مراجعات الجماعة الإسلامية والجهاد
بقلم: د. عصام العريان
منذ 10 سنوات وفي 5/7/1997م وكنتُ قضيتُ قرابة سنتين من مدة السجن الذي بدأ 21/1/1995م انطلقت مبادرة وقف العنف على لسان الشاب محمد عبد العليم المنتمي إلى الجماعة الإسلامية أثناء محاكمته وإخوانه في إحدى محاكمات شباب الجماعة ببيان ألقاه من قادة الجماعة.
كنا معزولين بعد سنة تقريبًا عن السجون المصرية كلها؛ حيث تم نقلنا إلى سجن ملحق مزرعة طرة الذي ضاق بنا؛ حيث لا يوجد إلا مبنى واحد به 20 زنزانةً لا تسع الواحدة أكثر من شخصين وهي مهيئة لفرد واحد وكنا وقتها 63 أخًا معنا مرضى وكبار السن المعرضون لخطر الموت المحقق بسبب الأمراض التي تكالبت عليهم (الكبد والقلب والكلى)، وليس بالسجن أي مرافق على الإطلاق؛ لا عيادة ولا مستشفى ولا مغسلة ولا مطبخ، لا شيء سوى السكن فقط.
شغلتُ نفسي منذ بداية السجن ومن اليوم الأول بأمور عدة كان في مقدمتها الدراسة المنهجية الجامعية فاصطحبتُ كتبي للسنة الأولى لكلية الشريعة بجامعة الأزهر وأنا في طريقي إلى النيابة العامة، أمن الدولة، وحصلتُ في أول تحقيقٍ على تصريحٍ رسمي بدخول كتبي الدراسية وأداء الامتحانات، وأتاحت تلك الفرصة لي أن أخرج للامتحانات خاصةً بعد التحاقي أيضًا بعد سنة بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم التاريخ كانت الامتحانات غالبًا خارج السجن في سجون أخرى قريبة، مما كان فرصةً للقاء طلاب آخرين قادمين من سجون أخرى في المنطقة مثل العقرب وليمان طرة؛ حيث يقضي قيادات الجماعة الإسلامية فترات حكمهم الطويلة، بل التقيتُ بالأخ علي الشريف وهو من أعضاء مجلس الشورى الذين أشرفوا بعد ذلك على المراجعات عدة مرات؛ حيث كان طالبًا يدرس بكلية دار العلوم ويؤدي الامتحانات خارج ليمان طرة.
كانت فترة اللقاء قصيرةً لذلك سألته مباشرةً هل الاتجاه لوقف العنف حقيقيًّا وجادًّا أجاب: نعم، فشجعته على ذلك جدًّا وتأكدتُ من موقفه الشخصي؛ لأنه كان أحد أشد المتحمسين للعنف، وشارك في عملياتٍ كثيرةٍ أهمها حادث الاستيلاء على محلات ذهب نجع حمادي.
سألته ثانيةً: هل الجميع متفق على ذلك أم هناك تباينات؟
أجاب بوضوحٍ وصراحة الكل يتفق على وقف العنف وأكثر المتحمسين له هو الأخ كرم زهدي، ولكن هناك تفاوتًا في الآراء وكيفية التعامل مع الملف وإعداد البحوث اللازمة.
كان السؤال الثالث الذي أهمني جدًّا، هل هناك خلفية فقهية وفكرية لقرار وقف العنف أم أن المسألة مرتبطة بالعجز عن تحقيق أهداف الصدام العنيف خاصةً الضغط من أجل تحسين أوضاع المسجونين وإطلاق سراح المعتقلين والذين قضوا مدة عقوبتهم ووقف المطاردات؟
أجاب بشجاعة: إن هناك مراجعات ودراسات فقهية مطولة ما يصل إليها إلى الإعلام والرأي العام قد يكون مقدار ثلثها فقط، وأنهم جميعًا ومعهم شباب آخرون وباحثون وطلبة علم يقومون بإعداد دراسات وبحوث يتم مراجعتها، وفقط يتم وضع أسماء الشيوخ على الكتب بعد موافقة الأمن عليها وعرضها على الأزهر، وتمنيتُ عليه أن يحاولوا إرسال هذه البحوث مكتملةً إلينا في سجننا من باب المشاركة والاطلاع عليها، وحييته وشجعته على هذا الموقف الشجاع وحملته تحياتي إلى إخوةٍ فارقت بيننا الطرق لخدمة الإسلام بعد أن تعرَّفنا وتلاقينا وتشاركنا لمدة حوالي 6-7 سنوات منذ أول زيارةٍ لي ومعي إخوة كرام منهم الشيخ أسامة عبد العظيم الأستاذ حاليًا بجامعة الأزهر، وحتى آخر لقاءٍ جمعني مع القيادات في مسجد الرحمن بالمنيا؛ حيث حسم أحدهم الأمر قائلاً: لو اقتنعتم جميعًا بمنهج الإخوان السلمي والتربوي فلن ننضم أبدًا إلى الإخوان ولن نتخلى عن منهجنا وطريقنا في العمل.
كانت هذه الطريقة حتى الآن تعتمد مبدأ المنكرات بالقوة واستخدام الغلاء والشدة في الدعوة والضغط على الحكومة باستخدام ورقة النصارى مثل احتجاز طلاب نصارى كرهائن أو الاعتداء البدني عليهم، والقيام بواجب الحسبة دون مراعاة ضوابط ذلك شرعًا، واللغة الحادة في الخطابة والوعظ، وعدم مراعاة واجب الاحترام للأساتذة وإدارة الجامعات وعمداء الكليات.. إلخ.
لم يكن اللقاء والاتحاد المؤقت قد حدث بين مجموعة الصعيد التي كان اسمها وظلَّ "الجماعة الإسلامية" وبين مجموعة بحري بقيادة المرحوم محمد عبد السلام فرج المهندس بإدارة جامعة القاهرة الذي التفت حوله مجموعات متفرقة وعُرفت باسم "الجهاد"، وكان نتيجته اغتيال الرئيس السادات والهجوم الدامي على مديرية أمن أسيوط.
حدث الخلاف سريعًا داخل السجن بعد انتهاء المحاكمات وصدور الأحكام وبدء تنفيذ مدة العقوبة لأن المنهجين مختلفان.
واليوم عاد كل فريقٍ إلى قواعده بعد وقف العنف خاصةً الجماعة الإسلامية وفي الطريقجماعة الجهاد التي ستحتاج قطعًا إلى تأسيسٍ جديدٍ يعتمد وسيلةً أخرى للوصول إلى الحكم غير طريق الانقلاب العسكري أو حرب العصابات أو شن هجمات مسلحة هنا وهناك.
عندما ذهبت إلى سجن الليمان لأداء أحد الامتحانات واستضافني المرحوم محمود نور الدين في زنزانته بعنبر التجربة لساعاتٍ قبل حلول موعد الامتحان وجالسته ومعه رفاقه من تنظيم ثورة مصر حمادة شرف وآخرون تمنيتُ أن ألقى زملاءً خرجوا فرقت بيننا الطرق والمناهج، كما فرَّقت بيننا السجون والإجراءات، وكنت أعلم صعوبة ذلك فالقيود كثيرة والموانع عديدة، ولم يلقني حتى ضابط أمن الدولة حتى أطالبه بذلك، لكن إرادة الله شاءت عند خروجي من لجنة الامتحان وتوجهي إلى باب الليمان للخروج مع الحرس أن أقف وجهًا لوجه أمام كرم زهدي وناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وآخرين أثناء عودتهم من إدارة السجن، وحاول الحرس من الجانبين منع المصافحة والاعتناق إلا أنهم فشلوا في ذلك، وكان هذا أول لقاءٍ بعد حوالي 18 سنةً من الفراق، وشجعتهم بكلمةٍ قصيرةٍ على مواصلة المراجعات وبكلماتٍ عابرة مع التمنيات بالتوفيق.
كنتُ أطمئن كل امتحانات في لقاءات مع الشباب وليس القيادات على سير المراجعات وقبول القواعد في السجون لمبادرة وقف العنف وفكرة المراجعات.
كان الشباب في حالة معاناة شديدة لم تبدأ في الانتهاء إلا بعد تأكد الأمن من جدية الجماعة فبدأت تحسين المعاملة التي اشتدت قسوتها حوالي 6 سنوات بمنع الزيارات ومنع الكتب ومنع الامتحانات ومنع العلاج، قطيعة كاملة وبقاء داخل الزنازين 23 ساعةً في الـ24 ساعة يوميًّا لمدة 6 سنوات تقريبًا؛ مما أدى إلى تفاقهم الأمراض العضوية والنفسية وتفسخ اجتماعي وانهيارات أسرية وغيرها مما يطول شرحه.
كان مجرد حمل بعض الأطعمة التي تأتينا في الزنازين رغم المنع من ذلك يجد طعمًا مختلفًا ونكهةً جديدةً على أفواه لم تأكل سوى طعام السجن سنوات، كان هذا أقصى ما نستطيعه للتخفيف عن معاناة هؤلاء الشباب.
لماذا تذكرت ذلك كله الآن أو أتذكر معه أول ليلة قضيتها في زنزانتي بملحق المزرعة بعد لقائي مع علي الشريف؛ حيث لم أنم تقريبًا وسهرتُ أُفكِّر كيف ينام قادة وشيوخ اكتشفوا مؤخرًا عدم صواب ما ذهبوا إليه، وتسببوا في سفك دماء وانتهاك حرمات وتشريد أسر واعتقال آلاف الشباب وإعدام العشرات وغير ذلك من معاناة الأهل وترويع الناس؟ لكن في النهاية حمدتُ الله على عدة أمور:
أولها: أن هذه الفتنة انتهت وأن القادة كانوا شجعانًا للاعتراف بالخطأ.
ثانيًا: أن هناك مراجعاتٍ وأسانيد فقهية وفكرية تمنع العودة إلى هذا الطريق.
ثالثًا: أننا قمنا بواجبنا في النصيحة وصبرنا على ذلك طويلاً ولم نُقصِّر في ذلك.
رابعًا: أن الله تعالى عصمنا من الوقوع في فخ العنف في مرحلةٍ خطيرةٍ من مراحل الحياة وهي مرحلة الشباب التي تتميز بالحيوية والحماسية وأحيانًا التهور والاندفاع.
خامسًا: أننا بتوفيق الله تعالى استطعنا حماية الأغلبية العظمى من شباب مصر، خاصةً في الجامعات المصرية من الانخراط في طريق العنف، وأن الأغلبية باستثناء أسيوط أو على الأحرى فريق قاد العمل الإسلامي الطلابي فيها بعيدًا عن نهج الإخوان السلمي التربوي ابتعدت عن هذا المسلك والنهج الذي شوه صورة الحركة الإسلامية طوال عقدين من الزمان.
سادسًا: أن الإخوان المسلمين استطاعوا من خلال حكمتهم وتجربتهم الطويلة أن يورثوا الشباب منهجهم الإسلامي في الفهم الذي يمنع التكفير والغلو والتشدد ويحترم فقه العلماء السابقين كما ورثوهم منهجهم في العمل والإصلاح الذي يبتعد تمامًا عن العنف والصدام مع الحكومات ويعتمد أسلوب الدعوة والتربية والمشاركة النشطة في المجتمع والإسهام في الحياة السياسية والبرلمانية لرفع راية الإصلاح ولمقاومة الفساد بالطرق السلمية والقانونية والدستورية من أجل التغيير السلمي.
وها قد عاد الجميع بعد ربع قرن أو يزيد من المعاناة إلى المربع السلمي حتى ولو لم ينضموا إلى الإخوان المسلمين.
كان هذا الحديث بمناسبة مشاركتي في ندوة ليوم كامل عقدها مركز الدراسات الإستراتيجية والسياسية بالأهرام السبت 30/6/2007م ونقلتها قناة "الجزيرة" على مباشرةً ولم يتسنَ لي خلالها في مداخلتين شرح أبعاد أخرى في مناسبة مرور عشر سنوات على إطلاق مبادرة وقف العنف من جانب الجماعة الإسلامية وإرهاصات إطلاق مبادرة جديدة لجماعة الجهاد ويقوم بإعدادها د. سيد إمام الشريف زميل الدكتور أيمن الظواهري في الدراسة ورفيق دربه منذ زمنٍ طويلٍ والأمير السابق لجماعة الجهاد المصرية.
حفلت الندوة بمفاجآتٍ منها عدم حضور الأطراف الأصلية للمناقشة والحوار خاصةً حول المستقبل، وإعلان الأستاذ منتصر الزيات نيته التقدم بطلب حزب جديد واتهمه البعض بأنها فرقعة إعلامية وتبرأت الجماعة الإسلامية من هذا المسلك والإلحاح الطويل في ترسم سيناريوهات المستقبل خاصةً العلاقة مع الإخوان المسلمين، لكن هذا حديث آخر يحتاج إلى مقالات أخرى.
المصدر
- مقال:مراجعات الجماعة الإسلامية والجهادإخوان أون لاين