مصادر القوة والتميّز عند الداعية

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
مصادر القوة والتميّز عند الداعية


بقلم : رامي ملحم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام الأتمّان على خير خلق الله محمد وعلى آله الطيبين وصحابته الأطهار وعلى السائرين على دربه إلى يوم الدين، وبعد.

إنّ الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة الإسلامية اليوم، والعقبات الكبيرة والتحديات الثقيلة أمام طليعة الدعاة إلى الله تعالى، كل هذا بالمقارنة مع قلة الإمكانيات وعظم الدور المطلوب من الدعاة، يدفعنا إلى الالتفات للدور الفردي المناط بالداعية، وللجهد الشخصي المطلوب منه، بل يوجّهنا إلى أبعد من مجرد جهد ودور محدود إلى تأكيد أداءٍ فعّال وقوي ومميّز، وليس خافياً – على ناظر- أن الحركة العامّة لمجتمع الدعاة ما هي إلا نتاج ضم أدوار الأفراد بعضها لبعض، وكلما كان الأداء الفردي فعالاَ والحركة الشخصية قوية مؤثرة محترفة كانت حركة الدعوة الإسلامية أقوى وأوضح.

والبحث عن أسباب ومصادر ومنشآت القوة والأداء الفعّال هو بحث بدافع غريزي عند الإنسان؛ لأنه يرتبط بكينونته وطبيعة فطرة الله تعالى التي فطر عليها خلقه؛ من دوام الرغبة في التطلع لما هو أفضل وأرقى. فكان بحث هذا الموضوع عند الدعاة إلى الله تعالى أولى وأوجب؛ وهم الذين نذروا حياتهم وأوقاتهم وما يملكون في سبيل طاعة الله عزّ وجل وخدمة دينه؛ حتى يتبلغون مسعاهم، ويتجاوزون العقبات والتحديات التي أمامهم.

والإسلام وهو دين الفطرة والتميز أمر ورغّب بالسعي ليكون المؤمنون أفراداً وجماعات أقوياء، وجعل للقوة مكاناً سامياً رفيعاً، حين قرر التفاضل في الخيرية بين المؤمنين على أساس من القوة، فهماً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان))[1] ، والله عزّ وجلّ حثّنا في غير موضع على أهمية القوة والإعداد لها، فقال عزّ وجلّ: (( واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))[2]، ولعل أهمية القوة هي السر اللطيف في إشادة المولى- عز وجل- وأمره تعالى بها، فقد وعدها عادًا قوم هود قائلاً على لسان نبيه هود - عليه السلام - : ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ))[3]. ومن التوجيهات الربانية التي تحرك الإنسان نحو الطموح والسعي لبناء ذاتي قوي ما ورد في دعاء عباد الرحمن في قوله تعالى: (( واجعلنا للمتقين إماماً))[4]؛ فدعاؤهم ومرادهم من الله تعالى أن يكونوا سادة المتقين.

وكما ورد في السنة المطهّرة عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أنه كثيرًا ما كان يستعيذ بالله عز وجل من كل أسباب ومظاهر الضعف والوهن والعجز، كما روي عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه – في الحديث الصحيح- قال : (( فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل ، فكنت معه يكثر أن يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضلع الدّين وغلبة الرجال ... ))[5]. ولا مجال لمن تطلعت نفسه لتحقيق مرادات العلو على صعيد ذاته أو خدمة دينه ومجتمعه إلا أن يجهد في دعم نفسه بصنوف الطاقات والقوى.

وبإيجاز يمكن أن نعرف القوة المقصودة في حديثنا بأنها المؤثر الذي يغير حالة الإنسان من السكون إلى الحركة، أو يزيد من حركتها ونشاطها، وهي مبعث النشاط والنمو والحركة، وهي عكس الضعف. كما يمكن أن تطلق على مجموع طاقات الإنسان الوجدانية والحركية والعقلية.

والقوى الوجدانية والعقلية تعد قوى باعثة للإنسان على فعل الأشياء؛ إذ أن الوجدان والعقل لا ينتجان عملاً ملموساً بذاتهما بطريقة مباشرة، أما القوى الحركية فهي قوى حيوية عاملة تعمل بذاتها وتعتمد في انشاء نشاطاتها على القوى الباعثة. ويمكن أن يتسع معنى القوة في الإسلام ليشملَ كلَّ ما يؤدي بالفرد والمجتمع والأمة إلى التفوُّق والتقدم.

ولمزيدٍ من التوضيح والتفريق بين أنواع القوى السابقة الذكر، سأمثّل على أنواع القوى المختلفة:

1- القوى الوجدانية أو القلبية: ومن أمثلتها: قوة الإرادة، الهمة العالية، العزيمة الصادقة، والتطلع إلى المثل العليا، عمق الحب، متانة الأواصر والعلاقات، رسوخ القيم، صحوة الضمير، عمق الاعتقاد، التأثر السريع والواضح بالحسن والقبح، وشدة الحساسية للأشياء، ورقة الحس وغيرها.

2- القوى الحركية أو الحيوية: كقوة النشاط، وخفة الحركة، النمو، العطاء الموصول، والعمل المتجدد، القابلية للبذل، التحمل البدني، إمكانية الكسب، حسن التنفيذ والانجاز، انضباط الحاجة للراحة والنوم، وغيرها.

3- القوى العقلية: كالذكاء الوقاد، التحليل العميق، الاستنباط الدقيق، التقدير الموفق، الاستقراء، القدرة على الحكم على الأشياء حكماً صائباً، القدرة على إجراء الموازنات، صوابية اتخاذ القرارات، المنهجية في حل المشكلات، وغيرها.

وبظني أنه لا يستطاع بحال أن تنفصل مجموعات القوى الثلاث عن بعضها في أمرين، وهما تأثيرها على النفس البشرية، وفي مصادرها؛ إذ أن الله عز وجل قد خلق الإنسان بصورته المركبة المتداخلة من نفس وروح وعقل وجسد وقلب، لذا سيكون الحديث عن مصادر القوة والأداء الفعّال بصفة عامّة.

وأقدّر أن أكثر ما يسهم في إنشاء القوة ويحفّز على الأداء الفعاّل والتميّز عند الداعية ما يلي:

1- الإيمان العميق بالله عز وجلّ: فمن وقر في قلبه أن له ربّاً عظيماً قديراً خالقاً رازقاً جباراً عزيزاً متصفاً بصفات الجلال والكمال، وأن الملك والحياة والموت والرزق والصحة والخير كلها بيده عز وجل يصرفها كيفما يشاء، فسيمده هذا الإيمان بروح القوة، وسيجعله دوماً مستشعراً لمعاني الارتباط والتعبد. متحفزّاً دوماً للبحث عن رضا ربه وخالقه، وكلما تعمق الإيمان بالله عزّ وجلّ، اتضحت معاني الاعتقاد العملي في سلوك الداعية؛ كالبذل والتضحية وحب الإقدام والشجاعة وانعدام الخوف على الرزق والأجل والتوكل وإخلاص العبادة لله تعالى وغيرها، وصدق الله تعالى القائل: (( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها))[6]، وما أوضحه من تقرير ربنا تعالى في قوله عز وجل: (( ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم))[7]. والتوكل ثمرة من ثمرات الإيمان.

2- الإيمان بالقضاء والقدر: وهذا الإيمان متفرع عن الإيمان بالله تعالى، وسيندفع إلى البذل والعمل كل من أيقن أن رزقه وعمره وصحته وسعادته بيد الله تعالى وحده، يصرفها كيف يشاء، فسيستمد قوته من القدر الذي يؤمن به، فهو يعلم أن ما أصابه من مصيبة فبإذن الله، وأن الإنس والجن لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، كما ورد في الحديث المشتهر عن ابن عباس – رضي الله عنهما-. وصدق الله تعالى: (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون))[8]. وهذه العقيدة الراسخة هي التي أعانت جيل الصحابة الفريد في دعوتهم وجهادهم. ومكنتهم من تحقيق انتشار الدعوة والوصول إلى الدولة الإسلاميّة، وما أجمل ما أثر عن سيدنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه-، وهو يقرر هذا المعنى في قوله في معاركه:

أي يومي من الموت أفر

يوم لا يقدر أو يوم قدر

يوم لا يقدر لا أحذره

ومن المقدور لا ينجو الحذر

3- وجود الداعية ضمن جماعة واستشعاره لرابطة الأخوة الوثيقة: وأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية هذا المصدر بقوله: (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً وشبّك بين أصابعه))[9]. وإدراكاً لدور هذا المصدر قال سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-: (( ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخٍ صالح))؛ ففي الجماعة تسديد للخطى، وتعاون على البر والتقوى، وتعليم وتدريب، ويستفيد اللاحق من تجربة السابق، والأخ الصادق يعين أخاه على الحق والعدل وينصره، ويبذل نصيحته وماله ونفسه دون أخيه. وقد قرر العلماء الكرام من الواجبات والحقوق المتعلقة بالأخوة ما تعظم به القوة. ولذا حث الإسلام على مصاحبة الصالحين والأخيار من الناس؛ إذ أنهم يذكرون المرء إذا نسي، ويعينوه إذا ذكر، كما ورد في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من يرد الله به خيرًا يهده خليلاً صالحًا إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه[10])).

4- أصالة التربية وعمق التكوين المتوازن للإنسان: وهدف التربية في الإسلام هو تحقيق التغيير في الإنسان نحو الأحسن ضمن المبادئ والقيم الإسلامية، والمآلات دوماً مرهونة في البدايات، فمن تربى على معاني القوة ومضامينها سيجد أثر ذلك في تكوينه. والسلف الصالح رضي الله عنهم اعتنوا بتربية نشأهم على القوة وعناصرها منذ البدايات، ومن مظاهر هذه التربية دأبهم تعليم أبنائهم الغزوات والسرايا كما يعلمونهم السورة من كتاب الله تعالى؛ إذ أثر عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (( كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن)). كما نهجوا على تدريب أبنائهم وتعليمهم الرماية والسباحة وركوب الخيل؛ وجاء في ذلك أثر مشتهر محفوظ عن سيدنا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، كما جاء عن غير عمر لكن في إسنادهم ضعف.

وكان الصحابة الكرام يحرصون على شهود أبنائهم مجالس الأكابر وأهل الرأي؛ حتى يتعلموا طرق التفكير وتداول الآراء وتعظم اهتماماتهم بمعالي الأمور. وحتى العرب قبل الإسلام كانوا يهتمون بهذه الوسيلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرافق جده عبد المطلب في مجالسه مع قريش.

كما رغّب الإسلام باصطحاب الأطفال المميزين إلى المساجد والجمع، وتشجيعهم وتحفيزهم وتعزيزهم؛ حتى أنه يروى كانت توضع ثمار النخل للأطفال ترغيباً لهم على حضور الجمع والجماعات، وفي هذا أيضاً معلم مهم من معالم التربية وحسن التنشئة، خصوصاً أن رسالة المسجد في الإسلام لم تكن تقتصر على أداء الفرائض والعبادات، بل تتعدى ذلك إلى جوانب سياسية واجتماعية كثيرة، فهذا مما يهيأ المسلم منذ صباه على معالي الأمور والاهتمام بالشأن العام والاحتكاك مع قضايا مجتمعه والقرب من أهل الرأي والخبرة.

ومع أن مجمل دراسات العلوم التربوية الحديثة تشير إلى أن وسائل التربية والتوجيه حاسمة في التأثير على الإنسان في طفولته إلى سن التمييز، ويضعف أثرها كلما كبر سن الإنسان، إلا أن هذا لا يلغي أهمّية دوام تصحيح العثرات والعزم على تحسين عناصر القوة والاستعدادات في ذواتنا. بل إن بعض علماء النفس والإنسان يروا أن من المستطاع بلوغ الإنسان ما يرومه من كمالات، وأن الشخصية الإنسانية ما هي إلا نتاج خبرة الإنسان ذاته، كما يقرر فريدريك نتشه وهو الملقب بفيلسوف الحقيقة المطلقة حينما يكتب في غير موضع عن الكمال الإنساني.

5- الاهتمام بالبيئة المحيطة، بكل ما تحويه البيئة من مفردات وظروف؛ كالصحبة الصالحة والعلاقات الاجتماعية وأجواء العمل الدعوي؛ فالإنسان ابن بيئته وأثرها في شخصيته واضح عميق، وأعجبتني قاعدة 10/90 والتي تحدث عنها المدرب الشهير في علوم القيادة والإدارة ستيفن كوفي، وهي توضح بجلاء أهمية البيئة والوسط إيجاباً أو سلباً على تصرفات الإنسان واستعداداته، وتفيد القاعدة أن 10% فقط من تصرفات الإنسان ذاتية الإنشاء و90% منها تصرفات ناشئة كردات فعل من سلوك الآخرين. وبلا ريب أن البيئة المحيطة من أكثر ما يصدر عنها ردات الأفعال، ويتحدث مطولاً عن حقائق وأمثلة تستحق التوقف عندها، ويمكن للمهتم أن يعود إلى كتابيه الشهرين المترجمين العادات السبع للقادة الأكثر فاعلية وإدارة الأولويات أو العادة الثامنة.

على أيٍ، يلزم الاهتمام بهذا المصدر، وإن كان ليس دوماً بالمقدور التحكم به؛ إذ أن البيئة تُفرض على الداعية في أحيانٍ كثيرة، إلا أنه يمكن تحسين ظروف البيئة وتطويرها وتقليل سلبياتها.

6- عمق القناعة بالدور المطلوب لخدمة الحق ورسالة الإسلام، فالارتباط وثيق بين القناعة بالدور المطلوب ومدى الحماسة للإنجاز والاستعداد للبذل وبالتضحية، وبالتالي قوة الداعية في وجدانه وحركته وعقله. فٍالسويّ من أكثر ما يؤثر عليه ويدفعه إلى العطاء والبذل والتضحية بلا حدود أن يمتلئ عقله بالحقائق والقناعات، والتاريخ يشهد من خلال أمثلة كثيرة ساطعة على ثبات أصحاب الأفكار والدعوات – بصرف النظر عن مرجعياتها- على ما يلاقونه بسبب ما يعتقدون ويدعون له.

7- دوام العمل والبعد عن الفراغ، والعمل جزء هام من روح الإسلام، بل إنّ الفرائض والواجبات وعموم التكليفات الشرعية ما هي إلا عمل يؤديه العبد التزاماً بأمر ربه عزّ وجلّ، والعبادات في مجملها قامت على أساس من الدوام ليبقى العبد على صلة بخالقه تعالى، ودوام العمل يكسب الداعية الخبرة وينمي شخصيته ويرسخ انتماءه لدعوته؛ وهذا جميعه يدفع الداعية للأداء الفعال والجهد المنجز. وصدق الله تعالى القائل: ((إن هذا لهو الفوز العظيم ، لمثل هذا فليعمل العاملون))[11]

والفراغ بمعناه المقصود خلو الوقت من العمل؛ هو من أفسد المفسدات على الإنسان؛ إذ هو هدر الحياة وإضاعة للوقت بلا عمل نافع، وهو يبلد الحس ويطفئ العزائم ويشجع الدعة ويحفز على الكسل، وقد لفت الإسلام إلى خطورة التعامل مع الفراغ والوقت في الحديث الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ)[12]. وفاعلية الأداء العام تنتج عن التفاعل السليم لجميع مدخلات العمل وهي الجهود المتظافرة، فأي قصور في جهة من الجهات يؤثر بالقطع على مجموع الأداء العام.

والقيادة الموفقة تنتبه إلى هذا المصدر وتجعله جزءاً مهماً من إدارتها، وتجهد في تحفيز أفرادها على العمل وتدربهم وتؤهلهم، وتنمي التنافس المحمود بينهم. بل إن الفكر الإداري في الأعمال الاقتصادية قد طوّر في السنوات الأخيرة مفهوم الموارد البشرية وخصص لها إدارات كفؤة تقوم على رعاية وتدريب وتحفيز الموظفين.

8- المطالعة في التاريخ وسير وقصص الأنبياء والدعاة والعلماء والناجحين، لأن فيها القدوة والأسوة، فالأنبياء الكرام عليهم السلام هم النموذج الإنساني في الاقتداء، فهم قضوا حياتهم في دعوة دائبة وشغل موصول لإعلاء دين الله تعالى، وورث جهدهم وعملهم الدعاة والعلماء. والناجحون أياً كانوا يستفاد من تجاربهم الناجحة، ويكتسب منهم خبرات في الوصول إلى الأهداف وتحقيق الإنجازات، والحكمة ضالة المؤمن آنى وجدها فهو أحق بها. لذا كان مهماً أن يحرص على تشجيع الدعاة على استنطاق التاريخ والشغف بقراءة سير أعلام الأمة الذين كان لهم دور ريادي في إحداث التغيير ودعوة الناس للخير والهداية.

ومن المفيد أن تهتم القيادة بتواصل الأجيال وبإتاحة الفرص للدعاة المستجدين أن يتعلموا عبر وسائل تدريبية من إخوانهم أصحاب السبق والريادة والنجاح في شتى المجالات، ويستفيدوا من تجربتهم الدعوية وخبراتهم العملية في الحياة عموماً. بل من المهم تشجيع الفئة المبدعة على كتابة سيرتها وأن تعرض مطولاً لجوانب التميز في حياتها، حتى تتاح الفائدة بنطاق واسع.

والإسلام رغّبنا في التفكر والتأمّل وأخذ العبرة من السابقين، وكثيراً ما عرض القرآن الكريم لقصص الأنبياء والأقوام السابقين. وصدق الله تعالى القائل في كتابه العزيز: (( وفي الأرض آيات للموقنين))[13]، والعبر التاريخية وما تحمل من قدرة على الوعظ والتعليم تعين الداعية وتوفر له معين معرفي سليم، مع التنبيه إلى خصوصيات الحقب الزمنية، وعدم استنساخ الماضي، والبعد عن الاستغراق العاطفي والمعنوي في التاريخ.[14]

9- التدريب والتثقيف والتطوير والإعداد المستمر: حتى تنمى الاستعدادات، وتبنى المهارات، وتستثمر القابليات، خصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيه التحديات، واتجه العالم نحو التخصص والاحتراف وتوسع باستخدام المعلومات والتقنيات. ولا ينظرنّ إلى هذا المصدر وكأنه من النوافل، بل هو من آكد الواجبات، حتى يواكب الداعية علوم العصر ووسائل التأثير ويتمكن من فهم واقعه وما يحيط به. وكل أعلم باحتياجاته وأولوياته. وعلى أصحاب القرار والمربين عموماً أن يهتموا بمن يقودون ويربون ويعتنوا باستعدادات أفرادهم ويضعوا لهم الخطط والبرامج التي تكسبهم المهارات والكفايات والمعارف المناسبة.

10- المتابعة والمحاسبة وغرس الحس العالي بالمسؤولية، وهذا مصدر وباعث عظيم على أداء متطلبات الدعوة والقيام بأعبائها، وإن المحاسبة على المسؤولية مزيد من القوة في القيام بالمهمة، وفيها شعور بمغبة التفريط، وتهيب من عاقبة التقصير.

وبالمخالفة فالإنسان الذي لا يتحمل المسئولية ولا يستشعرها ، يكون إنساناً خاوياً لا يحقق إنجازاً ولا يبلغ غاية ، وإذا وجدت المسئولية ولم ترافقها المتابعة ، ولم تتبعها المحاسبة ؛ فإن المرتقب ظهور دواعي الكسل والتراخي ، وعوامل التهاون والتقصير ، بل صور الفساد والإفساد، وكما قيل في المثل (( من أمن العقوبة أساء الأدب)).

والإسلام يجعل في أعناق أتباعه مسؤولية عظيمة، ومنهجه يصورها تصويراً يغرس أهميتها في الفكر ، ويعمق عظمتها في النفس ، وصدق الله تعالى القائل في كتابه العزيز: (( كل نفس بما كسبت رهينة))[15] ، والمعنى كل نفس رهن كسبها عند الله غير مفكوك[16]، فهي محبوسة به عند الله تعالى[17] ، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة[18]؛ فالمسلم مرهون أي موثق ومحبوس بمسئوليته التي يتعلق بها كسبه ؛ فإن شاء أن يعتق نفسه وبفك رهنه فلا بد من أداء الواجب والقيام بالمسئولية، وإلا فإنه سيؤاخذ بمقابل تفريطه.

إن الداعية الذي يعي هذه المسئولية لا يتصور منه التراخي، خاصة وأن هذه المسئولية شمولية في الإسلام، كما أخبرنا بذلك المولى تبارك وتعالى؛ إذ قال: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً))[19]

11- التحفيز واستشعار الأجر والثواب

إن الداعية معلق القلب بالمثوبة، متطلع للأجر، يحب أن يبقى له أثر، وأن يمتد أجره بعد انقضاء عمره، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات، وإنما ميدانه العمل والأداء المميز الجاد. وهذا من المصادر التي تعتمد على التربية الإيمانية العالية ويرسخه في النفس دوام التناصح والتواصي بالخير والحق. وأصحاب النفوس الشفافة الأسيفة تتأثر أفئدتهم إذا ما ذكروا بجزاء الله تعالى وما أعده لعباده الصالحين، فيهبوا ويجتهدوا ويعملوا ويقدموا، كما أنهم يتأثرون ويستجيبون إذا ما ذكروا بعذاب الله تعالى وما أعده للمفرطين المقصرين، فيخافوا ويرهبوا ويحسنوا.

[1] - رواه مسلم.

[2] - سورة الأنفال، آية رقم 60.

[3] - سورة هود، آية رقم 52.

[4] - سورة الفرقان، آية رقم 74.

[5] - رواه البخاري.

[6]- سورة البقرة، آية 256.

[7] - سورة الأنفال، آية رقم 49.

[8]- سورة التوبة، آية 51.

[9] - رواه البخاري.

[10] - رواه أبو داود.

[11] - سورة الصافات، الآيتان رقم 60 و61.

[12] - رواه البخاري.

[13] - سورة الذاريات، آية رقم 20.

[14]- للاستزادة مراجعة رسالة عودة الفجر للأستاذ محمد أحمد الراشد.

[15] - سورة المدثر، آية رقم 38.

[16] - تفسير الكشاف: ج 4، صفحة 161.

[17] - تفسير القاسمي: ج16، صفحة 74.

[18] - التحرير والتنوير: ج29، صفحة 324.

[19] - سورة الإسراء، آية رقم 36.

المصدر