مستقبل «الشعب اليهودي»
بقلم : محمد الجندي
في أيار ( مايو ) 2005 وفي حزيران ( يوليو ) 2006 اجتمع في واي بلانتيشن قرب واشنطن حوالي عشرين شخصية يهودية لأربع وعشرين ساعة من المباحثات المكثفة حول مستقبل« الشعب اليهودي »(يديعوت 11/7/ 2007 ).
وأكاديميون وسياسيون وأثرياء يهود من الخارج (خارج إسرائيل) شاركوا في مؤتمر القدس (في 8 أو 9/7) ينظمه «معهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي»، ويناقش مستقبل «الشعب اليهودي» (هآرتس 11/7).
بالمناسبة، رئيس المعهد المذكور هو «صاحبنا» دنيس روس، الذي أرسلته الإدارة الأميركية إلى المنطقة في مهمة طويلة لمتابعة الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية (؟).
من جملة ما ورد في مؤتمر القدس أن 28% فقط من يهود الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم صهاينة.
عدا ذلك يهود الولايات المتحدة ويهود إسرائيل هم متنافسون حول المركزية والمكانة والموارد وحول المسألة الأكبر: أين يكمن المستقبل (؟).
أيضاً 15 % من اليهود الأميركيين يشعرون أنهم قريبون جداً من إسرائيل مقابل 44% يشعرون أنهم بعيدون. (هآرتس 11/7).
الانتماء رغماً عنهم
احتوت أوراق المؤتمر سيناريوهات الكابوس، المتعلق بتهديدات سلاح الإبادة الجماعية والإرهاب العالمي ومعاداة السامية والميزان الديمغرافي، ولكن الموضوع الرئيسي المطروح للنقاش مختلف تماماً وهو التضاؤل الروحاني لليهود في العالم وأزمة الهوية اليهودية في إسرائيل وفي خارجها.
والانهيار الدائم لليهودية في العالم يتمثل بالقلة العددية والذوبان في الآخر وانعدام القيادة الرائدة.
آلاف من قادة الجماعات اليهودية خارج إسرائيل يعملون على شد الشبان إلى الهوية عن طريق نوادي الألعاب، واحتفالات العزب، والمخيمات الصيفية، والرحلات إلى إسرائيل، وعروض الموسيقى، ومواقع الانترنت، والمجلات المتسيبة. (يديعوت 11/7).
من جملة المعلومات غير المريحة أن نسبة الزواج المختلط (اليهود مع غير اليهود) تبلغ 54% في الولايات المتحدة، 29% فقط من الأولاد يدرسون في مدارس يهودية.
بالمقابل، في المكسيك 85% من التلاميذ اليهود يتعلمون تعليماً يهودياً، ونسبة الزواج المختلط لديهم 10%. (هآرتس 15/7).
طبعاً لم يميز النقاش في كل ذلك بين مستقبل «الشعب اليهودي» ومستقبل الصهيونية.
إن مستقبل« الشعب اليهودي » هو في رأينا متشابه مع مستقبل جميع الشعوب في عالمنا، وتفعل في هذا المستقبل ثلاثة عوامل، الأول والثاني عاملان وخارجيان، والثالث داخلي.
الأول هو المتعلق بالحياة على الكرة الأرضية، أي بالبيئة وبمختلف المؤثرات الكونية، والمؤثرات التي ينتجها الإنسان مثل تسميم البيئة، الحروب، استخدام الأسلحة الملوثة للبيئة (الكيميائية، البيولوجية، النووية)، والعامل الثاني هو المتعلق بالاستعمار، فالإدارات الاستعمارية بقيادة الإدارة الأميركية فرضت على الشعوب بشكل مباشر، وغير مباشر نظام حياة شامل: الوظيفة الاستعمارية الأساسية هي ذات أقنومين، النهب والأمن، أي أمن الاستعمار، فبالنهب يجرد الاستعمار الشعوب من مقومات الحياة في أمرين، حرمان الأغلبية الساحقة من الناس من المواد والخدمات ذات الضرورة الأولية (الخبز، السكن، الصحة، التعليم، الخ)،
والأمر الثاني تفرض ضعف التطور نتيجة الحرمان على الشعوب في نفس الوقت والأقنوم الثاني، الأمن، فيتجسد قبل كل شيء بالترسانات العسكرية وبجيوش العمل السري، وكلا ذلك يترجم في الواقع العالمي بالحروب والمجازر والقمع، وبلغ الأمر حالياً أقصى درجات الهمجية والدموية، المنطوية على مختلف درجات الإبادة، والعامل الداخلي يتعلق بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعب، وهذه تقع تحت تأثير الاستعمار، من جهة وتأثير المرحلة التاريخية، التي يمر فيها الشعب، من جهة أخرى، فالاستعمار يؤثر في تشكيل الأحزاب، وفي تعديل أساليب الحياة والأعراف، وكذلك في تعديل النماذج الاقتصادية وفي الشبكات الداخلية والخارجية التي تربطها، والمرحلة التاريخية تفعل في الأطر المختلفة للمؤسسات المختلفة (للأحزاب، للنقابات، الخ).
بالنسبة« للشعب اليهودي »، فإن حياته السياسية محكومة أولاً بوجود إسرائيل وبإدارة إسرائيل: وجود إسرائيل، لأنها تؤلف مركزاً سياسياً ـ روحياً لليهود، سواء كانوا في إسرائيل ـ أو خارجها، ويراد لها أن تكون كذلك، وإدارة إسرائيل، لأنها تمثل إسرائيل، وتمثل اليهودية السياسية، أياً كان لونها، يمينية، يسارية، وسطاً، وربما لولا وجود إسرائيل، لعاش «الشعب اليهودي » حياة عادية في البلدان التي وجد فيها، سواء حافظت قطاعات منه على حياته التقليدية أم لم تحافظ، مثله مثل المنتمين إلى الأديان الأخرى قبل التفعيل الأصولي.
أما مع وجود دولة يهودية، فإن اليهود، أينما كانوا، يفرض عليهم التكتل الطائفي، الذي من دون الاستجابة له، يتعرض المتمرد على هذا التكتل لمضايقات تختلف في شدتها حسب الزمان والمكان؛ ومع المضايقات أو من دونها يصنف الآخرون عموماً اليهودية في ذلك التكتل، ولو كان متمرداً عليه؛ والحياة السياسية « للشعب اليهودي» محكومة ثانياً بقيادات الصهيونية الدولية، التي تسيطر على مؤسسات سياسية واقتصادية ضخمة، لها نفوذ دولي واسع وخطير، والتي تفرض همينتها عموماً على جميع اليهود. الصهيونية صبغة سياسية
يراد مماهاة اليهود بالصهيونية لأهداف لسنا هنا في صدد التعرض لها، ولكن مثل هذه المماهاة هي خطأ موضوعي من جهة، ويحاصر اليهود غير الصهيونيين، من جهة أخرى.
بهذه المماهاة يمنع انتقاد الصهيونية، لأن المنتقد حينئذ يكون متهماً بيهوديته، وبها (أي بالمماهاة) تم استجرار الملايين إلى إسرائيل، فباستثناء الناشطين الصهاينة لم يكن اليهود العرب والإيرانيون والسوفييت والفلاشة صهيونيين، وربما ندم الكثيرون لتشردهم، وتركهم مواطنهم وأعمالهم إلى إسرائيل، وبها (أي بالمماهاة) وجدت على الصعيد الدولي مماهاة أخرى خطيرة، هي مماهاة معاداة ـ الصهيونية anti-Zionism بمعاداة السامية anti-Semitism، بينما الفرق كبير جداً، حيث معاداة الصهيونية هي موقف سياسي من ممارسات الإدارة الإسرائيلية والقيادات الصهيونية، أما معاداة السامية فهي موقف طائفي يدخل في التعصب الديني وعدم احترام الأديان الأخرى.
«الشعب اليهودي » ليس صهيونياً، ولا يمكن لأي شعب أن يكون منظماً سياسياً في إطار ديني أو عرقي.
اليهود قد يكونون صهيونيين تنظيماً أو عاطفياً أو بالقوة، وقد لا يكونون، والصهيونيين مهما ارتفع عددهم، لن يكونوا هم الشعب اليهودي، الذي هو مجموع اليهود ومجموع أجيالهم.
وتراجع الصهيونيين عدداً وتعاطفاً ليس تراجعاً بالروح اليهودية، فالروح اليهودية لا تمثلها الصهيونية لا حصراً ولا موضوعاً، فمجموع الآثار العلمية والأدبية والفنية، التي أنتجها« الشعب اليهودي»، هي التي تمثل الروح اليهودية، وربما الصهيونية أضعفت تلك الروح بتسخير هذه لأهدافها.
الطائفية، الاحتكار هدف الصهيونية
الآن يمكن التساؤل باقتضاب عن مستقبل الصهيونية، وهذا يختلف جذرياً عن التساؤل عن مستقبل« الشعب اليهودي».
مع عدم الاستطراد، الصهيونية لها ثلاثة وجوه، الأول هي كيان سياسي، يدخل فيه التنظيم السياسي عبر أحزابه وتشكيلاته المختلفة ونقاباته، ويدخل فيه بناء الدولة، التي هي إسرائيل.
والثاني هي كيان طائفي، مثلها مثل التنظيمات الطائفية الأخرى، ولا يغير الأمر شيئاً، كون إمكاناتها هي أكبر بكثير من إمكانات نظيراتها، والثالث، هي مرتبطة بالإدارة الأميركية وبالاحتكارات الدولية ارتباطاً عضوياً.
مع وضع ذلك في الاعتبار، فإن مستقبل الصهيونية هو المستقبل المزدوج للتشكيلات الطائفية وللاستعمار في العالم. التشكيلات الطائفية هي متناقضة مع التقدم التاريخي للإنسان، هي شد التاريخ إلى الوراء، الأمر غير الممكن إلا بالتجهيل، أي بتدمير كيان الإنسان وكيان المجتمع الروحي، ولا يمكن أن تستمر (أي التشكيلات) مع وعي الإنسان، وهو سيعي، ولو بثمن باهظ جداً.
أما الاستعمار فإنه في تناقض مع الحياة على الكرة الأرضية ومع الإنسان، وحل هذا التناقض غير ممكن، إلا بدمار الحياة والإنسان، أو بانتصاره، وإنهاء الاستعمار، والثمن هنا باهظ جداً وتاريخي.
المصدر
- مقال:مستقبل «الشعب اليهودي»المركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات