سيناريو التوريث. وهذا من غير المستغرب. فمصر منذ أن وصل حسني مبارك إلى مقعد الرئاسة وهي تدار وتحكم بأساليب الجماعات السرية، التي عليها الولاء لشخص رئيسها دون مناقشة. وطوال فترة قوته، حتى خمس سنوات مضت، لم يكن في مقدور أحد أو استطاعته معرفة ما ينويه أو يدور برأسه. هذا الداء مكن مبارك الابن من الاستيلاء على مقدرات البلاد والقبض على اعناق العباد. والغموض لم يمنع من الارتباك المنتشر في أروقة الحكم والحزب الحاكم وأجهزة الأمن. وهو ما أدى إلى اعتماد المراوغة تحسبا للحظة تغيير قادمة ينتظرها الجميع، وينكرها الأمن، ويتحداها جمال مبارك، ويقلق منها الحرس القديم. وكان استمرار هؤلاء تحديدا مرتبطا باستمرار النفوذ والمغانم، والتحصين ضد الإزاحة، وحين فقدوا الإحساس بالأمان مع صعود نجم الابن وتيقنوا من انتقال النفوذ والمغانم والحصانة إلى جماعته، بما مُلّكت من أصول وأموال ليست لها اتسعت الفجوة، وتقهقر الحرس القديم وقبع بعيدا.
وأدى فقدان النظام السياسي لمقومات الاستمرار والتماسك إلى اختزال الحكم والقرار والحسم في دائرة ضيقة للغاية. وغابت سلطات الدولة وحلت محلها سلطة الفئة الصغيرة، وتحولت الوزارات وأجهزة الإدارة إلى مكاتب معاونة لأفرادها. هذا ألقى بمصر كاملة، حكاما ومحكومين، إلى المجهول. ومطلب التغيير لا يشغل بال أهل الحكم. وما يشغلهم هو تحنيط الأحياء لأطول فترة حتى يتمكنوا من إنجاز مهمة التوريث، ويتغلبوا على الرياح المعاكسة له. وصارت المراوغة اسلوبا معتمدا في التعامل مع هذه الموضوع. وإذا كان فراعنة مصر القديمة قد شغلتهم قضية الخلود فآمنوا بالبعث والعودة إلى الحياة مرة أخرى، وهذا بدوره حفزهم على اكتشاف التحنيط أملا في مساعدتهم للعودة للحياة من جديد.. على نفس الهيئة والشكل السابق لحياتهم الأولى.. تقدمت مهنة التحنيط. وأقيمت بسببها المقابر بحجم الأهرامات لحفظ الأجسام المحنطة (المومياء). وما زالت باقية تتحدى القرون والأزمان.
يبدو أن فراعنة الحاضر يحتاجون إلى تحنيط من نوع آخر.. هو ما يمكن أن نطلق عليه تحنيط الأحياء وليس الأموات. ويبدو الإصرار على التوريث حافزا لتحنيط الأحياء. وحال إتمام نقل المسؤولية من الأب إلى الإبن ينتفي مبرره، وهذا يذكرني بحالة ليونيد بريجنيف، الزعيم السوفييتي الراحل، في نهايات سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. وقتها حرصت أجهزة الدولة والحزب الشيوعي الحاكم على الإبقاء عليه في الحكم محنطا بالرغم من تدهور وضعه الصحي، واستسلامه للفراش آناء الليل وأطراف النهار. أحيط بعدد من الخبراء والعلماء والأطباء يوفرون له المناخ والمقويات والمنشطات. وكانت تمكنه من الإفاقة لمقابلة ضيوف الدولة والظهور أمام أجهزة الإعلام والصحافة. وكان الشغل الشاغل للكرملين هو أن يمتد الأجل حتى تترتب الأوضاع داخله. وكانت سنوات الموت البريجنيفي بداية النهاية للإمبراطورية السوفييتية. وحين حانت اللحظة حاولت قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي إنقاذ الموقف.
ونصبت فلاديميروفيتش أندروبوف (1984/ 1985)، رجل الكي جي بي القوي. المعروف بالاستقامة والنزاهة.
إلا أن أوان الإنقاذ كان قد تأخر ولم يجد الزعيم الجديد فرصة الوقت التي تمكنه من ذلك، بسبب موته المفاجئ والغامض، الذي ما زال يثير الشكوك حتى هذه اللحظة، وحل محله قسطنطين تشيرنينكو (1985/ 1988)، المريض والمتعب. وبإزاحة الموت للإثنين جاء وزير الخارجية السوفييتي المخضرم والكهل أندريه غروميكو (1988/ 1991)، وبعد رحيل الثلاثة قفز ميخائيل غورباتشوف متقدما الصفوف إلى سدة الحكم حاملا معه البريسترويكا، أو ما عرف بالمكاشفة، واستفز بتصرفاته المؤسسة العسكرية السوفييتية فانقلبت عليه، إلا أن انقلابها فشل وكُتبت بذلك شهادة وفاة الاتحاد السوفييتي.
وقد لا يختلف الأمر بين حالة بريجنيف وحسني مبارك. وقد يستمر على هيئته بفعل المنشطات والمقويات وعمليات التحنيط الجارية والتجميل والأصباغ. ولا ننسى أن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة مر بحالة شبيهة بحالة بريجنيف إلى أن أزيح عن الحكم استنادا إلى الحالة الصحية والتقارير الطبية التي استخدمها المنقلبون عليه. ومع كل ما حدث في الحالتين السوفييتية والتونسية فليس شرطا أن ينتهي الوضع في مصر نفس النهاية. فالعصر مختلف والآليات مغايرة. فالزمن كان زمن الحشد والتعبئة، وكان الحزب الواحد آلية معتمدة ومقبولة في العديد من البلدان، وكانت المركزية تحكم ولها آليات تمكنها من ضبط الموازين الداخلية على هواها. ومع ذلك حدث ما حدث. وإن كان الاتحاد االسوفييتي قد تفكك فإن تونس غيرت من نظامها السياسي، وبقيت كيانا موحدا، وفي الحقيقة من الصعب المقارنة بين دولة اتحادية عظمى كالاتحاد السوفييتي السابق ودولة موحدة صغرى كتونس.
كل المؤشرات تقول بأن السيناريو المعلن الوحيد المعتمد لمستقبل الحكم في مصر هو التوريث، ومع ذلك فإن المفاجآت قد تكشف عن غير ذلك. فالإرهاصات التحتية البعيدة عن قرون الاستشعار الإعلامية والجماهيرية والأمنية قد تعود بنتائج معاكسة، خاصة أن سيناريو التوريث ليس له جمهور وبغير قاعدة.. فمن ناحية الجمهور فإن الوريث هو الأقل شعبية وحضورا بين جيله وأقرانه. والأكثر كراهية وبَهَتانا، فضلا عن توجهاته المعادية للمصلحة الوطنية والرافضة للتطلعات العامة، فعاش معزولا بعيدا عن نبض الشارع، وأضحى التوجس أساس العلاقة بينه وبين الناس.
أما قاعدته فهي أدنى من أن تكون ذات وزن يحسب له حساب، بالديمقراطية أو غيرها، فلا هو ابن طبيعي للحياة المصرية والعربية، ولا انتمى لحركة جماهيرية.. طلابية أو شبابية مثلا. لم يخرج في مظاهرة، ولم يقبض عليه مرة. ولا أدى سنوات الجندية مثله مثل غيره من الشباب. ولا التحق بجامعة وطنية أو كلية عسكرية تشده إلى الناس وتجذب الناس إليه. لقد ظلمته تربيته والبيت الذي نشأ فيه. عاش غريبا عن شعب ليس شعبه، وقد يموت وحيدا في وطن ليس وطنه!. وحتى لو مددنا البصر بعيدا إلى كوريا الشمالية للتعرف على ما جرى من توريث فيها. فالوريث هناك له نصيب من التقشف الذي تربى عليه، ونشأ عليه شعبه. لم تدلعه عائلته بينما شعبه يعاني. فجماهيره وقاعدته موجودتان. ولذا أصبح الأمر ممكنا. وخاصة أن هناك حزبا عماليا بأيديولوجيته البروليتارية المبنية على تقدير العمل وتعظيم الانتاج. وفرت للحزب قبضة مادية ومعنوية صارمة. إن لم تستقطب الناس بالمصلحة فهي تشدهم بالتعبئة. والأحزاب العمالية قاعدتها أوسع من حجم أي عائلة، فما بالنا بعائلة متناهية الصغر. وليس لها مصالح مع أحد. وتأثيرها كان وما زال وبالا على الجميع.
إذن التوريث المصري دون جمهور وبلا قاعدة. علاقتها مع المصريين، أضاعت الاستقلال وقضت على التصنيع وجرمت التنمية.. ونشرت الفقر والجهل والمرض وأجهضت الدور الإقليمي والدولي لمصر، وتعاملت بالنهج البوليسي. لم تترك بيتا دون ضحية، إما قتيلا أو معطوبا أو معتلا أو معتقلا أو هاربا. وهذا حال الرجل والمرأة والطفل والشيخ والصحيح والعاجز. وتحولت مصر إلى دولة للرعب والترويع والخوف. فشلت قدرة الأفراد على التفكير، وتعطلت إمكانية المجتمع على الفعل، وكشف الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق في مقال له بعنوان 'مغالطات عبد المنعم سعيد' نشرته صحيفة 'العربي' القاهرية في السابع من حزيران (يونيو) الماضي. كشف عن تضخم ميزانية الشرطة والأمن، وزيادتها غير المبررة في ظل أزمة اقتصادية خانقة. محليا وعالميا إلى أكثر من عشرين في المئة، مقارنة بميزانية العام الماضي. وكشف أن الزيادة المقررة جاءت لزوم تكلفة قوات أمن وشرطة تجاوز عددها المليون واربعمئة ألف، ما بين جندي أمن مركزي ومندوب وأمين وضابط شرطة. والعدد الذي ذكره الباحث يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف عدد القوات المسلحة، وبهذا تملك مصر الحجم الأكبر لقوات شرطة وأمن في العالم بالنسبة لعدد السكان. وهذا يسهم في فهم حالة المصريين. وما يمكن أن يترتب من نتائج على تحنيط الأحياء.
وهو شيء انتهى إلى عقم المنظمات والأحزاب والاتحادات والنقابات العمالية والمهنية والهيئات السياسية والاجتماعية والأهلية
وفي النهاية فإن وقوع التوريث معلق على موافقة الأب وقراره، بما لديه من سلطات لا محدودة. وماذا يمكن أن يحدث لو انتهى الأجل قبل التسليم والتسلم. وفي الحالتين، طول العمر أو قصره فإن مصر لن تستقر على حال لمدى زمني ليس قصيرا، وهذا يثير قلق كثيرين. آخرهم طارق البشري الفقيه القانوني والدستوري، أول من أفتى بشرعية ودستورية العصيان المدني حلا لمأزق مصر. وأصدر مؤخرا كتابا عنوانه 'مصر بين العصيان والتفكيك'.. فاللهم لطفك.
المصدر : نافذة مصر