مشهد حزين عاشته الحامول في وداع ياسر سعيد
بقلم: حسن محمود
مقدمة
- حشود بالآلاف في وداع الشاب الناهض ياسر
- الإخوان المسلمون: الدعوة فقدت واحدًا من خيرة الشباب
- م. سعيد في وداع نجله: نحن وأبناؤنا فداء للدعوة
مشهد حزين تظلله سحابات المواساة والألم عاشته مدينة الحامول بمحافظة كفر الشيخ، مسقط رأس المهندس سعيد سعد علي عبده؛ أحد قيادات الإخوان المفرج عنهم من المحكمة العسكرية، بعد ما يقرب من عام ونصف، من عرض هزلي أُطلق عليه "محاكمة"، فبدلاً من أن تُرفع لافتات التهنئة له بالحرية، رُفعت لافتاتٌ كثيرةٌ تشير إلى مكان تلقي العزاء في ياسر سعيد سعد (الطالب بالفرقة الخامسة كلية الطب بجامعة 6 أكتوبر) الابن البكر للمهندس سعيد بعد وفاته في حادث أليم على طريق المحور بمدينة 6 أكتوبر مساء أمس الأول.
كان الخامس عشر من أبريل يومًا مشهودًا في الأيام الأخيرة للشاب الناهض قبل وفاته؛ حيث وقف ياسر مصدومًا للحظات بعد أن رأى اعتداء قوات الأمن على أهالي المحالين إلى المحكمة العسكرية في جلسة النطق بالحكم، خاصةً النساء، قبل أن يبادر بتعنيف الضابط.
يروي أبو بكر محمد المصري ابن خالة ياسر ما حدث في هذا اليوم قائلاً: وجد ياسر الأمنَ يسبُّ النساء بأقذع الألفاظ ويحاول الاعتداء عليهم، فثار في وجه أحد ضباط أمن الدولة الذي أعطى أوامره بالضرب قائلاً: "إيه اللي أنتم بتعملوه ده؟! إنتم عاوزين إيه مننا؟! ابعدوا عنهم"، فقال الضابط لجنوده: "طيب هاتوه بقى"، فبادر خمسة من البلطجية بالاعتداء عليه اعتداءً وضربوه ضربًا مبرحًا، مؤكدًا أن آثار الضرب رآها كما هي وهو يغسله، مضيفًا: "لقد كان آخر موقف له مع والدته أن قَبَّل يديها، ووعدها أن ينهي أحد امتحاناته في كليته ليعود سريعًا ليكون في انتظار والده عند الإفراج عنه".
ويضيف صلاح سعد عم الشاب الفقيد أنه بعد ضرب الفقيد من قِبَل البلطجية دخل معه عربة الترحيلات؛ لينزل منها الفقيد بعد قليل بعد ما ناداه أحد الضباط بالاسم، مشيرًا إلى أن أنه لم يفهم مغزى نزول ياسر بعد وضعه بعربة الترحيلات إلا يوم سماع خبر وفاته!!.
يلتقط الحديث محمد مجدي زميله بكلية الطب قائلاً: لقد كان ياسر بعد قرار الإفراج عن والده سعيدًا جدًّا؛ فقام بعمل مأدبة عشاء لجميع الأصدقاء، مشيرًا إلى أن الفقيد عندما علم بعدم ترحيل والده للسجن بعد النطق بالحكم، قرر أن يعزي في وفاة أحد أقارب عضو هيئة تدريس بالكلية، إلا أن القدر اختاره وهو في طريقه إلى العزاء، ليصل إلى المستشفى بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة مع اثنين من زملائه.
عندما يقع القدر
وجرت اتصالات عديدة انتقل على أساسها أقارب الفقيد وعدد من الإخوان إلى مستشفى 6 أكتوبر لتجهيز إجراءات تسلم الجثمان، وسط سرية تامة؛ في محاولة لعدم إخبار والدته، ولكن كشفت مكالمة هاتفية لوالدته التي صمتت للحظات عند تلقِّي الخبر واحتسبت واسترجعت.
وسرعان ما تمت إجراءات المستشفى، تواكبها اتصالاتٌ متكررةٌ بالمحامين لإنهاء إجراءات خروج والده من سجن طرة ليحضر الجنازة، وكتمت الزوجة الصبور الخبر عن زوجها الذي بادر بالاتصال بها فور خروجه من السجن، إلا أنه شعر بتغيُّر في نبرة صوتها؛ فطالب أن يحدث ابنته جهاد فأجهشت بالبكاء وأبلغته الخبر.
وأكد مَن كان في صحبة المهندس سعيد سعد أنه بعد سماعه الخبر طلب كوبًا من الماء، ودخل السيارة المرافقة له وهو يردِّد "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وظل مصرًّا على الصمت بعدها طوال الطريق.
لحظة مهيبة

بات الجميع يملؤهم الحزن والأسى في انتظار لحظة وصول جثمان ياسر، واكتظَّت مدينة الحامول بالآلاف من المشيعين، يتقدمهم د. محمود عزت الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين نائبًا عن فضيلة المرشد والداعية لاشين أبو شنب عضو مكتب الإرشاد والحاج مسعود السبحي سكرتير المرشد العام والنائب حسين محمد إبراهيم نائب رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين ود. محمد البلتاجي الأمين العام للكتلة والنائب علم الدين السخاوي عضو الكتلة البرلمانية ورجل الأعمال د. عبد الرحمن سعودي ود. خالد عودة أستاذ الجيولوجيا بجامعة أسيوط ود. محمد بليغ؛ الذين تم الإفراج عنهم ضمن المفرج عنهم بالعسكرية، ود. إبراهيم الزعفراني أحد قيادات الإخوان بمحافظة الإسكندرية، ونجيب الظريف أحد قيادات الإخوان بمحافظة المنوفية، والحاج جلال عبد العزيز أحد قيادات الإخوان بمحافظة كفر الشيخ، يشاركهم الآلاف من رموز وشباب الإخوان وأهالي المحافظة.
وانتظر الجميع أمام مسجد "السلاهيب الكبير" ونظرات الترقُّب تحيط بالمكان، بينما يقف الحاج عبد الله الهنداوي أحد قيادات الإخوان بمدينة الحامول يخطب في الحضور حول الصبر وضرورة ضبط النفس، ليقاطعه مجيء سيارة الإسعاف؛ حيث ساد المكان بكاءٌ عالٍ سرعان ما توقَّف مع كلماته الإيمانية المتكررة، ودخل الجثمان تراقبه آلاف العيون الممتلئة بالدموع حتى المسجد، وصلى د.محمود عزت صلاة الجنازة على الفقيد وسط دعوات بالرحمة والغفران.
الصبر

وبعد إجراءات الدفن ألقى سيد دويدار أحد قيادات الإخوان بكفر الشيخ كلمةً مؤثرةً؛ عدَّد فيها مناقب الفقيد، مؤكدًا أن دعوة الإخوان المسلمين فقدت شابًّا متدينًا كان أمل والديه؛ حيث اختطفه الموت من بين أهله وأحبابه ليكون عبرةً وتذكرةً لشباب المسلمين، مشيرًا إلى أهمية الاتعاظ بموت الشباب، مشدِّدًا على أهمية السعي الحثيث باتجاه الإصلاح وتنفيذ تعاليم الإسلام.
ثم تحدث د. محمود عزت عن معنى الإسلام الحقيقي، مؤكدًا أهمية الصبر والاحتساب والرضا بقدر الله، مشيرًا إلى أن الإخوان يربُّون أولادهم ليقدموهم لله عز وجل، في الطريق الذي يحبه دون جزع لاختياره عز وجل لهم في هذا الطريق، وأضاف أن الله عز وجل وهب المسلمين نعمةً كبرى هي نعمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، مشيرًا إلى أن هذه هي حقيقة الدنيا التي يجب أن يعيها كل من يعيش عليها مهما بلغ قوته وجبروته.
وأكد أن الله اختار للمهندس سعيد سعد ابتلاءين؛ أحدهما كان السجن الظالم، والثاني هو فقد الابن، موصيًا المهندس بأن يواصل طريقه لله بالصبر الجميل، مشيرًا إلى أن الله قد اختار الفقيد وبقايا الظلم على جسده ليذهب بها إليه شاهدًا على الظلم الذي طال شرفاء ومصلحي مصر، لافتًا الانتباه إلى أن الفقيد لقِيَ ربه على طاعة؛ حيث كان قاصدًا العزاء.
عزاء حاشد
وفي سرادق العزاء تعدَّدت الكلمات الإيمانية التي تؤكد أهمية الصبر على قدر الله وابتلائه، مشيرةً إلى ثواب الله العظيم الذي ينتظر الصابرين وإلى عقابه الذي ينتظر الظالمين.
وكانت أقوى الكلمات التي لم تنقلها ميكرفونات السرادق ونقلها لـ(إخوان أون لاين) شهودها جاءت من المهندس سعيد؛ الذي قال للدكتور محمود عزت وهو يودعه قبل سفره: بلغ فضيلة المرشد أن أجسادنا وأموالنا وأبناءنا كلها فداءٌ للدعوة.
وقدَّم النائب علَم الدين السخاوي عضو الكتلة البرلمانية تعازي نواب الكتلة في الفقيد، ثم شنَّ هجومًا حادًا على سياسيات النظام الحاكم المتخبِّطة، مؤكدًا أن مصر أمام نظام فاسد مستبدّ، لا يستطيع أن يواجه مشكلات مصر كحوادث الطرق، مشدِّدًا على أن النظام لن يستطيع أن يقدم حلاًّ واحدًا لمشكلات مصر المزمنة، طالما أنه يرفع عصاه في وجه المصلحين، وطالما أنه لا يعرف إلا ملاحقة ومطاردة وحبس الشرفاء ظلمًا وعدوانًا.
وتحدث الحاج عبد الفتاح فرج أحد قيادات الإخوان بكفر الشيخ عن أهمية الصبر وفضله، مشدِّدًا على أن الاحتساب هو الفريضة الواجبة على المؤمنين الراضين بقضاء الله وقدره والساعين إلى مرضاته، مشيرًا إلى أن الجنة قد حُفَّت بالمكاره، بينما زُيِّنَت النار بالشهوات التي تنتهي لذاتها بانقضائها.
ودعا الشيخ الراعي أبو المكارم في كلمته أن يلهم الله أهل الفقيد الصبر والسلوان، وأن يلهم جميع محبيه الصبر الجميل.
بينما ذكر محسن غازي أحد قيادات الإخوان بكفر الشيخ المعزين بنبي الله أيوب ورحلته الطويلة مع الصبر، مؤكدًا أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الحياة لهو ولعب، سائلاً اللهَ عز وجل أن يهَبَ الله المهندس سعيد سعد مكانة هذا النبي، وأن يعينه عليها، وأن يرزقه بيت الحمد في الجنة؛ الذي وعد الله به عباده الصابرين.
كان "آية"

يقول صلاح سعد عم الفقيد: لقد كان الفقيد "آية"، فكان شابًّا مستقيمًا، ذكيًّا، متفوقًا، بارًّا بوالديه، متدينًا، صاحب خلقٍ عالٍ.
وحول الفترة التي عاش فيها الفقيد أثناء وجود والده في المحبس؛ أوضح عم الفقيد أن المحاكمات أثرت إيجابيًّا على الفقيد بعكس ما كان يريد النظام الفاسد، مؤكدًا أنها أثقلت شخصيته وحملته المسئولية في مقتبل عمره.
وأكد الحاج عبد الله الهنداوي أن لحظة قدوم الجثمان كانت من أصعب اللحظات التي واجهها في حياته، إلا أنه استدرك: لا بد من تعامل إيماني مع هذا الموقف يقوم على الصبر والاحتساب بجانب تعامل اجتماعي يقوم على التماسك والاستسلام لله عز وجل، وأشار إلى أن الفقيد سليل عائلتين كريمتين يحملان لواء دعوة الإخوان في مدينة ومركز الحامول.
مؤكدًا أن المهندس سعيد أول من بذر بذرة الإخوان في هذا المكان وكان الفقيد أحد نتائجها، وأضاف أن الفقيد جاء تكوينه على نسق كرم أصله؛ حيث كان حييًّا، صاحب صوت هادئ، حريصًا على أداء فرائض الله.
قوة غير عادية
ويقول محمد الشافعي (طالب وأحد جيران الفقيد): لقد عاشت مدينة الحامول أمرين نقيضَين اليوم، وأمهاتنا لم تنَم الليلة الماضية بعد الذي حدث، مضيفًا أن الأهالي كانت تنتظر استقبال المهندس سعيد ولكنها استقبلت جثمان ابنه، وأشار إلى أنه لمح في الفقيد قوة غير عادية منذ دخول والده المعتقل؛ حيث كان يحدثه عن أحداث القضية، ويسرد له ما يحدث في المحكمة، وعنده ثقة أن النهاية لصالح الحق.
وأكد عمار عبد الله ابن خالته والدموع في عينيه أنه لا يصدق حتى الآن أن "ياسر" تُوفِّي، مشيرًا إلى أن الفقيد تحمَّل المسئولية بعد دخول والده في دوامة المحاكمات بكل رجولة؛ حيث كان يتابع دراسته، ويأتي ثلاثة أيام من كل أسبوع ليتابع منزله وإخوته؛ فضلاً عن الأعمال التي كان يكلفه والده بها في محافظة الإسكندرية؛ حيث كانت بعض أعماله.
ولم يستطع عبد الرحمن أحمد ابن خالته من حالة الحزن التي سيطرت عليه أن يتحدث، غير أنه قال بصعوبة: "ده كان فرح، وفجأة تغيَّر!!، والأعمار بيد الله ولكن الخبر كان صدمة كبيرة".
وأضاف م. محمد فؤاد أحد أصدقائه أنه يشعر أن جزءًا من جسده فقد منه، مشيرًا إلى أن ياسر شخصية محبوبة، بشوشة، وهادئة ورزينة، مؤكدًا أن المحكمة العسكرية خلقت من ياسر شخصًا عظيمًا حمَل المسئولية والهمَّ وسيَّر "المركب" في غياب والده بكل ما استطاع، موضحًا أن "مشاويره" التي كان يقضيها معه كانت دائمًا تطول؛ لأن أهالي المدينة كانوا يستوقفونه كل عدة أمتار ليسلموا عليه ويعرفون أخبار والده.
- المصدر :مشهد حزين عاشته الحامول في وداع ياسر سعيد موقع إخوان أون لاين