مسرح الإخوان
بقلم : عبده مصطفى دسوقي
محتويات
مقدمة
قد يظن كثير من الناس أن معنى الالتزام أو التدين أن يكون المسلم الملتزم عابس الوجه مقطب الجبين، قليلاً ما يضحك أو يمازح أحدًا.
هذه صورة أصبحت راسخة عند الكثيرين، حتى إن كثيرًا من المتدينين تقمصوا تلك الشخصية فعلاً، وظنوا أن تلك الصورة هي كمال التدين، وهم بقدر تقمصهم لتلك الشخصية بقدر بعدهم عن روح الإسلام الصحيح.
وإلى هؤلاء المتقمصين لهذه الشخصية الجامدة، وإلى من ظن أن هذه هي الصورة النمطية للملتزمين، نتذكر معهم ما قاله الإمام على رضى الله عنه وأرضاه: روحوا القلوب واطلبوا لها طرف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان (1).
وعن مالك بن دينار قال: كان الرجل ممن كان قبلكم إذا ثقل عليه الحديث قال: إن الأذن مجاجة والقلب حمض فهاتوا من طرف الأخبار (2).
ولهذا فالمسرح والفن له رسالة يستطيع أن يغرسها في نفوس الناس، وهذه الموضوعات من أكثر الموضوعات التباسًا في حياتنا الثقافية وهي علاقة الإسلام بالفن، ومن أكثرها غموضًا أيضًا موقف الإسلاميين من الفن وتجاربهم فيه.
والإخوان المسلمين معروف أنهم يهدفون إلى إصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي من منظور إسلامي شامل، وهذه نظرتهم للإصلاح لكل مجتمع إسلامي ومن ثم ترجموا هذه الرؤية واقعيا على كل مجريات الأمور فلا ضروا أن نجدهم يسبغون جميع الإصلاحات وفق الرؤية الإسلامية وليس واقع شاذ يريد أن يفرضه سواء العلمانيين أو الشيوعيين.
ولذا نجد كل كتابات هؤلاء النفر لا تخلوا من هجوم على الإخوان لكونهم يريدون أن يصبغوا الواقع بالصبغة الإسلامية، خاصة القضايا التي تهتم بالواقع الحياتي والسياسي وشئون المرأة.
رسالة البنا والفن
يعتبر الفن رسالة لها أثر عميق على النفس ولها مغزى في الحياة، حيث يكمن الإبداع، والتميز، والأصالة، والتفرد، وهي الوسيلة للتعبير عن الأفكار، والمشاعر، والأحاسيس.
ولذا لم يقف الإمام من الفن مجرد المنظِّر أو مبدي الرأي الفقهي، أو الداعي نظريَّا إلى تبني الفن، دون الولوج إلى ذلك عمليًّا، بل ربما سبق عنده جانب التطبيق الجانب التنظيري، وليس معنى ذلك أنه لم يكن معنيًّا بذلك بل لم يكن معنيًّا بالوقوف كثيرًا عند الإسهاب في التنظير، ما دام قد اقتنع بشرعية فعل الشيء، وهذا ما حدث معه رحمه الله، فقد جعل للفن مساحةً ليست بالصغيرة في دعوة الإخوان المسلمين، فأنشأ فرقةً مسرحيةً- بل أنشأ فرقًا مسرحيةً- لعل أبرزها وأشهرها فرقة القاهرة، فقد أنشأ الأستاذ البنا في معظم شعب الإخوان المسلمين فرقًا مسرحيةً، كشعبة السيدة عائشة، والتي قدمت عددًا من المسرحيات للناس، منها ما هو تاريخي، ومنها ما هو خلقي، ومعظمها كان من اللون الفكاهي النظيف الراقي (3).
يقول الأستاذ البنا موضحا موقف الإخوان من الفن والمسرح:
- إن الإخوان المسلمين لا يحاربون المسرح ولا المذياع؛ لأنهم ليسوا من الجمود بحيث يقفون هذا الموقف وإنما يريدون أن يطهروهما من الشر والإثم، ويزيلوا أثرها السيء المنصب على نفوس الشباب والفتيات، ولذلك فهم قد أعدوا للمسرح قصصًا كريمًا وأدبًا رائعًا ومثلاً وتوجيهًا صادقًا (4).
لقد تميز فن الإخوان بالالتزام بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والانفتاح والواقعية ويجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وكان من عوامل نجاح التجربة: اعتماده مبدأ إنسانية الفن، وتبنَّى فقه التيسير في قضايا الفن، واعتماده على المختصين في هذا الفن، وتبني قضية الفن جماعيًّا
ومن هذه الإشكاليات التي اشتبك العلمانيين فيها مع الإخوان محاولتهم إظهار الإخوان أنهم أعداء الفن والسينما وأنهم كارهون لهذا الفن الرفيع وهذه القوة الناعمة التي تعتمد عليها الدول (5).
لقد التزم الإخوان بقواعد دينهم فأحلوا ما أحله الله وما حرمه، ولم ينظروا في يوم إلى رضا الناس مقابل سخط الله عز وجل، فظهر الصدام مع من يريد أن ينشر الفاحشة وسط المسلمين متحججا بأن هؤلاء يقدمون فن راقي ولا مانع من القبلات والأجساد العارية والمشاهد الساخنة طالما في سياق العمل وتؤدي هدف ولم يكن هذا منهج الإخوان.
وليس ذلك فحسب بل كان اعتراض الإخوان على دور السينما نفسها ليس لكونها مباني تعرض أفلام لكنها كانت مجالا للدعاية الصهيونية أو من يملكون المال للترويج لباطلهم، ولهذا كان للإخوان موقف مما يعرض فيها ويجمل صورة الصهيونية، مما دف الأستاذ البنا أن يرسل برسالة إلى وزير الداخلية ينبهه لهذا الخطر:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اتصل بنا أن سينما رويال ومتروبول وديانا تعرض فى دورها نشرة فرنسية تشمل دعاية للصهيونية قبل عرض الأفلام، وذلك منذ أول أمس (الاثنين)، وسيستمر عرضها إلى نهاية الأسبوع (6).
كما أشار الإخوان إلى الفساد الذي تبثه الإذاعة، فجاء في مقال "الإذاعة اللاسلكية الغث والسمين في نصف أسبوع": "للإذاعة اللاسلكية محاسن لا يسعنا نكرانها وحرمان الناس من الاستمتاع بها، ولها مساوئ نحذر الناس منها، أقل ما فيها أنها تثير عواطف البليد وتدفعه حتمًا إلى ارتكاب الفواحش (7).
ويقول الأستاذ البنا:
- إن العلاج تربية الفتيان والفتيات تربية إسلامية عفيفة طاهرة، ومصادرة هذا الداء الوبيل من الصحف والمجلات والروايات والكتابات والمسارح والسينمات والإذاعات الهازلة الضئيلة المثيرة التى تستغل فى الناس أخس مشاعرهم وأحط غرائزهم. ومقاومة هذا التيار من التبرج والاختلاط ومفارقة البيوت والخدور للتسكع فى الحدائق والمصايف والمتنزهات وعلى الشواطئ وفى البلاجات. وتحريم هذه الوسائل الخسيسة التى تيسر على الشباب مقاصدهم بغير تبعة ولا رقابة ولا حساب. ثم تشجيع الزواج وتيسير سبيله على راغبيه وإقناعهم بالغاية الصحيحة منه (8).
وأكد الإخوان على العلاج فأكدوا على العناية بالسينما والتمثيل عناية صالحة ومراقبتها مراقبة دقيقة، واستبدال الأفلام والروايات الخليعة بكل ما يرمي إلى أهداف قومية، وتشجيع المؤلفين المسرحيين والسينمائيين على اختيار الموضوعات، وتأليف هيئة خاصة بذلك (9).
هدف الإخوان من السينما والمسرح
لقد حدد الإخوان منهجهم من هذه الوسائل في قول السيدة الفاضلة لبيبة أحمد –مسئولة قسم الأخوات المسلمات- والتي قالت: السينما من العوامل المؤثرة في تطور الأمة وتكوين عقليتها وتكييف أخلاقها، ولا شك أنها أفادت بعض الشيء في توسيع معارف الجمهور، ولكن مما يؤسف له أن هذه الأفلام التي تذاع في الدنيا وخصوصًا في أقطار الشرق يتوخى فيها مجاراة ميول الجماهير وأهوائهم أكثر مما يتوخى فيها إفادتهم وتوسيع معارفهم وتقويم أخلاقهم، وقد ثبت في محاضر البوليس والنيابة العمومية وفي حرم القضاء أن كثيرًا من الجرائم المؤسفة التي تقع بين ظهرانينا قد ساعدت أفلام السينما على التفنن فيها، وابتكار أساليب لم تكن لتخطر على بال الذين ارتكبوها لو أنهم لم يتلقوا دروسًا عن الشاشة البيضاء، ويجب أن تتحول السينما بعد ذلك إلى نعمة تفتخر بها إنسانية العصر الحاضر (10).
وكتب محمد لبيب البوهي قصة تدل على هذه المأساة فقد ذكر أن زملاء الدراسة الذين وفدوا من الريف لإكمال تعليمهم فى الجامعة قد غيرتهم دور السينما وأصبحوا يقلدون كل ما يرون فيها دون تمييز, ومن ثم طالب بأن تكون الأفلام التى تعرض من خلال السينما مهدفة وتعالج مشاكل المجتمع, وتعمل على حماية بناتنا وسيداتنا اللواتى يذهبن إلى السينما وإلا فلنغلق هذه الدور التى تعرض كل ما هو منكر (11).
روشتة علاج
لم يعارض الإخوان السينما في ذاتها لكن كان معارضتهم لها لما تعرضه، ولذا وضعوا مقترحات عملية في برامجهم الإصلاحية، ومنها رفع مذكرة إلى رئيس الوزراء وضعوا أمامه الداء والدواء فقالوا:
وأهم منابع الثقافة العامة فى كل أمة: المدارس والصحف والمطبوعات والسينما والتمثيل والإذاعة اللاسلكية وهذه كلها تحتاج إلى إصلاح.
وفى الصحف والمطبوعات والسينما والتمثيل والإذاعة تراقب كل هذه النواحي مراقبة فعالة منتجة، وينص فى القانون على عقوبات زاجرة رادعة، وأساس ذلك أن يختار المراقبون من الأمناء على دينهم الموثوق بأخلاقهم، بحيث لا تكون الناحية الفنية وحدها هى الأساس فى الاختيار.
فلتختر الحكومة لجان المراقبة على أسس صالحة لتنتج مراقبة صالحة ولتوضع مناهج الإذاعة بدقة وإحكام، فإن "الراديو" بقدر ما أفاد غيرنا بقدر ما جنى على أخلاقنا.
ولتصادر الصحف الماجنة الخليعة التى يتشرب روحها أبناؤنا الأطهار وفتياتنا الصغار فتفسد عقولهم وأرواحهم وعواطفهم وشعورهم سواء كانت أجنبية أو مصرية، ولتهتم الحكومة بحركة التأليف والنشر، فتشجع المؤلفين الذين يعالجون النواحى الإصلاحية النافعة، وتعين اللجان لوضع البحوث والرسالات فى هذه النواحى، ولتهتم كذلك بتهذيب الأغانى والأناشيد، فأثرها فى تكوين الشعب الروحى جد خطير (12).
خطوات عملية
كتب الأستاذ البنا وإخوانه الكثير عن المسرح والسينما ووضعوا الروشتات التربوية العملية للاستفادة من هذه المؤسسات، حيث دعا البنا لإنشاء فِرَق في معظم شعب الإخوان، وتمرين طلاب الثانوية والجامعة على التمثيل المسرحي بل كان البنا يحضر بنفسه البروفات والإعداد للمسرحيات ، ويولي ذلك اهتمامًا كبيرًا، وكان العمل الفني عند البنا أشبه ما يكون بالعمل المؤسسي والمختص، لا من باب الهواية، أو على هامش الحياة (13).
وفي أربعينيات القرن الماضي كتب الناقد الفني المعروف عبد الله أحمد عبد الله المشهور بلقب “ميكي ماوس” رسالةً طريفةً تُعدُّ في حد ذاتها وثيقةً تاريخيةً مهمةً، يتساءل فيها عن موقف الإخوان المسلمين من الفن؟!
وهذا نص الرسالة:
“سيدي صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل مرشد الإخوان المسلمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد!!
فإن مجلة (دنيا الفن) ترجو أن تعلم من فضيلتكم وجهة نظر الإخوان المسلمين في شئون (المسرح- السينما- الإذاعة) وترجو أن يتسع وقت فضيلتكم كذلك للإجابة عما تعدونه من المشروعات للإفادة من هذه الأدوات الثلاث فيما لو تقلَّد الإخوان المسلمون حكم البلاد؟!
هذان سؤالان لمجلة فنية يسرها أن تنقل إلى قرائها في شتى البلاد العربية آراءَ الإخوان الأكرمين، وهم الهيئة القوية التي يرنو إليها الملايين بالإعجاب والإكبار.
وفي انتظار رد فضيلتكم، نسأل الله أن يهبكم العون والتوفيق في جهودكم المباركة.
والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الله أحمد عبد الله - سكرتير تحرير مجلة (دنيا الفن) بمصر
وللأسف لم اعثر على رد البنا لكن له مواقف مشابه، فقبلها بسنوات كان الإمام البنا يُلقي محاضرةً بجامعة القاهرة بمناسبة المولد النبوي الشريف، وأثناء المحاضرة قاطعه طالب ظريف وسأله: هل السينما حلال أم حرام؟ فرد فضيلته سريعًا وموجزًا: السينما الحلال حلال والسينما الحرام حرام، وعاد إلى استئناف محاضرته (14).
التربية على خشبة المسرح والتربية المجتمعية
حينما ولج الإخوان من باب الفن سواء المسرح أو السينما كان هدفهم إصلاحي وتقديم ما هو نافع، وترجمة حقيقية لتعاليم الإسلام لما وجدوا تأثير الفن قوي في التربية، وهذا واضح في كلام السيدة سميرة المغربي زوجة الفنان حسين صدقي والتي قالت: حسين صدقى كان يؤدى الفروض، وكنت ألح عليه بعد التزامي أن يترك العمل فى السينما، وذات مرة أثناء زيارتنا لسيد قطب فى المستشفى قبيل إعدامه، ذكر زوجي له ما أطلب منه، فكان رده عليه: إن الحركة الإسلامية محتاجه لفن إسلامي، وإنني أكتب عشرات المقالات وأخطب عشرات الخطب، وبفيلم واحد تستطيع أنت أن تقضى على ما فعلته أنا أو تقويه، أنصحك أن تستمر لكن بأفلام هادفة (15).
فقد كانت باكورة أعمال الإخوان المسرحية هو المسرحية التى قدمها عبدالرحمن البنا أخو الأستاذ البنا بعنوان جميل وبثينة حيث أنتجت هذا العمل “لجنة تشجيع التمثيل” التابعة لوزارة المعارف، وقررت إخراجها على نفقتها عام 1934، لما وجدت فيها من معان طيبة وقيم رفيعة.
ويبدو أن المسرحية قد حققت نجاحًا لافتًا، فشوقي قاسم صاحب رسالة دكتوراة “الإسلام والمسرح المصري” يقرر بوضوح: أن جميل بثينة قد صارت موضع المقارنة مع درة أمير الشعراء “مجنون ليلى”.
ونظرة واحدة إلى الأسماء التي شاركت في هذا العمل تبين مدى حِرفية هذه المسرحية؛ إذ تضم قائمة النجوم: جورج أبيض – أحمد علام – عباس فارس – حسن البارودي – فتوح نشاطي – محمود المليجي، ومن العناصر النسائية: فاطمة رشدي، وعزيزة أمير (16).
قضايا الأمة على مسرح الإخوان
كان من الأهداف التربوية التي وضعها أيضا الإخوان هو تعريف الناس بالقضايا الإسلامية وإيقاظ الوعي المجتمعي لديهم خاصة القضية الفلسطينية، فكانت مسرحية عامان في شِعب" للأستاذ عبد الرحمن الساعاتي، والمسرحية تدور أحداثها حول حصار قريش للمسلمين في شعب أبي طالب وفي مايو 1948 وعلى مسرح دار الأوبرا كانت تُعرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي) تمثلها فرقة الإخوان المسلمين المسرحية، وكان إهداء المسرحية “إلى شهداء فلسطين الأبرار، وأبطال الجهاد المقدَّس لإنقاذ الوطن الإسلامي وتحرير الأرض.. إليكم هذه المسرحية التي أُعدت لتعمل عملَها مع قصف المدافع وأزيز الطائرات؛ لإدراك الغاية ورفع الراية وإصابة الأهداف”.
وكان ثلاثةٌ من أعضاء الفرقة قد اعتذَروا عن عدم المشاركة في العمل لذهابهم إلى ميدان القتال، وهو ما نصَّ عليه إعلان المسرحية حين كتب في هامشه: “من أعضاء الفريق في ميدان الحرب الآن إبراهيم الشامي، فطين عبد الحميد، إبراهيم القرش”.
عرضت هذه المسرحية على مسرح دار الأوبرا الملكية، يوم الجمعة ١٤ مايو ١٩٤٨، فى الساعة التاسعة والنصف (17).
وكتب عنها الناقد الأستاذ صلاح ذهني في مجلة (آخر ساعة) يقول: “قدمت جمعية الإخوان المسلمين مسرحيةً مِن وضع أحد أعضائها الأستاذ عبد الرحمن البنا على مسرح الأوبرا، وليس الجديد أن تقدِّم إحدى فرق الهواة مسرحية، ولا أن يؤلف أحد الهواة مسرحيةً، ولكنَّ الجديد أن المسرحية تتناول موضوعًا مطروقًا جدًّا، فهي عن صلاح الدين الأيوبي، وليس هناك مَن لم يرَ رواية صلاح الدين ومملكة أورشليم، والتي مثلها كل مسرح وكل فرقة منذ عشرات الأعوام.. هذا هو الجديد، ولقد جلست أشاهد المسرحية وأنا حذر يقظ، فحياة صلاح الدين وفتحُه لفلسطين واحدة وحتى ما يحيط بقصة هذه الحياة من أساطير أصبح بالتكرار جزءًا من هذه الحياة، ومن أصعب الأمور على مؤلف أن يتناول موضوعًا مطروقًا.. إنه إذ ذاك يسير على صراط دقيق تحته هاويتان: التقليد من ناحية والخروج على الواقع من ناحية أخرى.
لكن عبد الرحمن البنا نجا من الهاويتين معًا وابتعد عن التقليد، فحين انصبَّتْ رواياتٌ أخرى على صلاح الدين وحده وأحداثه مع الفرنجة تناولت رواية البنا عصر صلاح الدين في مصر والنزاع بين السنة والشيعة وجوّ المؤامرات الذي كان يعمل وسطه.
إنك تحس أن المؤلف هنا حرص على تاريخ العصر أكثر مما حرص على تاريخ البطل، وتحسُّ أيضًا أنه حرص على الواقع أكثر مما حرص على مواقف البطولة الجوفاء حتى الفصل الأخير حين يلتقي قلب الأسد بصلاح الدين.. إنك ترى الصورة العربية للملك المسلم والصورة الإفرنجية للملك الفارس دون إغراق في البطولة أو الإسراف في الشجاعة، كم كنت أتمنى لو مُثِّلت هذه الرواية أكثر من مرة أو أن الذين مثَّلوها كانوا غير الهواة- وليس ذلك طعنًا- إنها روايةٌ تلائم الموقف والظرف، وفيها مع ذلك شيءٌ جديد” (18).
نماذج على أرض الوقع
لم يجد “البنا” حرجًا من ظهور الممثلات على خشبة المسرح.. ساعده على ذلك البيئة العربية التي استمد منها معظم أعماله والتي فرض جوها على الممثلات الظهور برداء محتشم يتلاءم مع جو النص، ومن طرائف ذلك ما رواه عبد الرحمن البنا في إحدى مقالاته أنه وجد حرجًا من الفنانة عزيزة أمير، حيث كانت ترتدي فستانًا بكم طويل لكنه واسع لدرجة تجعل ذراعيها تظهران، وحين لفت انتباهها لم تستنكف أن تربط هذا الكم بخيط لتضيقه نزولاً على رغبة المؤلف.
وتعددت تأثيرات مسرح الإخوان المسلمين على المناخ المسرحي العربي خاصة في مصر، ومن ذلك اهتمام القوى الإسلامية المختلفة بالمسرح، فقد أنشأت جمعية الشبان المسلمين فريقًا مسرحيًّا بقيادة الفنان “محمد عثمان” ظل منبرًا للمسرحيات الإسلامية إلى أن شعر بخطورته ضباط ثورة يوليو فجمدوه (19).
كما حاول شباب الإخوان ولوج السينما بأشياء هادفة فقاموا بعمل أفلام منها فيلم (وحدة مكافحة الزندقة) فقد قرر شباب الإخوان في مصر أن يطرحوا تجربتهم الخاصة – التي يعبرون من خلالها عن رؤيتهم للفن الراقي – ويقوموا بدخول عالم الفن السابع، حيث عنونوا هذه التجربة بـ”سينما الإخوان.. للفن الراقي عنوان”، في محاولة لخلق نوع جديد من الفن الهادف، الذي يعبر عن هموم المواطن المصري بطريقة غير مبتذلة.
قال ياسر السعيد، طالب في كلية الإعلام، وأحد فريق عمل “سينما الإخوان”، إن الفن عند الإخوان المسلمين ليس جديداً، بل هو موجود منذ إنشائها، وتهتم الجماعة به لخلق نوع من الفن الهادف البديل للفن الذي يسعى لإفساد العادات والتقاليد، لذلك قررنا نحن – عدداً من شباب الإخوان – خوض التجربة، ليتعرف العالم عن قرب أن الإخوان دعوة لا يشوبها التشدد أو التسيب والتفريط، بل هي جماعة لا تمانع في الدعوة لفن (هادف)، وذلك عن طريق جهد فردي غير تابع للإخوان رسمياً.
وطرح شباب الإخوان فيلم «وحدة مكافحة الزندقة» أحد أفلام فريق “سينما الإخوان”، رداً على كثرة الشائعات التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين بالتعصب والتطرف.
ومن المعايير التي وضعها فريق «سينما الإخوان» للمشاركة فى إنتاج عدة أفلام كان أهمها العمل لتحقيق نهضة البلاد والحفاظ على المبادئ والأخلاق والعادات والتقاليد للشعب المصري، بالإضافة إلى ضرورة وجود موهبة فنية (20).
وعن فيلم التقرير علقت صحيفة تايمز أوف إسرائيل وقتها على هذا المشروع وقالت فى تقرير لها: يتم نشر الأفلام الجديدة التى يقدمها الإخوان عبر قناة خاصة على موقع يوتيوب، تحظى بمتابعة 687 مشتركًا، و300 ألف مشاهد.
واستعرضت الصحيفة فيلمين، أحدهما كوميدي، والآخر سياسي، يحملان عنواني: وحدة مكافحة الزندقة ، و اعمل الصح يا حمدي .
وقالت الصحيفة: الغريب هنا هو أن صناع السينما الإخوانية يعتقدون أن إنتاجاتهم ستخاطب شتى الفئات على رغم أنهم سيقدمون أعمالاً من اتجاه واحد في المجتمع من دون طرح الاتجاهات الأخرى ومن البديهي أن أي مجتمع يتوزع على اتجاهات عدة فكيف يتصورون إمكانية جذب الجميع، وهم يعبرون عن فكر ورأي واحد؟.
المغزي التربوي للإخوان من الاهتمام بالفن والمسرح
- تهذيب الذوق و صقله لأن الفن هو الجمال و الإقبال عليه يسمو بالإنسان.
- التعريف بقضايا الأمة وطريقة معالجتها خاصة القضية المصرية والقضية الفلسطينية.
- إظهار وتجسيد التراث الإسلامي ليتعرف عليه الناس في ظل محاولات طمس هذا التراث
- إصلاح المجتمع بوسائل محببة ولا يحرمها الشرع ولإظهار المعاني الجمالية في الأخلاق الإسلامية عن طريق الفن.
- يلعب الفن دورا مهما في تحقيق التوازن النفسي عند الإنسان ذلك أنه يخفف عنه عبء الحياة اليومية و على ضفافه تتحطم أمواج السخط و الغضب فتلين النفس و تسترد هدوءها.
- هدف الإخوان التقريب بين الشعوب من حيث إعلاء المعرفة بما يحدث للشعوب عن طريق تصويرها بالفن.
المراجع
- كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي، المكتب التجاري – بيروت، مجلد 1
- كتاب أخبار الحمقى والمغفلين المرجع السابق
- عصام تليمة نقلا عن حوار تلفزيوني لصلاح عبد المتعال
- أنور الجندي: الإخوان المسلمون في ميزان الحق، دار الطباعة، ص(38).
- عصام تليمة، السينما والمسرح في فكر الإمام البنا، 25 فبراير 2007م
- مجلة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (239)، السنة الأولى، 21ربيع أول 1366ه / 12فبراير 1947م، ص(2).
- جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة الخامسة – العدد 7 – صـ12 – 23ربيع الثاني 1356هـ / 2يونيو 1937م.
- مجلة الإخوان المسلمين، العدد (35)، السنة الثانية، 27 جماد أول1363/ 20 مايو 1944، ص(3، 4-18).
- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة المنهج.
- مجلة الفتح – العدد 557 – صـ10، 11 – 29ربيع الآخر 1356هـ.
- مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية العدد 136 السنة 5 /2ربيع أول 1366هـ, 25/1/1947 ص8.
- مجلة النذير، العدد (3)، السنة الأولى، الاثنين 14 ربيع الثانى 1357ه- 13 يونيو 1938م، ص(3-10).
- عصام تليمة نقلا عن لقاء على الإنترنت مع الدكتور صلاح عبد المتعال، ومقابلة مع الأستاذ فهمي هويدي في إستانبول بتاريخ 10 يوليو سنة 2006م.
- محمد المدهون، الإمام البنا ورؤية جديدة في المسرح والسينما.
- عبده مصطفى دسوقي، عمالقة في زمن النسيان، نقلا عن مجلة لواء الإسلام، العدد الثامن، السنة (44)، غرة ربيع الآخر 1410ه- 1 نوفمبر 1989م.
- مسرح الإخوان المسلمين.. البداية رومانسية، أحمد زين
- من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة، جمال البنا، دار الفكر الإسلامى للنشر والتوزيع، جـ1، 2010م
- صلاح ذهني، مجلة آخر ساعة
- مسرح الإخوان المسلمين.. مرجع سابق
- عين نيوز- رصد، الاثنين ٢/ ٧/ ٢٠١٢م.