مذكرات في السياسة المصرية هيكل
ذاكرة الكتابة
•القضية الفلسطينية
•النزاع المصري الانجليزي في مجلس الأمن
•أزمة مجلس الشيوخ في يونيه سنة 1950
•قضية الوثائق السياسية المزورة 1951
محتويات
تقديم
بقلم
المحامي
أراني وأنا أحاول تقديم هذا الجزء الثالث من مذكرات الدكتور هيكل في السياسة المصرية أتصدى لمهمة شاقة , ولا ترجع هذه المشقة فحسب إلى أن من العسير أن يقدم أحد للدكتور هيكل , أو أن يقدم ابن لأبيه , بل لأن الطابع الشخصي الذي تتميز به هذه المذكرات السياسية يغني عن كل تقديم .
ومما يزيد من هذه المشقة أن حياة الدكتور هيكل السياسية قد سارت جنبا إلى جنب مع تطور حياة مصر السياسية طوال النصف الأول من هذا القرن , فإذا جاز لنا أن نقسم كلا من هاتين الحياتين إلى مراحل لوجدنا أن المرحلة الأولي من حياة الدكتور هيكل العملية قد اقتربت بمرحلة بدأ الكفاح المصري فيها ضد الطغيان السياسي وضد الاحتلال العسكري يتبلور ويتحول إلى مفهومه الحديث الذي كان مقدمة لثورة 1919 وما تبعها من تطورات ,
فلما دخلت مصر مرحلة جديدة في سنة 1922 , على أثر إعلان 28 فبراير , دخل الدكتور هيكل كذلك مرحلة جديدة هي مرحلة التفرغ للصحافة السياسية فترك المحاماة وتولي تحرير جريدة " السياسة " لسان حال حزب الأحرار الدستوريين , واستمر الأمر على هذا النحو قرابة خمسة عشر عاما , وعندما دخلت مصر في سنة 1937 , بإلغاء الامتيازات الأجنبية وبداية عهد فاروق , مرحلة جديدة ,
دخل الدكتور هيكل مرحلة جديدة كذلك , إذ انتقل في هذا العام من الاشتغال بالصحافة إلى الوزارة ثم إلى رئاسة حزب الأحرار الدستوريين ورئاسة مجلس الشيوخ , وهي نقلة خطيرة " لأن بين نظرة الصحفي وبين نظرة الوزير أو رئيس الحزب أو رئيس الشيوخ للحوادث فرق كبير يجعل النظرتين تختلفان اختلافا كبيرا "
امتدت هذه الفترة قرابة خمسة عشر عاما أيضا وانتهت بقيام الثورة في يوليو 1952 وباعتزال الدكتور هيكل للعمل السياسية نتيجة لها .
هذا التوافق الزمنى الذي سبقته مقدمات كثيرة ونتجت عنه تحولات فكرية هامة عند الدكتور هيكل يقتضي في الحقيقة ممن يتعرض للكتابة عن حياته السياسية أن يتناول حياة مصر كلها في انتقالها من مرحلة إلى أخرى , وتلك لعمرى مهمة شاقة تحتاج إلى الانقطاع لها والتخصص فيها .
وقد أودع الدكتور هيكل الأجزاء الثلاثة من مذكراته في السياسة المصرية خلاصة تجربته السياسية على مدى أربعين عاما ( 1912 -1952 ) شارك في معظمها في صنع السياسة المصرية ومعالجة قضاياها , فانطلاقا من نشأته المصرية الخالصة انضم منذ بواكير الشباب إلى أحمد لطفي السيد , أول من نادى بأن مصر للمصريين وتتلمذ على يديه في " الجريدة " مع أولئك الذين استوت على أيديهم من بعد معالم الشخصية المصرية الحديثة .
ثم واصل مسيرته على هذا النهج فكتب في " السفور " و" الأهرام " ثم أصدر " السياسة " و" السياسة الأسبوعية " وجعل من هاتين الأخيرتين مدرسة للسياسة والأدب ضمت أعلام المفكرين والسياسيين المعاصرين فكان لهما أثر ضخم في مصر وفي العالم العربي كله .
ويصف الدكتور هيكل نهاية هذه المرحلة الصحفية من حياته فيقول :" وكما انتقلت مصر
من عهد إلى عهد انتقلت أنا كذلك من عهد إلى عهد , فقد عطل الأحرار الدستوريين جريدة "السياسة " ولم يبق لى بإدارة سياستها ولا برئاسة تحريرها شأن , وقد تركت ميدان الصحافة إلى ميدان التأليف , إذ نشرت كتابي " حياة محمد " أعددت العدة لأنشر " في منزل الوحي " وقد سرت في حياتي البرلمانية سيرة رضيتها , وقد آن لى أن أنتقل مع العهد الجديد إلى حياة سياسة جديدة "
وصاحب هذا العهد الجديد انتقاله إلى المناصبة الوزارية , ثم رئاسة حزب الأحرار الدستوريين , ثم رئاسة مجلس الشيوخ حيث تبدأ مرحلة جديدة تتصل بما سبقها من مراحل بأنه كان فيها صاحب رسالة قبل أن يكون صاحب منصب , وكان أثره في تنظيم وزارة المعارف من أبرز إنجازاته في هذه المرحلة ,
كذلك كان شأنه في رئاسة مجلس الشيوخ سما بهذه الرئاسة فوق الاعتبارات الحزبية إيمانا منه بأن هذا المجلس ملك للأمة كلها وأنه يجب لذلك أن يكون في خدمة الأمة كلها , وقد جلب عليه ذلك من المتاعب ما بلغ ذروته في الأزمة البرلمانية الكبرى التي تناولها في الفصل الثالث من هذا الكتاب .
أما انتماؤه الحزبي فقد بقي طوال حياته السياسية متفقا مع طبيعته , ومع ما كان يؤمن بأنه الأسلوب الصحيح للتغيير , وكان في رئاسته لحزب الأحرار الدستوريين مثالا حيا للديمقراطية داخل الحزب نفسه , وكثيرا ما أثارا عليه ذلك سخط غيره ممن يفهمون الحزبية بمعناها الضيق .
أضف إلى ذلك كله صعوبة أكبر شأنا تقف في طريق من يقدم للدكتور هيكل .
ذلك أن أثره في الحياة السياسية المصرية له أبعاد أعمق بكثير من مجرد توليه لمناصب سياسية رفيعة فيما قبل الثورة .
فهو قبل كل شئ مفكر ليبرالي يصدر في سلوكه الاجتماعي والسياسي عن إيمان راسخ بالحرية والديمقراطية ويحاول أن يرسخ هذه القيم في المجالات المختلفة التي شارك فيها – وهي عديدة – وأن يجعل منها العصب الذي يبث الحياة إلى كيان البلاد كله .
وهو فضلا عن ذلك قد أرسي قواعد الأخلاق السياسية في عهده والتزام بها فيها خاض من معارك وما عقد من صداقات , فكان بشهادة الخصوم قبل الأصدقاء مثال السياسي النزيه في الداخل والخارج .
وكانت بعض هذه المعارك والصراعات ضارية حقا لأنها كانت تدور حول قضايا مصيرية مثل قضيتي الاستقلال والدستور والمحافظة عليهما , ولأن أطرافها الحقيقيين كانت هي القوى المتصارعة التي تتحكم في مصير مصر .
وتجلو هذه المذكرات دور الدكتور هيكل في هذه الصراعات الكبرى والأسلوب الذي خاضها به , وهذا الجزء الثالث لا يختلف عن الجزأين اللذين سبقاه من هذه الناحية , بل هو مكمل لهما وإن اختلف بناؤه عن بنائهما , فالجزأين الأولين قد وضعا وفقا لترتيب الأحداث ترتيبا زمنيا , في حين يتناول هذا الجزء الثالث موضوعات بعينها بصرف النظر عن ترتيبها الزمني ,
وقد آثر الدكتور هيكل أن يتبع هذا الأسلوب في كتابة الجزء الثالث لأن القضايا التي يتناولها كان لها في حياة مصر السياسية من الأثر ما يتجاوز بكثير العهد الذي وقعت فيه فقضية فلسطين , والنزاع المصري الانجليزي ومشكلة السودان وقيام الجامعة العربية وكان لها جميعا من الأثر على وضع مصر دوليا وداخليا ما أثبتته الأيام من بعد ,
وما لا تزال تثبته الأحداث كل يوم , وتطور الحياة النيابية , والأزمات البرلمانية الكبرى والحياة الحزبية , قد طبعت تاريخنا الحديث وأصبحت جزءا لا يتجزأ من تجربتنا السياسية الداخلية إلى الحد الذي يجعلنا اليوم , بعد انقضاء ربع قرن على توقف هذه التجربة الحزبية , نعمل على الأخذ بالنظام الحزبي من جديد , وكان الدكتور هيكل – رحمه الله – ينوى أن يفرد لكل من هذه الموضوعات فصلا خاصا في هذا الجزء الثالث , ولكن الأجل لم يمهله
فلم يكتب منها إلا الفصل الخاص بفلسطين , النزاع المصري الانجليزي في مجلس الأمن , وأزمة مجلس الشيوخ في يونيو سنة 1950 والوثائق السياسية المزورة .
وقد رأيت أن أقدم هذه الفصول للنشر إتماما للفائدة من هذه المذكرات , ولما كان لهذه القضايا الكبرى من تأثير حيوى على تاريخ مصر السياسي , وليس كالنشر من وسيلة للمحافظة على هذا التراث وتعميم الفائدة منه , فهو مادة لا غني للمؤرخ أو الباحث عن الرجوع إليها ليرسم الصورة الصحيحة لهذا الطور من أطوار حياة الوطن , كما أنها بالنسبة لنا اليوم تشكل دروسا سياسية ذات قيمة كبرى لمن أحسن الاستفادة منها في العمل من أجل غد سياسي أفضل .
وفقنا الله إلى ما فيه الخير , عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .
المحامي
الفصل الأول
فلسطين ... إسرائيل
وعد بلفور , وظروف صدوره – حق تقرير المصير : كيف طبق – انتهاء الحرب العالمية الأولي وإعلان حق الشعوب في تقرير مصيرها – انجلترا في فلسطين – موقف اليهود من الهجرة إلى فلسطين - الوكالة اليهودية ونشاطها – مقاومة العرب في فلسطين للهجرو اليهودية – الصحافة المصرية – نظرية الاستيعاب – هتلر والنازية ودورهما في زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين – موقف الساسة العرب من قضية فلسطين – ثورة 1936 – موقف مصر الرسمي من القضية – محمد محمود باشا يكتب إلى المستر نيفيل تشمبرلين – مؤتمر المائدة المستديرة في لندن سنة 1939 – الحرب العالمية الثانية :
مواقف اليهود والعرب من المتحاربين – سير الحرب حتى سنة 1942- تصريح إيدن حول انتظام الدول العربية في جامعة والدوافع إليه – التنافس الفرنسي البريطاني في المنطقة – محادثات إنشاء الجامعة العربية – وضع فلسطين في الجامعة العربية – تطور التفكير السياسية لليهود : من نظرية الاستيعاب إلى إقامة الدولة الصهيونية – موقف بريطانيا من هذا التطور – مقتل لورد موين في القاهرة- مؤتمر بلودان سنة 1947 – طلب تقرير عروبة فلسطين من قبل الأمم المتحدة - فلسطين دولة عربية متسامحة – اليهود يصرون على الدولة اليهودية – التقسيم – مناقشة الأمر في الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947-
أمريكا وروسيا تعلنان موافقتهما على التقسيم – تحفظ بريطانيا – دلالته – مفاجأة تخلي بريطانيا عن التزاماتها في فلسطين في 15 مايو سنة 1948 موقف الباكستان من تقرير لجنة التقسيم – الدعاية الصهيونية خلال نظر مشروع التقسيم – محاولة تأجيل نظر الموضوع إلى الدورة التالية – دعوة أبناء الجاليات العربية من مختلف الولايات لمواجهة النشاط الدعائي الصهيوني – التصويت ومحاولة إسقاط مشروع التقسيم – ما بعد قرار التقسيم –الحرب – قوات المتطوعين أم القوات الرسمية – التغير المفاجئ في اتجاه الحكومة المصرية والدول العربية – مجلس الشيوخ يعقد جلسة سرية لبحث الأمر – سير العمليات وصيغة البلاغات العسكرية – موقف إنجلترا وساطة الكونت فولك برنادوت – موقف العرب من عقد الهدنة- انتهاء الهدنة الأولي واستئناف القتال- العمليات تسير في غير صالح العرب – اليهود يواصلون السعي للصلح مع العرب – اغتيال برنادوت بعد تقديمه تقريره – الجمعية العامة تنظر وصية برنادوت – موقف مصر والدول العربية منها – اليهود يقاومون المقترحات – اغتيال النقراشي باشا – إسرائيل تستمر في اتصالاتها مع العرب – رالف بانش يستأنف مهمة برنادوت في قبرص .
كانت الحرب العالمية الأولي لا تزال حامية الوطيس حين أعلنت انجلترا في 11 نوفمبر سنة 1917 , أنها تكفل لليهود إنشاء وطن قومي في فلسطين , وقد عرف هذا الإعلان باسم تصريح بلفور , نسبة إلى وزير الخارجية البريطانية الذي أعلنه .
وقيل إن السبب في إعلان هذا التصريح أن انجلترا أرادت مكافأة اليهود على معاونتهم لها في الحرب , وطلبت إلى زعيمهم , مستر وإيزمان أن يذكر لها ما تكافئهم به , فطلب إنشاء هذا الوطن القومي في فلسطين , فكان ما أراد .
ولم يكن هذا التصريح الذي أصدره وزير الخارجية البريطانية نتيجة محادثات قصيرة الأجل , بل حدثت مفاوضات بشأنه استمرت من أواخر 1915 , كانت الحكومة البريطانية متصلة في أثنائها بالحكومة الأمريكية في واشنطن ولذلك وافقت وزارة الخارجية الأمريكية على التصريح فور صدوره .
فلما انتهت الحرب العالمية الأولي بانتصار الحلفاء , وإنجلترا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا , قسمت الدول المنتصرة العالم إلى مناطق يختلف بعضها عن بعض في مبلغ ما لها من حق في الاستقلال والسيادة ,
ذلك لأن ما نصت عليه شروط الهدنة التي وضعها الدكتور وودرو ولسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية من حق تقرير المصير أثار في البلاد الخاضعة للنفوذ الأوربي جميعا اندفاعا نحو الحرية وحرصا على تمتع كل بلد بسيادته واستقلاله وأدي من ثم إلى حركات تنذر بالعنف تجابه هذه البلاد بها قوى الاستعمار الأوربي .
وكان الاستعمار هو الظاهرة السائدة في سياسة القرن التاسع عشر , ولم تكن أوربا ترى أن تسلم للأمم التي تستعمرها بحقها في الاستقلال , بل كانت تريد أن تقصر هذا الحق على الدول الأوربية وحدها , مع ذك رأت الدول المنتصرة تجزئة بعض الدول المنهزمة وإنشاء دول أوربية جديدة فجعلت من النمسا والمجر دولتين تستقل كل منهما على الأخرى , وأنشأت دول بولونيا ولتفيا وأستونيا وأقامت ميناء دانتزيج الحرة , وخلقت الممر البولوني الذي يصل بولونيا بدانتزيج ورسمت خريطة أوربا بالصورة التي تخيلت أنها تكفل السلام في القارة الصغيرة المتحكمة في مصائر العالم أجيالا عدة .
فأما ما عدا الدول الأوربية فكان تفكير الساسة المنتصرين يومئذ متجها إلى أن يبقي ما كان فيها خاضعا للنفوذ الأوربي كما كان وإلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية المنهزمة تقسيما يوافق اتجاه هؤلاء الساسة , ويخضع الدول المتخلفة منها لإنجلترا أو فرنسا ,
وذلك برغم ما قطعته إنجلترا على نفسها إبان الحرب من عهود مكتوبة , في رسائل متبادلة بينها وبين الشريف حسين , حاكم الحجاز من قبل السلطان العثماني , تكفل بها استقلال البلاد العربية , وما أدت هذه العهود إليه من ثورة البلاد العربية بدولة الخلافة الإسلامية ومعاونتها إنجلترا وحلفاءها معاونة كان لها أثرها في مصير الحرب.
قسمت الدول المنتصرة العالم إلى مناطق يختلف بعضها عن بعض في مبلغ ما لها من حق في تقرير المصير , وأنشأت ما أسمته الانتداب الذي تخضع بموجبه بعض الدول غير الأوربية إلى بعض الأوربية ,
وحرصت إنجلترا على أن تكون الدولة المنتدبة في فلسطين وفي العراق , وعلى أن نخضع لسلطانها شرق الأردن ليمتد نفوذها من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى قلب آسيا , وأن تخلق لها من النفوذ في إيران المستقلة ما يصل سلطانها إلى مستعمراتها الآسيوية , والهند وبرمانيا , وغيرهما من بلاد الجنوب والجنوب الشرقي في القارة الآسيوية .
وطوع لها انتدابها في فلسطين أن تنفذ وعد بلفور بأن تفتح لليهود باب الهجرة إلى الأرض المقدسة , وقد كان زعماء اليهود يطمعون أن تسرع هذه الهجرة إلى " أرض المعاد " لحافز من عقيدة اليهود الدينية بأنهم أصحاب فلسطين منذ ألفي سنة , وبدافع قوى من الحركات العنيفة المقاومة للسامية , والتي كانت تجعل اليهود موضع المقت والاضطهاد في بلاد أوربا كلها لكن هذا المطمع لم يجد له صدى قويا بعد الفترة الأولي من الانتداب البريطاني , فقد رأي اليهود الذين هاجروا إلى " أرض المعاد " أنها لا تنيلهم من أسباب الرخاء ورغد العيش ما تنيلهم إياه البلاد الأوربية التي يعيشون فيها , كما رأوا من مقاومة أهل فلسطين العرب , مسلمين ومسيحيين ,
لهذه الهجرة ما جعل كثيرين ممن هاجروا يعودون أدراجهم إلى البرد التي نزحوا منها مؤثرين ما يلقونه من عنت مصدره الحركات المقاومة للسامية على هذا الشظف وهذا العنت الذي يلقونه في أرض " صهيون " فالحركات المقاومة للسامية لم تكن عنيفة إلى حيث تزعج اليهود الذين ملكوا ناصية المال والصناعة والعلم في البلاد الأوربية المختلفة , والذين استطاعوا لذلك أن يكونوا أصحاب الكلمة النافذة في الكثير من شئون الدول الأوربية الكبرى نفسها .
على أن زعماء الصهيونية , وفي مقدمتهم مستر وايزمان , لم ييأسوا ولم يلقوا سلاحهم حين رأوا هؤلاء المهاجرين من حيث أتوا , بل دأبوا على دعوة بني دينهم إلى الهجرة لما أسموه بلاد أجدادهم الأقدمين , وكانوا يلتمسون في دعايتهم كل الوسائل التي يرونها تقنع اليهود على اختلاف ميولهم أليست الكتب المقدسة تذكر أن مصير اليهود إلى " أرض الكتب المقدسة ؟" هذه نعمة يتأثرمن اليهود من لا يجدون في البلاد التي يقيمون بها من أسباب الطمأنينة إلى الحياة ما يطمعون فيه , فسواء لديهم أن يعيشوا في أوربا أو في فلسطين ,
أما الذين لا يكفي الإيمان لهجرتهم إذا حرموا الرخاء والثراء , فقد حركتهم الدعاية من الناحية الحساسة في نفوسهم فقيل لهم إن فلسطين ليست بلادا فقيرة كما يتوهمون بل إن بها من الثروة البكر ما إن استغل أفاء على الذين يستغلونه فائدة لا مثيل لها في البلاد التي يقيمون بها , أليس في فلسطين البحر الميت وبه من البوتاس وغير البوتاس ما يقدر بألوف الملايين , بل بملايين الملايين , وليس البحر الميت وحده مصدر الثروة في " أرض المعاد " بل إن بها من مساقط المياه ومن الأرض الصالحة للزراعة ومن المعادن ما يغل الذهب الخالص , والأمر في استغلاله إنما يحتاج إلى رأس المال والعلم والمغامرة والمثابرة ومن كاليهود أصحاب مغامرة ومثابرة وعلم ورأس مال ؟ !! فليشدّوا رحالهم إلى البلد الموعود تتحقق نبوءات الأنبياء وآي الكتب المقدسة .
كانت هذه الدعايات تذاع بين اليهود في مختلف أرجاء العالم وتحملهم على الهجرة إلى فلسطين , لكن ترددهم أول الأمر كان يحول دون السرعة في تنفيذ السياسة الصهيونية , وقد رأي وايزمان وأعوانه أن هذا التردد طبيعي , وأن التغلب عليه يقتضي رسم سياسة عملية تشجع المتردد وتدعوه لأرض أجداده السابقين .
لهذا أنشأوا الوكالة اليهودية وجمعوا من يهود أمريكا وأوربا مبالغ ضخمة أقاموا بها مدينة تل أبيب بجوار يافا , وبدأت الوكالة اليهودية تشترى بأثمان باهظة أراضي العرب الذين لم يفطنوا أول الأمر لما لبيعهم أراضيهم بها عما يبيعونه أرضا أوسع رقعة وثروة أكثر غلة ,
وبذلت الوكالة اليهودية في تل أبيب جهودا جبارة للتشجيع على الهجرة فكانت تلقي بعض النجاح أحيانا , وكان يصادفها أحيانا أخرى ما يكاد يفت في عضدها , فقد كان كثيرون من المهاجرين يشعرون بعد زمن من مقامهم بفلسطين بالحنين إلى الوطن الذي ولدوا به ونشأوا فيه فيعودون إليه , وكذلك كانت الهجرة الصهيونية , بين المد والجزر سنوات متعاقبة .
على أن يهود أوربا , ويهود أمريكا بنوع خاص , لم يضنوا بالمال يبذلونه للوكالة اليهودية يعاونونها به على تنفيذ سياستها , ولم تكن حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين تضن هي الأخرى بتأييد الوكالة اليهودية فيما تبذله من جهود لتحقيق أغراض الصهيونية .
أما أهل فلسطين العرب فلم يكونوا بادئ الرأي شعورا قويا بخطر هذه الهجرة وهم يرونها بين المد والجزر , على أنهم رأوا ضرورة مقاومة وعد بلفور بعد سنوات قليلة من الانتداب , وبعد أن رأوا حركة بيع الأراضي تمتد امتدادا دس إلى نفوسهم بواعث الاشفاق , بل بواعث الوجل .
وشعر دعاة اليهود بما قد يترتب على هذه المقاومة العربية في فلسطين من أثر يتجاور بلاد كنيسة القيامة والمسجد الأقصى إلى ما وراءها من الأقطار العربية , فبذلوا جهودهم ليحولوا دون تأييد مصر لجارتها الصغيرة , جاءنا في جريدة السياسة " يهودي بدأ يكتب عندنا مقالات في شئون شتى لا علاقة لها بفلسطين ولا بالهجرة اليهودية , ثم حدثني في تأييد " السياسة " للحركة الصهيونية , بحجة أن العرب واليهود من الجنس السامي الذي يقاومه الأوربيون بكل قوتهم , وأن تضافر أبناء هذا الجنس صاحب الفضل الأول في إقامة الحضارة الإنسانية يقضي على تحكم أوربا الآرية في أبناء الساميين , وزاد على ذلك أن " السياسة " تفيد من هذا التأييد فائدة مادية جسيمة ,
فاعتذرت له عن عدم إجابة مطلبه " فالسياسة " جريدة حزبية طابعها إسلامي, وتأييدها للحركة الصهيونية لا يتفق مع مبادئنا , وعرض الرجل أن نجعل من " السياسة " منبرا حرا في هذا الاتجاه , فاعتذرت مرة أخرى بأن مصر تؤازر البلاد العربية جميعا في المطالبة بالاستقلال وتقرير المصير ,
وأن " السياسة " على أية حال تفقد الشئ الكثير من نفوذها إذا أيدت حركة ضد العرب , في فلسطين كانوا أو في غير فلسطين , وأحسب أن جهودا من هذا النوع قد بذلت لدي غير " السياسة " من الصحف فلم تلق من الأثر خيرا مما لقيت عندنا .
ولم تكن صحيفة مصرية تستطيع أن تؤيد الحركة الصهيونية بحال , فقد بدأت صيحة فلسطين ضد الهجرة اليهودية ترتفع شيئا فشيئا , وبدأ رجال من ذوي المكانة في مصر يؤيدون هذه الصيحة تأييدا حارا , أيدها بعضهم متأثرا بعاطفة دينية , وأيدها آخرون تأييدا سياسيا أساسه أن وجود وطن يهودي إلى جانب مصر يسئ إلى حياة مصر الاقتصادية والسياسية على سواء , هذا إلى أن هجرة قوم إلى بلد برغم أهله يؤدي بطبيعته إلى تضييق أرزاق أصحاب هذا البلد من غير مسوغ , ويدفعهم إلى الثورة بهؤلاء المهاجرين ثورة بعيدة الأثر محفوفة نتائجها بأشد الأخطار .
تولي السيد أمين الحسيني مفتي القدس الأكبر زعامة الحركة المقاومة للهجرة الصهيونية إلى بلاده , وكان السيد أمين يومئذ شابا في مقتبل العمر لما يتجاوز الثلاثين أو الخامسة والثلاثين , وسيم الطلعة , عذب الحديث رقيق الحاشية ,
وهو إلى ذلك صلب العود , قوى الشكيمة , يؤازره في قوته وفي صلابة عوده مركزه الديني في الإفتاء من ناحية , ومركز أسرته وجلال شأنها في البلاد المقدسة من الناحية الأخرى , وقد اتجه , السيد أمين منذ اللحظة الأولي إلى العالم العربي وإلى العالم الإسلامي كله يطلب موزارة هؤلاء وأولئك في مقاومة هذا العسف الذي نزل ببلاده , والذي يؤدي إذا بلغ غايته , إلى إخراج العرب من ديارهم ولهم فيها أكثر من ألف وثلثمائة سنة , منذ فتحها عمر بن الخطاب إلى وقتنا الحاضر .
تزعم السيد أمين الحسيني حركة المقاومة ودعا إلى عقد مؤتمر إسلامي في القدس يقف في وجه الهجرة اليهودية وقد لبي دعوته كثيرون من الأقطار الإسلامية المختلفة أذكر من بينهم محمد على علوبة ( باشا ) وعبد الحميد ( بك ) سعيد من المصريين , والسيد عبد الرحمن الصديقي من مسلمي الهند , وأمثالهم من ذوى المكانة في العراق وسوريا وإيران وغيرها من البلاد الإسلامية وقد لقي هذا المؤتمر نجاحا عظيما وكان له في كل جانب من جوانب العالم الإسلامي صدي قوى تداول سمع الناس جميعا .
كيف تواجه السياسة البريطانية هذه الحركة ؟ إنها حريضة على صداقة العرب والمسلمين حريصة كذلك على تنفيذ وعد بلفور بعد أن ارتبطت به وجعلته أساسا من أسس سياستها في الشرق الأوسط , لابد لها إذن من أن تجد الوسيلة لإرضاء العرب وإرضاء اليهود جميعا , وأن تبدو في مظهر من يريد التوفيق بينهما على أساس عادل.
أما واليهود طارئون على البلاد فلا يجوز أن تبلغ هجرتهم حدا يقلق بال العرب على طمأنينتهم للعيش فيها , ولابد لذلك من تحديد الهجرة اليهودية حتى لا تتجاوز القدر الذي تستطيع البلاد أن تستوعبه من الناحية الاقتصادية , وقبل العرب , وقبل اليهود , نظرية الاستيعاب هذه , وجعل اليهود يقولون إن فلسطين تتسع لاستيعاب عشرات الألوف بل مئات الألوف من المهاجرين , وجعل العرب يعارضونهم في ذلك ويقولون إن قدرة فلسطين على الاستيعاب محدودة بهذا نصبت إنجلترا نفسها حكما بين الفريقين ,
فأوفدت لجانا تبحث قدرة البلاد على الاستيعاب وجعلت هذه اللجان تضع تقارير تؤيد بها وجهة النظر العربية حينا , ووجهة النظر الصهيونية حينا آخر , بذلك كانت الأعوام تتلاحق وتنقضي ثم لا تقض الهجرة الصهيونية مضجع أحد , لأنها كانت مترددة بين المد والجزر كما قدمنا .
ولعلها كانت تبقي كذلك عشرات السنين برغم ما كانت الوكالة اليهودية تبذله من جهود جبارة في إقامة المنشآت وفي شراء الأراضي إغراء لليهود على المجئ إلى فلسطين , لكن الإغراء لم يكن على جسامته كافيا لدفع يهود أوربا إلى النزوح عن أوطانهم التي ولدوا فيها لولا تطور السياسة الأوربية تطورا دفع اليهود إلى الهجرة مضطرين غير مختارين .
فقد تزعم أدولف هتلر حركة النازية في ألمانيا ثم حصل على الأغلبية في انتخابات سنة 1932 ,وتولي رياسة الرايخ الألماني إثر وفاة المارشال هند نبورج ونشر هتلر كتابه " كفاحي " يعلن فيه الحرب على يهود ألمانيا وعلى يهود العالم كافة , وأصدر من القوانين ما جعل مقام اليهود في أوربا الوسطى عسيرا بل محفوفا بالمخاطر , عند ذلك اندفع هؤلاء اليهود إلى فلسطين , وهنالك تطورت ثورة العرب من أهل البلاد بهذه الهجرة إلى ناحية العنف الرهيب .
كانت البلاد العربية والبلاد الإسلامية تعطف على عرب فلسطين أشد العطف لكن حكومات هذه البلاد كانت تقف من هذه المشكلة الدولية موقفا سلبيا بحتا , وكان ساسة مصر على اختلاف أحزابهم يرون في هذا الموقف السلبي حكمة غاية الحكمة فمشكلة العلاقات المصرية البريطانية وتنظيمها كانت تحتاج إلى كل جهد تستطيع مصر بذله ,
فإذا وجهت الجهود إلى فلسطين أو غير فلسطين أضعف ذلك نشاطها في السعي لاستقلالها وسيادتها , كان سعد زغلول ( باشا ) وغير سعد زغلول ( باشا ) من ساسة مصر يقولون هذا صراحة , وإن لم يمنعهم قوله من العطف على فلسطين والأسف للسياسة المتبعة فيها , وكانت الحكومات العربية الأخرى كالعراق وشرق الأردن , تقف من فلسطين مثل هذا الموقف ,
ولم يكن لهذه الحكومات , وكلها خاضعة للنفوذ البريطاني , أن تصنع شيئا يذكر , لهذا كان مجهود أبناء فلسطين مجهودا قوميا صادقا , وكانت ثورتهم بالهجرة اليهودية وببيع أراضي العرب لليهود عنيفة غاية العنف لم يخفف منها ما حدث من انقسام بين زعماء العرب الفلسطينيين وما كان من خلاف بين السيد أمين الحسيني ممثل العنصر المتطرف والسيد راغب النشاشيبي ممثل العنصر المعتدل وقد لا يخطئ من يذكر أن هذا الانقسام أدي إلى مزيد من عنف الثورة العربية في هذه البلاد المقدسة في سنة 1936 .
وقد كان لهذه الثورة أثر حاسم في تطور الأحوال , لا في فلسطين وحدها بل في الشرق العربي كله , ولهذا يحاول بعضهم أن يرد أسباب هذه الثورة إلى عوامل يتعذر أن يؤكد الإنسان صحة الاستنتاج فيها , ذلك أن اليهود الذين لم يجدوا في مصر معيبا لهم على توطيد أقدامهم في فلسطين فكروا في الاستعانة بسوريا ولبنان , وكانتا يومئذ خاضعتين للانتداب الفرنسي ,
كما فكروا في التفاهم مع السيد أمين الحسيني نفسه , ويقول العارفون إن اتفاقا مكتوبا تم بين الوكالة اليهودية وبين سوريا ولبنان , أقره السيد أمين الحسيني وإن لم يوقعه , على أن يستخدم اليهود نفوذهم لدي الحكومة الفرنسية لتعقد كل من سوريا ولبنان معاهدة على غرار المعاهدة التي عقدتها إنجلترا مع مصر , في مقابل أن تعترف سوريا ولبنان بالوطن القومي لليهود في فلسطين ,
وقد حدث بالفعل أن تفاوضت الحكومة الفرنسية مع سوريا ولبنان ووقعت اتفاقا عرف باسم الفرنسي الذي وقعه – اتفاق فينو – على أن يعرض على البرلمان الفرنسي لإقراره , وترامت أنباء ما حدث إلى عنصر المتطرفين قبل أن يعرض الاتفاق على البرلمان الفرنسي فقامت فلسطين فلم يجرؤ من وقعوا اتفاقهم مع اليهود من ساسة سوريا ولبنان أن يعترفوا بالوطن القومي والثورة قائمة , عند ذلك أبلغهم اليهود أنهم في حل من اتفاقهم فبذلوا نفوذهم لدي البرلمان الفرنسي , فرفض اتفاق فينو .
هزت ثورة سنة 1936 البلاد المقدسة وهزت غيرها من البلاد العربية فلم تستطع حكومات هذه البلاد أن تحتفظ إلى النهاية بسياستها السلبية إزاء المشكلة الفلسطينية , لذلك دعا غير الرسميين من أبناء مصر المعينين بهذه الحركة وفي مقدمتهم محمد على علوبة باشا إلى مؤتمر عربي يعقد بمصر في أوائل سنة 1938 لمناصرة قضية فلسطين ,
واشترك في هذا المؤتمر عدد كبير من ذوى المكانة في البلاد العربية وفي البلاد الإسلامية , وكانت وزارة محمد محمود باشا هي القائمة بالأمر يومئذ في مصر , فلم تفكر بطبيعة الحال في منع هذا المؤتمر أن يعقد بالقاهرة ولم تدعه يعقد وينفض بعيدا عنها , بل رحبت به وزادت على الترحيب أن دعت أعضاءه إلى حفلة ألقي فيها محمد محمود باشا خطابا رسميا أيد فيه مطالب العرب وأبدي فيه صادق الرغبة أن توفق الحكومة البريطانية إلى إيجاد حل عادل ينصف أبناء هذه البلاد ويرضيهم .
ولم يقف محمد باشا محمود عند هذا الترحيب وهذا الخطاب الذي وجه الساسة الرسمية لمصر وجهة جديدة , بل عني بالمسألة الفلسطينية عناية جدية , اقتناعا منه بأن حلها حلا يرضي مطالب العرب المسلمين والمسيحيين من أهل تلك البلاد يجنب مصر متاعب من الخير تجنبها في المستقبل ,
وامتدت عنايته من بعد إلى التفكير في الوسيلة العملية لتحقيق هذا الغرض , وفي انتهاز الفرصة لتنفيذ هذه السياسة العملية ,فبعد أشهر من انفضاض المؤتمر انتهز فرصة ظنها مواتية فقد ذكر موقف مستر نيفل تشمبرلين رئيس الوزارة البريطانية إذ ذاك من الحرب التي كانت موشكة أن تقع في صيف تلك السنة , سنة 1938 , وكيف وفق إلى تجنب وقوعها بالاتفاق الذي عقده مع هتلر في ميونيخ فأراد محمد باشا أن يتخذ من هذا الموقف فرصة تعاون على حل المسألة الفلسطينية فخطا خطوة لا يعرفها إلا القليلون , ولم تؤت هذه الخطوة الثمرة التي كان يرجوها , لكنها مع ذلك جديرة بأن تسجل وأن يحفظها التاريخ .
ولا أحسبني في حاجة إلى تذكير القارئ بموقف مستر نيفل تشمبرلين من الحوادث الدولية التي كانت تضطرب بها عواصم أوربا في صيف تلك السنة , فمنذ تولي أدولف هتلر زعامة الرايخ الألماني بعد سنة 1932 اتجهت سياسته إلى توسيع رقعة الدولة الجرمانية لتشمل جميع البلاد التي يقطنها عنصر جرماني , ولهذا ضم النمسا وأراد أن يضم بلاد السوديت من أرض تشيكوسلوفاكيا , وتحدث الناس عن تفكيره في ضم الممر البولوني وكان يفصل بروسيا الشرقية عن سائر بلاد الرايخ , كما تحدثوا عن تفكيره في التوسع في أرض بولونيا , وكان يعتمد في هذا التوسع على نظرية " المجال الحيوى " لألمانيا , وعلى تفوق الجنس الجرماني وحقه في حكم الشعوب ,
وأدت سياسته هذه إلى اضطراب في السياسة الأوربية في صيف ذلك العام اضطرابا تبدت معه نذر الحرب تهدد السلام في أوربا و وكانت إنجلترا وفرنسا قد كفلتا سلامة بولونيا , فكان طبيعيا ا، تفكر الحكومة البريطانية فيا قد يتنفس عنه هذا الاضطراب وفي مبلغ استعدادها للحرب أو حرصها على استدامة عهد السلام حتى تتخذ عدتها لمواجهة الأحداث العالمية إذا لم يكن من وقوع الحرب بد ,
ورأى مستر نيفل تشمبرلين أنه يستطيع أن ينقذ العالم من خطر الحرب إذا هو التقي بهتلر وتحادث وإياه , وأجابه هتلر إلى ما طلب فالتقي الرجلان في ميونيخ واتفقا على أن تضم ألمانيا بلاد السوديت وأن تقنع بذلك فلا تتعرض لغير السوديت من البلاد المجاورة لها , وكنا نحن في مصر نقدر ما قد يترتب على الحرب من تبعات نحملها نفاذا لمعاهدة الصداقة والتحالف التي عقدت بين مصر وبريطانيا سنة 1936 ولهذا تنفسنا كما تنفس العالم كله الصعداء بعد اتفاق ميونيخ وحسبنا كما حسب كثيرون أن مستر نيفل تشمبر لين قد استطاع بهذا الاتفاق أن يقي العالم كارثة حرب عالمية ثانية أشد هولا من حرب 914 – 1918.
أراد محمد محمود باشا أن يتخذ من هذا الموقف الذي وقفه مستر نيفل تشمبر لين من أزمة الحرب في سنة 1938 فرصة لحل المسألة الفلسطينية حلا عادلا فكتب إلى رئيس الوزارة البريطانية كتابا نوه فيه بفضله في التغلب على هذه الأزمة وإنقاذه العالم من الكارثة وأهاب به أن يبذل لحل مسألة فلسطين جهدا جريئا كذلك الجهد وكان محمد باشا عظيم الرجاء في أن ينتج خطابه هذا من الأثر ما تطمئن له نفسه , لكن مستر نيفل تشمبر لين رد عليه شاكرا له إشادته بجهوده , ذاكرا أنه كان جهدا مسرحيا لا يجدى مثله في حل مشكلة فلسطين .
لم يصد هذا الخطاب رئيس الوزارة المصرية عن السعي في السبيل الذي بدأه فقد دعت إنجلترا إلى مؤتمر " مائدة مستديرة " يعقد بلندن وتعالج فيه المشكلة الفلسطينية على ضوء التقارير التي وضعتها اللجان البريطانية , وقد جاء في آخر تقرير منها أن الهجرة الصهيونية بلغت الحد الذي لا تستطيع فلسطين بعده أن تستوعب مهاجرين آخرين وندبت مصر على ماهر باشا ليمثلها في المؤتمر المذكور , آملة أن يصل إلى اتفاق مع انجلترا على حل لهذه المشكلة المعقدة , وانعقد المؤتمر ثم انفرط من غير أن يصل إلى أية نتيجة إيجابية .
كان ذلك في أوائل سنة 1939 وبعد أشهر من عودة على ماهر باشا من لندن بدأ الجو الدولي الأوربي يضطرب من جديد , ثم بلغ اضطرابه أن تقوم الحرب العالمية الثانية في الأيام الأولي من شهر سبتمبر لتلك السنة , عند ذلك سكنت عواصف فلسطين وأبدي العرب واليهود جميعا استعدادهم لمناصرة الدولة المنتدبة , وكان طبيعيا أن يناصر اليهود انجلترا في دفاعها عن استقلال بولونيا ضد الاعتداء الألماني فهتلر هو الذي شن على يهود العالم جميعا غارته الشعواء وهو الذي أخرج يهود أوربا الوسطى من ديارهم ودفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين , فلا عجب أن تقف اليهودية العالمية ضده وأن تنصر أعداءه ,
أما العرب فقد نظروا إلى المسألة من وجه آخر , فلا يجوز في عرف المروءة العربية أن يناصب الإنسان العداوة من كان صديقه بالأمس لغير شئ إلا أنه أصبح في مأزق خطير هذا إلى أن عرب فلسطين كانوا يقدرون أنهم لا يقدرون على كثير إذا هم ناوءوا الإمبراطورية البريطانية في هذه الحرب الضروس مع هذا ذهب السيد أمين الحسيني فانضم إلى الألمان وأقام ببرلين معظم سنوات الحرب كما أنه كان ينظر بعين العطف إلى ثورة الثائر العراقي رشيد عالي الكيلاني الذي قام في بغداد بحركة معادية لانجلترا عداوة سافرة .
كانت أعلام النصر تسير في ركاب الجيوش الألمانية في سنوات الحرب الأولي وكان ذلك مشجعا للذين قاموا بهذه الحركات العدائية ضد الإمبراطورية البريطانية , وظل الأمر على ذلك بعد أن أعلنت ألمانيا الحرب في روسيا , وإلى أن دخلت الولايات المتحدة الحرب في صف انجلترا في شهر ديسمبر سنة 1941 , عند ذلك بدأت كفة الميزان بين المتحاربين تعتدل تمهيدا لانتقال أعلام النصر إلى جانب أمريكا وانجلترا وروسيا , وفي سنة 1942 أعلن مستر أنتوني إيدن وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم البريطاني أنه إذا فكرت البلاد العربية في تكوين جامعة لها فإن إنجلترا تنظر إلى هذه الجامعة بعين العطف .
لا غناء في الوقوف عند الجدل الذي ثار يومئذ حول هذا التصريح والأسباب التي أدت إليه , فهو لا ريب حلقة من سلسلة الحلقات التي جرت عليها السياسة البريطانية توطيدا لمركزها في الشرق الأوسط والأمر يبدو كذلك بخاصة إذا نحن ذكرنا موقف انجلترا من سوريا ولبنان قبل هذا التصريح فقد كانت فرنسا هي الدولة المنتدبة في سوريا ولبنان منذ رسمت الدول الأوربية صورة العالم بعد نهاية الحرب العالمية الأولي ,
وكانت فرنسا ترجو أن تظل سوريا ولبنان موضع ارتكازها في الشرق الأوسط فلما كانت الحرب العالمية الثانية وسلمت بعدها في سنة 1940 وخرجت بذلك من ميادين القتال مهيضة الجناح نازلة على إرادة الألمان الذين احتلوا معظم أراضيها بالهدنة التي عقدوها مع المارشال بيتان , رأت السياسة البريطانية الفرصة سانحة للإستئثار بالنفوذ في شرق البحر الأبيض المتوسط , لكنها كانت قد أعلنت من قبل أنها لا تبغي من وراء الحرب أى توسع في الأراضي الخاضعة لنفوذها لهذا رأت أن تشجع الحركات الاستقلالية في سوريا ولبنان .
فلما نضجت هذه الحركات أصدرت تصريحا بعطفها على مطلب هذين البلدين في الاستقلال عند ذلك اعترفت مصر باستقلال سوريا ولبنان في سنة 1941 .
وقد بقي موقف انجلترا من ثورة القطرين العربية الفرنسي يحز في نفس فرنسا إلى اليوم فلا تكاد تلتقي بصديق من الفرنسيين لا يأبي بحكم هذه الصداقة أن يفتح لك قلبه حتى يذكر هذا الموقف ويراه غدرا من السياسة الانجليزية بما انعقد بين فرنسا وانجلترا من صداقة أملتها ولا تزال تمليها منافعهما المشتركة وحرصهما على سلامتهما ضد كل غزو يهددهما من الشرق الأوربي , سواء من أوربا الوسطي أو من أوربا الشرقية .
أيدت إنجلترا مطلب سوريا ولبنان في الاستقلال , ثم أعلن وزير خارجيتهما أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى جامعة للدول العربية إذا فكرت البلاد العربية من تلقاء نفسها في إنشاء هذه الجامعة ولم تلبث الحكومات العربية حين أبلغ إليها هذا التصريح أن بدأت تفكر بالفعل في إنشاء هذه الجامعة ,
وأخذت الحكومة المصرية على عاتقها دعوة سائر الدول العربية للتفاهم على الأسس التي يقوم عليها ميثاق جامعة تربط هذه الدول معا برباط متين , وتكررت المحادثات لهذا الغرض وانتهت إلى " بروتوكول الإسكندرية " الذي وقعته الدول العربية في 7 أكتوبر سنة 1944 .
ما عسي أن يكون مركز فلسطين من هذه الجامعة ؟ أتكون عضوا من أعضائها برغم وقوعها تحت الانتداب البريطاني ؟ لم يكن هذا الانتداب ليمنعها من هذه العضوية فقد كانت شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني , وكانت مع ذلك من البلاد التي اشتركت في مناقشات القاهرة والإسكندرية لتكون عضوا في الجامعة ,
ولم يكن الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان قد انتهى دوليا , وكانتا مع ذلك شريكتين رئيسيتين في المحادثات لتأليف الجامعة لكن فلسطين لم تكن بها حكومة قومية من أبنائها , بل كانت السلطات البريطانية تتولي حكمها مباشرة فلم تمثل تمثيلا رسميا في المحادثات , مع هذا لم يفكر أحد من ممثلي الحكومات العربية في استثناء فلسطين من البلاد العربية التي تضمها الجامعة , بل اتجه التفكير إلى الوسيلة التي تمثل بها على الرغم من عدم قيام حكومة قومية فيها .
تغيرت الوزارة المصرية التي كانت قائمة بالمحادثات التمهيدية لإنشاء الجامعة العربية وألف أحمد ماهر باشا الوزارة خلفا لمصطفي النحاس باشا , وتطورت المحادثات بعد بروتوكول " الإسكندرية " إلى مفاوضات لوضع الصيغة النهائية لميثاق جامعة الدول العربية ,
وقد واجهت هذه المفاوضات غير مرة صعوبات منشؤها مبالغة كل من الدول العربية في الحرص على ألا يمس الميثاق سيادتها وكان ممثل لبنان في هذا الدور من أدوار البحث , السيد هنرى فرعون وزير الخارجية أشد المفاوضين حريصا على ألا تمس مادة وألا يمس لفظ في مادة حرية بلاده في التصرف في شئون استقلالها وسيادتها ,
أما المملكة العربية السعودية فكانت تجارى مصر كل المجاراة في أثناء المفاوضات التي جرت , في عهد وزارة أحمد ماهر باشا , وكان موقفها هذا يختلف عن موقفها قبل توقيع , بروتوكول الإسكندرية " فقد ظلت زمنا شديدة الحرص على حريتها في التصرف , وعلى ألا يعوقها ميثاق الجامعة عما تريد القيام به في أى أمر تراه ,
وكان يبدو لذلك أنها لا ترحب بفكرة الجامعة العربية , وكان ذلك طبيعيا يومئذ لما كان بينها وبين مصر من احتكاك , وبينها وبين الدولتين الهاشميتين العراق وشرق الأردن , من خلاف أول الأمر على أن الدول العربية استطاعت بعد محادثات طويلة أن تتغلب على هذه المصاعب كما استطاعت من بعد أن تنتهي إلي وضع الميثاق في صيغ لا يرتبط بنتائجها في السياسة والاجتماع والاقتصاد والتشريع وكل ما يتصل بسيادة الدولة في الداخل والخارج إلا من رضي هذا الارتباط مختارا .
أى وضع جعل لفلسطين في ميثاق الجامعة العربية ؟! لم تكن لفلسطين حكومة قومية تستطيع أن توفد من يمثلها في مجلس الجامعة , وهي جامعة حكومات لا جامعة شعوب , وفلسطين تعاني محنة لا تعاني غير ها من الدول العربية مثلها ,
فلم يكن طبيعيا أن تتخلي الدول العربية عنها أو تنساها , لهذا أضيف إلى ميثاق الجامعة ملحق خاص قيل فيه إن من حق فلسطين الاستقلال والسيادة , وإن حرمانها من حكومة تمثل شعبها وتتحدث باسمه طارئ مصيره إلى الزوال , وفي انتظار زواله يباح لمجلس الجامعة أن يضم ممثلا أو ممثلين لعرب فلسطين في كل اجتماع من اجتماعاته .
وقعت الدول العربية ميثاق جامعتها بسراى الزعفران بالقاهرة في 22 مارس سنة 1945. وكنت أنا أحد الذين وقعوه عن مصر , وقد تم توقيعه في جاسة علنية ألقي فيها رؤساء الوفود الممثلة للدول المشتركة فيه خطبا كلها التفاؤل والرجاء .
وعقب ذلك مباشرة عقد مجلس الجامعة جلسته الأولي , فكانت جلسة تاريخية خطيرة. ذلك لأن فرنسا حاولت استردادها نفوذها في سوريا ولبنان بحجة أنها صاحبة الحق في الانتداب عليهما بموجب صك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم , وتمسكت سوريا ولبنان بما لهما من حق في الاستقلال كسبتاه في سنة 1941 واعترفت به مصر وسائر الدول العربية ,
وكان مفهوما أن انجلترا تؤيد حركة سوريا ولبنان أما فرنسا فقد سلكت مسلك العنف فضربت دمشق بالمدافع وقبضت على كثيرين من رجالات سوريا ولبنان ولجأت إلى البطش الذي حرصت السياسة البريطانية على أن نتحاشاه ما استطاعت ولعل شعور فرنسا بموقف انجلترا كان من الأسباب التي دفعتها إلى سياسة العنف ففي الطبع الفرنسي حدة يثيرها برود السياسة الانجليزية ويدفعها أحيانا إلى تخطي ما تمليه الحكمة وبعد النظر .
ووقفت جامعة الدول العربية إلى جانب سوريا ولبنان وأيدتهما بكل قوتها واعترفت بحقهما في السيادة والاستقلال كاملين , وانتقلت الجامعة من مسألة سوريا ولبنان إلى مسألة فلسطين ثم أجلتها إلى دور مقبل من ينوبون عن فلسطين العربية ويتحدثون باسمها .
ومن يومئذ إلى الوقت الذي أكتب فيه هذه المذكرات – خريف سنة 1951 – لم تكن دورة من دورات الجامعة إلا عرضت فيها مسألة فلسطين بإفاضة وتفصيل , وكان ذلك طبيعيا , فالحوادث في فلسطين وموقفا الدول الكبرى من السياسة الصهيونية كانا يتطوران تطورا سريعا يمس كل دولة من الدول العربية عن قرب أشد مساس.
لم يكن بدء هذا التطور راجعا إلى نهاية الحرب أو إلى اقترابها من نهايتها , بل كان يرجع إلى موقف العرب وموقف الصهيونيين في أثناء الحرب ومنذ بدايتها , فقد اشترك اليهود في الحرب إلى جانب الحلفاء اشتراكا فعليا , وألفوا جمعيات من المحاربين كان لها أكبر الأثر فيما حدث من تطور , كانت فرقة ( الهاجاناة ) اليهودية من الفرق التي شاركت في الحرب بنصيب موفور , وقد تألفت في ظل الوكالة اليهودية جماعات مسلحة انقلبت من بعد جماعات إرهابية تسمت إحداها باسم ( شترن )
وتسمت أخرى باسم ( أرجون زفاى ليومي ) وفي ظل هذا التطور انتقلت الفكرة الصهيونية في تفسير تصريح بلفور نقلة واسعة , فقد كان التصريح يعد اليهود بوطن قومي في فلسطين وكانت بعض اللجان البريطانية التي ذهبت إلى فلسطين ورأت أن استيعاب البلاد للمهاجرين قد بلغ مداه فقررت أن انجلترا قد وفت بوعدها وأنشأت هذا الوطن القومي بالفعل ولم يعد من حق الصهيونيين أن يطالبوها بأكثر مما فعلت ,
أما الصهيونيون فذهبوا في العهد الأخير من الحرب إلى القول بأن إنشاء وطن قومي في فلسطين لليهود كان مرماه الطبيعي إنشاء دولة صهيونية بتقسيم فلسطين .
قسم للعرب وقسم لليهود , وأن يكون هذا القسم اليهودي دولة مستقلة ليس لغيرها من الدول أى سلطان عليها.
ماذا عسي أن يكون موقف انجلترا من هذا التطور في تفكير اليهود السياسي ؟ أتقرهم عليه , لم يكن ذلك مستطاعا, فهي كانت ترى شواطئ فلسطين من نقط الارتكاز الأساسية التي تعتمد عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط , بل كانت تحسب , إذا رأت يوما أن تجلوا عن مصر , أنها تستطيع أن تجعل فلسطين قاعدة قواتها في هذه المنطقة من العالم ولهذا أنشأت ميناء حيفا وأعدتها إعدادا حسنا , صالحا لأسطولها الحربي صلاحيته للسفن التجارية لتجد فيها العوض لسد الضرورة عن ميناء الإسكندرية ,
بل لهذا فكرت في مد أنابيب بترول العراق إلى حيفا لتمون سفنها من هذا البترول إذا عز يوما عليها أن تمونها من بورسعيد أو من السويس , ولهذا أيضا أنشأت مطار اللد وأفسحت رقعته وجعلته مطارا صالحا لمواجهة أغراض الحرب صلاحيته لأغراض السلم , وقد استعمر اليهود أكثر مواني فلسطين على البحر الأبيض , فتل أبيب مقر نشاطهم تجاور يافا , وليس بينها وبين حيفا مدى بعيد , وليس بينها وبين اللد كذلك مدى بعيد , فإذا هم أنشأوا دولة في هذه الأماكن فأكبر الظن أن تؤول حيفا وأن يؤول مطار اللد إلى هذه الدولة وأن تتحطم بذلك تقديرات السياسة البريطانية في هذا الركن من العالم .
لكن انجلترا لم تكن لتعترف بشئ من هذا أو تصرح به , وما لها تصارح بسياستها هي ولديها في تصريح بلفور نفسه الحجة التي تتذرع بها لمقاومة هذه النزعة الصهيونية الجديدة إنها تعهدت في تصريح بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين , على شرط ورد في صلب التصريح بوضوح وجلاء , ذلك ألا يجني إنشاء هذا الوطن القومي على حقوق العرب أهل البلاد , فالبقعة التي استعمرها مهاجرو اليهود على شواطئ فلسطين تحوى من العرب أكثر مما تحوى من اليهود فيافا , التي تجاور تل أبيب مدينة إسلامية عربية صرفة , وحيفا ليست يهودية بحال ,
والبلاد التي استقر فيها المهاجرون اليهود يسكنها من العرب المسيحيين والمسلمين ما يزيد على من هاجر إليها من اليهود فإذا خضعت هذه المناطق لسلطان اليهود أخل ذلك بوعد انجلترا للعرب وهذه الوعود تبعات حملتها إنجلترا وعهود ارتبطت بها وليس من سياسة انجلترا أن تنقض وعودها أو تتخلي عن تبعاتها !! لهذا وقفت أول الأمر تقاوم السياسة الصهيونية الجديدة وتظهر للعرب ودا أعظم الود .
كان ذلك هو الحال حين كات محادثات الدول العربية متصلة لتأليف جامعة لهذه الدول وكان لورد موين الوزير الانجليزي للشرق الأوسط والمقيم بالقاهرة من أنصار هذه السياسة والمؤيدين لها بقوة وحماسة , وكانت إنجلترا تقدر أنها أذا أخذت الأمور بالحزم فوقفت من العرب واليهود موقف الحكم المنصف استطاعت التغلب على النزعة الصهيونية الجديدة وكسبت في نفس الوقت مودة العرب لا في فلسطين وحدها , بل في كتلة البلاد العربية جميعها .
حدث ذلك في الأشهر الأخيرة من سنة 1944 وكانت الوزارة المصرية القائمة في الحكم يومئذ وزارة أحمد ماهر باشا وكنت وزيرا للمعارف وللشئون الاجتماعية فيها .
ولقد دعانا الدكتور ماهر باشا يوما لتناول طعام الغداء في " كلوب محمد على " ودعا معنا بعض رجالات العرب ابتغاء التغلب على مشكلة قائمة في المحادثات الخاصة بإنشاء الجامعة العربية ولم يكد جمعنا يلتئم حول مائدة الطعام حتى أقبل علينا حسن فهمي رفعت باشا وكيل وزارة الداخلية وأخبرنا أن رجلين مجهولين أطلقا الرصاص على لورد موين ساعة دخوله داره عائدا من السفارة فأردياه قتيلا وفرا على دراجتيهما وانزعج الدكتور ماهر باشا وانزعجنا جميعا لسماع الخبر خشية أن يكون القاتلان مصريين أو أن يعجز البوليس عن القبض جميعا لسماع الخبر خشية أن يكون القاتلان مصريين أو أن يعجز البوليس عن القبض عليهما فتثور بسبب هذه الجريمة أزمة بين مصر وانجلترا تعطل ما كنا نفكر فيه من المطالبة بتعديل معاهدة سنة 1936 تعديلا يحقق استقلالها وسائر أهدافها القومية ,
لكنا لم نلبث إلا قليلا ثم جاءنا بأن القاتلين قبض عليهما , تعقبهما رجل البوليس الأمين عبد الله وكان على " موتوسيكل " فلحق بهما وأمسك بتلابيبهما , وتبين أنهما شابان يهوديان صهيونيان جاءا من فلسطين خصيصا لارتكاب هذه الجريمة , بذلك سرى عنا وسكنت مخاوفنا وتناولنا طعامنا وتحدثنا في أثنائه عن غرض الصهيونية من راتكاب مثل هذه الجريمة النكراء .
ولم يحاول الشابان الإنكار حين حققت النيابة معهما , بل اعترفا بأنهما من عصابة إرهابية في فلسطين أبيا – إلى أن حكم عليهما بالإعدام وأعدما – أن يذكرا شيئا عن تكوينها وأعضائها وأنهما ارتكبا جريمتهما لأغراض قومية صهيونية .
كان قتل لورد موين نذيرا من الصهيونيين بأنهم لن يتراجعوا عن القيام بكل عمل يحقق أغراضهم وقد كشفت الحوادث بعد هذا الجريمة عن صدق عزمهم على المضي في سياسة العنف إلى نهايتها فقد حاكم الانجليز جماعة منهم لارتكابهم جرائم بذاتها فانتقموا من القضاة الانجليز ومن الضباط الانجليز وبذلوا غاية الجهد لإنقاذ بنى قومهم ممن حكم عليهم وأودعوا السجن ,
وتكررت مظاهر العنف في صور مختلفة دلت على أن وايزمان وأصحابه لم يعد يكفيهم من وعد بلفور أن يكون لهم في فلسطين وطن قومي يأوون إليه , بل يريدون أن ينشئوا دولة في أرض المعاد , ولقد ذهب دعاتهم في هذا إلى أنهم يريدون أن يجعلوا من فلسطين كلها دولة لهم وقيل أكثر من هذا إنهم قرروا في مؤتمراتهم السرية أن تمتد دولتهم من الفرات إلى النيل وإنهم إن أخفوا هذه السياسة وأنكروها علنا فهي سياستهم التي رسموها وصمموا على تنفيذها .
ما عسي أن يكون موقف الدول العربية من هذه التطورات ؟ لقد كانوا حينذاك في شغل يما يتمخض عنه العالم من أحداث نتيجة انهزام ألمانيا وحلفائها الأوربيين في الحرب وكانت الدول العربية متجهة بأنظارها إلى مؤتمر سان فرنسسكو الذي دعت إليه أمريكا وانجلترا وروسيا السوفييتية لوضع ميثاق الأمم المتحدة ,
ولما كانت الحرب ما تزال دائرة الرحي في اليابان , ولم يكن أحد يتوقع نهايتها السريعة على نحو ما حدث بالفعل بعد أن ضربتها الولايات المتحدة بالقنابل الذرية لم يكن اتجاه الدول العربية إلى مسألة فلسطين واضح القوة , بل لعل هذه الدول لم تكن تقدر مدي ما يجول بخاطر الصهيونيين من مطامع أو أنها على الأقل لم تكن تقدر أن هذه المطامع ستلقي صدى قويا في المجامع الدولية ,
لهذا كانت تبحث الأمر على هون مقتنعة دائما بأن انجلترا لن تدع اليهود يصبحون أصحاب الكلمة العليا في فلسطين اقتناعا منهم بأن انجلترا تحرص كل الحرص على أن تكون فلسطين نقطة ارتكازها الأساسية في الشرق الأوسط كله .
لكن مثابرة اليهود على خطة العنف التي بدأوها ومناوأتهم انجلترا فلسطين منأواة ظاهرة جعلت الدول العربية تفكر في أمر هذا القطر العربي تفكيرا جديا ولهذا دعت جامعة الدول العربية إلى عقد دورة خاصة لبحث المسألة , وقررت أن يكون انعقاد هذه الدورة في مصيف بلودان من أعمال سوريا وحددت له موعدا شهر يونيو سنة 1946 .
كنت على رأس الوفد الذي يمثل مصر في هذا المؤتمر , وكان الوفد مؤلفا من محمود فهمي النقراشي باشا ومكرم عبيد باشا وحافظ رمضان باشا واثنين من موظفي وزارة الخارجية المصرية , لم يقم النقراشي باشا معا ببلودان غير يومين اثنين عاد بعدهما إلى القاهرة ولم أعرف يومئذ سبب عودته , فهو لم يفض إلىّ بشئ عنها , لكنى علمت من بعد أن صدقي باشا , رئيس الوزارة , كان قد بدأ يفاوضه في أمر الهيئة السعدية التي كان النقراشي باشا يومئذ رئيسها واشتراكها في الوزارة , اقتناعا من صدقي باشا بأن اشتراك هذه الهيئة ييسر سبل المفاوضات التي كان قائما بها هو وهيئة المفاوضة المصرية مع المفاوضين البريطانيين وعلى رأسهم لورد ستانسجيت.
بدأ مؤتمر بلودان أعماله يذكر مطامع الصهيونيين في فلسطين وما رسمته مؤتمراتهم من سياسة التوسع في البلاد العربية , ثم ألف المؤتمر لجنة سرية لبحث الوسائل التي تقاوم بها الدول العربية هذه السياسة ,
وقد مثل حافظ رمضان باشا مصر في هذه اللجنة السرية , ولم أعن كثيرا بما يجرى فيها , برغم أنني كنت على رأس وفد مصر , اقتناعا مني بأن النتائج التي ستصل إليها اللجنة ستعرض على المؤتمر ,
وكان الشيخ يوسف يس ممثل المملكة العربية السعودية في المؤتمر عضوا في اللجنة السرية كذلك وقد أثار دهشة المؤتمر كله ذات مساء إذ تلي علينا برقية لا سلكية تلقاها من الملك عبد العزيز آل سعود جاء فيها إن جلالته يري التزام سياسة الحذر , وألا تغامر الدول العربية بأمر لا تثق بنتائجه ترى أكانت اللجنة السياسية تبحث وسائل المقاومة الحربية ليهود فلسطين ؟
ذلك ما يبدو من برقية الغاهل النجدى , على أن اللجنة السرية أنهت مأموريتها وتقدم رئيسها فارس بك الخورى بمشروع قرار تقترحه اللجنة , مؤداه أن تلجأ الدول العربية إلى هيئة الأمم المتحدة تطلب إليها تقرير عروبة فلسطين على أساس من أن هذا المطلب يتفق مع نصوص ميثاق الهيئة وأغراضها في المحافظة على السلام العالمي.
وافق المؤتمر على هذا القرار , أما ما عداه من أعمال اللجنة السرية فلم يعرض على المؤتمر واعتبر سرا لا يطلع عليه إلا أعضاء اللجنة وأمين الجامعة عبد الرحمن عزام باشا ولم أفكر في الوقوف على شئ من هذا السر اقتناعا مني بأن التفكير في أمور عسكرية سيلقي مقاومة من انجلترا , الدولة المنتدبة في فلسطين وأن الدول العربية خاضع أكثرها إلى النفوذ البريطاني فمن غير المعقول أن تفكر في مقاومة انجلترا عسكريا وهي تعلم أنها لا طاقة لها بهذه المقاومة من ناحية ولا فائدة ترجي من ورائها من ناحية أخرى .
وانفرط عقد المؤتمر وعدنا إلى مصر وعاد ممثلو الدول العربية الأخرى إلى دولهم ونحن ننتظر تطور الحوادث وكان هذا التطور سريعا لأن الصهيونية بدأت تقاوم سلطان انجلترا في فلسطين مقاومة جدية بعد أن انتهت الحرب العالمية في اليابان كما انتهت من قبل ذلك في أوربا وبعد أن تبين أن انجلترا غير قادرة على أن تحسم ما بين العرب واليهود من خلاف على الهجرة وعلى بيع الأراضي وعلى المشكلة الفلسطينية نفسها .
ورأت الحكومة البريطانية , بعد إذ تبينت أن كل مجهود للتوفيق بين العرب واليهود غير مجد نفعا , أن تلجأ إلى هيئة الأمم المتحدة تستعين بها على حل هذه المسألة المعقدة فهي لا تريد أن تغضب العرب ولا أن تغضب اليهود فإذا صدر قرار من هيئة الأمم المتحدة لا يرضاه أى الفريقين لم تكن سياستها في الشرق الأوسط معرضة لخصومة من جانب أى الفريقين .
وندبت الأمم المتحدة لجنة خاصة لبحث هذه المشكلة المعقدة واقتراح الوسيلة العادلة لحلها , وذلك بعد أن عقدت الجمعية العامة دورة خاصة سمعت فيها ممثلي الدول العربية . والأمين العام لجامعة الدول العربية كما سمعت فيها مندوبين عن الصهيونيين وفي هذه الجمعية العامة اصطدمت النظريتان العربية والصهيونية اصطداما ظاهرا ,
فقد أصر العرب وأصرت جامعة الدول العربية على أن تبقي فلسطين عربية مع التسامح مع من نزح إليها حتى يومئذ من المهاجرين اليهود ليبقوا فيها دون غيرهم من المهاجرين الذين يمكن أن يقدموا بعد ذلك , وأصر اليهود على تقسيم فلسطين وإقامة دولة صهيونية فيها هي دولة إسرائيل , ندبت الجمعية العامة لجنة لبحث هذه المشكلة واقتراح الوسيلة العادلة لحلها وانتقلت اللجة إلى فلسطين وسمعت أقوال أولي الشأن ثم انتهت إلى اقتراح تقسيم الأرض المقدسة بين العرب واليهود , اقتناعا منها بأن تعاونهما لا رجاء فيه , ولأنها وجدت في نفسها ميلا إلى اليهود لم تجد مثله إلى العرب ,
ووضعت اللجنة خريطة بهذا التقسيم لا يزال الناظر إليها يراها عجبا غاية العجب , فقد خصت اليهود بالمنطقة الساحلية عدا ميناء يافا فقد جعلتها للعرب لأنها رأتها بلدا عربيا إسلاميا صرفا , ثم إنها جعلت لليهود كذلك جزءا من شمال فلسطين لا يصله بمنطقة الساحل إلا ممر ضيق غاية الضيق , ثم جعلت لهم ( النقب ) أو ( النحب ) الممتد جنوبي فلسطين , والذي يفصل بين البلاد العربية فصلا تاما ,
مع هذا تركت للعرب جزءا من المنطقة الساحلية هو قطاع غزة المتصل بمصر ولم تدع بين الجزء الساحل بالجزء الشمالي , وقدمت اللجنة تقريرها على هذا النحو إلى الأمم المتحدة لتنظره في جمعيتها العامة التي تعقد في شهر سبتمبر وما بعده من سنة 1947 وطلبت إليها إقرار هذا التقسيم , أسرع اليهود في إعلانهم قبول ما قررته اللجنة وطلبوا إقراره , أما العرب فتمسكوا بموقفهم الأول لم يتزحزحوا عنه وطالبوا بعروبة فلسطين وبأن تكون لأهلها الأصليين الذين أقاموا بها منذ فتحها العرب في القرن الأول الهجرى ( الثامن الميلادي )
كانت مصر قد احتكمت إلى مجلس الأمن في الخلاف القائم بينها وبين انجلترا بعد أن قطع النقراشي باشا المفاوضات وقرر مجلس الأمن أن ينظر شكوى مصر في صيف هذا العام , عام 1947 , وخاطبني النقراشي باشا لأصحبه إلى مجلس الأمن فاعتذرت ولم أجب رغبته فطلب إلى أن أذهب على رأس الوفد الذي يمثل مصر في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فاعتذرت كذلك ,
ولكنه ألح وقال لى عشية سفره إلى مجلس الأمن إنه أبلغ جلالة الملك اختياره إياى , وترك لى أن أعتذر لدي جلالته إن شئت , ورأيت أن الاعتذار عن قبول رياسة الوفد قد يسوء فقبلت وطلبت إلى وزارة الخارجية أن تمدني بما لديها من وثائق تفيد دراستها في معالجة المسائل الواردة بجدول أعمال الهيئة وبخاصة مسألة فلسطين , ولم تسعفني الوزارة بأية وثيقة إلا ليلة سفرى ولم تعطني تقرير اللجنة التي أشارت بتقسيم فلسطين .
وركبت البحر إلى نيويورك وألفت الجمعية العامة في الجلسة الأولي لجنة خاصة لبحث مسألة فلسطين وذلك بعد أن ألقي مستر ترومان رئيس الولايات الأمريكية المتحدة خطاب الافتتاح وأعلن فيه أن الحكومة الأمريكية تنظر إلى مقترحات اللجنة التي أشارت بتقسيم فلسطين بعين التقدير والاعتبار ,
وقد كان لعبارة الرئيس ترومان هذه وقع أليم في نفوس الوفود التي تمثل البلاد العربية , فقد قدرت أن اليهود قد بذلوا من الجهد لدي الحكومة الأمريكية ما أدي إلى هذه النتيجة وقدروا إلى ذلك أن كثيرا من دول أمريكا خطباؤهم في الجمعية العامة على تصريح الرئيس ترومان , وذكروا أنه قصد به إلى التأثير في جو الهيئة وخيل إليهم أن السوفييت قد يعاونوهم جريا على سياستهم في معارضة أمريكا معارضة مطردة في كل موقف تتخذه , وبنوا على هذا الظن آمالا إلا تكن كبيرة فإنها على الأقل تبعث الرجاء في ألا يحصل تقرير لجنة التقسيم على ثلثي الأصوات فيتأجل الموضوع سنة يخلق الله خلالها ما يشاء .
بدأ الصهيونية ينظمون دعايتهم في صحف أمريكا وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة ولم يكن تنظيم هذه الدعاية عسيرا عليهم , فاليهود في أمريكا يملكون كل أسباب الدعاية هم أصحاب الصحف الكبرى , وأصحاب محطات الإذاعة الأمريكية المختلفة وأصحاب دور السينما , وهم المتحكمون في سوق المال الأمريكية أكثر من تحكمهم في سوق المال البريطانية , وهم إلى ذلك ذوو نفوذ ضخم في الانتخابات لرئاسة الجمهورية الأمريكية , فهم الثلث من سكان ولاية نيويورك ,
ولهذه الولاية الكبيرة من عدد الأصوات في انتخابات الرئاسة ما يحسب كل مرشح حسابه , ولهذا قيل إن انحياز الرئيس ترومان إلى اليهود في تقسيم فلسطين قد كان مرجعه إلى أن انتخابات الرئاسة كانت ستقع في سنة 1948 أى بعد عام أو أقل من نظر الجمعية العامة تقرير التقسيم , وإنه أراد لذلك أن يكفل أصوات اليهود في نيوريورك بانحيازه إليهم في مسألة فلسطين .
على أن مستر مارشال , وزير الخارجية الأمريكية يومئذ , أراد أن يقنع العرب بأن الحكومة الأمريكية لم تنته بعد إلى رأي في تقسيم فلسطين , وأن ما جاء على لسان الرئيس ترومان لا يزيد على أنه تقدير لعمل اللجنة التي بحثت الموضوع شهورا متصلة وأن هذا التقدير ليس معناه الموافقة على رأي اللجنة .
ولهذا الغرض دعانا إلى مأدبة غداء في دار له بالريف القريب من ليك سكس , وأظهر أنه يريد مناقشتنا في الموضوع مناقشة خاصة تعاونه على تكوين رأيه , وقد حضر معنا من الساسة الأمريكان شخص أمريكي كان موضع ثقة مستر مارشال والمتكلم بلسانه , وفي أثناء تناولنا الطعام جعل الوزير يسأل الأمير فيصل آل سعود ونورى السعيد باشا وفارس الخورى بك وغيرهم رأيهم في الموضوع فيذكرون له حججهم على عروبة فلسطين , وجلست أنا صامتا لا أتكلم ,
وكان الشخص الأمريكي يناقش زملائنا العرب آراءهم , وجلست أنا صامتا لا أتكلم , وكان الشخص الأمريكي يناقش زملائنا العرب آراءهم , ثم إن مستر مارشال اتجه إلى الناحية التي كنت بها وسألني رأيي فقلت : أرجو أن تكون حجج زملائي قد أقنعت الوزير, على أنني أضيف إليها حجة لا أحسبها تفوته ,
فمنذ أعلنت حقوق الإنسان في فرنسا وفي أمريكا وفي غيرهما من الدول المتحضرة لم يدر بخلد إنسان أن تنشأ في العالم دولة على أساس ديني فيقال دول المسيحيين أو دولة المسلمين أو دولة اليهود , فإنشاء دول بفلسطين على النحو الذي أقترحته لجنة التقسيم معناه العود بالإنسانية إلى عهود التعصب الديني وإلى عهود الحروب الصليبية ,
والأمر أفدح خطرا إذا لم تجمع أبناء هذا الدين قومية أو عصبية ولم تربط بينهم ما نعرفه من مقومات الأمم واليهود الذين هاجروا إلى فلسطين لا تربط بينهم أية صلة غير وحدة الدين , أما ما خلا ذلك فهم مختلفون فيه كل الاختلاف , مختلفون في قوميتهم , فمنهم اليهود الألمان واليهود البولونيون , واليهود الروس , وغيرهم وغيرهم ممن لا تعارف بينهم ولا آصرة تجمعهم , مختلفون في لغاتهم اختلافهم في جنسهم مختلفون في كل شئ إلا في أنهم يهود , ولا أحسب أمريكا ترضي أن تدفع العالم إلى الوراء في أسباب الحضارة وتعيد فيه عهود التعصب الذميم الممقون ,
خرجنا من هذا الاجتماع يسأل بعضنا بعضا ما عسي أن يكون له من أثر يقول البعض إن وزير الخارجية بدا عليه التردد مما يدل على أن أمريكا لم تتخذ موقف حاسما في الأمر , ويقول البعض إنها مجاملة أراد بها وزير الخارجية الأمريكية أن يخفف من أثر ما قاله الرئيس ترومان , وعدنا إلى ليك سكس ونحن مدركون دقة الموقف تمام الإدراك .
زاد الموقف دقة بعد أيام إذ أعلنت روسيا السوفيتية موافقتها على تقرير لجنة التقسيم , عند ذلك اجتمعت وفود الدول العربية وتداولت فيما عسي أن تصنع واتفق رأيها على ضرورة التمسك بعروبة فلسطين ورفض تقرير لجنة التقسيم والعمل على كسب الأنصار من دول أمريكا اللاتينية وغير أمريكا اللاتينية لتأييد فكرتها وقد رأت منذ اللحظة الأولي أن موافقة . روسيا على تقرير لجنة التقسيم قد يخفف من تأييد أمريكا لهذا التقرير , وهو قد يدعوها على الأقل إلى تخفيف ضغطها على الدول الأمريكية الأخرى لتسايرها في الموافقة على التقرير .
ولم تكن هذه الوفود مخطئة في انتهاج خطة مؤداها إقناع هذه الدول الأمريكية بأن موافقة روسيا على التقرير تنطوى على معاني لا يمكن أن تؤيد السلام في الشرق الأوسط بحال , فقد درجت روسيا , منذ ألفت الأمم المتحدة على معارضة السياسة الأمريكية معارضة مضطردة وعلى الوقوف من هذه السياسة الأمريكية موقف الخصومة العنيفة فموافقتها على تقرير لجنة التقسيم بعد أن تبينت موافقة أمريكا عليه لابد ينطوى على أمر تضمره السياسة السوفيتية وبخاصة أن اليهود الذين هاجروا من ألمانيا ومن بولونيا ومن تشيكو سلوفاكيا بينهم عناصر شيوعية كثيرة يمكن أن تجعل من الدول الجديدة التي يراد إنشاءها نقطة ارتكاز في الشرق الأوسط وتعاون روسيا إذا نشبت حرب عالمية ثالثة .
ولما كان الحديث حول هذه الحرب العالمية الثالثة مستفيضا في ذلك الحين , وكانت الصحف الأمريكية تتحدث عن هذه الحرب على أنها أمر واقع لا محالة , بل كانت تحرض عليها وتدعو لها وتحاول إقناع الرأي العام الأمريكي بأن المصلحة في الإسراع إليها قبل أن تقوى روسيا وتستطيع المقاومة , فقد لقيت حجتنا آذانا سميعة في أوساط مختلفة , بل لقد اقتنع بها ممثلو بعض الدول اللاتينية الأمريكية اقتناعا ظاهرا لم يخفوه عنا .
وكنا نتوقع أن تجد حجتنا هذه أذنا سميعة من جانب الوفد البريطاني والحكومة البريطانية وكانت السياسة التي عرفت إلى يومئذ عن الحكومة البريطانية أنها لا توافق على حل للمسألة لا يرضاه العرب واليهود جميعا ولما كان موقف العرب واليهود من تقرير لجنة التقسيم ومن كل حل لمسألة فلسطين موقف خصومة صريحة , فالعرب يريدون عروبة فلسطين واليهود يريدون تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل ,
فقد كانت هذه السياسة التي عرفت إلى يومئذ عن انجلترا سياسة سلبية بحتة معناها الظاهر الفرار من تحمل أية مسئولية وإلقاء هذه المسئولية على غيرها من الدول الكبرى وذلك حتى لا يقف العرب ولا يقف اليهود منها موقف الخصومة فإذا استطعنا نحن , ممثلي الدول العربية أن نقنعها بأن موقف روسيا وتأييدها تقرير لجنة التقسيم معناه إيجاد نقطة ارتكاز للشيوعية في الشرق الأوسط , فقد يعدل بها ذلك عن موقفها السلبي وقد يؤدي بها إلى تأييدنا ولو كان هذا التأييد غير ظاهر بإقناع الدول التي تدور فلكها كي تناصرها وتؤيدنا في اللجنة الخاصة وفي الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة .
وثبت في نفوسنا الاعتقاد بأن حجتنا هذه سيكون لها وزنها عند الجانب البريطاني ما كان بين اليهود والانجليز في فلسطين من خصومة سافرة جعلت اليهود يثورون على الحكم البريطاني ثورة صريحة , وجعلت تشيكلاتهم العسكرية ومنها الهاجاناة وشترن , تقاوم الأحكام التي يصدرها القضاة الانجليز على اليهود في فلسطين وتهاجم السجون وتخرج المسجونين منها وتتعرض بذلك لمقاومة القوات البريطانية المرابطة في فلسطين ,
وكنا نظن أن ما في هذه الثورة الجامحة من مساس بالكرامة البريطانية سيدفع الوفد البريطاني والحكومة البريطانية ليكون موقفهم أدني لتأييد العرب فإن لم يكن هذا التأييد سافرا , كان خفيا متصلا بالدول التي يتألف منها ( الكومنولث ) البريطاني .
لكن السياسة البريطانية سلكت طريقا اعتبرناه واعتبره مفاجأة محيرة فقد أعلن الوفد البريطاني في اللجنة الخاصة بموضوع فلسطين أن الحكومة البريطانية قررت إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15 مايو سنة 1948 وأنها ستسحب كل قواتها من هناك في أمد أقصاه هذا التاريخ , ما معني هذا ؟ وما عسي أن يترتب عليه من النتائج ؟
وكيف يمكن لعرب فلسطين أن يواجهوا الموقف يومئذ وقد جرت السياسة البريطانية في أثناء الحرب على نزع سلاحهم وإمداد التشكيلات اليهودية بالسلاح ؟
كان هذا الإعلان مفاجأة للوفود العربية لم تتوقعها , وقد أراد الوفد البريطاني معرفة مدى ما لهذه السياسة من أثر في نفس هذه الوفود , فدعانا مستر هكتور ماكنيل وزير الدولة البريطاني ومستر كريتش جونز وزير المستعمرات البريطاني إلى مأدبة غداء بمطعم ليك سكس.
فلما اكتمل اجتماعنا بدأ الأمير فيصل آل سعود الحديث قائلا : ألا تشعر الحكومة البريطانية بأن عليها تبعة عن تطور الأحوال في فلسطين وأن عليها واجبا نحو العرب لا يتفق وهذا التخلي الذي أعلنته إلى لجنة الأمم المتحدة وأجاب وزير المستعمرات بأن انجلترا جرت سياستها على ألا تؤيد حلا لا يقبله العرب واليهود على السواء ولما كانت المساعي التي بذلت للتقريب بين وجهتي نظر الفريقين قد فشلت جميعا لم يكن لها بد من أن تتخلي عن تبعاتها في البلاد المقدسة وتدع العرب واليهود أنفسهم يواجهون الموقف ويعملون على حله .
وتدخل نورى باشا السعيد في الحديث قائلا : إن إنشاء دولة صهيونية في فلسطين أمر غير مستطاع ولن تبقي هذه الدولة خمسة عشر يوما , فأجاب الأمير فيصل , أظنها تستطيع ولديها من السلاح ما بقي من زمن الحرب , أن تبقي سنتين وأجاب وزير المستعمرات البريطاني لعلها تستطيع أن تبقي خمس سنوات .
واستمر الحديث على هذا النحو من التنبؤ بمقدرة دولة صهيونية تنشأ في فلسطين على البقاء إلى أن فرغنا من طعام الغداء , وإلى أن قاربت الساعة الثالثة وحان لنا أن ننصرف ليشترك كل منا في اللجنة التي يساهم في عضويتها .
لم تكن الدول العربية وحدها هي المعنية بمسألة فلسطين وبتقرير لجنة التقسيم , بل شاركتها بعض الدول هذه العناية وكانت الباكستان في مقدمة هذه الدول , وكان ظفر الله خان وزير خارجية الباكستان ورئيس وفدها لدي الأمم المتحدة من أشد الناس عناية وأكثرهم درسا وأقواهم في الدفاع عن عروبة فلسطين , وقد عني عناية خاصة بدراسة تقرير لجنة التقسيم وبتفنيد ما ورد فيه من الآراء وما انتهي إليه من النتائج .
والواقع أن التقرير وما أشار به من التقسيم كان بين الظلم وحسب الإنسان أن يطلع على خريطة التقسيم ليري هذا الظلم جليا واضحا , فقد جعل التقرير معظم الشاطئ الفلسطيني للبحر الأبيض المتوسط من حظ اليهود , فيما خلا مدينة يافا التي استبقيت للعرب بحجة أن أهلها جميعا من العرب المسلمين , ومرفا حيفا الذي استبقي مرفا حرا لاستقبال أنابيب البترول من العراق ومن غير العراق , وفيما خلا الجزء الجنوبي المتاخم لمصر فيما بين غزة و العريش .
ولو أن الأمر اقتصر على هذا لجاز الدفاع عنه على ما فيه من ظلم , لكن التقرير جعل منطقة الجليل الغربي المتاخم للبنان عربيا , والجليل الشرقي المتاخم لسوريا يهوديا وجعل منطقة النقب أو " النجب " لليهود , ووصل بين هاتين المنطقتين وبين الشاطئ الذي جعله يهوديا وصلا وهميا رأس مثلث لا يعرف الإنسان معه كيف تتصل المناطق اليهودية بعضها ببعض ولا المناطق العربية بعضها ببعض هذا فضلا عن أن إعطاء منطقة النقب لليهود على امتداد يصل إلى العقبة معناه فصل البلاد العربية بعضها عن بعض فصلا تاما ,
فهذه المنطقة الفلسطينية هي التي كانت تصل بين مصر وشرق الأردن , فإعطاؤها لإسرائيل , واتصالها بمنطقة الشاطئ المعطاة لإسرائيل برأس المثلث الذي أشرنا إليه , معناه فصل مصر فصلا تاما عن سائر البلاد العربية , أو يستطيع أحد مع هذا أن يقول إن تقرير لجنة التقسيم لم يكن تقريرا ظالما , وأن تنفيذه سيكون مثار خصومات في الشرق الأوسط لا يمكن أن تهدأ وقد تقلب الشرق الأوسط إلى بلقان ثان تلتهب فيه الشرارة التي توقد نار حرب ثالثة , كما أوقدت سيراجيفونار الحرب العالمية الأولي .
استظهر ظفر الله خان وزير خارجية الباكستان هذا كله أمام لجنة فلسطين وأضاف إليه من الاعتبارات ما جعل كثيرين يشكون أعظم الشك في عدالة تقرير اللجنة التي اقترحت هذا التقسيم وفي صوابه , وقد بذلت الوفود العربية مثل هذا الجهد أمام اللجنة , فتحدث من رجالها كثيرون اتخذ كل منهم من الموضوع موقفا خاصا ,
ورأي اليهود ما تركه مجهود ظفر الله خان وجهود المتكلمين من الوفود العربية فضاعفوا من نشاطهم في نيويورك وفي الصحافة الأمريكية حتى لم يكونوا يعرفون مللا أو يذوقون للراحة طعما ,
بل لقد جاءوا بمستر وايزمان نفسه إلى اللجنة يحدثها , فإذا هو رجل بلغت منه السنون فحطمت كيانه وأضعفت بيانه , لكنهم أرادوا أن يجعلوا من اسمه تذكرة للإنجليز ولغير الانجليز ممن يقدرون لهذا الرجل مواقفه في صفهم في أثناء الحرب العالمية الأولي , وأن يؤثروا بذلك في جمهرة الوفود التي تمثل الأمم المختلفة .
ولم يقف نشاط اليهود في حدود نيوريورك وصحافتها , ذهبت يوما إلى واشنطون ونزلت فندق ( شورهام ) فإذا بي أري جموعا غفيرة تزحم ردهاته , فسألت : من هؤلاء فقيل لى إنهم اليهود يعقدون بالعاصمة الأمريكية مؤتمرا للدعاية لدولتهم في فلسطين وقد استمر هذا المؤتمر ثلاثة أيام جمعت في أثنائها مبالغ ضخمة لإنفاقها للدعاية للدولة اليهودية وإنشائها في فلسطين ,
ولم يكن مؤتمر واشنطن هذا إلا واحدا من اجتماعات متوالية تعقد في البلاد الكبيرة التي يكثر فيها اليهود , وكانت تنتهي بجمع الأموال للدعاية ولغير الدعاية من الوسائل التي يتذرع بها أولئك اليهود المعنيون بإقامة دولة إسرائيل في أرض المعاد .
وحفز نشاط اليهود وفود البلاد العربية لمضاعفة نشاطها وكان من ذلك أن كلف بعض رجالها من أبناء لبنان السفر إلى أمريكا الجنوبية حيث توجد جاليات لبنانية كبيرة للاتصال بها حتى تؤثر في حكومات تلك البلاد بما يدفعها لتبعث إلى وفودها كي تؤيد الوفود العربية في موقفها, هذا مع ما كنا نعلمه من أثر الولايات المتحدة في أمريكا الجنوبية كلها , لكن الوفود العربية لم ترد أن تترك وسيلة من الوسائل التي تكفل لها الظفر إلا لجأت إليها وبذلت في سبيلها كل جهد يستطاع بذله .
كانت المعركة حامية الوطيس إذن , بالغة غاية الشدة , وكان موقف الدول العربية قويا لأنه موقف عادل , ولكن القوة التي كانت تواجهه كانت ذات بأس شديد لأنها جمعت أمريكا وروسيا اللتين كانتا تزدادان صراحة في تأييد قرار التقسيم كلما تقدم الزمن .
ثم كانت دول , " الكومنولث " البريطاني تظاهر أمريكا لم تخف على الدول العربية حتى لقد صارح أحد أعضاء الوفد المصري مستشارا في الوفد البريطاني بأن موقف انجلترا في هذا الموضوع ليس موقفا سليما , لأن سكوتها عن التصريح برأيها لم يمنع دول " الكومنولث " الأربعة الكبرى , استراليا , ونيوزيلندا , وكندا , وجنوب أفريقيا من أن تبدى تحيزها للصهيونية , وكان رد الانجليزي على هذا الاعتراض أنه يدل على أن دول " الكومنولث " مستقلة حقيقة , وأنها ليست ملزمة بمتابعة رأي انجلترا ,
ولاحظت أنا في ابتسام : أما كان انقسامها إلى فريقين , فريق يؤيد اليهود وفريق يؤيد العرب أقوى دلالة على استقلالها .
كانت الوفود العربية تجتمع بفندق " ولدورف استوريا " بصالون الأمير فيصل أكثر من مرة في الأسبوع , ولم أكن مواظبا على حضور اجتماعاتها لأننا جعلنا مسألة فلسطين من اختصاص محمود بك فوزى وعبد المنعم بك مصطفي , فكانا يحضران كل هذه الاجتماعات نيابة عن الوفد المصري ,
أما أنا فكنت أحضرها حين أنبه إلى أن الحديث فيها سيتناول أمرا له أهمية خاصة , وكثيرا ما كانت تطول هذه الاجتماعات إلى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل وأحسبني قد استوفيت حظي من السهر الطويل حين كنت رئيسا لتحرير السياسة , فأنا لذلك أوثر النوم المبكر منذ سنين .
شعرت الوفود العربية , على الرغم من الجهود الضخمة التي تبذلها , بأنها قد لا تصل إلى غايتها , فلا يؤيدها ثلث أعضاء الجمعية العامة تأييدا يسقط قرار التقسيم , لهذا فكرت في أن تبذل مجهودا آخر لتأجيل مسألة فلسطين إلى الدورة المقبلة , لكن الظفر بالتأجيل لم يكن أقل مشقة من إسقاط مشروع التقسيم , فالتأجيل يقتضي توافر أغلبية نسبية من مجموع الحاضرين أى نصف عدد الأصوات ,
فإذا لم نكن واثقين من الثلث كنا في ريب من أن نحصل على النصف للتأجيل إذ كانت الدول الكبرى حريصة على نظر الموضوع والفصل فيها وقد تبينت أنا يوما تعذر التأجيل حين قابلت مستر تريجفي لى سكرتير هيئة الأمم المتحدة , فذكر لى في صراحة أن الدورة لا تنتهي , قبل البت في موضوع فلسطين بقرار تصدره الجمعية في أمر التقسيم , هنالك أيقنت أن الأمر في التأجيل أصعب منه في نظر الموضوع ونقلت ما سمعت إلى زملائي رجال الوفود العربية , وطلبت إليهم أن يتدبروا الأمر من ناحية الظفر بالثلث لإسقاط التقسيم إذا كان ذلك ممكنا .
وإنني لأتابع أعمال اللجنة السياسية ذات يوم إذ قال لى جارى , رئيس وفد الأكوادور ألا ترون أن تقترح الوفود العربية حلا عمليا غير التقسيم يمكن أن تجتمع عنده الآراء فوقوفكم موقف سلبيا في هذا الموضوع ليس من شأنه أن يجعل مهمتكم يسيرة وسألته : وهل ترى حلا عمليا يمكن اقتراحه وتجتمع الكلمة عنده , قال : نعم نظام على نحو ما هو حادث في سويسرا. قلت : سأفكر في الموضوع وانتهى حديثي معه عند هذا .
ونقلت ما ذكره لى إلى إخواننا أعضاء الوفود العربية . ورأى بعضهم الاقتراح معقولا ورآه آخرون خروجا عن التفويض الذي لديهم من حكوماتهم مع اعترافهم بدقة الموقف عند ذلك اقترح بعضهم على السيد جمال الحسيني , وكان يمثل فلسطين , وقد دعته اللجنة الخاصة للتكلم باسم العرب كما تكلم وايزمان وغير وايزمان باسم اليهود – اقترح عليه بعض أعضاء الوفود العربية أن يسافر بالطائرة إلى فلسطين أو إلى بيروت وأن يقابل عمه السيد أمين الحسيني حيث يكون وأن يطالعه بحقيقة الموقف ودقته كما نراه ويعر عليه فكرة النظام الفيديرالي وأن تقترحها الوفود العربية على أساس أن فلسطين لا تقبل القسمة , فأبي جمال بك قائلا : إن سفره لعرض مثل هذا الاقتراح يعرضه لأن يتهم بتهمة الخيانة وقد يعرضه للقتل .
والواقع أننا كنا في حيرة من موقفنا بين التفاؤل والتشاؤم , وقد بلغت الحيرة بالكثيرين في بعض الأحيان أن كانوا يخافون أشياء لا محل للخوف منها , كان مستر إيفات وزير خارجية استراليا هو رئيس اللجنة الخاصة بفلسطين , وكان رئيسا للجنة فرعية مهمتها التوفيق بين اللجنتين الفرعيتين الأخريين لإيجاد حل تلتقي عنده رغبات العرب واليهود ,
ولم يبذل الرجل جهدا يذكر بل لعله لم يبذل أى جهد في سبيل هذا التوفيق الذي عهد إليه أن يقوم به , وإنني لفي ليك سكس إذ قابلني الأمير فيصل وطلب إلى أن أحضر اجتماع الوفود العربية ذلك المساء عنده في تمام الساعة السابعة مساء , قلت : ولكنني مدعو للعشاء الساعة الثامنة والنصف قال : لك علىّ أن نعرض الموضوع الهام الذي يريد إخواننا التحدث فيه لأول ما نجتمع فإذا فرغت منه فلك أن تتصرف كما تشاء ,
واجتمعنا وسألت عن الموضوع الهام ما هو فعلمت أنه بلغهم أن مستر إيفات سيدعو لجنة فلسطين لتجتمع صبح الغد وأنهم يريدون أن يتداولوا فيما يقولون في أثناء الاجتماع , ولما كانت اللجنتان الفرعيتان لم يقدم أيهما تقريرها سألت : على أى أساس سيتناقش الحاضرون إذا ما دام التقريران لم يقدم أيهما , قال قائل ربما أبلغا إلينا منتصف الليل , قلت وهل يعقل أن يبلغ تقرير في موضوع خطير كهذا الموضوع منتصف الليل , ثم يناقش في الصباح ؟
وإذا حدث أن أبلغ التقريران وطلب أى عضو التأجيل لدرس التقرير ثمان وأربعين ساعة , أفيستطيع أحد رفض طلبه ؟
قيل : لا . قلت : إذن فلننظر حتى يصل التقريران ثم نرتب خطتنا بعد ذلك , وتأجل نظر هذا الموضوع ( الهام ) ولم تعقد اللجنة في الصباح ولم تعقد حتى قدمت اللجنتان تقريريهما وأتيحت الفرصة لدراستهما , إنما هو الوهم الذي جعل احتمالا كهذا الاحتمال ممكنا , وهو في نظر العقل غير ممكن .
وإنما أدخل هذا الوهم في روع البلاد العربية اقتناعها بأنها على حق , وشعورها مع ذلك بأن الدول الكبرى تخالف هذا الحق وهي تراه واضحا تمام الوضوح , وتخالفه وهي تعلم أن فلسطين لا يمكن أن تتسع للعرب واليهود معا , وأنها لا يمكن أن تستوعب من المهاجرين اليهود أكثر مما استوعبت وتخالفه وهي تعلم أن إقامة دولة في العهد الحاضر على أساس من العقيدة الدينية برغم اختلاف الجنس والمنشأ واللغة أمر غير معقول , تخالفه وهي قادرة إن شاءت أن تجد لليهود المضطهدين في أوربا وليهود العالم أجمع مكانا يتسع لهم في استراليا , أو في أفريقيا الاستوائية , أو في أمريكا الشمالية حيث الأراضي الفضاء وموارد الطبيعة البكر تتسع لملايين كثيرة لا تتسع فلسطين لعشر معشارها , تخالفه وهي تعلم أن دعوى اليهود أنهم أصحاب فلسطين منذ ألفي سنة ,
وأنهم شردوا منها دعوى لا تقوم على أساس لأن كثرة يهود فلسطين تنصروا في عهد الرومان ثم أسلموا في عصر العرب ولأن كثيرين من يهود العالم يرجعون إلى أصول لا تمت إلى بني إسرائيل الذي استعمروا إسرائيل قبل المسيحية بنسب , تخالفه وهي تعلم أن قيام دولة يهودية في الشرق الأوسط لن يعاون على إقرار السلام في العالم , لكنها تخالفه مع ذلك ومع غير ذلك من الاعتبارات الكثيرة , لأسباب لا تمت للعدل ولا للسياسة النزيهة بصلة أو بنسب , تخالفه لأن لليهود سلطانا في انتخابات رياسة الجمهورية الأمريكية ,
وكانت هذه الانتخابات ستقع في سنة 1948 , أى بعد شهور من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة , يوجب على حكومة الولايات المتحدة وعلى رأسها مستر ترومان أن تمالي اليهود ولو لم يكونوا على حق , تخالفه لأنها تريد أن يكون لها مركز استراتيجي تعتمد عليه في الشرق الأوسط , وهي تعلم أن من اليهود الذين هاجروا أو يهاجرون إلى فلسطين عناصر شيوعية كثيرة , تخالفه لأن انجلترا وعدت بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ,
وكانت تظن يوم أنشأته تصوت في الجانب الذي تصوت فيه أمريكا وروسيا,والحجة الوحيدة التي كان يتمسك بها مؤيدوا التقسيم أن وجود اليهود في فلسطين أصبح أمرا واقعا تقره وثائق دولية من عهد عصبة الأمم فلا سبيل إلى نقض هذه الوثائق ,
وكأن تقسيم بولونيا لم تقره وثيقة دولية قبل الحرب العالمية الأولي , ومع ذلك اعتبر هذا التقسيم لبولونيا جريمة دولية منكرة وحرصت انجلترا والدول المنتصرة في الحرب الأولي على أن تعيد لبولونيا وحدتها لأنها حق وعدل , فلا صير إذن من أن ترتكب جريمة دولية أخرى بتقسيم فلسطين , فإذا استطاع بعد ذلك قادر على إعادة وحدة فلسطين بحرب أو بغير حرب فليعدها , وهو واجد يومئذ من سند المنطق الدولي ما شاء الله من حجج وأسانيد .
هل استنفدت الوفود العربية كل ما تستطيع من وسائل تمكنها من الظفر بثلث الأصوات في الجمعية العامة حتى يسقط قرار التقسيم ؟ لقد كنا نعلم عن يقين أن شعب الولايات المتحدة لا يؤيد حكومته ولا يعارضها في هذا الموضوع فيما وراء حدود ولاية نيويورك , ولقد قابلني صحفي أمريكي في أبهاء فلاشنج ميدوز , حيث تعقد الجمعية العامة اجتماعاتها ,
وأخبرني أن الولايات البعيدة بعض الشئ عن نيويورك لا تعني بمسألة فلسطين في قليل ولا كثير , وأنها لا تقرأ صحف نيويورك بل تقرأ صحفها هي , وأن اليهود في أمريكا لا يتمتعون من العطف بأكثر مما يتمتعون به في دول أوربا , وإنما شوكتهم وسلطانهم في العاصمة " واشنطون " وفي نيويورك حيث يملكون الصحف الكبرى والمصارف الكبرى ومحطات الإذاعة .
أما وفي أمريكا عدد عظيم من أبناء الشعوب العربية , ومن فلسطين نفسها , ألا يستطيع هؤلاء أن يقوموا بنشاط يقاومون به الموجة اليهودية , لعل في ذلك ما يسكن ولو بعض الشئ من حدة المظاهرة التي يقوم بها اليهود ويحملون بها السلطات الرسمية الأمريكية على مناصرتهم ؟!
فكر بعضهم في هذا , فدعا الأمريكيين الذين يمتون بأصولهم إلى بلد عربي إلى وليمة كبرى في فندق بنسلفانيا , وفيه صالة تتسع لبضعة ألوف يتناولون فيها طعام العشاء , ودعوا إلى وليمة عشاء حضرها ألوف وجلس ممثلوا الدول العربية في صدر المكان على منصة الشرف , وجلس بينهم وكيل الخارجية الأمريكية ,
فلما فرغنا من تناول طعام العشاء بدأ الخطباء يتكلمون , تكلم وكيل الخارجية مدافعا عن سياسة أمريكا في صراحة لم نكن نظن وجهة نظرهم بقوة كل القوة , وتكلمت أنا باللغة العربية , فلما فرغنا من تناول الطعام وخرجنا أدهشني أن هؤلاء العرب الأمريكيين لم يبق منهم من يعرف اللغة العربية , بل اندمجوا في الكتلة الأمريكية اندماجا تاما , حتى لقد سمعت أحدهم يقول لأصحابه ما معناه : كم أسفت لأنني لم أفهم ما قاله المصري , لقد كان يتكلم بحماسة شديدة تأثرنا بها جميعا , ولو أننا فهمناه لشاركناه أغلب الرأي في اتجاهه .
على أن الخطب الكثيرة الأخرى التي ألقاها ممثلو العرب باللغة الانجليزية قد أقنعت هؤلاء الأمريكان من أصل عربي بأن الاتجاه إلى تقسيم فلسطين اتجاه ظالم , وفتحت أعينهم على ما نبه إليه هؤلاء الخطباء العرب من اتجاه السياسة الصهيونية إلى التوسع حتى تمتد دولتهم من الفرات إلى النيل , لكنهم لم يكونوا يملكون أن يصنعوا شيئا من مثل ما يصنعه اليهود الأمريكيون ,
فلم تكن للعرب سياسة كالسياسة الصهيونية تقررت منذ عشرات السنين , فالعرب يعملون لتنفيذها بصبر ومثابرة كصبر اليهود ومثابرتهم , ولم تؤيد دولة قوية واحدة سياسة العرب كما أيدت الولايات المتحدة وأيدت روسيا سياسة الصهيونيين , لهذا لم يكن لهذه الحفلة الأمريكية العربية من الصدى ما تخطي حدود فندق بنسلفانيا إلا قليلا , ولهذا عدنا نفكر في كسب الأنصار من أعضاء الأمم المتحدة لعلنا نظفر بالثلث فيسقط قرار التقسيم .
وقد اقتنعنا قبل جلسة الجمعية العامة التي نظر فيها الموضوع بأننا ظفرنا بهذا الثلث , وبأن الموضوع سيفصل فيه بما نعتقده الحق والعدل , وكم سرنا أن علمنا ليلة انعقاد الجمعية العامة أن الجنرال رومولو رئيس وفد الفيليبين سيخطب في الجمعية العامة لمصلحة العرب وكم سرنا أن ممثلي بعض الدول الصغيرة غير الخاضعة للنفوذ الأمريكي المباشر ستصوت في صفنا ,
وكم سرنا أن بعض الدول الخاضعة للنفوذ الأمريكي والتي كانت متجهة إلى تأييد التقسيم ستغيب عن جلسة التصويت بعد أن اقتنعت بأن إقرار التقسيم سيؤدى إلى اضطراب في الشرق الأوسط ليس من شأنه أن يقر السلام العالمي , وبأن إقرار التقسيم سيعرض اليهود في اليهود العربي والعالم الإسلامي , وعددهم يزيد كثيرا على المليون إلى ألوان من الاضطهاد لا تنجيهم إقامة الدولة الجديدة منها , وكذلك يقينا ننتظر انعقاد الجمعية العامة ولدينا من الأمل في سقوط قرار التقسيم ما بعث إلى نفوسنا بعض الطمأنينة .
وتحدد يوم 27 نوفمبر لجلسة الجمعية العامة التي تنظر فيها مسألة فلسطين , وكان الرأي السائد أن تؤخذ الأصوات في جلسة الصباح , أو في جلسة بعد الظهر على الأكثر , وكانت جلسات هذا الدور من أدوار الجمعية العامة للأمم المتحدة قد طالت ثلاثة أشهر , لهذا قرر كثيرون السفر على الباخرة البريطانية " كوين مارى " التي تبرح نيويورك بعد الظهر من يوم 27 نوفمبر وحجزوا أماكنهم عليها ,
وكذلك فعلت وحضرت في صباح ذلك اليوم جلسة الجمعية واستمعت العامة واستمعت إلى الجنرال رومولو يؤيد سياسة العرب وسافرت بعد الظهر مع الذين سافروا على " كوين مارى " ومن بينهم رئيس وفد السوفييت , مستر فيشنسكي , ورئيس وفد لبنان الأستاذ شارل مالك , والسير شوكروس النائب العام البريطاني , وكثيرين غيرهم , وأقمنا ننتظر أن تنقل إلينا إذاعة الباخرة أنباء ما حدث في فلشنج ميدوز , وعلمت في الصباح أن الجلسة تأجلت إلى الغد , ماذا حدث ؟
لم يكن أحد منا يتوقع هذا التأجيل , وفي مساء الغد علمنا أنها تأجلت إلى اليوم التالي , ثم صدر القرار في هذا اليوم الثالث وأذيع أن الجمعية العامة أقرت تقرير لجنة التقسيم ,وعلى ذلك أصبح للدولة الصهيونية أن تقوم باسم دولة إسرائيل تنفيذا لهذا القرار .
كان الأستاذ شارل مالك يتلقي على الباخرة تليفونات خاصة من نيويورك وقد أخبرنا أن محدثيه ذكروا له أنه على إثر إلقاء الجنرال رومولو خطابه صبح يوم 27 نوفمبر اتصل البيت الأبيض من واشنطن برياسة جمهورية الفيليبين وذكرها بأن الولايات المتحدة اعترفت باستقلال الفيليبين منذ سنوات قليلة ,
وأنها لم تكن تنتظر أن يكون جواب الفيليبين عن هذا الاعتراف باستقلالها أن تعارض سياسة الولايات المتحدة في مسألة تعيرها هذه الولايات أهمية كبرى , وأن الرئيس ترومان يعتبر مثل هذا الموقف غير متفق وما يجب بينه وبين الفيليبين من مودة , وطلب إلى رئيس الجمهورية أن تصدر حكومة الفيليبين إلى وفدها في الأمم المتحدة التعليمات بأن يصوت مع قرار التقسيم , وكذلك كان , وقد علمنا كذلك أن غير واحد من ممثلي الأمم الصغيرة التي وعدتنا بالتصويت ضد قرار التقسيم لم يحضر , وأن الإشاعات تضاربت في السبب الذي أدي إلى عدم حضوره , وأن بعض الأقوال يذهب إلى أن البوليس الأمريكي منعه بحجة أو بأخرى من الذهاب إلى مقر الجمعية العامة , مع هذا لم ينل قرار التقسيم ثلثي أصوات الحاضرين , ولم يبلغ الرافضون للتقسيم ثلث الحاضرين كذلك .
لأن عددا من الدول امتنعت عن إعطاء أصواتها , ولما كان الذين صوتوا في مصلحة التقسيم يزيدون على ضعف الذين صوتوا ضده فقد اعتبر هذا تصويتا في مصلحة قرار التقسيم كما أقرته لجنة الأمم المتحدة وأعلن ذلك في الجمعية العامة , وأذيع في أرجاء العالم جميعا .
اعتبر ذلك تصويتا في مصلحة التقسيم مع أنه لم يجمع أغلبية الثلثين للأصوات التي أعطيت وقد كان مثل هذا الموضوع محل بحث من قبل غير مرة , فاختلف الرأى فيه , قبل مرة إن الموضوع لا يجوز اعتباره حائزا أغلبية الثلثين إلا إذا كان الذين صوتوا معه يمثلون ثلثي الحاضرين أيا كانت الأصوات الأخرى , سواء أكانت رفضا أو امتناعا , وقبل في التدليل على ذلك إن النص في ميثاق الأمم المتحدة على أغلبية الثلثين معناه ثلثي الحاضرين جميعا , فلو أخذ بغير ذلك وامتنع عدد كبير عن التصويت ثم قبل المشروع عدد يزيد على ضعف الذين رفضوه , وكان هذا العدد دون نصف الحاضرين لكان في ذلك تخريجا غير مقبول للنص الوارد في ميثاق الأمم المتحدة ,
وقيل مرة أخرى إن الممتنعين يعتبرون في حكم غير الحاضرين , وعلى هذا يكفي أن يزيد القابلون على ضعفي الرافضين ليكون المشروع مقبولا , وقيل في التدليل على ذلك إن الأخذ بهذا الرأي هو وحده الذي يسير بأعمال الأمم المتحدة سيرا إيجابيا , فأما إذا لم يؤخذ به فأغلب الظن ألا يحصل مشروع قرار على الأغلبية وتعد القرارات كلها مرفوضة وفي هذا تعطيل لعمل الجمعية غير مستساغ .
لا أريد أن أؤيد أى الرأيين , ولكنني أشعر بأن الذين يمتنعون عن التصويت لا يمكن تفسير امتناعهم بأنه قبول أو رفض لما هو معروض عليهم , فأقل ما يجب في هذه الحال أن يؤجل الموضوع المطروح للرأي إلى دورة مقبلة عادية أو غير عادية حتى تتكون للقبول الأغلبية التي يتطلبها الميثاق من مجموع أصوات الحاضرين عند أخذ الرأي .
عادت وفود الدول العربية إلى بلادها وقد أيقنت أن الحق والعدل ألفاظ لا مدلول لها في قاموس السياسة , وأن الدول صاحبة القوى المادية عسكريا واقتصاديا هي صاحبة الكلمة النافذة , وأن التفكير لذلك في عالم أفضل , أو في سلام عالمي دائم يعدو أن يكون ضربا من أماني الخيال , وأن العالم الإنساني الذي تقدم في العلم وسلطانه على الطبيعة لا يزال هو هو , توجهه سلائقه الحيوانية التي توجه السباع وسائر المفترسات غير الناطقة , وأن عليهم لذلك أن يفكروا كيف يقاومون قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بالوسائل التي لجأت إليها الأمم الكبرى في الضغط على الأمم الصغيرة لاستصدار هذا القرار .
بذلك انتقل التفكير من ممثلي الدول العربية لدي الأمم المتحدة إلى الهيئات التنفيذية في هذه الدول وإلى جامعة الدول العربية ولهذا لم يبق لى وأنا رئيس مجلس الشيوخ أن أتعرض لشئ من الأمر إلا أن يقتضي تصرف الحكومة في شأنه أن تلجأ إلى البرلمان ,
ومن ثم لم تكن لدى معلومات مباشرة أدونها في هذه المذكرات , وإنما أكتفي بما وقفت عليه في الصحف أو من الأحاديث الخاصة التي جرت بعد ذلك بيني وبين من كانوا يتولون هذه الأمور وكان الأمر كذلك بخاصة لأن مجلس الدول العربية أحال كل ما يتصل بفلسطين وعروبتها إلى اللجنة السياسية فيها , واللجنة السياسية تتألف من وزراء الخارجية أو من رؤساء الوزراء وعلى ذلك بقي سائر أعضاء مجلس الجامعة – وأنا منهم – بمعزل عما يجرى في هذه اللجنة السياسية , لا يشتركون في تفكير ولا في مناقشة ولا في قرار , ولا يعرفون من أمر ما يحدث إلا ما يصلهم عن طريق الأحاديث الخاصة أو ما تنشره الصحف من أنباء اللجنة وقراراتها .
كانت الحكومات العربية ترى أن القوة وحدها هي السبيل لا سبيل غيرها لمنع قيام دولة صهيونية في فلسطين , ولكن أتراها تتدخل بقواتها المسلحة حتى لا ينفذ قرار الأمم المتحدة ؟
كان اتجاهها بادئ الرأي إلى أن ذلك لا مصلحة فيه , ومن شأنه أن يدفع هذه الأمم المتحدة لترى في تصرفها خروجا على قرار الهيئة لا يتفق وعضويتها فيها , ولهذا اتجه التفكير في اجتماع للجنة السياسية عقد بيروت إلى تأليف قوات عرفية من أهل فلسطين ومن المتطوعين من أهل الدول العربية المختلفة , وأن تمدهم هذه الدول بالسلاح وتسمح لضباط من جيوشها أن يستقيلوا من هذه الجيوش وأن يتولوا قيادة هؤلاء المتطوعين , وقد بدأ تنفيذ هذه السياسة بالفعل من قبل يوم 15 مايو سنة 1948 وهو اليوم الذي حددته إنجلترا لانسحاب آخر فوج من جنودها من الأراضي المقدسة التي كانت تحت انتدابها .
وكان النقراشي باشا رئيس الوزارة المصرية من أشد ممثلي الدول العربية حماسة لعدم اشتراك القوات الرسمية لهذه الدول في القتال , ولم تكن حجته في ذلك تقف عند إشفاقه من الأمم المتحدة وخروج مصر على قرارها , بل كان يري أنه لا يجوز أن تدفع مصر جيشها إلى فلسطين فتكون القوات البريطانية المرابطة على قناة السويس حائلا بينه وبين أرض الوطن , وكان في طبيعة النقراشي باشا , إذا قامت بنفسه مثل هذه الحجة ألا يتزحزح عنها قيد شعرة , وما كان للدول العربية الأخرى أن تخالف مصر عن هذا القرار وهي تعلم أن مصر أكثرها عددا وأوفرها مالا , وأنها الدولة التي تتاخم فلسطين , وتتاخم الحدود الغربية التي فرضها قرار التقسيم للدولة الصهيونية , وأنها ستحمل أوفر عبء في هذه الحرب إذا قدر للدول العربية أن تخوضها .
وبقي هذا القرار محترما وبقيت الدول العربية إلى يوم 11 مايو سنة 1948 مقتنعة بأن قوات المتطوعين كافية لمنع تنفيذ قرار التقسيم وفي هذه الأثناء كان المتطوعون يسافرون من مصر ومن سائر البلاد العربية إلى بلد المسجد الأقصى , تدفعها أكثر الأمر عاطفة دينية مشبوبة , وهذه العاطفة هي التي أدت بكثير من الإخوان المسلمين لينضموا إلى صفوف هؤلاء المتطوعين , وليعاونوا الفلسطينيين للدفاع عن وطنهم .
أن أحجب بابي وألا أدع أحدا يدخل علينا , فلما خلا إلىّ ذكر أنه يريد أن أعقد جلسة سرية لتعرض الحكومة على المجلس قرارها دخول القوات المصرية إلى فلسطين لقتال اليهود وتولتني الدهشة فسألته : وهل الدول العربية كلها متفقة على هذا ؟ وأجابني نعم , قلت : وهل لدى جيشنا من العتاد الحربي ما يكفي حرب الميدان لمدة ثلاثة أشهر على الأقل ؟
وأجاب نعم وأكثر من ثلاثة أشهر , قلت , وما عسي أن يكون موقف إنجلترا من هذا الأمر ؟
وهل اتفقتم معها على خطة ؟ وأجاب : إنجلترا لا تعارض , وأنا مطمئن لها , وإن كنت لا أخفي عليك أنها قادرة إذا رأت , أن تقف منا مثل موقفها في نفارين .
ورأيت الرجل مصمما على الأمر كل التصميم , وقلت : إذن فليطلب أحد أعضاء الحكومة في المجلس الجلسة السرية ؟ ففكر هنيهة ثم قال : بل الأكرم أن تطلب الحكومة هذه الجلسة السرية , فلما انصرف جعلت أفكر في الأمر , في هذا التغير المفاجئ في سياسة الحكومة المصرية والحكومات العربية جميعها وفي الدافع إليه .
ولم أكن أجهل أن أهل فلسطين وقوات المتطوعين يتعذر عليها أن تقاوم الهجاناه وغير الهجاناه من منظمات اليهود العسكرية إذا لم تمد بالسلاح والعتاد إمدادا منتظما , لكنني كنت أسائل نفسي عن مقدرة الدول العربية عسكريا وعن موقف انجلترا منها , وانجلترا حليفة لمصر والعراق و وصاحبه الكلمة العليا في شرق الأردن , وصاحبة النفوذ في دولتي سوريا ولبنان بل حامية استقلالهما من غير حماية رسمية .
وفي صباح الغد مر بي دسوقي أباظة وزير الخارجية الحر الدستورى فتناول حديثنا هذا الموضوع الخطير وسألته عن مقدرة مصر إذا دخلت الحرب , فقال إن الموضوع طرح للبحث في مجلس الوزراء , وإن حيدر ( باشا ) وزير الحربية , أكد أن الجيش المصري وحده بجنوده وعتاده قادر من غير حاجة إلى أية معونة من الدول العربية الأخرى على أن يدخل تل أبيب عاصمة اليهود , في خمسة عشر يوما , وإن كل ما لديه من المعلومات تثبت له هذا القول , وهو لذلك لا يتردد في دفع القوات المصرية إلى أرض فلسطين لمعاقبة العصابات اليهودية التي تعتدي على العرب من أهلها اعتداء وحشيا .
انعقدت جلسة الشيوخ في مساء ذلك اليوم وطلب رئيس الوزراء عقد جلسة سرية في الغد لمناقشة الموقف في فلسطين ,ووافق المجلس واقترح تأليف لجنة خاصة من جميع الأحزاب تنعقد فورا لتستمع إلى بيانات الحكومة وتقدم للمجلس رأيا. ووافقت الحكومة وتألفت اللجنة برئاسة محمد بك الوكيل – وكيل المجلس – وعقدت اجتماعها وحضر رئيس الوزراء وأدلي بما لديه من المعلومات , ولم أحضر أنا هذا الاجتماع اكتفاء بما سمعته من رئيس الوزارة ومن وزير الخارجية , وقد أكد رئيس الوزارة في اللجنة أن مصر على أتم استعداد لمواجهة الأمم المتحدة قيامها حين أقرت تقسيم فلسطين .
وقد ذكر أعضاء اللجنة من بعد أنهم أوضحوا لرئيس الوزارة جسامة المسئولية التي يأخذها على عاتقه لدفع المجلس للموافقة على القرار الذي أبرمه مجلس الوزراء وأن بعضهم ذكر له أن عتاد الجيش ليس بالقدر الذي يستطيع به خوض معارك حامية في الميدان
ولكن رئيس الوزراء نفي كل سبب للتردد وأكد أن لديه العتاد والقوات وكل ما تقتضيه الحرب ,, ووجد من بعض الأعضاء في اللجنة مشجعا يدفعهم حماس ديني إسلامي لتأييد ما طلب , ولذلك رأت اللجنة بالإجماع الموافقة على قرار مجلس الوزراء , وعقدت الجلسة السرية في الغد وعرض عليها الموضوع وقرار اللجنة , وكان إسماعيل صدقي ( باشا ) عضو المجلس معارضا في دخول الجيش المصري أرض فلسطين,
وكانت حجته أنه يعلم وقد كان رئيس وزارة إلى أواخر سنة 1946 , أن الجيش المصري تنقصه أسلحة كثيرة , وينقصه العتاد اللازم والكثير من الأسلحة إذا خاض الحرب وكان يخشي فضلا عن ذلك أن تعتبر الأمم المتحدة دخول الجيوش العربية فلسطين تحديا لقرار التقسيم فتفرض على الأمم العربية , ومنها مصر عقوبات لا طاقة لها بها , أو تمد اليهود بالأسلحة والعتاد وتمنعها عن مصر والأمم فتدور الدائرة عليها , وأن مصر لا مصلحة لها على أية حال في خوض معركة لا شأن لها بها ولا ناقة لها فيها ولا جمل .
حملت آراء صدقي ( باشا ) الكثيرين على التفكير في الموقف , لكن الردود عليه أضعفت من تردد المترددين , فقد أكد رئيس الوزارة مرة أخرى أن لدى الجيش المصري السلاح والعتاد لخوض الحرب شهورا عدة , وأيد اللواء أحمد عطية , (باشا) تصريح رئيس الوزراء, وكان عطية ( باشا ) إلى أشهر مضت وزيرا للحربية معه كما كان وزيرا للحربية مع صدقي ( باشا ) ..
كذلك تكلم فؤاد سراج الدين (باشا ) باسم المعارضة الوفدية فأيد الوزارة تأييدا حارا ورد على صدقي ( باشا ) ردا عنيفا وحبذ دخول القوات المصرية فلسطين وكان من أثر ذلك أن انسحب صدقي ( باشا ) من الجلسة وأن قرر مجلس الشيوخ دخول القوات المصرية فلسطين بإجماع الآراء .
اكتب هذا الكلام اليوم بعد انقضاء سنوات على تلك الجلسة السرية التاريخية ,وأكتبه وقد انتهت الحرب , وأصبحت إسرائيل من الناحية العملية دولة قائمة على أرض فلسطين , وقد عقدت بين إسرائيل وبين الدول العربية هدنة دائمة , وقد أعلنت أمريكا وإنجلترا وفرنسا أنها تكفل بقاء الحالة في الشرق الأوسط بكل الوسائل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة وفي غير ميثاق الأمم المتحدة –اكتب هذا الكلام وأنا لا أزال أسائل نفسي عن السبب في ارتداد الدول العربية عن سياسة معاونة أهل فلسطين والمتطوعين الذين ينضمون إليهم لقتال اليهود , إلى سياسة الزج بقواتها الرسمية المسلحة إلى أرض المعاد, أهي الدول العربية التي اندفعت إلى هذه السياسة مختارة , أم دفعت إليها كارهة ؟
وهل كانت تقدر نتائجها تقديرا صحيحا , أو كانت تؤمر فتأتمر ؟
ومن ذا الذي يأمرها ولأى سبب ؟
سيري القاري من بعد أنني جمعت معلومات كثيرة عن حرب فلسطين , وأنا مع ذلك لا أستطيع أن أجيب جوابا مقنعا عن هذه الأسئلة .
ظن قوم أن انجلترا هي التي شجعت الدول العربية لتدفع قواتها المسلحة إلى أرض فلسطين , وقيل يومئذ إنها لم تكن راضية عن قيام دولة إسرائيل بعد الذي رأته من تنكر اليهود لها في أثناء انتدابها , وأنها وعدت الدول العربية أنها ستمدها ولو سرا , بكل ما تحتاج إليه من معونة للانتصار في هذه الحرب , وعلى الرغم من أن عبد الرحمن عزام ( باشا ) أخبرني بأن انجلترا بعثت إلى الدول العربية جميعا كتابا تحذرها من محاربة إسرائيل وتخوفها مغبة هذه الحرب ,
لقد قيل إن إنجلترا لجأت في هذا الوقت إلى سياسة مزدوجة فكتبت ترد العرب عن قتال اليهود لتكون لها الحجة القائمة أمام الأمم المتحدة , وأوعزت عن طريق رجالها الرسميين أو غير الرسميين تشجع الدول العربية على دفع قواتها إلى فلسطين ووعد هذه الدول بالمساعدة , ثم وقفت موقف المتفرج تمد يد العون تارة وتقبضها أخرى , ولم تكن عبارات عزام ( باشا ) نفسه تنفي هذا الاحتمال , فقد قال لى غير مرة إن انجلترا بدأت تخون الدول العربية بعد أيام معدودة من بدء دخول قواتها في فلسطين .
وظن غير هؤلاء أن الدول العربية هي التي أرادت أن تقوم من تلقاء نفسها بمظاهرة عسكرية وأنها كانت مقتنعة بأن الأمم المتحدة تنكر تصرفها وتراه خروجا على القرار الذي أصدرته وقد تفرض عليها عقوبات اقتصادية , وعند ذلك تنسحب معلنة أنها تلقي على الأمم المتحدة تبعة موقف ظالم في الحياة الدولية تخشي آثاره على السلام العالمي .
وذهب غير هؤلاء وأولئك مذاهب في تأويل هذا الانقلاب المفاجئ في سياسة الدول العربية فقد كانت هذه الدول مصممة , إلى يوم 11 مايو , على ألا تدخل قواتها الرسمية أرض فلسطين , ثم تغير موقفها فجأة بعد ذلك اليوم , وليس طبيعيا ألا تكون لهذا الانقلاب مقدمات لعل الساسة العرب لم يقفوا كلهم على تفاصيلها , لكن بعضهم على الأقل كان يعرف الكثير من هذه التفاصيل , وأرجو ألا يحرم التاريخ من مذكرات يطبعها العارفون , تميط اللثام عن الحقيقة وتتيح لهذه الدول أن تفيد لمستقبلها من درس قاس وتجربة مؤلمة ألمت بالدول العربية وبجامعة الدول العربية .
وافق البرلمان الحكومة على أن تدخل القوات المصرية المسلحة فلسطين لمعاقبة العصابات اليهودية المعتدية على العرب , وكانت هذه القوات على حدود مصر , أو كانت قد تجاوزتها فعلا ساعة صدر هذا القرار , وفي الساعة التي نشرت فيها الصحف قرار البرلمان المصري نشرت كذلك أن القوات المسلحة للدول العربية المختلفة دخلت أرض فلسطين كل من ناحيتها , ومن يومئذ جعلت الصحف تنشر يوميا أنباء الجيوش وتقدمها وأنباء الطائرات المحاربة المصرية وإغاراتها وإلقائها القنابل على تل أبيب .
واشرأبت أعناق المصريين من كل الطبقات تتابع أنباء هذا التقدم وهذه الغارات العربية على عاصمة العدو بشغف أى شغف .
لاحظت وأنا أتابع البلاغات الرسمية أن الجيوش العربية لا تلقي مقاومة لأنها تقدم في المناطق التي خصصها قرار الأمم المتحدة للعرب من أهل فلسطين ,
وأنها لما تبلغ الأجزاء التي عينت لإسرائيل فيما خلا أجزاء من منطقة النقب , ومنطقة النقب صحراء غير مأهولة فيما عدا محلات صغيرة أنشأها اليهود ها هنا وهناك , عند ذلك دار بخاطري أن القوات المصرية تكون أكثر إقداما على القتال وعلى التضحية في الحرب إذا علمت أن منطقة النقب التي تحتلها ستضم إلى , وإني لفي " كلوب محمد على " ذات مساء إذ لقيت إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) وكان يومئذ رئيسا للديوان الملكي , وعبد المجيد إبراهيم صالح ( باشا ) وكان وزيرا للأشغال , فذكرت بأن الجيوش العربية كلها تسير في مناطق مخصصة لعرب فلسطين , ولهذا لا تلقي مقاومة , وأن إكبار البلاغات الرسمية لتقدمها وهي في هذه المنطقة ليس من حسن السياسة في شئ ,
لأنها إذا التحمت يوما بقوات معادية فلم تتقدم بمثل هذه السرعة خيف أن يؤثر ذلك على الروح المعنوية تأثيرا غير حسن , وأجابني إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) في شئ من الانفعال بأن مثل هذا الكلام ليس من المصلحة الوطنية في شئ , وأن صيغة البلاغات يجب أن تكون على النحو الذي تصدر به .
وذكرت كذلك رأيي في أن تضم منطقة النقب لمصر يوم تستقر قواتنا المصرية المسلحة عليها فاعترض عبد المجيد إبراهيم (باشا ) بأننا دخلنا لإنقاذ العرب من عدوان اليهود فليس يجوز أن تبدو في ثوب من يريد تحقيق مآرب ذاتي .
استمرت أنباء الغارات الجوية تتوالي في الأيام الأولى لدخول قواتنا في فلسطين وإنني لفي مكتبي برئاسة مجلس الشيوخ بعد أسبوع من بدء القتال إذ قيل لى إن الضابط الطيار سعد الصادق قد قتل , فأسرعت أتقصي النبأ فقيل لى إن خمسة من خيرة طيارينا بينهم سعد , صدر لهم الأمر بمهاجمة مطار للأعداء في فلسطين وأن طائرات بريطانية تصدت للطائرات المصرية وضربتها ,
ثم قيل إن هذا المطار ليس لليهود ولكنه للبريطانيين , وإن قائد القوات البريطانية في فلسطين أبلغ قيادة الطيران المصري بعدم التعرض لهذا المطار , أو تدفع الطائرات البريطانية هجوم الطائرات المصرية , وإن القائد المصري أغفل تبليغ هذه الإشارة فصدرت الأوامر لطيارينا المصريين لمهاجمة المطار فقابلتهم الطائرات البريطانية واشتبكت معهم وقتل ثلاثة من الطيارين المصريين وقد أزعج هذا النبأ كثيرين لأن اليهود لم تكن لهم طائرات تستطيع مقاومة الطائرات المصرية .
ساورني لهذا النبأ أشد الأسف والدهشة ففلسطين تجاورنا وطائرات شركة مصر للطيران تطير بانتظام من القاهرة إلى اللد كل يوم وطبيعي أن يعرف رجال الطيران المدني مطارات فلسطين جميعا ,وطبيعي أكثر من ذلك أن يعرف رجال الطيران الحربي هذه المطارات , فكيف غاب عن هؤلاء وأولئك وكيف غاب عن قلم المخابرات في جشنا أن يعرف مطارات اليهود ومطارات البريطانيين , ودهش كثيرون كما دهشت وجعلنا نفكر في المستقبل ونرجو الله أن يوفق الدول العربية في هذه الحملة التي أقدموا عليها .
لا أستطيع أن أحدد ما لهذا الخطأ من دلالة على كفاية قيادتنا المصرية لكني اتصلت بي من بعد أنباء تثير العجب , ذكر لى صديقي حافظ عفيفي ( باشا) أنه كان بمكتب حيدر ( باشا ) وزير الحربية يوما وأن الوزير اتصل بقائد القوات في فلسطين وتبادل معه حديثا خاصا باستيلاء القوات المصرية على بئر سبع كان رأي الوزير أنه يجب الاستيلاء على الموقع في اليوم نفسه يكلف الجيش تضحيات وخسائر يمكن تفاديها إذا حوصرت بئر سبع ثلاثة أيام ,
وكان جواب حيدر ( باشا ) : كلا لابد من الاستيلاء عليها اليوم بكل ثمن فلهذا أثر سياسي مطلوب في مصر والتقيت في مكتب جمال الدين ( بك ) العبد بضابط كان في فلسطين قص على قصة أكثر من السابقة إثارة للدهشة فقد نشرت الأنباء قبل ذلك أن طور بيدا إسرائيليا نسف البارجة المصرية " مصر " ثم نجت بارجة أخرى من الطور بيد الذي كان منصوبا لها بمحض الصدفة وقد ذكر هذا الضابط بمكتب جمال الدين ( بك ) أن البارجتين المصريتين كانتا في موقف المهاجمة لقوات إسرائيل ,
وأنهما أبلغتا القيادة البحرية أنهما على أتم الاستعداد لضرب الأهداف التي أمامهما ضربا محكما وأمرتهما القيادة بالانتظار حتى تنصل بالقاهرة تليفونيا وتتلقي أوامرها , وفي الدقائق التي انقضت والتي كانت القيادة البحرية تنتظر أوامر القاهرة لتبلغها إلى البارجتين أطلق الطور بيدان فنسفت البارجة مصر , واضطرت البارجة الأخرى للانسحاب مخافة أن يصيبها طور بيد آخر ينزل بها إلى قاع البحر .
سقت هذين المثلين تذكيرا بما كان يقال من أن حملة فلسطين كان مركز قيادتها في القاهرة , وهذا وضع لم يحدثنا تاريخ الوقائع عن شئ من مثله , لكن تأويله أن الذين أسندت لهم القيادة المحلية في فلسطين لم يكونوا موضع الثقة بالقدر الذي يسمح لهم بتحمل التبعة عن تصرفاتهم أمام الوزير , فكان الوزير يتولي القيادة بنفسه من مكتبه وهذا التأويل يبدو واضحا حين نذكر أن قيادة القوات أسندت أول أمرها إلى المواوي ( بك ) ولم يكن قد بلغ في المراتب العسكرية درجات عليا ,
ولم تكن له تجارب في الوقائع الحربية تؤهله لهذه القيادة , أنا لا أعرف المواوي ( بك ) والذين يعرفونه يقولون إنه رجل سمح النفس رضي الخلق , لكنهم يذكرون أنه لم يتول القيادة قط وأنه إنما عهد إليه بتدريب القوات المصرية في رفح قبل دخولها فلسطين من غير أن تكون لديه الفكرة عما هو مقبل عليه من دخول فلسطين أو قيادة قوات مقاتلة فيها .
كان منتظرا أن تعني الأمم المتحدة بما حدث وأن تحاول جهدها تلافيه , وهي المسئولة الأولي عن تقسيم فلسطين , وهي مسئولة بحكم ميثاقها عن ملافاة أخطار الحرب حيث تقع من أرجاء العالم وقد عنيت المنظمة فعلا بما وقع , وأوفد مجلس الأمن الكونت فولك برنادوت السويدي وسيطا بين إسرائيل والدول العربية يلتمس حلا للموقف وجاء الرجل إلى فلسطين وقابل ساسة الدول العربية كما قابل ساسة اسرائيل وأذكر يوما قابلت فيه النقراشي ( باشا ) لبعض مسائل تشريعية فعلمت أن الكونت برنادوت على موعد معه .
فسألت رئيس الوزراء عما إذا كان الكونت يعرض اقتراحا معينا فأخبرني أنه لم يره بعد ولكنه سمع أنه يفكر في وقف القتال إلى أن يتمكن من الاهتداء إلى حل للمشكلة , ولما سألت النقراشي ( باشا ) عن رأيه في هذه الهدنة أخبرني أنه لم ينته في الأمر إلى رأى بعد . ولما لم أكن على علم دقيق بمجرى القتال , لم أجازف بأن أبذل له في الأمر أية مشورة .
وكانت أنباء القتال كما تصفها البلاغات الرسمية مطمئنة إلى حد يشعر معه من يقرؤها أو يسمعها أن الدول العربية توشك بالفعل أن تدخل تل أبيب , من أجل هذا لم يتحمس الرأي العام لفكرة وقف القتال أو إعلان الهدنة , بل كان الناس جميعا , على اختلاف طبقاتهم , يميلون إلى مواصلة القتل حتى ينهزم اليهود وتدخل الجيوش العربية بالفعل عاصمة إسرائيل , ثم يبدأ الحديث في الهدنة أو في الصلح , وكان لهم عذرهم من ذلك اقتناعهم بفوز العرب وتضييقهم الخناق على اليهود في كل مكان , وفي كل ميدان , على أنهم مع ذلك كانوا يتساءلون ما عسي أن تصنعه الأمم المتحدة إذا لم تقبل الدول العربية الهدنة ؟
هل يتخذ مجلس الأمن إجراء من الإجراءات المنصوص عليها في الميثاق ومن بينها توقيع الجزاءات الاقتصادية أو الذهاب إلى أبعد من هذه الجزاءات الاقتصادية .
واستمرت اتصالات الدول العربية زمنا اجتمع بعده وزراء خارجية هذه الدول بعمان عاصمة شرق الأردن وأسفر اجتماعهم عن قبول الهدنة لمدة ثلاثة أسابيع , وكان الموعد الذي تحدد للهدنة الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة 11 يونيو سنة 1948 وكنت يومئذ مسافرا مع أسرتي تمضي الصيف على شاطئ البحر في بور فؤاد وفي الساعة التاسعة دوى صوت حيدر ( باشا ) وزير الحربية المصرية , من راديو السيارة , يعلن وقف القتال وبدء الهدنة.كنت مقتنعا يومئذ بأن إعلان الهدنة معناه انتهاء القتال بين الدول العربية وإسرائيل إلى غير عودة , وبأن الأمم المتحدة ستتدخل تدخلا إيجابيا بكل وسائلها لفض هذا النزاع المسلح الذي يوشك أن يهدد السلام العالمي , وأن الجيوش المتحاربة ستعود كلها إلى أوطانها عما قريب .
وبقيت أتتبع الأنباء وأنا بمصيفي بكل عناية ,وكنت أتوقع أن أسمع فيها أن الكونت فولك برنادوت وسيط الأمم المتحدة قد وضع مشروعا مبدئيا للصلح , وأن مفاوضة ستبدأ على أساس هذا المشروع , وإذا بدأت المفاوضة استطال أجلها بطبيعة الحال , ثم انتهت إلى نتيجة أيا تكون .
وبدا من الإذاعات المختلفة أن برنادوت يبذل جهدا ضخما يرجو أن يوفق فيه إلى غاية تقر السلام في نصابه وتعيد الجيوش إلى معسكراتها , وكم عجبت لدى سماعي الإذاعة في اليوم الأخير من أيام الهدنة حين تلا المذيع أن برنادوت عرض مد الهدنة ثلاثة أيام وأن الدول العربية رفضت هذا العرض وأصدرت الأمر إلى جيوشها بالعود إلى القتال , واقتنعت إذ ذاك بأن الدول العربية قد تزودت من العتاد وقد نظمت صفوفها تنظيما أقنعها بأنها قادرة على التقدم من المواقع التي عسكرت فيها يوم الهدنة لتقتحم على اليهود عاصمتهم في أيام معدودات .
وعاد القتال بين جيوش العرب وجيوش اليهود , وانقضت أيام والناس في شغف لمعرفة ما يدور في ميادين القتال , وهم ينتظرون بين ساعة وأخرى , وبين يوم وآخر أن تطالعهم البلاغات الرسمية بدخول الجيوش العربية تل أبيب .
وقد كان لهم كل العذر في توقعهم هذا , فقد كانت البلاغات الرسمية التي تصدرها السلطات المصرية كلها التفاؤل الذي لا تفاؤل بعده . وإنهم لكذلك إذ أذاعت هذه البلاغات الرسمية أن جناح الجيش الأردني المتصل بالجيش المصري , والمرابط في بلدتي اللد والرملة , قد تخلي عنهما فاستولي عليهما اليهود .
من يومئذ بدأت حركات الجيوش العربية تبعث إلى النفوس شيئا من الريبة , وإن أبي الناس أن يصدقوا أن قوة إسرائيل تستطيع أن تتغلب على جيوش الدول العربية الست المشتركة في القتال , وبدأ الناس يسمعون بعد ذلك عن تخلي بعض الجيوش العربية عن البعض الآخر , وعن تجسس بعض العرب الفلسطينيين لحساب اليهود ,
لذا بدأ التفاؤل الأول يذوى شيئا فشيئا , ثم بدأت الأمم المتحدة تظهر حرصها على إعادة السلام إلى منطقة الشرق الأوسط وجعل الناس يتكلمون في اقتراح برنادوت قيام هدنة ثانية بين الدول المتحاربة .
كان المؤتمر البرلماني الدولي سيجتمع في روما في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر من ذلك العام وقد سافرت إلى العاصمة الايطالية أنا وزملائي أعضاء الوفد البرلماني المصري لهذا المؤتمر قبل انعقاده بأيام ونزلنا فندق اكسلسيور , وإنني هناك إذ حدثني بالتليفون شخص لا أعرفه وذكر لى أنه يريد مقابلتي من قبل السيد الياهو ساسون , وساسون موظف كبير في وزارة خارجية إسرائيل قابلني بالقاهرة غير مرة في رياسة مجلس الشيوخ وفي منزلي وكان ذلك قبل قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وبعده ,
وحاول إقناعي بأن من الخير تفاهم مصر مع , وساق لى من الحجج مثل ما كان يسوقه ذلك الشخص الذي تحدثت عنه في الفصل الأول , ولما كان الموقف قد تغير بعد قرار الأمم المتحدة , وبعد قيام الحرب بين اليهود والعرب حددت موعدا لهذا الشخص على أقف منه على اتجاه اليهود في هذا الظرف الجديد ,
فلما جاء إلى بالفندق سألني عما إذا كنت أطيل مقامي بإيطاليا بعد المؤتمر البرلماني , لأن المسيو ساسون يريد أن يقابلني في الأيام الأولي من أكتوبر, فذكرت له أنني مسافر إلى شمال إيطاليا أحضر المؤتمر التجاري ومؤتمر السياحة اللذين يعقدان بجينوا ورابالوا وأني سأسافر في الأسبوع الأخير من سبتمبر إلى جنيف بسويسرا وسأقيم بها عشرة أيام أو أسبوعين, وحاولت أن أقف من هذا الشخص على ما يريده مسيو ساسون من مقابلتي فلم يقل شيئا ذا بال .
وسافرت إلى شمال إيطاليا ثم انتقلت إلى جنيف وهناك قابلني مسيو ساسون وبدأ يحدثني في عقد الصلح بين مصر وإسرائيل . قال : أصارحك بأننا لا نعني من الدول العربية بغير مصر , وأننا حريصون كل الحرص على إقامة العلاقات بيننا وبينها على أساس من المودة والصداقة , فقلت , وعلى أى أساس تريدون أن يقوم هذا الصلح , أنا لا أعرف الخطة التي قررتها الحكومة المصرية ولكن أريد أن أعرف عزمكم أنتم , فإذا اقتنعت بأن فيه ما يصلح أن يكون أساس حديث في أمر الصلح أقضيت به إلى الحكومة المصرية ,
وأود أن أذكر لك رأيا شخصيا لى لم أفاتح به أحدا من المسئولين في مصر , ذلك أن تتنازلوا أنتم صراحة عن منطقة النقب لمصر وأن تعلنوا استعدادكم لهذا التنازل قبل كل حديث , وأجابني الرجل في لهجة لم أرضها , وما حاجتكم إلى النقب ولديكم أنقاب كثيرة لم تصلحوا منها شيئا , يريد أن صحارى مصر الواسعة لم تنل منا عناية أو إصلاحا , وكفتني هذه العبارة لأكف عن المضي في الحديث فقلت : أظن إذن أنه لا فائدة من الحديث فيما قصدت إليه .
وكنت أرمي من مواجهته بمسألة النقب إلى غرضين أولهما : تشديد عزائم الجنود المصرية إذا هي علمت أنها تحارب في سبيل مصلحة قومية , وأن تضحياتها لن تذهب سدى , والثاني جس لنبض لمعرفة ما يريد اليهود من الحديث مع مصر وهل هو يدل على أنهم سئموا القتال فهم يريدون الصلح مخلصين , أو أنهم يريدون بهذا العرض أن يفرقوا كلمة الأمم العربية بعد الذي كان من تخلي الجيش الأردني في اللد والرملة وتعرض جناح الجيش المصري بهذا التخلي لهجوم اليهود عليه , فلما رأيت مسيو ساسون يتحدث بلهجة لم ترضني آثرت عدم المضي في حديث لا جدوى من المضي فيه ..
وعدت إلى مصر في منتصف أكتوبر في نيتي أن أذكر لأحد شيئا عما دار بيني والمسيو ساسون , وصرفني عن التفكير في هذا الأمر أن أوسع الصحف الموالية للحكومة انتشارا انتهزت فرصة غيابي عن مصر فحملت على حملة غير كريمة فصلتها في موضع آخر من هذا الكتاب .
فأقنعني ذلك بأن أى حديث أفضي به إلى الحكومة في هذا الموضوع سيتخذ وسيلة لتغذية هذه الحملة , ومن ثم لم يكن لهذا الحديث أية نتيجة , ولم أعره من جانبي أى عناية .
كان القتال بين العرب واليهود في فلسطين يجرى في هذا الوقت على نحو لا يبعث إلى نفوس العرب , ولا يبعث إلى نفوسنا في مصر , أى معني من معاني الرضا , وقد بدأت الجيوش المصرية تنسحب من مواقع احتلتها , وفي مقدمتها بئر سبع , وقد حصرت قوات مصرية في الفالوجا وقد قيل إن الجيوش اليهودية تتقدم إلى الحدود المصرية , ثم قيل إن هذه الجيوش تخطت الحدود المصرية ,
هذا وكان الكونت فولك برنادوت وسيط الأمم المتحدة يسعي في هذه الأثناء لوضع أساس للصلح بين إسرائيل والدول العربية , فلما يئس من ذلك رأي أن يرفع إلى الأمم المتحدة تقريرا برأيه في الموقف وطريقه حله , وقد رفع هذا التقرير بالفعل واقترح فيه أن تعطي منطقة النقب للعرب , وأن يعوض اليهود عن ذلك بأن يعطوا منطقة الجليل الغربي المجاور للبنان , وكان هذا التقرير سيعرض في الجمعية العامة للأمم المتحدة حين انعقادها بباريس في شهر سبتمبر من سنة 1948 .
وإن الناس لينتظرون انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة إذ وردت الأنباء أن اليهود اغتالوا الكونت برنادوت وقضوا على حياته , وأثار هذا الحادث الوحشي ثائرة العالم كله فلم يعرف في التاريخ أن الرسل تقتل , وبرنادوت لم يكن إلا رسول الأمم المتحدة للفريقين المتحاربين في فلسطين ,
هذا إلى أن الرجل كان نزيه الغاية , يريد خير الإنسانية وإن أغضب اليهود والعرب جميعا ولهذا نظر الناس في كل الأمم إلى التقرير الذي وضعه على أنه أغضب اليهود والعرب جميعا , ولهذا نظر الناس في كل الأمم إلى التقرير الذي وضعه على أنه وصية لرجل شريف , وأن من الواجب على الأمم المتحدة أن تقر هذه الوصية وتنفيذها .
ما عسي أن يكون موقف الدول العربية من هذه الوصية ؟ لقد كانت تدرك أن لها مصلحة كبرى في قبولها , وكانت إنجلترا وأمريكا قد بعثت إليها تبلغها أنها إذا قبلتها وجدت تأييدا تاما من الدولتين الكبيرتين ومن مجموعة الدول الدائرة في فلكهما , وهذه المجموعة تؤلف أغلبية عظمي في الجمعية العامة للأمم المتحدة , ولم يكن ثمة ريب في أن إسرائيل ستقف بكل جهدها في سبيل هذه المقترحات التي أدت إلى أن يقتل اليهود برنادوت فإن هي فعلت انقلبت الكفة في الأمم المتحدة وأصبح العرب موضع عطفها بعد أن كان اليهود موضع هذا العطف ,
لكن الدول العربية نظرت إلى المسألة من ناحية أخرى , فهي إن أقرت مقترحات برنادوت أقرت التقسيم الذي طلبته الأمم المتحدة , والتي قامت الدول العربية في وجهه وحاربته بقواتها المسلحة , ألا يكون هذا دليلا على أنها كانت معتدية في قتالها إسرائيل اعتداء لا مسوغ له بعد قرار التقسيم , وهل تطمئن الدول العربية إلى حسن النية في عرض إنجلترا وأمريكا عليها أن تقبل وصية برنادوت , هذه كلها أمور تدعو إلى الحيرة وإلى طول التفكير .
لم يكن ثمة داع يدفعني إلى التفكير في الموقف الذي تتخذه مصر والدول العربية في هذا الأمر , وقد كانت الدول البرلمانية العربية " مصر وسوريا والعراق ولبنان " تعمل إذ ذاك على إنشاء اتحاد برلماني عربي , وكانت لبنان قد دعت هذه الدول إلى اجتماع يعقد بصوفر في شهر أغسطس من تلك السنة , سنة 1948 ,
وإذ كنت أنا الذي رأست وفد مصر لدي الأمم المتحدة في سنتي 1946 , 1947 فقد طلبت إلى صديقي إبراهيم دسوقي أباظة ( باشا ) سكرتير الأحرار الدستوريين العام أن يسأل النقراشي( باشا ) رئيس الوزارة عما إذا كانت هذه الرياسة ستسند لى في هذه السنة كذلك , حتى أدرس الموضوعات التي ستعرض في الجمعية العامة وأهمها موضوع فلسطين , وقد عاد فأخبرني بأن وزير الخارجية أحمد محمد خشبة ( باشا ) يحرص على أن يتولي الرياسة في هذه السنة التي تعقد فيها الجمعية بباريس , ومع أنني سافرت بعد ذلك مباشرة إلى لبنان وكنت سأسافر بعد أيام من عودتي منها إلى روما لحضور المؤتمر البرلماني الدولي , فقد اتخذت مسألة رئاسة وفد الأمم المتحدة مادة للحملة على من جانب الصحف الموالية للحكومة حملة أشرت إليها من قبل .
أعفاني إسناد الرئاسة إلى خشية (باشا ) عن التفكير في الموقف الذي تتخذه مصر والدول العربية من مقترحات برنادوت - على أنني علمت – حين عودتي من أوربا بعد اشتراكي في مؤتمر روما البرلماني – أن اللجنة السياسية اجتمعت وفكرت في الأمر ثم ظلت في موقف الحيرة الذي أشرت منذ حين إليه . فلما سافرت وفودها إلى باريس وبدأت أعمال الجمعية العامة اجتمع رؤساء هذه الوفود وتباحثوا من جديد في موقفهم من وصية الرجل الذي قتله اليهود ,
هذه الوصية التي كانت موضع عطف شديد من أغلبية الأمم المتحدة , ولقد أخبرني من اتصل بهذه الاجتماعات وبهؤلاء الرؤساء أن دقة الموقف لم تخرجهم من حيرتهم وأنهم قبلوا أخيرا ما اقترحه عليهم بعض الممثلين السياسيين لدولهم أن يبلغوا انجلترا وأمريكا أنهم لا يعارضون ما اقترحه برنادوت , ولكنهم لا يستطيعون أن يصوتوا صراحة معه فإذا أقرته الأمم المتحدة قبلوه أساسا للصلح وتسوية الموقف في فلسطين .
كان اليهود يبذلون غاية الجهد في هذه الأثناء لإقناع الدول كلها بأن موقف العرب ليس له من مظهر الجد ما يسمح من بعد بالاعتماد عليهم , وبأن اقتراح برنادوت لا يسمح لإسرائيل بالتوسع من غير أن تضطر إلى اتخاذ موقف غير ودي إزاء الدول العربية وبأنهم سينفقون في إصلاح منطقة النقب من الجهد والمال ما لم ينفق العرب شيئا منه في أثناء القرون الطويلة المتعاقبة التي كان هذا النقب في أثنائها في حكمهم , واستطاع اليهود ببراعتهم أن يكسبوا إلى جانبهم عددا من الدول كفل لهم عدم نفاذ ما اقترحه برنادوت , وكذلك انفضت دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة ولم يفد العرب منها شيئا مما كانوا يطمعون فيه .
كان السكرتير العام للإتحاد البرلماني الدولي قد بعث إلينا يخبرنا أن لجنة الاتحاد التنفيذية ستعقد بباريس في 28 ديسمبر سنة 1948 وبأن لورد ستانسجيت رئيس مجلس الاتحاد والكونت كارتون دفيار رئيس الشرف سينزلان وينزل هو معهما بفندق لوتسيا بباريس فحجزت لنفسي غرفة بهذا الفندق نفسه , ووصلنا باريس بالطائرة في المساء .
وما كان أشد عجبي إذ دق التليفون بغرفتي في الصباح , وإذ علمت أن محدثي هو بعينه الشاب الإسرائيلي الذي لقيني بروما , وأنه يريد أن يلقاني هو وأحد زملائه , وذكرت له أنن مشتغل ثلاثة الأيام التالية باجتماعات اللجنة التنفيذية , وأنني سأقيم أسبوعا بعد ذلك بباريس , فإذا كان حريصا على لقائي فليلقني في اليوم الرابع ,
وقد تولتني الدهشة حين أظهر حرصه على هذا اللقاء فقد كنت أحسب أن ما دار بيني وبين المسيو ساسون بجنيف قد قضي على كل رجاء يدعو إلى استئناف الحديث في موقف إسرائيل من مصر أو موقف مصر من إسرائيل , والحوادث التي توالت بعد ذلك أمعن في تقرير هذا المعني وأى جديد يريد أن يحدثني هذا الشاب أو أن يحدثني زميله فيه ؟
واجتمعت اللجنة التنفيذية في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي , وبعد ساعة ونصف الساعة من انعقادها ناولني حاجب الغرفة التي تجتمع بها ورقة فضضتها فإذا عليها توقيع مدير وكالة الصحافة الفرنسية وإذا هي تذكر أن النار أطلقت على النقراشي ( باشا ) رئيس الوزارة المصرية فأودت بحياته ,
وإذا هذا المدير يسألني رأيي في هذا الحادث , وانزعجت لدى تلاوة الخبر وخرجت من فورى فقابلت مرسله وسألته إن كان ما ذكره مؤكدا , فأنا أعلم أن النقراشي ( باشا ) يحيط به في غدواته وروحاته حرس قوى يقظ , فلما أكد لى الرجل صحة الخبر اعتذرت إليه عن عدم الإدلاء بأى حديث , وبأنني يجب أن أذهب إلى السفارة المصرية فورا وعدت فاستأذنت لورد ستانستجيب وأطلعته على الخبر فانزعج لأنه كانت بينه وبين النقراشي ( باشا ) مودة في أثناء وجوده على رأس المفاوضين البريطانيين في القاهرة في سنة 1946 وذهبت إلى السفارة استطلع أدق الأنباء , ثم عدت بعد الظهر أتابع الاشتراك في اللجنة التنفيذية .
أفصدّ هذا الحادث ذلك الإسرائيلي عن التشبث بمقابلتي ؟ كلا بل خاطبني صبح الغد بالتليفون يخبرني أنه استاء لمقتل النقراشي باشا , وبأن إبراهيم باشا عبد الهادي كلف تشكيل الوزارة الجديدة , وبأنه وصاحبه سيحضران للقائي في الموعد الذي سبق تحديده , وكنت قد عرفت من أنباء القاهرة وتأليف الوزارة الجديدة بها أكثر مما أبلغني ولما كان الموعد الذي ضربته له لقيته هو وصاحبه بغرفتي وسألتهما عما جد من الحوادث مما نستطيع الحديث فيه .
وعادا يخبرانني أن إسرائيل حريصة أشد الحرص على صداقة مصر , وأن مصر ترغب عن هذه الصداقة لأمر لا يفهمانه وأن إسرائيل قدمت لمصر ما تعتقده الأساس الصالح لعلاقاتهما في المستقبل , وسألتهما فعلمت أن إسرائيل بعثت بمشروع لمعاهدة مودة وصداقة تعقدها مع مصر ,
وأن هذا المشروع أبلغ إلى إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) وهو في رياسة الديوان , وأنهم لم يتلقوا منه ردا , وسألتهم إن كانت لديهم صورة من هذا المشروع أستطيع الاطلاع عليها , فوعدا بإرسالها لى صبح الغد , وبأن نلتقي مرة أخرى بعد يومين لأبلغهما رأيي في هذا المشروع , وصدق الرجلان , فقد تلقيت صبح الغد من ذلك اليوم مظروفا فضضته فإذا به هذا المشروع الذي حدثاني عنه .
وتلوت مقدمة المشروع ومواده فتولاني العجب أشد العجب لقد صيغ على غرار المعاهدة المصرية البريطانية التي عقدت في سنة 1936 , لكن إسرائيل تملي فيه على مصر ما هو أقسي مما ورد في معاهدة سنة 1936 .
فالدولتان الساميتان المتعاقدتان يجب ألا تتخذ أيهما سياسة في البلاد الأخرى تناقض سياسة الدولة الأخرى , ويجب أن تخف أيهما لنجدة الدولة الثانية إذا تعرضت للاعتداء , ويجب أن تعامل كلتاهما بشروط الدولة الأكثر رعاية في أراضي الدولة الأخرى , إلى غير ذلك من شروط أثارت دهشتي , حتى لقد ظننت أن المشروع لم يجرؤ أحد على إرساله إلى مصر , وأنهما أخبراني بذلك ليقفا على رأيي فيما تعتزم بلادهما التقدم به إلى الدولة العربية الكبرى .
فلما حضرا صبح الغد سألتهما من جديد : أحق أن هذا المشروع أرسل إلى مصر فأكدا لى أنه أرسل إلى الديوان الملكي , وأنه سلم إلى إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) رئيس الديوان , وأن الحكومة المصرية لابد قد اطلعت عليه , قلت , ولكنكما تعلمان أن المصريين جميعا يعترضون اليوم أشد الاعتراض على معاهدة سنة 1936 , فليس بينهم حزب وليس بينهم رجل سياسي يستطيع أن يصرح اليوم بأنها مرضية لمطالب وطنه ,
فكيف تطمعون أنتم في أن ترضي أية حكومة مصرية عن هذا المشروع الذي أطلعتماني عليه وهو أشد وطأة على مصر من معاهدة سنة 1936 , فليس بينهم حزب وليس بينهم رجل سياسي يستطيع أن يصرح اليوم بأنها مرضية لمطالب وطنه , فكيف تطمعون أنتم في أن ترضي أية حكومة مصرية عن هذا المشروع الذي أطلعتماني عليه وهو أشد وطأة على مصر من معاهدة سنة 1936 , قالا : ولكن توقيع معاهدة بيننا وبين مصر سيكون المقدمة لإلغاء معاهدة سنة 1936 ,فستعمل إسرائيل بما لديها من مختلف الوسائل لتعاونكم على إلغائها ,
قلت وقد استفزني هذا الكلام : إذن فأشر علينا بما يجب أن نصنعه لتوطد بيننا وبين مصر علاقة مودة وصداقة , قلت : لا تظنوا أن الموقف الحاضر يعاون على أى إجراء رسمي يحقق هذه الغاية فلا تزال الخصومة بين مصر وإسرائيل على أشدها , ومصر إلى اليوم لم تعترف بإسرائيل ,
ولست أظن أنها تعتزم الاعتراف بها عما قريب , أما وقد سألتماني أن أشير عليكما فالرأي عندي أن تتركا الأمور عاما أو عامين أو ثلاثة ,وألا تثيروا أنتم أية ثائرة من جانبكم , وكثيرا ما حل الزمن مشكلات عجز أقدر الساسة وأمهرهم عن حلها , فالزمن هو الذي يثبت من الأشياء ما هو قادر على الحياة ويمحوها ما هو غير قادر عليها أما إذا تعجلتم الأمور فلشد ما أخشي ألا تبلغوا من تعجلكم إلى غاية مع مصر أو غير مصر .
فكرت بعد ذلك طويلا فيما سمعت من رجال إسرائيل خلال هذه السنة الأخيرة : أصحيح أنهم لا يعنون من الدول العربية بغير مصر , أم أن لهم اتصالات بسائر هذه الدول , وقد تكون اتصالاتهم هناك أسعد حظا من اتصالاتهم بي أو بغيري من المصريين ؟
لقد ضعف تضامن الجيوش العربية ضعفا ظاهرا منذ انسحب جيش الأردن , أو الجيش العربي , على ما كان يسميه الملك عبد الله , من اللد والرملة , وقد نشرت الأنباء منذ بدأت مفاوضات الهدنة بوساطة وسيط الأمم المتحدة الذي حل محل الكونت برنادوت السويدي , المستر رالف بانش الأمريكي , أن هناك اتصالات مباشرة بين إسرائيل وشرق الأردن , وأن العراق فوض شرق الأردن ولم يفوض دولة عربية سواها في التحدث باسمه وقد انسحبت قوات لبنان بعد قليل من بدء الحرب ووقفت عند حدود بلادها , ترى أيكون الأمر قد بلغ إلى حيث استطاعت إسرائيل واستطاعت السياسة الدولية أن تفرق بين الدول العربية , وأن تصل بين كل واحدة منها وبين إسرائيل لعقد صلح منفرد ؟
لم أقف طويلا عند هذا الأسئلة ولم أحاول الإجابة عنها , ولم يكن معلومات كافية عن سياسة الحكومة المصرية نفسها , برغم أنني رئيس الهيئة التشريعية فيها وليس يجمل بي أن أحكم على موقف الدول العربية الأخرى استنادا إلى معلومات مبتورة أو مشوهة تنشرها الصحف أو أتلقاها نتفا من هنا ومن هناك من الرجال الرسميين ومن الرجال غير الرسميين .
وعدت إلى مصر بعد أسبوع من انتهاء أعمال اللجنة التنفيذية وبعد أن تألفت وزارة إبراهيم ( باشا ) عبد الهادي , وتشرفت بمقابلة جلالة الملك وأفضيت في هذه المقابلة بموجز من أعمال اللجنة التنفيذية , وبتفصيل ما دار بيني وبين هذين الإسرائيليين وما دار قبل ذلك بيني وبين مسيو ساسون حين كنت بجنيف فابتسم جلالته بعد أن أتممت حديثي وقال لقد بلغ من أمر هؤلاء القوم أن خاطبوني مباشرة بخطاب بعثوا به , وكان أمامهم طريق الحكومة أو طريق الديوان .
في هذه الأثناء كانت المحادثات دائرة في قبرص يتوسط فيها وسيط الأمم المتحدة بين مصر واليهود ابتغاء الوصول إلى هدنة دائمة بين الفريقين .
الفصل الثاني
النزاع المصري الانجليزي في مجلس الأمن
قطع المفاوضات مع انجلترا في سنة 1947 – اللجوء إلى مجلس الأمن – الرأي العام المصري يدعو إلى وحدة الصف – المائدة المستديرة – الوزارة القومية - موقف الوفد – النظرة الحربية لأمر يتعلق بمصلحة البلاد العليا – التفكير في إعادة الهيئة السياسية التي تتولي مفاوضة إنجلترا – مجلس جامعة الدول العربية يبحث الخلاف بين مصر وانجلترا – طرح الأمر على مجلس الأمن – تشكيل وفد مصر من الأحزاب المؤتلفة – النقراشي باشا في مجلس الأمن – فض الدولة البرلمانية بعد إقرار الميزانية ومشروع توليد الكهرباء من خزان أسوان – رئاستي لوفد مصر لدي الجمعية العامة للأمم المتحدة - الحكومة لا تمدني بأية بيانات عن موقفها تجاه المسائل المطروحة على الجمعية العامة – مجلس الأمن يؤجل مناقشة المسألة المصرية – موقف مصر وانجلترا في المجلس – المجلس هيئة سياسية تتبع مصالح الدول – المجلس لا يتوصل إلى قرار والنزاع يبقي معلقا أمامه – المجلس هيئة سياسية تتبع مصالح الدول – المجلس لا يتوصل إلى قرار والنزاع يبقي معلقا أمامه – محاولة إقناع الولايات المتحدة بضرورة جلاء إنجلترا من مصر – إنجلترا تريد أن تدع مصر في بيداء سياسية مجهولة .
أبلغني النقراشي ( باشا ) حوالي العشرين من شهر يناير سنة 1947 , أنه سيقطع المفاوضات التي كانت جارية بينه وبين السير رونالد كامبل , سفير بريطانيا في مصر لإصرار حاكم السودان العام اللواء السير هدلستون باشا , على إلغاء منصب قاضي قضاة السودان المصري , وإبعاد الشيخ حسن مأمون الشاغل لهذا المنصب عن السودان , مع تأييد الحكومة البريطانية له في هذا التصرف ,
وكان تعبير النقراشي ( باشا ) : وأنا مالي , أحمل تبعة إلغاء هذا المنصب وإخراج شاغله من السودان في عهدي ؟! وإذ كنت أعلم أنه بذل جهودا صادقة لصد حاكم السودان العام ولصد انجلترا عن هذا التصرف الذي يرمي إلى تنفيذ السياسة البريطانية بفصل السودان عن مصر – فقد وافقته تمام الموافقة على قطع المفاوضة .
والواقع أنه لم يكن لانجلترا , والمفاوضات جارية بشأن السودان أن تتخذ خطوة كهذه الخطوة العملية بغير اتفاق مع مصر , بل إن اتخاذها إياها ليعتبر تحديا للمفاوض المصري , يسوغ قطع المفاوضة تمام التسويغ , وزاد في موافقتي له على اتخاذ هذه الخطوة أني لم أكن مستريحا إلى النص الذي قدمه دولته تعديلا لبروتوكول السودان الوارد في مشروع صدقي – بيفن وقد أبديت للنقراشي ( باشا ) الأسباب التي تدعوني إلى عدم الاطمئنان لهذا النص , فوافق من جانبه عليها وعلى الحل الذي اقترحته عليه لاتقاء ما قد يترتب على هذا النص من نتائج ضارة بمصر .
وأعلن النقراشي ( باشا ) موافقة مجلس الوزراء على قطع المفاوضات في 25 يناير , وأبلغ ذلك إلى انجلترا وأعلنه في البرلمان المصري, كما أذاع أن الحكومة المصرية قررت الالتجاء إلى مجلس الأمن للاحتكام لديه ضد انجلترا .
ترددت يومئذ في صواب الاحتكام إلى مجلس الأمن , وقلت إن الاحتكام إلى الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قد يكون خيرا لمصر , خصوصا بعد أن أصدرت هذه الجمعية قرارا بأنه لا يجوز أن يكون لدولة قوات عسكرية في بلاد دولة أخرى بغير رضا هذه الدولة , وبعد أن أعلنت إنجلترا تصميمها على الجلاء عن مصر , ثم حددت له موعدا سبتمبر سنة 1949 .
وكان اعتراض النقراشي ( باشا ) على هذا الرأي الذي أبديته أن الجمعية العامة لا تجتمع إلا في شهر سبتمبر , وأن الرأي العام المصري قد يفسر هذا القرار بأنه قصد إلى التسويف , وكسب الوقت حتى تظل الوزارة في الحكم أطول زمن ممكن .
وهذا اعتراض له من غير شك قيمته , بالنسبة للرأي العام المصري قد يفسر هذا القرار بأنه قصد إلى التسويف , وكسب الوقت حتى تظل الوزارة في الحكم أطول زمن ممكن .
وهذا اعتراض له من غير شك قيمته , بالنسبة للرأي العام في مصر ولما تكتبه الصحف ولهذا عدت أفكر في الأمر على أساس أنا يجب أن نتسلح في ذهابنا إلى مجلس الأمن بما يقوى مركزنا , فطلبت إلى النقراشي ( باشا ) قبل منتصف فبراير بأيام , أن يدعو مجلس جامعة الدول العربية إلى اجتماع غير عادي , للنظر في موقف هذه الدول من الخلاف بين مصر وانجلترا ,
وقد فهمت من جوابه أنه فكر في الأمر , ولكن غير تفكيري , فقد ذكر أنه تحدث فيه إلى عبد الرحمن عزام ( باشا ) الأمين العام لجامعة الدول العربية , وأنه فهم من عزام ( باشا ) أن يحدد أول مارس موعدا لاجتماعها .
وكان رأيي في هذا يختلف ورأى دولته , حتى قلت له إني أري الصواب في الدعوة لاجتماع الدول العربية اجتماعا غير عادي , تنويها بأهمية الموضوع , وإكبارا لما قد يترتب على الخلاف بين مصر وإنجلترا من النتائج , لكنه أصر على رأيه , ولم تمض أيام بعد دعوة مجلس الجامعة للاجتماع أول مارس , حتى تأجل الاجتماع إلى 17 مارس لأن العراق بها انتخابات في العاشر من مارس , ولأنها طلبت لذلك تأجيل هذه الدورة العادية إلى السابع عشر منه .
كان الرأي العام المصري متجها بقوة في هذه الفترة إلى ضرورة توحيد الجهود وضم الصفوف لمواجهة انجلترا كتلة واحدة , وكان زكي ( باشا ) العرابي بمكتبي في مجلس الشيوخ يوما من الأيام السابقة على منتصف فبراير ,
وكنا نتحدث فيما يتحدث الناس فيه من ضرورة توحيد الكلمة , وكان يري أن تصفي كل الخلافات بين الأحزاب جميعا فقلت له إن معالجة هذا الأمر في الوقت الذي نحن فيه أمر غير مستطاع , وقد يترتب عليه أن يزداد الخلاف تفاقما وتزداد هوته اتساعا , وأن الخير في أن يجتمع الكل لمعالجة الموقف الناشئ عن قطع المفاوضات واختلاف مصر وانجلترا , فإذا تم اجتماعهم لهذا الغرض , ووفقهم الله فيه , تيسر بعد ذلك تسوية كثير من الخلافات , وإيجاد جو جديد يتفق مع الحالة الجديدة التي تنشأ عن إنهاء الخلاف بين مصر وانجلترا بالتحكيم أو بغير التحكيم .
ولم أشعر بأن على ( باشا ) العرابي قد رفض هذه الفكرة فقد كان تعبيره أن الذي يهمه هو أن يجتمع رجال الأحزاب المصرية جميعا حول مائدة مستديرة وأن يفضوا ما يمكن فضه من أوجه الخلاف , وأن يوحدوا كلمتهم في موقف انجلترا من مصر , فتوحيد الكلمة أقوى ضمان لبلوغ الغاية وتحقيق الأهداف القومية المرجوة .
بعد هذه المحادثة بأيام قلائل , مر بي حسن بك يوسف وكيل الديوان الملكي – وكان قائما يومئذ بأعمال رئيس الديوان- وذكرت له ما جرى بيني وبين على العرابي ( باشا ) فحبذ فكرة توحيد الكلمة واجتماع الأحزاب حول مائدة مستديرة , وذكر أن هذا أمر يغتبط له جلالة الملك أشد اغتباط .
وفي ظهر الثلاثاء 25 فبراير , مر بمكتبي برياسة الشيوخ دولة حسين سري ( باشا ) وتحدث إلىّ فيما يجب القيام به لتوحيد الكلمة , وقال إنه وزملاءه الذين كانوا معنا في هيئة المفاوضة يرون أن وحدة الأمة هي الضمان , لا ضمان غيره , لبلوغ مصر غاية ما ترجوه من أهدافها ,
وقال إنه يعتقد أنه إذا كان هناك من يستطيع أن يقوم بالسعي لهذه الوحدة بنجاح , فهذا الشخص هو أنا بوصفي رئيس الشيوخ ولما بين وبين الأحزاب المختلفة من حسن العلاقة , ولما بيني وبين زملائي في هيئة المفاوضة , سواء منهم من وافقوني أو خالفوني في الرأي , من مودة وأجبته بأنني على استعداد لأن أقوم بكل ما أستطيعه في هذا الأمر , اقتناعا مني بأن النجاح فيه يحقق للبلاد مصلحة كبرى .
وبينما أنا جالس في منصة الرياسة في قاعة الجلسة , في أثناء انعقادها في الساعة السادسة من اليوم نفسه , صعد إلىّ سري ( باشا ) وأخبرني أنه يريد أن يدلي إلىّ بحديث هام , وطلب إلىّ أن أتنحي عن الرياسة لأحد الوكيلين ,
فلما خرجت إلى ردهة المجلس أخبرني أن لطفي باشا السيد يشاركه الرأي فيما كنا نتحدث فيه ظهرا , ودعا لطفي ( باشا ) من قاعة الجلسة , فتحدثنا برهة اتفقنا على أثرها أن نجتمع بمنزلي في الساعة السادسة بعد ظهر الخميس السابع والعشرين من فبراير , وأن يكون معنا , نحن الثلاثة على ماهر ( باشا ) وشريف صبري باشا وواصف غالي باشا .
اجتمعنا في هذا الموعد , لم يعتذر عنه إلا واصف غالي ( باشا ) لارتباطه بموعد سابق فقال لطفي ( باشا ) إن تحقيق وحدة الأمة يقتضي تأليف وزارة قومية , قلت إن تأليف مثل هذه الوزارة حسن , لكن تأليفها يحتاج أولا إلى الاتفاق على برنامجها , فنحن الآن في موقف يختلف عن الموقف الذي طلب فيه إلى شريف صبري ( باشا ) أن يؤلف وزارة قومية في الأيام الأخير من شهر سبتمبر , يومئذ كانت المفاوضات جارية ,
وكان الخلاف بين المفاوضين المصريين على بعض نصوصها , فالدعوة إلى تأليف وزارة قومية كان المقصود منه متابعة المفاوضة على الأسس المعروفة يومئذ , مع تعديل ما يحتاج من النصوص إلى التعديل , أما اليوم وقد قطعت المفاوضة وتقرر الاحتكام إلى هيئة الأمم المتحدة فهل يكون الاحتكام إلى مجلس الأمن أو إلى الجمعية العمومية ؟
وهل يسبق هذا الاحتكام إعلان مصر إلغاء معاهدة سنة 1936 , كما يقترح بعضهم , أو لا يسبقه ؟ وهل يحسن إذا تألفت وزارة قومية أن تعالج فتح باب المفاوضة مرة أخرى ؟ هذه كلها أمور يجب التفاهم عليها , لتكون برنامجا للوزارة القومية التي يرمي لطفي( باشا ) لتأليف الوزارة , من ضرورة حل مجلس النواب القائم ,
وهنا صرحت في غير موارية بأنني لا أوافق على هذا الحل قبل الانتهاء من المسألة السياسية سواء بالتحكيم أو بغير التحكيم , لأن حل المجلس يخلق مشكلة جديدة , ويؤدي إلى خلاف نحن في أشد الحاجة لإرجائه إلى ما بعد الفراغ من المسألة القومية وتحقيق أهداف البلاد وبعد مناقشة سألني على ( باشا ) ماهر : إذا وصلنا إلى هذا الذي نطلبه في أمر البرنامج وفي بقاء البرلمان الحاضر إلى أن تحل المسألة القومية , فماذا يكون التصرف لحل الموقف ؟
وأجبته صراحة : أنا إذن أدعو أعضاء حزب الأحرار الدستوريين الوزراء ليستقيلوا , وأشير على جلالة الملك بصفة كوني رئيسا لمجلس الشيوخ بتأليف وزارة قومية , وكان رد على ماهر ( باشا ) على ما قلت : لا يمكن أن يطلب إلى هيكل ( باشا ) أكثر من هذا .
تحدثنا بعد ذلك في الاتصال بمن يمثل الوفد فقلت : لقد كان بمكتبي برياسة الشيوخ ظهر اليوم فؤاد ( باشا ) سراج الدين ) وقد فاتحته إجمال في الموضوع , فاتفق معي على أن يجئ إلى بعد غد السبت عقب انتهاء جلسة الشيوخ التي حددت لنظر معاهدة الطيران الدولي ومتى جاء عندي تحدثت إليه فيما دار هنا بيننا , قال على ماهر ( باشا ) : أود أن أحضر هذا الاجتماع , واتفقنا على أن يحضر .
ظهر السبت وعلى أثر انتهاء جلسة الشيوخ بإقرار المعاهدة , اجتمع بمكتبي برياسة الشيوخ فؤاد ( باشا ) سراج الدين وعلى ( باشا ) ماهر ولطفي السيد ( باشا ) وواصف غالي ( باشا ) ودار الحديث في الموضوع , وعرض فؤاد ( باشا ) نظرية الوفد في ضرورة حل مجلس النواب , وأجبته في صراحة :
إنني مقتنع بأن حل مجلس النواب يعقد الموقف , وفضلا عن ذلك فإن أمر هذا الحل في يد جلالة الملك , وإذا صح ما أفهمه , فإن جلالته لا يري حل المجلس إلا إذا حلت المسألة السياسية ليكون للبلاد رأيها عن بينة في حل هذه المسألة السياسية ,
أما حل المجلس اليوم , فيفرض على البلاد مجلسا يقبل أى حل يتفق عليه كما حدث سنة 1936 , وهذا ما لا تتحقق به مصلحة الوطن , وأضاف لطفي ( باشا ) السيد : إن كلام فؤاد ( باشا ) منطقي لكننا نريد الممكن في حدود ما تتحقق به مصلحة البلاد وليست السياسة منطقة إذا لم يتفق هذا المنطق مع الممكن , ولذا فإني أطمع في أن يقنع فؤاد ( باشا ) زملاءه في الوفد بما يقوله هيكل ( باشا ) .
وأضفت : ما الذي يخشاه الوفد من تنفيذ ما أطلبه ؟ أن ننجح معا في تحقيق أهداف البلاد , ثم لا يحل مجلس النواب ؟ أظن فؤاد ( باشا ) يوافقني على أن ذلك إذا حدث يجعل البلاد كلها ضدنا وفي صف الوفد .
قال على ( باشا ) ماهر : ما يقوله هيكل ( باشا ) صحيح تماما ونحن إذا تعاونا وجمعنا كلمة الأمة حققنا أهدافها قبل نهاية هذا العام في ديسمبر سنة 1947 وأظن هذه الشهور ليست شيئا بالقياس إلى النتيجة الوطنية التي نتوخاها من الاتفاق كما أن عدم اتفاقنا يزيد من عمر مجلس النواب الحاضر ولا يحقق غاية الوفد سواء من الناحية القومية أو من الناحية الحزبية .
بدا على فؤاد باشا أنه مقتنع , أو يكاد يكون مقتنعا , بصواب ما سمع , على أنه لم يصرح بأكثر من أنه سيسافر إلى الأقصر ليعرض الأمر على النحاس باشا , وحدد موعدا لسفره يوم الاثنين 3 مارس بقطار الثامنة والنصف , ولذلك طلب إلى أن أقدم في أعمال الجلسة تقرير شركة شل , فهو المقرر فيه .
حدثني على باشا ماهر يوم الأحد تليفونيا , وقال لى إنه يخشي ألا يكون اقتناع فؤاد باشا سراج الدين كافيا وحده لتحقيق الغرض الذي نرمي إليه , وإنه يريد أن يتصل معي بعلي باشا العرابي وصبري أبو علم باشا , وأجبته بأن أنسب وقت لهذا الاجتماع بعد جلسة غد الاثنين بمجلس الشيوخ ,
ولما انتهت الجلسة المذكورة اجتمعنا ومعنا لطفي السيد باشا وفؤاد باشا سراج الدين وعلى العرابي باشا وصبري أبو علم باشا , والظاهر أن فؤاد باشا قد اتصل بالنحاس باشا تليفونيا , وتلقي منه تعليمات بأنه إذا لم يحل مجلس النواب فورا فلا فائدة من الحديث في الاتفاق أو الوحدة القومية ,
لذا كانت المناقشات في هذا الاجتماع غيرها في اجتماع السبت , لم يتكلم فؤاد باشا سراج الدين , واكتفي بالقول بأنه اتصل بالنحاس باشا ورأي بعد هذا الاتصال ألا فائدة من السفر وتشبث على العرابي باشا بأن الوضع الدستوري السليم يقتضي إجراء انتخابات قبل كل شئ وتمسك صبري باشا أو علم بهذا الرأي وأيده بكل قوته , ولم تزحزح الحجج , التي كررتها أنا وعلى ماهر باشا ولطفي السيد باشا أحدا منهم عن موقفه , وفي آخر الاجتماع قال صبري باشا :
نعم ! تريدون أن نكون معكم , فإذا تم حل المسألة السياسية بمجهودنا المشترك قلتم : إن بيننا وبينكم أربعة فبراير , تمسكتم بالنظام الحاضر ! وأجبته : أظن أن الموقف الحالي لا يجوز فيه مثل هذا الكلام , فإننا إذا تعاونا على حل المسألة السياسية ذهب ذلك بما كان في 4 فبراير .
وانصرفنا على غير نتيجة .
كانت الصحف تنشر في هذا الوقت ما أبذله من جهود في سبيل توحيد الكلمة وضم الصفوف على أن جريدة الكتلة , وهي جريدة مكرم عبيد باشا , بدأت في الوقت نفسه حملة ضدي لا أساس لها إلا الطعن على والنيل مني لأنني رئيس لمجلس إدارة شركة نسيج الفيوم ولست أدرى : أكانت المساعي التي بذلتها في سبيل الوحدة هي الدافع إلى إثارة هذه الحملة , حتى لا يقف الأمر عند رفض الوفد الاتفاق , بل يتعذر كذلك تفاهم الأحرار الدستوريين وجماعة مكرم عبيد ؟ والواقع أنني رأيت أن هذه الحملة توجب على ألا أضع يدي في مكرم بأى حال من الأحوال .
في هذا الوقت دعا عباس باشا أو حسين في مجلس الشيوخ للوحدة , ووجه دعوة للعشاء بفندق هليوبوليس بالاس , وكان الشيوخ الوفديون من المدعوين إليها , لكنهم اعتذروا عن عدم قبولها , وأعلنوا عن ذلك في الصحف , فكان ذلك مقنعا بأن أى مجهود يبذل لهذا الغرض غير مؤد إلى نتيجة .
جاءني بعد ذلك صالح باشا حرب بمجلس الشيوخ و قال لى : لقد تبين أن الوفديين لا يمكن أن يكونوا ضمن الوحدة , فهل لا يحسن أن يتحد غير الوفديين مستقلين وحزبيين ؟ قلت له : لا مانع من ذلك , وهم متفقون فعلا , فسألني رأيي في أن تعلن الحكومة أن مجلس النواب بحل بعد الفراغ من المسألة السياسية , وأجبته : لقد كان هذا الإعلان سائغا حين كان المطلوب اشتراك الوفد , لأنه لم يدخل الانتخابات الأخيرة , أما وقد رفض الوفد الاتفاق , فمن إضعاف البرلمان والحكومة معا إذاعة مثل هذا الإعلان الآن , فإذا انتهت المسألة السياسية بالفعل أمكن التفكير في الأمر من جديد .
وبعد يومين نشر صالح باشا حرب خلاصة ما دار بيني وبينه , وختمه بأنني رفضت حل مجلس النواب , ولم أجد محلا للتصحيح لكني , وقد رأيته نشر ما نشر من غير رجوع إلىّ, أيقنت أنه رجل يريد الشهرة , فلا يمكن التعويل أو الاعتماد عليه .
هذا وإنني لمندهش من رفض الوفد كل ما عرض عليه لمصلحة مصر . فقد عرض عليه تأليف وزارة قومية تتولي المسألة السياسية , فأبي احتجاجا بأنه غير ممثل في مجلس النواب , وقد أصر على هذا الرأي مع ما ذكرته , ووافقني عليه على ماهر باشا ولطفي السيد باشا , من أن هذه الوزارة القومية ستستقبل في مجلس النواب الحاضر بالتصفيق , وكانت حجة صبري باشا أو علم في الرفض أنهم يبقون في الوزارة القومية تحت رحمة الحزبين صاحبي الأغلبية في مجلس النواب , إن أرادوا التخلص منهم سهل اتخاذ قرار بعدم الثقة بالوزارة ,
عند ذلك عرضت أن تكون الوزارة القائمة وزارة إدارية , وأن تأليف هيئة أو جبهة قومية تتولي المسألة السياسية وحدها , وبذلك يسقط القول بتقدم هذه الهيئة إلى مجلس النواب , ومن اليسير اتخاذ الاحتياطات الدستورية لاستقلال هذه الهيئة , وعدم قابليتها للحل لكيلا تتعرض لما تعرضت له هيئة المفاوضات , مع ذلك رفض هذا الاقتراح رفضا تاما .
بذلت كل هذه المجهودات في سبيل الوحدة , اقتناعا مني بأن مصلحة الوطن تقتضيها , وقوبلت هذه المجهودات بما قوبلت به من جانب الوفد ومن جانب مكرم عبيد باشا , لاعتبارات حزبية لا يسيغها إدراكي السياسي لمصلحة البلاد – وفي الوقت نفسه نظرت الوزارة القائمة ,
ونظرت الأحزاب المؤلفة منها إلى هذه الجهود غير نظرة الاطمئنان ولما كان الرأي العام يؤيدها , لم يرد أحد أن يعترض على ما أقوم به منها , فلما رفض الوفد كل ما عرض عليه , بدأ هؤلاء وأولئك من رجال الأحزاب التي تتألف منها الوزارة ينظرون مغتبطين إلى عدم نجاح هذا الجهد , وبدأ بعضهم , ومنهم أحرار دستوريون , يقولون إني بالغت فيما بذلت من هذه الجهود , والواقع أنني قصدت منها إلى الغاية الايجابية التي تترتب عليها : وهذه الغاية هي وحدة الأمة , وإن لم تتحقق هذه الغاية وعلم الرأي العام أن الوفد هو الذي أباها كان في ذلك تبريرا لمركز الحكومة في انفرادها بالعمل وهذا تصور لم يدر – فيما يخيّل إلى ّ – بخلد أحد من الوزراء , كما غاب عن كثيرين من الأحرار الدستوريين والسعديين على أنني لم آسف على ما بذلت من جهد لم يثمر , لأنني مقتنع أن هذا الجهد كان له أثره في توجيه الرأي العام وفي خلوده إلى السكينة بعد أن رأي أن الوفد هو الذي رفض كل ما عرض عليه .
ومهما يكن من شئ , فقد كان لهذه الجهود أثر آخر , إذ جعلت كل ما يحدث من الناحية الرسمية في أمر المسألة السياسية بمعزل عني! لا أطلع عليه , ولا يخبرني أحد بشئ من أمره صحيح أن النقراشي باشا حرص , منذ اللحظة الأولي , على أن يجعل هيئة المستشارين القانونيين , التي ألفها برياسة السنهوري باشا وزير المعارف مقطوعة الصلة بي ,
وكان ظريفا حين ذكر لى ذلك بعد أيام من قطع المفاوضات , إذ قال إنه رآني أكبر من أن أشغل نفسي بهذا الأمر , خصوصا وأنه يريد إعادة تأليف الهيئة السياسية بعد أن حلت هيئة المفاوضات, وأني سأكون عضوا في هذه الهيئة السياسية , وأن نتائج أبحاث المستشارين ستعرض على هذه الهيئة , وكنت من يومئذ في شك من إمكان جمع الهيئة السياسية مرة أخرى , لذلك ذكرت له بعد أيام أنه قد يكون من الخير صرف النظر عن هذه الفكرة لأن السعي إليها والفشل في تحقيقها عمليا لهما أثر غير حسن بالنسبة للوزارة , وتمسك النقراشي باشا بتأليف الهيئة السياسية , برغم تكراري النصيحة له ألا يفعل ,
وظل مقتنعا بهذه الفكرة حتى رد عنها ردا عنيفا , فقد طلب إلى واصف غالي باشا أن يتقلد وزارة الخارجية باعتذار ولم يقبل , واتصل بشريف صبري باشا وحسين سري باشا , فعلم منهما لا يقبلان إعادة الهيئة السياسية اكتفاء بوجودهما ووجود آخرين من أعضاء الهيئة السياسية في لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ , وقد حاولت أنا , بعد فشل مساعي النقراشي باشا في إعادة الهيئة السياسية , أن أقوى لجنة الخارجية بالشيوخ , بضم أعضاء الهيئة السياسية , الذين لم يكونوا أعضاء فيها إلى عضويتها , فهدد الأقدمون بالانسحاب منها إن أقر المجلس هذا الرأي , فرأيت من الخير أن يبقي الوضع في المجلس على حاله .
في هذه الأثناء , وفي أثناء قيامي بالسعي لتوحيد الجهود , بقي الجانب الرسمي من العمل السياسي بمعزل عن , فلم يطلعني النقراشي باشا على شئ مما كان يحدث , وذكرت ذلك في اجتماع للوزراء الدستوريين بمنزلي عقد في شهر مارس , فكانت نتيجة كلامي أن أرسل إلى النقراشي باشا مجموعة من البحوث التي قامت بها هيئة المستشارين , اطلعت عليها فألقيتها بحوثا قانونية , قل منها الجديد الذي لم يقف عليه مصري مشتغل بسياسة بلاده في السنوات الأخيرة .
كان موعد انعقاد الدورة العادية لمجلس جامعة الدول العربية في 17 مارس سنة 1947 يقترب , وكان طبيعيا أن يعرض الخلاف بين مصر وإنجلترا على الجامعة لتتخذ فيه قرارا وكان ذلك واجبا بنوع خاص لأن سوريا ولبنان كانتا قد أظهرنا رسميا , بعد انقطاع المفاوضات المصرية البريطانية , استعدادهما للوساطة بين الدولتين , وكان يقال إن المملكة العربية السعودية مستعدة هي الأخرى لبذل هذه الوساطة , وقد أطلعني النقراشي باشا على وثائق هذه الوساطة في النصف الأول من شهر فبراير وأخبرني أن الحكومة المصرية ليست مستعدة لقبول أية وساطة , وكان ذلك طبيعيا ,
فقد كان اتجاه الرأي العام المصري إلى ضرورة الاحتكام إلى هيئة الأمم المتحدة – سواء إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة – وكان هذا الاتجاه قويا قوة تمنع أية وزارة من العود إلى المفاوضة لأى سبب من الأسباب , ولو كان هذا السبب هو الوساطة , ولعل ثمة سرا آخر دعا إلى رفض فكرة الوساطة أيا كانت , مرجعه إلى موقف النقراشي باشا شخصيا من مشروع صدقي – بيفن , إذ كان قد قبله قبل توليه الوزارة , ثم إننا كنا مطمئنين إلى أن رفضنا وساطة سوريا ولبنان , لن يسمح للدول العربية بالتخلي عن مناصرتنا والانحياز إلى جانب انجلترا فهذه الدول العربية تعلم , على حد ما قلته لوزير لبنان يوم 11 فبراير سنة 1947 في الحفلة التي أقامها رئيس الوزراء بقصر الزعفران بمناسبة عيد ميلاد جلالة الملك فاروق – أقول إن الدول العربية تعلم أن عدم وقوفها إلى جانب مصر في خلافها مع انجلترا , معناه صراحة القضاء على جامعة الدول العربية ,
أما مصر هي الفقار لهذه الجامعة ماديا ومعنويا , وهذه الدول العربية تستفيد من قيام الجامعة أكثر مما تستفيد مصر – فمن غير الممكن أن تتخلي عن مصر تخليا ظاهرا – هذا إلى أن انجلترا نفسها تريد بقاء هذه الجامعة العربية بعد أن رحبت بإنشائها ,واعتبرت وجودها من عناصر تأييد النظام الديمقراطي في الشرق الأوسط , وإذا قلت النظام الديمقراطي , قلت في نفس الوقت القوى المناهضة لروسيا الشيوعية لذلك كله لم يكن ثمة خوف من أن تتخلي هذه الدول عن تأييد مصر , ولو تأييدا معنويا ظاهرا وهذا هو ما حدث .
تحدث إلى النقراشي باشا , حين اجتمع مجلس جامعة الدول العربية يوم 17 مارس بأنه تلقي من محمود باشا حسن سفيرنا في واشنطن تقريرا جاء فيه ما ترجمته :" إن قسم الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية , وقد فرغ الآن من مسألة اليونان , قد عاد يوجه اهتمامه إلى الخلاف بين مصر وبريطانيا , ولما كان القسم المذكور يرى أنه لا يزال في الإمكان معالجة هذا الخلاف , فقد علمت أنه بعد مذكرة تتضمن النقاط الأربع التالية :
1- الموقف السياسي في مصر .
2- جلاء القوات البريطانية .
3- لجنة الدفاع المشترك .
4- السودان
" أما فيما يتعلق بالموقف السياسي في مصر , فوزارة الخارجية ترى دائما أن الحالة الداخلية في مصر وانعدام الاتفاق بين الأحزاب السياسية ,أمور ليس من شأنها تبديد السحب التي تغيم على الأفق السياسي المصري , أو تشجع بريطانيا العظمي على التقدم , بخطوة في طريق الاتفاق أو التساهل .
أما فيما يتعلق بالجلاء , فالدوائر الرسمية ترى أن هذه المسألة لا يمكن أن تقوم عقبة في سبيل الاتفاق .
" أما فيما يتعلق بالمسائل العسكرية المختلطة فإن المذكرة تعبر عن الاعتقاد بأن الإتفاق بشأنها يمكن قصره على الدول المتاخمة , كما أن من الممكن تخفيض مدته , ورأى وزارة الخارجية هو أن مصر في حالة الحرب ينبغي أن تقدم المعونة ولا تلتزم الحياد .
" أما فيما يتعلق بالسودان ففي الإمكان إيفاد لجنة من الدول المحايدة إلى السودان لبحث حالته وقد يوصي ( قسم الشرق الأدني ) بتقرير فترة انتقال يكون فيها السودان غير خاضع لإشراف بريطانيا ومصر أو يكون موضوعا تحت الوصاية .
لم يكن ثمت موضع لإبداء رأي في هذا الذي بعث به سفيرنا في واشنطن فهو لا يعدو أن يكون معلومات للتوجيه , وهو بعد مما لا يجدي إبداء الرأي فيه , فاتفاق الأحزاب في مصر أمر عالجته فلم توفق مجهوداتي فيه , وكانت موضع ظنة حتى من جانب الحزبين اللذين أرأس أنا أحدهما .
فلو أنني عدت إلى هذا الحديث لما أجدي العود إلا إثارة ظنون جديدة , دون أن تؤدي هذه الإثارة إلى أية فائدة , أما الجلاء فمفهوم أنه لا يمكن أن يكون عقبة في طريق الاتفاق , إذا أرادت أمريكا أن تتوسط وقبلت مصر وانجلترا هذه الوساطة , وأنا أعلم أن سياسة الوزارة المصرية متأثرة باتجاه الرأي العام في مصر , مستقرة على الاحتكام إلى هيئة الأمم المتحدة في مجلس الأمن أو الجمعية العامة , فالكلام في أمر اللجنة المشتركة أو في أمر السودان غير مجد نفعا هو الآخر , لذلك شكرت النقراشي باشا على أنه أطلعني على مذكرة محمود باشا حسن , ورددتها إليه قائلا : فلننتظر ما يتمخض عنه اجتماع الدول العربية .
امتاز اجتماع مجلس الجامعة في هذه الدورة باتجاه خاص , فقد تعودنا في الاجتماعات السابقة أن نناقش المسائل بتفاصيلها , وأن نضع فيها القرار الذي تنتهي إليه المناقشات كذلك فعلنا في مسألة سوريا ولبنان في الدورة الأولي ,
وكذلك فعلنا في مسألة فلسطين في الدورات المختلفة وفي الدورة الخاصة التي عقدت ببلودان , وكنا حين تنتهي المناقشة إلى قرار , نعهد إلى شخص أو لجنة في صياغة القرار أو القرارات التي تنتهي إليها ,
أما في هذا الاجتماع فقد عهد إلى اللجنة السياسية , التي تألفت في أول الدورة من وزراء الخارجية للدول المختلفة , أن تجتمع وتناقش المسائل وتعرض على المجلس نتيجة مناقشاتها , وقد فعلوا , وكان يجيئوننا بقرارات مكتوبة تعرض للموافقة عليها بعد مناقشتها , وقد فهمت أن النقراشي باشا تحدث إلى وزراء الخارجية في أدوار المفاوضات بين مصر وإنجلترا , وعلم من سوريا ولبنان أنهما حين عرضا وساطتهما لم يدفعهما أحد إلى هذه الوساطة , وأنهما اقتنعا بأن الوساطة لا فائدة منها , وأن الدول العربية اقترحت لذلك أن تصدر قرارا تؤيد به مطلبي مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل , ولما لم يحضر النقراشي باشا للدفاع عن صيغة القرار , فقد طلب بعض الحاضرين من أعضاء الوفد المصري في المجلس إضافة كلمة ( الدائمة ) تصويرا لوحدة مصر والسودان فأضيفت بعد مناقشة قصيرة , وإن تخللها شئ من العنف .
كان الناس في مصر يتوقعون أن تذهب مصر تّوا إلى مجلس الأمن بعد قرار جامعة الدول العربية , لكن النقراشي باشا رأي إرجاء هذا الأمر إلى ما بعد جلاء القوات البريطانية عن القاهرة والإسكندرية والدلتا وكان محددا لها يوم 31 مارس , ثم رأي إرجاءه إلى ما بعد الفراغ من مسألة فلسطين , وقد عرضتها إنجلترا في أبريل على الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة منعقدة بصفة استثنائية ,
فلما انعقدت الجمعية العامة وبحث الأمر , تبين الناس في مصر أنها لا تنظره من ناحية الحق كما يرونه هم , بل اتجهت فيه وجهه تخالف رأيهم فلم يبق لهم من الثقة بهذه الهيئة الدولية ما كان لهم من قبل , وبدأ بعضهم يسأل : ألم يكن خيرا لو أن المسألة المصرية عرضت على مجلس الأمن قبل أن تعرض مسألة العالم على الأمم العربية ؟
وكان من هؤلاء بعض الأحرار الدستوريين , حتى لقد طلب إلى ّ عبد السلام بك محمود أن أدعو الحزب ليستمع إلى رأيه في المسألة السياسية وفضلت أن أجمع عددا محدودا من زعماء الحزب دعاهم دسوقي أباظة باشا إلى منزله , فلما اجتمعوا ألقي عبد السلام بك ما رأي أن يسأل وزراء الحزب عنه .
وقد كانت طريقة العرض التي اختارها عبد السلام بك فيها معني الاتهام , فهو لم يقدر أن الخطوات التي سبقت كان الحزب على علم بمجملها , وأنه لم يعترض عليها , ولم يثر ثائرة ضدها , بل وضع نفسه موضع المستجوب المعارض للحكومة, عند ذلك ثار أحمد باشا عبد الغفار ثورة خرجت عن حدود المعقول , وخيف منها عليه هو , حتى لقد طلب بعضهم ماء يشربه عبد الغفار باشا خشية الهيجان الذي اندفع إليه ,
والذي جعله في حال أشفقت وأشفق الحاضرون عليه منها , على أنني حاولت , وحاول عبد المجيد إبراهيم باشا , تهدئة الجو , وبعث المعني الحزبي فيه , وأننا جئنا لنتفاهم لا لنتشاحن , ودارت مناقشة بعد ذلك تدخل فيها عبد الجليل أبو سمرة باشا فتحدث عن تأثير جمود الوزارة على الحالة الاقتصادية والحالة المالية , ولما ذكر عبد الغفار باشا أن الحكومة اتفقت مع الهند لاستيراد الكميات الكافية من الزكائب والأكياس لمحصول القطن هدأ الجو تمام الهدوء , وبدأ الأعضاء ينصرفون , وانتهي الاجتماع في جو لا أحسبه صفوا ولكنه خال من العنف الفظيع الذي ساد بدايته .
ولم أكن أستطيع أن أتخذ في هذا الاجتماع موقفا محددا , فقد مر بي دسوقي باشا أباظة مساء الأربعاء الذي سبق الاجتماع , وأبلغني أن النقراشي باشا قرر السفر بنفسه على رأس الوفد الذاهب لعرض الخلاف المصري الانجليزي على هيئة مجلس الأمن , وأنه يريد أن أصحبه , وأنه يريد أن يعين وزيرى دولة , وأنه يريد أن يتشاور في هذا كله , ويدعوني للعشاء عنده بمنزله بمصر الجديدة مساء السبت .
صارحت دسوقي باشا بأنني لا أسافر مع النقراشي باشا, وأنه كان أولي له هو أن يقنع رئيس الوزراء بذلك , والواقع منذ قطع المفاوضات فكرت في احتمال دعوتي للسفر وفي احتمال دعوة غيرى , وكنت مقتنعا بأن النقراشي باشا شخصيا هو الذي يجب أن يسافر فهو الذي كتب إلى انجلترا في وزارته الأولي يطلب المفاوضة لإعادة النظر في معاهدة سنة 1936 , وهو الذي تلقي جواب إنجلترا بقبول المفاوضة , وهو الذي بدأ الخطوات التمهيدية لهذه المفاوضات , فلما خلفه صدقي باشا في رياسة الوزارة , وتألفت هيئة المفاوضات وعدلت الوزارة – دخل إبراهيم باشا عبد الهادي نائب النقراشي باشا في رياسة حزبه وزيرا للخارجية .
وكان النقراشي باشا لا يأبي أن يسافر مع صدقي باشا إلى لندن , فلما خالفت هيئة المفاوضة في سفره وسفري , سافر عبد الهادي باشا بصفة كونه وزيرا للخارجية , ووافق النقراشي باشا على مشروع صدقي – بيفن بعد عودة صدقي باشا , وكان إبراهيم باشا عبد الهادي يطلب إلى هيئة المفاوضة في اجتماعها الأخير ألا تثير شيئا حول بروتوكول السودان ,
ولما أبدي الأحرار الدستوريون تحفظاتهم على مشروع صدقي – بيفن , طلب النقراشي باشا إلى أن أعتبرها رغبات , فرفضت , ثم ألقيت في 5 ديسمبر خطابي عن مشروع المعاهدة ونصصت فيه على التحفظات , واستقال صدقي باشا في 8 ديسمبر , فألححت في أن ينص في خطاب تأليف الوزارة على تحفظات الأحرار الدستوريين فاشتملها الكتاب , وأعلنت أنا أن الحزب متمسك بها إلى النهاية , وعاود النقراشي باشا المفاوضات ثم قطعها , وقرر الالتجاء إلى مجلس الأمن وألف هيئة المستشارين وكان يجتمع معها , وهو الذي أعد كل شئ للاحتكام فمن الطبيعي أن يكون هو الذي يتولى الأمر أمام مجلس الأمن لا يتولاه سواه .
وقد قيل إن الوزارة خاطبت واصف باشا غالي ليتولي هو رياسة الهيئة التي تتولي الاحتكام , وقابلت واصف باشا وأطلعته على رأيي هذا ووافقني عليه , وعلمت من النقراشي باشا أن واصف باشا أبداه لجلالة الملك حين تشرف بمقابلته بعد حديثي معه بأيام .
لم يكن بد إذن من أن يسافر النقراشي باشا شخصيا لتولي المسألة أمام مجلس الأمن , ولم أكن أرى موجبا تقضي به مصلحة البلاد لأسافر أنا أو يسافر غيري معه , فلما ذهبت إليه بمنزله تلبية لدعوته مساء السبت 17 مايو , وأخبرني بأن الرأي استقر على أن يسافر هو , وطلب إلى ّ أن أسافر معه – قلت له : لو أنني كنت الذي أتولي الأمر لما اصطحبت أحدا , اللهم إلا مستشارا أو اثنين من الذين تولوا دراسة المسألة في الأشهر الأربعة الأخيرة . فسفيرنا في الولايات المتحدة, محمود باشا حسن , هو ومحمود بك فوزي , رجلان مشهود لهما بالكفاية , وقد خبرتهما بنفسي في أثناء وجودي بنيويورك في انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لكن النقراشي باشا أخبرني أن لا غني له عن السنهورى باشا وعن ممدوح بك رياض قلت إذن فليكن معه أيضا رجلان من الأحرار الدستوريين عضوين في الوفد ليكون ذلك مظهرا لتآزر الحزبين , وتردد هو في ذلك وأصررت أنا عليه ,
فلما حدثني في أمر سفري شخصيا , ذكرت له أن المتحدث أمام مجلس الأمن شخص واحد سيكون هو , أى النقراشي باشا , فإذا أنا ذهبت فسيكون دوري ثانويا لا يستحق أن أسافر , وأنا أفيد في مصر أكثر من فائدتي إذا سافرت , فسيقوم المعارضون للوزارة بحملة عليها لأول وصوله إلى أمريكا , وأراني أقدر على رد ما يمليه الغرض من هذه الحملة , هذا إلى أنه إذا كان يري الحديث معي عن السفر بعض ما تقضي به المجاملة , فأمور الوطن ومصالحه أكبر من أن تراعي فيها المجاملة ,
وكان حجته أنه بحاجة إلى رأيي فيما قد يعترض به الانجليز أو غيرهم عليه , قلت فمن معك قادرون على إمدادك بالرأي, قال قد يصيبني المرض فتنوب عني في الحديث قلت قد يصيبنا المرض كلانا , والذي ينوب عنا في الحديث يستطيع أن ينوب عنك إذا كنت وحدك , وبمقدرة أشهد أنا بها لمن رأيتهم في أمريكا , أقصد محمود باشا حسن ومحمود بك فوزي .
وتناولنا طعام العشاء بعد ذلك وانصرفت , وأخبر النقراشي باشا وزراءه بما حدث , وطلب إلى الوزراء الأحرار الدستوريين معاودة الحديث معي في ذلك فحدثني منهم أربعة : أحمد خشية باشا , ودسوقي أباظة باشا , وعبد المجيد إبراهيم صالح باشا , واللواء أحمد عطية باشا , واقتنعوا بوجاهة رأيي في عدم السفر , وقد كان شعوري حين حديثهم معي في هذا الأمر أن النقراشي باشا طلب إليهم ما طلبه مجاملة لى , وإن كان يعلم هو ويعلمون هم أنه طلب يتعذر قبوله .
تناول حديثي مع النقراشي باشا موعد سفره إلى أمريكا , فأخبرني أنه حدد له ما بين 10 , 15 يونية , أى بعد ثلاثة أسابيع إلى أربعة أسابيع من حديثنا هذا , وعرفت أن صيغة الطلب الذي يقدم إلى مجلس الأمن وضعت , وعرض علىّ النقراشي باشا أن أطلع عليها ثم تلاها على ّ , وأخبرته أني أقرها مبدئيا , ولكن أحتاج إلى مراجعة لإبداء الرأي الأخير فيها ,
ثم إنه أخبرني , أن خطابه الذي يفتتح به المناقشة أمام مجلس الأمن أعد كذلك وأنه يقع في خمسين صفحة , ووعدني بإرسال نسخة منه في الغد , فلما رأيت الجد في قوله أنه مسافر بين 10 و15 يونيه , قلت له : لا يزال بيننا اليوم وبين سفرنا ثلاثة أسابيع إلى أربعة , وهذه الفترة كافية لإتمام نظر الميزانية , وبخاصة أن ما تم نظره منها بمجلس النواب يجعل ما بقي قليلا , وأنا كفيل بأن يتم مجلس الشيوخ نظرها في هذه الأسابيع الباقية , لذلك أري أن تفض الحكومة الدورة حتى لا تقدم استجوابات ومناقشات في أثناء نظر المسألة أمام مجلس الأمن قد يسوء أثرها في الداخل أو في الخارج .
قلت هذا لأنني كنت أعلم أن الرأي منقسم في هذا الموضوع , وأن ثمت اتجاها إلى استبقاء الدورة في أثناء وجود المتكلمين باسم مصر في نيويورك , وقد تردد النقراشي باشا حين عرضت عليه وانتهى بأن قال إنه سيفكر جديا في الأمر .
وقد كنت واثقا من استطاعة مجلس الشيوخ أن يتم الميزانية قبل منتصف يونية , إذا صحت نية الحكومة على فض الدورة إثر إقرار قانون الميزانية .
بعث إلىّ النقراشي باشا غداة عشائنا معا بالخطاب الذي يفتتح به المناقشة في مجلس الأمن وتلوته , فإذا هو مناقشة قانونية دقيقة للمسألة المصرية من حيث وثائقها , ولكنه خال كل الخلو من الإشارة إلى المفاوضات التي استغرقت سنة 1946 كلها تقريبا ,
وإذ كان ميثاق الأمم المتحدة صريحا في أن مثل هذه المفاوضات تكون محل نظر مجلس الأمن فيحكم في أمرها حكما سياسيا , وأن المناقشات القانونية قد تقتضي عرض الأمر على محكمة العدل الدولية - فقد أدليت بهذه الملاحظة إلى النقراشي باشا , وقد أبدي أنه مقتنع بها , وأن هيئة المستشارين ستعيد النظر في هذا الخطاب الافتتاحي .
في هذه الأثناء كانت لجنة فرعية من لجنة المالية بمجلس النواب تنظر في مشروع استنباط الكهرباء من خزان أسوان , وفي الاعتماد الذي طلبته الحكومة لهذا الغرض , وقدره عشرة ملايين ونصف مليون من الجنيهات , وقد أسندت إلى الأستاذ عبد الرحمن البيلي رياسة هذه اللجنة الفرعية, وأشيعت حول هذا الموضوع إشاعات كثيرة تتصل بمن لهم مصلحة في العطاءات المقدمة بشأنه إلى وزارة الأشغال ,
قيل إن عبود باشا ومعه عبد القوى باشا أحمد لهما مصلحة مع شركة بذاتها , وقيل إن ممدوح بك رياض ألف شركة باسم جاى إخوان رأس مالها ستة آلاف ريال , أى ألف وخمسمائة جنيه , تعمل لحساب بعض أصحاب العطاءات كذلك . وقيل غير هذا , وفي أثناء نظر الموضوع تقدمت شركة وستنج هاوس الأمريكية تقترح – ضمانا لسلامة خزان أسوان – شق قناة جانبية لاستنباط الكهرباء من طريقها , وتداول الناس الحديث في هذه الأمور وتناولتها الصحف , فاتجه الرأي إلى تأجيل نظر هذا الموضوع إلى الدورة البرلمانية المقبلة ,
فكان ذلك مما أكد لى القدرة على الانتهاء من نظر الميزانية وفض الدورة قبل 10 أو 15 يونية , وإنا لكذلك إذ دعانا أحمد عبد الغفار ( باشا ) إلى تناول طعام العشاء عنده بالمعادي , وهناك فهمت من رئيس الوزراء أنه حريض على أن يمر المشروع بمجلسي البرلمان قبل الانتهاء من الدورة وقبل سفره إلى أمريكا .
وكان هذا المشروع قد أحيل في مجلس الشيوخ إلى لجنتّي الأشغال والمالية لدراسته دراسة تمهيدية ,وكانت اللجنتان قد اختارتا من بينهما لجنة فرعية برئاسة محمد شفيق ( باشا ) وكيل المجلس ورئيس لجنة الأشغال , وعضوية كل من طراف على ( باشا ) وعبد القوى أحمد ( باشا ) ومصطفي نصرت بك وكلهم مهندسون , و فؤاد سراج الدين ( باشا ) وعبد السلام ( بك) محمود وجلال فهيم ( باشا ) والدكتور إبراهيم بيومي مدكور من غير المهندسين .
وكان مشروع الحكومة يرمي إلى إنشاء محطة لتوليد الكهرباء من مساقط المياه في أسوان , ومد خط كهربائي من أسوان إلى نجع حمادي لإنتاج سماد النتر وشوك هناك , وقد وضعت الحكومة للسماد سعرا رأي شفيق ( باشا ) من دراسته أنه غير مبني على أساس سليم , وبعد مناقشته درات بين لجنة الشيوخ الفرعية والحكومة , عدلت الحكومة عن إنتاج النتر وشوك إلى إنتاج نترات النوشادر , وعدلت كذلك عن مد الخط الكهربائي من أسوان إلى نجع حمادي , لأن نترات النوشادر يمكن إنتاجها عند أسوان .
استغرق بحث هذه اللجنة الفرعية جلسات طويلة كثيرة كانت الآراء تتأرجح فيها بين ناحية وأخرى , ثم انتهت إلى ما طلبته الحكومة من اعتماد عشرة ملايين ونصف مليون من الجنيهات لهذا الغرض , وقد تابعها المجلس من بعد على ما رأته , كما أقر اعتمادا قيمته أربعة ملايين من الجنيهات لإنشاء مساكن للعمال بحي إمبابة .
لذلك تيسر التفكير في فض الدورة البرلمانية , وكان المسئولون جميعا قد اقتنعوا بضرورة فضها قبل سفر وفد مصر إلى مجلس الأمن .
في هذه الأثناء خاطبني دسوقي باشا أباظة في أمر سفري إلى أمريكا رئيسا لوفد مصر لدي هيئة الأمم المتحدة وقد آثرت الاعتذار أول الأمر , وطلبت إليه أن يبلغ هذا الاعتذار إلى النقراشي ( باشا ) فلما كنا يوم 20 يونيه , ثاني أيام رمضان , وكان ذلك ليلة اعتزم النقراشي ( باشا ) وأصحابه السفر إلى نيويورك , دعينا لتناول طعام الإفطار على المائدة الملكية بقصر عابدين ,
فلما أتممنا الإفطار , وكنا على أهبة الخروج , قال النقراشي ( باشا) : سترأس وفد مصر للأمم المتحدة فكررت له اعتذاري , فكان جوابه : لقد اتفقت مع رئيس الديوان ووافق جلالة الملك على هذا , فالأمر الآن بينك وبينه .
سافر النقراشي ( باشا ) وأصحابه قبيل الفجر من يوم 21 يوليه مستقلين الطائرة إلى نيويورك وعدت أنا إلى بور فؤاد أقضي عطلة الصيف مع أبنائي على شاطئ البحر , وبعد أيام اتصل بي دسوقي ( باشا ) أباظة تليفونيا , وكان قد تولي منصب وزير الخارجية بالنيابة بعد سفر النقراشي ( باشا ) وكان مما قاله : لقد طلب إلى إبراهيم ( باشا ) عبد الهادي أن أخبرك لنرسل برقية إلى رئيس مجلس الأمن تأييدا للنقراشي ( باشا ) ومن معه .
عجبت لهاذ القول , وأجبته على الفور : وأية فائدة ترجي من هذا ؟ إنني رئيس حزب مشترك في الوزارة , ولى اثنان أعضاء في وفد مصر لدي مجلس الأمن , فإرسال مثل هذه البرقية يعتبر مظاهرة جوفاء لا تليق برئيس حزب ولا برئيس مجلس الشيوخ , ولهذا لا أستطيع أن أتصور إرسال مثل هذه البرقية إلا إذا كان مقصودا بها الاستهلاك المحلي .
ومثل هذا الأمر لا يليق من جانبي ولا من جانب حزب الأحرار الدستوريين .
وألح دسوقي ( باشا ) إلحاحا ) جعلني أقول له : قل لإبراهيم ( باشا ) عبد الهادي يكتب التلغراف الذي يريد أن أرسله وأنا مستعد لإمضائه , أما من جانبي أنا , فلا أفهم لهذا التلغراف معني , ولا أري منه أية فائدة .
وخيل إلىّ , بعد الحديث الشفوى الذي جرى بيننا في هذا الأمر , أنه اقتنع برأيي وأنه يستطيع نقل هذا الاقتناع إلى رئيس الديوان , لكنه عاد فحدثني غداة ذلك اليوم يخبرني أنه أبلغ إبراهيم ( باشا ) حديثنا , وما قلته من أنني مستعد لإمضاء أية برقية يكتبها إبراهيم ( باشا ) فكان جواب رئيس الديوان : يا أخي! هيكل ( باشا ) أستاذنا في الكتابة , ويطلب منا مثل هذا الطلب ؟!
مع ذلك بقيت على رأيي من أن إرسال مثل هذه البرقية المطلوبة لا يليق ولا يفيد على أنه ما كان أشد عجبي حين اطلعت في الصحف بعد أيام من ذلك على برقية بالمعني الذي طلب إلى أن أكتبه مرسلة من حافظ ( باشا ) رمضان رئيس الحزب الوطني إلى مجلس الأمن , عند ذلك أدركت أن المسألة دورية , وقدرت أنني إن صح أن أكتب لرئيس مجلس الأمن شيئا , فلن يكون بالمعني المطلوب , بل بمعني يتفق وما يصح لمثلي أن يكتبه . عند ذلك كتبت البرقية بالنص الآتي : وكتبتها وأنا مقتنع بأنها لن تقدم ولن تؤخر عند مجلس الأمن كثيرا ولا قليلا :
" تذكرون سعادتكم , ويذكر زملاؤكم المحترمون أعضاء المجلس الموقر , ما قيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أكتوبر الماضي من أن مجلس الأمن يميل دائما في كل نزاع يعرض عليه إلى حلول يطبعها التسويف , ولست أود أن يتكرر مثل هذا القول في الجمعية العامة القادمة بالنسبة إلى الخلاف المصري الانجليزي المعروض علي مجلس الأمن ,خصوصا وأن وجه الحق في هذا الخلاف واضح ظاهر .
" فالمبادئ والأغراض التي وقعت عليها الدول في ميثاق الأمم المتحدة هي التي يطبقها المجلس ويخضع لها كل ما خالفها من اتفاقات سبقت الميثاق أو لحقته , وهذه المبادئ صريحة في ضرورة جلاء أية قوة أجنبية عن كل دولة عضو في الهيئة لا تريد بقاء هذه القوات في أرضها , وأن يتم هذا الجلاء في أسرع وقت يمكن فنّيا أن يتم فيه .
"وجلي في الخلاف بين مصر وإنجلترا أن هذا الجلاء يتناول مصر والسودان , فوحدة مصر والسودان ثابتة , اعترفت بها انجلترا في مكاتبات عدة آخرها مشروع المعاهدة الذي مره وزير الخارجية البريطانية بالحروف الأولي من اسمه في العام الماضي , والتصريحات التي أعلنها حاكم السودان العام البريطاني الجنسية بتعليمات من رئيس الحكومة البريطانية , فإذا جلت القوات البريطانية عن مصر والسودان وألف السودانيون حكومتهم الذاتية في وحدة مع تحت التاج المصري , ثم كان لهم رأي في علاقاتهم مع مصر , فليس المرجع في تقدير هذا الرأي إلى انجلترا , ولا يجوز بحال أن ينص على إجراء خاص به في معاهدة ثنائية بينها وبين مصر هذا مع العلم بأن سياسية مصر الثابتة هي أن تظل وحدة مصر والسودان قائمة على وجه الدوام برضي واختيار من شعب وادي النيل بأسره .
" فمصر إذ تعلن استعدادها للاضطلاع بالتبعات التي فرضها ميثاق الأمم المتحدة لصون السلام في العالم , فهي واثقة بأن مجلسكم الموقر سيقر مطالبها العادلة على وجه يطمئن له السلام العالمي , ويستريح له الناس في ربوع الأرض جميعا إلى أن هيئة الأمم المتحدة ستنهض بالمهمة التي فرض ميثاقها أن تنهض بها , توطيدا للسلام والحرية والأمن في العالم كله "
رئيس مجلس الشيوخ
ورئيس الشعبة المصرية للمؤتمرات البرلمانية الدولية
وعضو اللجنة التنفيذية للإتحاد البرلماني الدولي
ورئيس وفد مصر للجمعية العامة الأخيرة للأمم المتحدة
3/8 /1947
وبعد أيام أعاد دسوقي ( باشا ) بوصف كونه وزيرا للخارجية بالنيابة محادثتي في أن أكون رئيس وفد مصر لدي الأمم المتحدة وقال لى : إنه وخشية ( باشا ) رئيس الوزراء بالنيابة , وإبراهيم (باشا ) عبد الهادي رئيس الديوان , متفقون على هذا , وأني لا يجوز لى أن أتخلي عن القيام بهذا الواجب الوطني , فقلت : فليكن !
لكن بيننا وبين انعقاد هيئة الأمم المتحدة في 16 سبتمبر المقبل أسابيع معدودة , وإذا أردنا أن نؤدي واجبنا على الوجه الأكمل , وجب أن نبحث المسائل التي ستعرض على الهيئة في الدورة المقبلة , فإن كان عزمكم قد صح على هذا , فاستصدروا به قرار مجلس الوزراء وأبلغوني إياه , حتى أتخذ الأهبة وأقوم بالدراسة الواجبة , مع العلم بأنني لا أستطيع السفر جوا هذا العام لأن أذني متعبة , وقد طلب إلى ّ الطبيب أن أسافر بحرا إذا لم يكن من السفر بد .
كان هذا الحديث في الأيام الأخيرة من يوليه والأيام الأولي من أغسطس سنة 1947 .
ومضي على هذا الحديث أسبوع وأسبوعان وثلاثة أسابيع اتصل بي دسوقي ( باشا ) في أثنائها عدة مرات , وفي كل مرة كنت أسأله عما إذا كان قرار مجلس الوزراء بتأليف وفد مصر لدي هيئة الأمم المتحدة قد صدر , فيذكر لي أن رئيس الوزراء بالنيابة يكرر كلما نبهه دسوقي ( باشا ) إلى ذلك كلمته المعروفة : إن الله مع الصابرين!
وفي إحدى المرات ذكر لى دسوقي _( باشا ) أنه تحدث إلى إبراهيم ( باشا ) عبد الهادي في الأمر , فكانت إجابته كإجابة خشبة ( باشا ) بتعبير غير تعبيره , وأن دسوقي ( باشا ) وجد في هذه الإجابة ما يعذر خشبة ( باشا ) من تمهله , وضقت ذرعا بالأمر فعدت إلى رأيي الأول , وقلت : إذن , فأنا لا أسافر ولا أرأس الوفد , لأنني لا أريد أن أذهب من غير أن أدرس ما أنا ذاهب فيه , ومن غير أن أعرف الاتجاه الذي تريده الحكومة المصرية في المسائل المختلفة التي ستعرض على هيئة الأمم المتحدة .
في غداة اليوم التالي أبلغني دسوقي ( باشا ) أن الأمر انتهي وأن خشبة ( باشا ) قرر عرض الأمر فورا على مجلس الوزراء وأن القرار سيصدر في الغد , وأن المستشارين الذين كانوا مع النقراشي ( باشا ) في وفد مجلس الأمن سيكونون أعضاء أو مستشارين في وفد الجمعية العامة للأمم المتحدة , يضاف إليهم من اقترح أنا أسماءهم , وتمسكت أنا بأن الوقت أزف . وأن من الخير أن يعهد برياسة الوفد إلى محمود ( باشا ) حسن سفيرنا في أمريكا .
فهو رجل على خلق عظيم , وكفاية ممتازة , ومعرفة بالرجال الذين يمثلون الدول المختلفة أكثر من معرفتي بهم , لكن وزير الخارجية بالنيابة عاد فأصر , وأبلغني أن جلالة الملك أحيط علما بالأمر , وأنني حر في اختيار زملائي إذا أنا رأيت الاستغناء عن أحد من الموجودين مثلا بأمريكا , وإجابة لإلحاحه قبلت , وطلبت إليه أن يرسل لى في الغد بما عند وزارة الخارجية من أوراق خاصة بالأمم المتحدة في اجتماعها المقبل , وبدأت آخذ أهبتي للسفر بحرا إلى نيويورك.
مضت بعد ذلك أيام لم تصلني خلالها ورقة واحدة من وزارة الخارجية عن الأمم المتحدة , فاستخرت الله واعتمدت على ذاكرتي وعلى ما حدث في العام الماضي , وبدأت أكتب خطاب مصر في المناقشة العامة , اعتمادا على معلوماتي من غير رجوع إلى أية ورقة أو مذكرة ,
وفي الصباح من يوم 25 أغسطس اتصل بي الأستاذ جورج حبيب السكرتير الفني لرياسة مجلس الشيوخ , والذي صحبني العام الماضي إلى نيويورك وكان سيصحبني هذا العام كذلك , وقال لى إنه يريد أن يحضر إلى مع الأستاذ عبد المنعم مصطفي الموظف بوزارة الخارجية , والمتتبع لمسألة فلسطين في أدوارها المختلفة , ليعرضا علىّ أطوار هذه المسألة وما قد يمكن إحضاره من أوراق خاصة بالاجتماع , واتفقنا على حضورهما إلى في بور فؤاد صباح اليوم التالي ,
فلما حضرا عرض علىّ الأستاذ عبد المنعم ما لديه من أوراق عن مسألة فلسطين وتقرير لجنة التقسيم , وترك لى الأستاذ جورج حبيب تقرير السكرتير العام للأمم المتحدة عن أعمال العام الماضي , وجدول أعمال الاجتماع المقبل ,
فلما سألت الأستاذ عبد المنعم عن سياسة الحكومة في المسائل المدرجة بجدول الأعمال , أخبرني أن الأمر متروك لتصرفي وأنني سأجد أوراقا أخرى تنتظرني بوزارة الخارجية حين سفري إلى القاهرة لأبرحها إلى الإسكندرية أستقل منها الباخرة فولكانيا الإيطالية التي انتهي الرأي إلى السفر عليها , وذهبت بعد ثلاثة أيام إلى القاهرة ,
وحجزت غرفة على الباخرة , ثم ذهبت إلى وزارة الخارجية أطلع على الأوراق , فلم أجد بها ما يزيد على جدول الأعمال غير تقريرين صغيرين , لا يزيدان على عشر صفحات , عن أعمال لجنتين من وفد مصر في اجتماع العام الماضي , وقد وعدني المسئولون بالوزارة أنهم سيجمعون لى الأوراق الباقية ويضعونها تحت تصرفي قبيل سفري .
عدت إلى بور فؤاد بعد أن تحدد سفري على فولكانيا يوم 8 سبتمبر , واتفقت مع زوجي أن تصحبني إلى القاهرة صباح السبت 6 سبتمبر , لتعد لي ما بقي من متاع أحتاج إليه في أثناء إقامتي بأمريكا , ثم تصحبني إلى الإسكندرية حتى تودعني على الباخرة لكنهما مع الشئ الكثير مع الأسف مرضت يوم الخميس واستدعيت لها الطبيب صبح الجمعة فأخبرني أن المرض لا تخشي عواقبه ولكنها لا تستطيع تنفيذ ما اتفقنا عليه وأخرت سفري حتى اطمأننت عليها ,
وذهبت إلى القاهرة مساء السبت وإلى وزارة الخارجية صباح الأحد , فلم أجد أن الأوراق أعدت , ووعدت بأنهم سيحضرونها إلىّ بمجلس الشيوخ مساء ذلك اليوم , وفي المساء جاءني أحد الموظفين ومعه ملف خفيف , قال لى إنه يحتوى كل ما عندهم , وإن تقرير السكرتير العام الذي أرسل إلىّ من قبل هو الوثيقة الهامة , وإن توجيه وفد مصر في الجمعية العامة متروك لي.
سافرت صباح الاثنين 8 سبتمبر إلى الإسكندرية , وتناولت طعام الغداء بالشاطبي مع عدد كبير من الأصدقاء ورجال الحزب ووزرائه , وقامت بنا الباخرة في الساعة الخامسة قاصدة بيريه باليونان , فنابولي بإيطاليا ومن هناك تنطلق مباشرة إلى نيويورك .
ونظمت متاعي بغرفتي بالباخرة , وعلوت سطحها أستنشق هواء البحر المنعش الرقيق , وهناك اتصل بي الأستاذ وحيد رأفت عضو الوفد المسافر هو وزوجته معي على الباخرة , كما تعرّفت إلى أشخاص آخرين من أجناس شتى أكثرهم نزح إلى أمريكا وتجنس في الولايات المتحدة بجنسية أهلها .
أصبحنا يوم 9 سبتمبر ولا شئ يشغل بالي ما يشغله توقع ما سيكون الغد بمجلس الأمن , فقد تأجلت المسألة المصرية أمامه إلى 10 سبتمبر , وكان مفروضا أن تكون هذه هي الجلسة الأخيرة بعد أن تطورت المسألة في جلسات سابقة متعددة , وكان طبيعيا أن تكون هذه المسألة الشغل الشاغل لكل مصري , فمنذ بدأ نظرها اتخذت كل من مصر وانجلترا موقف عداء بإزاء الأخرى , فلم يكن منتظرا أن تكون كلمة المجلس كلمة توفيق بل كلمة فصل أشبه ما تكون بحكم القضاء .
كانت نظرية مصر أن معاهدة سنة 1936 قد استنفدت أغراضها ! فلم يبق موضع لبقائها , وأنها فضلا عن ذلك عقدت تحت ضغط الإكراه , فلم تكن مصر تامة الاختيار في توقيعها , بل كانت بين أن توقعها فتكسب خطوة متواضعة في طريق استقلالها , وبين أن ترفض توقيعها فتبقي خاضعة لتدخل إنجلترا المتكرر في شئونها الداخلية ,
هذا فضلا عن أن انجلترا لم تكف منذ عقدت المعاهدة عن التدخل الذي بدا في أوضح صوره في حادث 4 فبراير سنة 1942 , حين أحاطت القوات المسلحة والدبابات البريطانية قصر عابدين , لتكره الملك فاروق على إسناد الوزارة لشخص بذاته , لهذا كله رأت مصر أن المعاهدة لا مبرر لبقائها من ناحية القانون , أما والميثاق الأمم المتحدة ينص على المساواة في السيادة ,
وعلى حق كل في اختيار نظامها – فقد وجب أن تنسحب القوات البريطانية من أرض مصر ومن أرض السودان فعلا , وأن ينتهي الحكم القائم في السودان , وألا يكون لمعاهدة سنة 1936 وجود دولي .
دافعت مصر عن هذه النظرية , وأضافت لها سرد تاريخ الاحتلال البريطاني للأراضي المصرية منذ سنة 1882 , وكيف كان سببا في تأخر الشعب المصري بما جر عليه من سياسة الضغط وحرمان المصريين من الحقوق الأولية التي يتمتع بها كل شعب مستقل .
أما نظرية إنجلترا فكانت أن معاهدة سنة 1936 قائمة , وأنها تتمسك بها إلى نهاية مدتها في سنة 1956 , لأنها عقدت بمحض اختيار من مصر بدليل واضح هو أن مصر رفضت توقيع معاهدات جرت بين الدولتين مفاوضات لعقدها , وكان في مقدورها أن ترفض كذلك توقيع هذه المعاهدة , وأنه ما دامت مصر هي التي قبلت بقاء قوات بريطانية على أرضها , فليس من حقها أن تعلن من جانبها وحدها إلغاء ما تعهدت به , لأن الحياة الدولية قائمة على احترام المعاهدات ,
أما القول بأن انجلترا تدخلت في شئون مصر الداخلية , فلا صحة له إلا في حادث سنة 1942 , وهو حادث دعت إليه ضرورات الحرب لأسباب أبدت إنجلترا استعدادها لعرضها على مجلس الأمن إذا أصرت مصر على اتهامها بالتدخل , ومن ثم طلبت إنجلترا شطب هذا النزاع المصري البريطاني من جدول أعمال مجلس الأمن , كان هذا موقف إنجلترا بالنسبة لمعاهدة سنة 1936 فيما يتعلق بمصر ,
أما موقفها في مسألة السودان فكان مختلفا عن ذلك تمام الاختلاف , فقد ذهبت إلى أن وجهة نظرها لا تختلف مع وجهة النظر المصرية إلا في نقطة واحدة تراها هي جوهرية , تلك أنها ترى أن يكون للسودان حق تقرير مصيره بعد بلوغه مرتبة الحكم الذاتي , فإذا أراد الاندماج في مصر اندمج فيها , وإذا أراد الاستقلال عن مصر استقل عنها , وإذا أراد مع الاستقلال التعاقد مع مصر تعاقد معها , وما تراه مصر من أن تكون وحدة مصر والسودان دائمة على أساس أن السودان جزء من مصر , لا سند له , لا من حيث التاريخ ولا من حيث الجنس , ورابطة النيل لا تزيد على ما بين دولتين تعيشان على شواطئ نهر واحد من منفعة مشتركة يمكن التعاقد عليها , ولهذا تؤيد انجلترا حق السودان في تقرير مصيره ,
بينما تنكر مصر عليه هذا الحق وتريد أن تستعمره على خلاف ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة من حق كل أمة في تقرير مصيرها إخلال بالسلام العالمي على خلاف ما تدعيه مصر , اللهم إلا إذا جاء هذا الإخلال من جانب مصر نفسها .. ومجلس الأمن ليس محكمة قضائية تفصل في صحة العقود الدولية , وفيما إذا كانت معاهدة سنة 1936 قائمة أو غير قائمة , بل هيئة سياسية مهمتها الأولي اتخاذ ما يراه من إجراء لصون السلم إذا كان السلم مهددا , أما والسلم في مصر وفي الشرق الأوسط لا يهدده ما بين مصر وإنجلترا من خلاف , فلا محل لبقاء هذا النزاع معلقا أمام المجلس .
ما عسي أن يكون الحل الذي يقترحه مجلس الأمن لفض هذا النزاع ؟ المجلس هيئة سياسية لا ريب , وأعضاؤه يمثلون مصالح دولهم وسياساتها , ويعنون في نفس الوقت بالسلم العالمي , والخلاف قائم بين الكتلة الغربية التي تتزعمها أمريكا , وبين الكتلة الشرقية التي تتزعمها روسيا , وللدول الكبرى حق الفيتو , فالأمر إذن مرجعه إلى السياسة لا إلى العدل المجرد عن الهوى , المستند إلى أحكام ميثاق الأمم المتحدة وإلى قواعد القانون الدولي كما يفسرها العلماء , لا كما يفسرها الساسة كل في حدود هواه ومنفعته , لذا كان الموقف دقيقا , وكنا بمصر في شغل شاغل بما عسي يتمخض عنه هذا الموقف .
ولم تكن اتجاهات الدول الممثلة بالمجلس خافية على الحكومة المصرية قبل إبلاغها سكرتيرته الأمم المتحدة شكواها لعرضها على المجلس , ولا بعد إبلاغها هذه الشكوى , فقد بعث إليها ممثلو مصر في الخارج يذكرون أن الجو غير ملائم لنظر هذا النزاع بين مصر وإنجلترا , وأن التخاذل السياسي بين الدول الكبرى من شأنه أن يزيد الجو اضطرابا , وقد علمت أن ممثلنا في موسكو أشار على الحكومة المصرية بضرورة إنهاء معاهدة سنة 1936 بإلغاء القانون الذي صدر باعتمادها , حتى يكون النزاع قائما على احترام أو عدم احترام هذه المعاهدة , وحتى لا يقال إن بقاء هذا القانون يجعل مصر مرتبطة بالمعاهدة .
وقد دارت هذه الفكرة عند غير واحد من الساسة المصريين . حتى في أثناء قيام المفاوضات في عهد وزارة صدقي باشا , حين كانت المفاوضات ترتطم بين حين وآخر بعقبات يخشي معها أن تنقطع , أفيرى مجلس الأمن وسيلة حاسمة لفض هذا النزاع بقبول ما طلبته مصر أو ما طلبته إنجلترا ؟ أم يلجأ إلى ما لجأ إليه أكثر الأحيان من وسائل التطويل والتأجيل على الزمن يجود بحل لا يجد المجلس إليه سبيلا ؟
كان النقراشي ( باشا ) واقفا على كل هذه الاعتبارات الخاصة بمجلس الأمن , وبالتيارات التي تتجاذب الدول الممثلة فيه , لكنه كان يظهر اقتناعه بأنه لا يعتقد , برغم كل اعتبار , أن دولة ما تستطيع ألا تجيب طلبة الخاص بجلاء القوات البريطانية عن مصر على الأقل , وقد أخبرني مرة أنه , في حديث جرى بينه وبين سفير الولايات المتحدة , قال للسفير . أريد أن أرى الدول التي تجرؤ على رفض طلب مصر انسحاب الجنود البريطانية من أرضها ! لكنه لم يكن يرى رأي القائلين بإلغاء معاهدة سنة 1936 من جانب مصر وحدها , مخافة أن يجر ذلك إلى قرار من مجلس الأمن يلوم مصر على تصرفها ,
فمعاهدة سنة 1936 لا تقتصر نصوصها على بقاء القوات البريطانية في منطقة القناة , بل تتناول تعهدات أخرى من جانب مصر ومن جانب إنجلترا فيما يسبق وقوع حرب , وما يكون على كل طرف من التزامات إذا وقعت الحرب بالفعل , وعلى هذا سافر إلى نيويورك مقدرا دقة الموقف قانعا بكسب انسحاب الجنود البريطانية من أرض مصر , وبالمفاوضة بعد ذلك إذا اقتضي الأمر المفاوضة .
كانت الخطوة الأولي التي خطاها مجلس الأمن بعد أن عرض الفريقان المتنازعان وجهة نظرهما , أن تقدم اقتراح من ممثل البرازيل بعود مصر وإنجلترا إلى المفاوضة لحل النزاع القائم بينهما , وأعلن ممثل انجلترا قبوله هذا الإقتراح , وكان طبيعيا أن يعلن هذا القبول ,
وقد صرح مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية غير مرة بأن إنجلترا مستعدة لاستئناف المفاوضة مع مصر , وقد علمت بعد ذهابي إلى نيويورك بأن هذا الاقتراح كان مثار جدل بين أعضاء وفد مصر : أيقبلونه أم يرفضونه ؟
وقد تغلب القائلون بالرفض آخر الأمر , بحجة أن قبول الاقتراح معناه أن مصر كانت مخطئة يوم قطعت المفاوضة , مخطئة يوم رفضت أن تستجيب إلى طلب إنجلترا استئناف هذه المفاوضة , مخطئة يوم لجأت إلى مجلس الأمن بحجة أن معاهدة سنة 1936 استنفدت أغراضها , وأن بقاء القوات البريطانية في مصر حتى تحل معاهدة جديدة محل هذه المعاهدة يعرض السلام العالمي للخطر ,
لذلك أعلن النقراشي ( باشا ) في شدة رفض الاقتراح البرازيلي , وأنه لن يعود إلى المفاوضة قبل جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان .
تقدم بعد ذلك اقتراح من المسيو لوبيز مندوب كولومبيا في مجلس الأمن , والاقتراح الكولومبي يختلف عن الاقتراح البرازيلي في أن الأول كان يدعو إلى استئناف المفاوضة إطلاقا , أما الاقتراح الكولومبي فكان يقترح إجراء المفاوضة بالنسبة للجلاء منفصلة عن المفاوضة في مسألة السودان ,
وقد رفض النقراشي ( باشا ) الاقتراح الكولومبي , كما رفض الاقتراح البرازيلي وبنفس الشدة , وأظهر المندوب الكولومبي دهشته لهذا الرفض , وأرسل الأستاذ محمود أبو الفتح إلى جريدته " المصري " يفسر هذه الدهشة بأن الاقتراح الكولومبي كان متفقا عليه بين ممدوح ( بك) رياض عضو الوفد المصري والمسيولوبيز المندوب الكولومبي أنكر ممدوح (بك) هذا الاتفاق .
وجرت تحقيقات بشأنه أمام النيابة قبض في أثنائها على أشقاء أبو الفتح , ورفعت بشأنها دعوي أمام محكمة الجنايات , لا تزال منظورة وأنا أكتب هذه المذكرات( 9 مايو سنة 1948 )وقد أخبرني غير واحد من مستشاري وفد مصر لدي مجلس الأمن , الذين بقوا أعضاء أو مستشارين لوفد مصر لدي جمعية الأمم المتحدة أن ما رواه أبو الفتح كان صحيحا , وأن ممدوح ( بك) رياض اتفق , بعلم من النقراشي ( باشا ) مع مندوب كولومبيا علي مجمل الاقتراح , وأنه قدم له مذكرة جعلها المسيو فرناندر سفير كولومبيا في واشنجتون , أساس الاقتراح الكولومبي حين حرره مع مسيو لوبيز وقد أخبرني مسيو لوبيز نفسه أن النقراشي ( باشا ) تحدث إليه على إنفراد في المسألة وطلب معاونته , وأن رياض خاطب فرناندز وأعطاه المذكرة التي جعلت أساسا للاقتراح الكولومبي وبهذا كانت دهشته يومئذ عظيمة حين رفض النقراشي ( باشا ) الاقتراح .
ما هو السر في هذا الرفض؟ ثم ما هو السر مع ذلك في دفع لوبيز إلى تقديم اقتراحه ؟ أحسب من مجموع ما سمعته من مستشاري الوفد ومن غيرهم ممن لقيت بنيويورك , أن الأمر يرجع إلى الموقف الذي وقفه النقراشي ( باشا ) من ناحية وسير الكسندر كادوجان من الناحية الأخرى , حين مرافعاتهم الأولي ,
كما يرجع إلى الجو الذي أحاط بالمسألة في نيويورك , والجو الذي كان محيطا بها في القاهرة وفي غيرها من مدن مصر وأريافها , لقد وقف ممثل مصر وممثل انجلترا أمام مجلس الأمن موقف خصومة عنيفة أدني ما تكون إلى العداوة السافرة , وقد هاجم النقراشي ( باشا ) الانجليز مهاجمة قاسية لقي من أجلها إكبارا وتصفيقا في الأوساط المصرية المختلفة , وكان ذلك يبلغ إليه يوميا بالتلغراف أو بالتليفون .
لكنه رأي نفس الوقت أن الجو المحيط به في ليك سكس ليس جوا يدعو إلى أمل كبير , بل لعله لم يكن يدعو إلى أمل أبدا , موقف دقيق يثير في نفس أشد حيرة ! النقراشي باشا يعلن رفضه لكل مفاوضة قبل جلاء الجنود البريطانية جلاء تاما ناجزا عن مصر والسودان , أفيقبل النقراشي ( باشا ) أن يتفاوض قبل أن يتم هذا الجلاء ؟ وما بال مجلس الأمن لا يعين لجنة من قبله تبحث الأمر وتحدد موعد الجلاء ؟ ولكن , إذا استبعد مجلس الأمن طلب مصر من جدول أعماله , فماذا يكون الحال ؟ وهلا تكون عودة النقراشي إلى مصر بعد ذلك محفوفة بالخطر , خطر الفشل في أمر يعتقد الشعب المصري أنه على حق كل الحق .
كان هذا سبب الحيرة وسبب التردد, وكان من أعضاء الوفد ومستشاريه من يرون أن قبول فكرة المفاوضة , على أية صورة من الصور معناها الواضح التسليم بأن المسألة المصرية مسألة ثنائية بين مصر وإنجلترا وليست مسألة دولية يجب أن تحل على أية صورة عن طريق مجلس الأمن , وقد كان هذا العنصر يمثل اتجاه الرأي العام المصري , ويمثل في نفس الوقت أغلبية في هيئة الوفد ,
أما العنصر الذي كان يميل إلى التماس حل لا تتعرض معه مصر لشطب طلبها من جدول أعمال مجلس الأمن فكانوا أقلية , وكانوا يخشون أن يتشبثوا برأيهم إلى الحد الذي يتشبث معه الآخرون برأيهم مخافة أن يقال إنهم ضعاف العزيمة لهذا رفض النقراشي ( باشا ) الاقتراح الكولومبي الذي قدم بعد اتصالات متكررة بين النقراشي ( باشا ) ومسيو لوبيز وبين ممدوح ( بك ) رياض ومسيو فرناندر.
وخيرا فعل الذين تشبثوا بالرفض , وانتصرت نظريتهم فهم قد بدءوا بموقف صريح أمام مجلس الأمن أساسه رفض المفاوضة قبل الجلاء , فالعدول عن هذا الموقف كان يضعفهم حتى في المفاوضة مع انجلترا , ويضعف الروح المعنوية في مصر , ويدعوها للاقتناع بأن مصير مصر المحتوم معلق بالمفاوضة , وهذا ما اقتنع به النقراشي ( باشا ) وبخاصة لأنه كان متفقا مع اتجاه الرأي العام الذي سايره بحماسة منقطعة النظير في حملاته العدائية على انجلترا.
كان الاقتراح البرازيلي قد رفض لأنه لم يحصل إلا على ستة أصوات , وقرارات مجلس الأمن يجب لصدورها أن يوافق عليها سبعة على الأقل من أعضاء المجلس , ولم يحصل الاقتراح الكولومبي على هذه الأصوات السبعة , وكان مصيره الرفض كذلك , أفتستبعد المسألة إذن من جدول الأعمال ؟
لم يكن رأي المندوب الروسي , أندريه جروميكو , وكان مسيو شيانج مندوب الصين لا يزال يعتقد أن في مقدور مجلس الأمن أن يجد للمسألة حلا مقبول , فهو يعتقد أن المشكلة الحقيقية بين مصر وإنجلترا سببها وجود القوات البريطانية في مصر , فإذا انسحبت هذه القوات أمكن عود الدولتين للمفاوضة , لذلك اقترح أن تجرى مفاوضات حول مسألة الجلاء وتبلغ نتيجتها لمجلس الأمن قبل آخر ديسمبر سنة 1947 , وكان مسيو شيانج يعتقد أن هذا الحل سيقبل من الطرفين , لأن إنجلترا أعلنت استعدادها للجلاء عن مصر , وقد علمت حين وجودى بنيويورك أن مندوب الصين أقنع زملاءه أعضاء المجلس بهذا الحل وكان واثقا من حصوله على الأصوات المطلوبة.
لكنه ما لبث حين عرضه أن لقي معارضة من جانب مصر ومن جانب إنجلترا على سواء , فقد أعلن النقراشي ( باشا ) أنه لا يقبله , وأنه لا يقبل شيئا دون الجلاء فورا , وأعلن مندوب إنجلترا أنه لا يقبله لأن إنجلترا شرطت جلاءها باستبدال معاهدة جديدة بمعاهدة سنة 1936 , وعرضت على مصر عروضا سخية لم تقبلها مصر ,
وكان موقف الأعضاء في مجلس الأمن عجيبا فهؤلاء الذين وافقوا مندوب الصين قبل الجلسة , تسللوا لواذا , لأنهم علموا أن إنجلترا تعتبر قبول هذا الحل عملا غير ودي بالنسبة لها , وعلى ذلك رفض اقتراح الصين كذلك وانتهى المجلس بأن قرر إبقاء النزاع البريطاني المصري معلقا أمامه , وللطرفين المتنازعين ولغيرهما من أعضاء المجلس أن يحركه من جديد .
كذلك أثبت مجلس الأمن مرة أخرى عجزه عن حل المنازعات الدولية حلا سلميا , وعاد النقراشي ( باشا ) إلى مصر فاستقبل فيها استقبالا رسميا حافلا , وأصدر جلالة الملك نطقه السامي بأن وزيره الأول أدي واجبه في خدمة بلاده على خير وجه , وقام بما لم يقم به غيره من قبل .
وصلت أنا نيويورك بعد مغادرة النقراشي ( باشا ) إياها بيومين اثنين , وقضيت بها رئيسا لوفد مصر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من يوم 22 سبتمبر سنة 1947 إلى يوم 26 نوفمبر من السنة نفسها , ولا حاجة بي إلى تسجيل شئ عن هذه المهمة فقد سجلت ما أردت تسجيله عنها في التقرير الذي رفع عن أعمال الوفد الذي تشرفت برياسته في هذه المهمة .
على أنني حريص أن أذكر أنني رأيت واجبا علىّ أن أحاول من جانبي أن ألتمس حلا للنزاع المصري الانجليزي , فاستمرار هذا النزاع له نتائجه بالنسبة لوطني , وله نتائجه كذلك في السياسة الدولية , وهو بعد نزاع يسهل فضه إذا حسنت النيات , كان ذلك تفكيري , وكيف لا يحل وقد عرضت كل ظروفه عرضا دوليا كاملا على مجلس الأمن , وقد أصبح أعضاء هذا المجلس , وأصبحت الدول القديرة على التدخل فيه ملمة بكل أطرافه .
لقد كانت حجة إنجلترا أمام مجلس الأمن أنها تتمسك بمعاهدة سنة 1936 , وأنها مع اعترافها بوحدة مصر والسودان تحت تاج مصر المشترك , تحرص على أن يكون للسودانيين الحق , متى بلغوا مرتبة الحكم الذاتي الكامل , في تقرير مصيرهم ببقاء وحدتهم مع مصر أو انفصالهم عنها , وكانت حجة مصر أنها حريصة أولا وقبل كل شئ على جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان ,
فإذا تم هذا الجلاء فلا مانع عندها من مفاوضة إنجلترا في تنظيم علاقات الدولتين في حدود المبادئ التي قررها ميثاق الأمم المتحدة أما وقد رضيت إنجلترا أن تجلوا قواتها من مصر فليتم هذا الجلاء , ولتتمسك إنجلترا إن شاءت بمعاهدة سنة 1936 فلا قيمة لهذا التمسك في أيام السلم , فإذا وقعت حرب كان للحرب ظروفها , وكانت مصر بحاجة , في أحوال العالم الحاضرة إلى الاستعانة بالدول الديمقراطية للتعاون معها في الدفاع عن السلام العالمي, فلماذا لا تجلو إنجلترا عن مصر وتتمسك ما شاءت بمعاهدة سنة 1936 , ولمصر أن تقدر , بعد هذا الجلاء , ما تتحقق به مصلحتها؟
أما مسألة السودان فلا محل للخلاف معها على ما للسودانيين وما ليس لهم من حق في تقرير مصيرهم , بعد أن يتحقق لهم الحكم الداخلي , ذلك بأنه يوم يتحقق لهم هذا الحكم الداخلي , لن تبقي إنجلترا ولن تبقي مصر في بلادهم , بل يكونوا هم أصحاب الرأي مع مصر , ولا يكون لإنجلترا يومئذ في الأمر شأن , ومصر حين تتمسك بالوحدة الدائمة مع السودان تتمسك بها سياسة لا مبدأ , فهي ستعمل بكل وسائلها لبقاء هذه الوحدة في ظل السلم والطمأنينة الدولية .
أما والأمر على هذا النحو , أفلا تستطيع أمريكا أن تبذل وساطتها لحل النزاع حلا سلميا يحفظ على الشرق الأوسط السلام والأمن ؟
فكرت في هذا , ورأيت أن أسافر إلى واشنطون لأتحدث فيه مع رجال وزارة الخارجية الأمريكية , وطلبت إلى وزيرنا أنيس ( بك ) عازر أن يرتب لى موعدا مع رجال الوزارة وسافرت بالفعل وقابلتهم , وتحدثت إليهم في الأمر , فإذا هم يذكرون لى أن إنجلترا قد أعلنت أنها ستسحب قواتها من فلسطين , فإذا انسحبت كذلك من مصر لم يبق لها مستقر على شواطئ البحر الأبيض المتوسط ,
فلما ذكرت لهم أن إنجلترا تملك مالطة وقبرص , وأن ذلك يكفل لها مع جبل طارق التحكم في هذا البحر أبدوا أن الأمر يستحق البحث , ولما ذكرت لهم مسألة السودان , وأن تمسك مصر بالوحدة سياسة تراها حيوية لها , كما أن وحدة الولايات المتحدة حيوية , وكما أن وحدة إنجلترا وأسكتلندا , وبلاد الغال حيوية , وأن هذه الوحدة وحدة سياسية أكثر منها وحدة مبدأ – قالوا مرة أخرى إن الأمر جدير بالبحث , ولم يبد منهم استعداد صريح لشئ , مما دلني على أن الخطة التي رسمتها إنجلترا بعد الذي حدث في مجلس الأمن كان مؤداها ألا تتدخل الولايات المتحدة في الأمر , وأن الولايات المتحدة قبلت هذه الخطة .
ولما عدت من نيويورك إلى مصر , انتهزت فرصة مروري بلندن لأتحدث في هذا الأمر , ذلك أنني ركبت الباخرة ( كوين مارى ) إلى سوث هامبتون , ومن هناك ذهبت إلى لندن أمضي بها ليلتين قبل أن أستقل الطائرة إلى القاهرة فلما قابلت عبد الفتاح ( باشا ) عمرو سفيرنا بلندن , أفضيت إليه برأي فرحب به , بعد أن أبدي لى ضيق صدره بما وصل إليه المركز من حرج , برغم ما بذله من جهود لإقامة علاقات مصر وإنجلترا على أساس يعتبره صالحا , ودعا إلى غداء في اليوم التالي ,
وكان وكيل وزارة الخارجية الدائم بين المدعوين فطرحت له وجهة نظرى فكان جوابه : أنت تعلم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين سيثير مشاكل لا يسهل التنبوء بها , فمن الخير أن ندع ما بين مصر وإنجلترا الآن حتى تنتهي مسألة فلسطين وتبينت من هذا الرد مثلما تبينت من حديثي في واشنطون , تبينت أن انجلترا تريد أن تدع مصر في بيداء سياسية مجهولة , علها تنتهي يوما إلى اتفاق تحت ضغط الحوادث على نحو ما حدث في سنة 1936 .
ولعل مسألة إدارة السودان , وما كان حادثا بشأنها بين مصر وإنجلترا , كان داخلا في نطاق هذه السياسة البريطانية .
وإدارة السودان , أو السودنة على كانوا يسمونها , فهي , على ارتباطها الوثيق بالنزاع المصري الانجليزي , جديرة بشئ من التفصيل .
الفصل الثالث
مأساة 17 يونيو سنة 1950
الوفد يفوز في انتخابات سنة 1950 ويشكل الحكومة – اللجنة المالية بمجلس الشيوخ تعارض عودة الاستثناءات – الوزارة تحاول التخلص من المعارضة – استقالة رئيس ديوان المحاسبة وأسبابها – الاستجواب حول تصرفات الحكومة التي أدت إلى الاستقالة : مسألة مستشفي المواساة وكريم ثابت ومسألة مشتريات الذخيرة للجيش – مضبطة الجلسة خير تصوير لما دار في هذا الموضوع – اقتراح تشكيل لجنة برلمانية لتحقيق المسألتين - موقف الملك من مجلس الشيوخ ومن رئيسه بعد الاستجواب – انقلاب دستوري مروع – موقف المعارضة بعد هذا الانقلاب – محاولة الحكومة تسويغ هذا الانقلاب الدستوري – الاحتجاج ومقاطعة أعمال المجلس – الموقف يقتضي ردا أكثر جرأة – موقفي من الاتحاد البرلماني الدولي – عريضة المعارضة – مصادرة الصحف التي تنشرها – كريم ثابت ومصدر نفوذه – مسألة ترشيحه لعضوية شركة قناة السويس – الملك يجب أن يحمي رجاله – الحياة النيابية في مصر مسرحية تمثل .
كنت بأوربا صيف سنة 1949 على رأس وفد مصر في مؤتمر الاتحاد البرلماني الذي عقد بمدينة استوكهولم عاصمة السويد , وقد علمت حينذاك أن وزارة الائتلاف التي يرأسها حسين سري باشا استصدرت مرسوما بتعيين محمود بك محمد محمود رئيسا لديوان المحاسبة .
وقد اغتبطت بهذا النبأ , لأن محمود بك , فضلا عن كفايته وذكائه , قد ورث عن أبيه محمد محمود ( باشا ) صفتي النزاهة والأنفة , وهما صفتان لازمتان لمن يسند إليه هذا المنصب , فلما عدت إلى مصر ذهبت إلى ديوان المحاسبة وهنأت محمود بك ورجوت للديوان على يديه الخير الوفير .
وكنت معتزما أن أسافر إلى باريس في الأيام الأخير من ديسمبر لأحضر اجتماع اللجنة التنفيذية للإتحاد البرلماني الدولي , لكن الأحوال في مصر جرت على غير ما كنت أقدر . فقد استقال سري ( باشا ) رئيس الوزارة الائتلافية فجأة وألف وزارة إدارية لإجراء الانتخابات وحددت هذه الوزارة الإدارية الأسبوع الأول من شهر يناير لإتمام عملية التصويت , فحال ذلك بيني وبين السفر إلى باريس , واقتضي أن أبقي بمصر أرقب الحالة عن كثب .
وتمت الانتخابات وفاز الوفد فيها بالأغلبية فألف النحاس ( باشا ) وزارته الوفدية وألقي خطاب العرش وأشار فيه كما أشار في خطاب تأليف وزارته إلى أنه سيتبع في الحكم سياسة قومية لا تعرف التحزب ولا المحاباة ولا المحسوبية .
على أنني كنت مع ذلك أتوقع أنها ستعيد الاستثناءات التي منحتها وزارة النحاس ( باشا ) السابقة , إبان حكمها بين 4 فبراير سنة 1942 , 8 أكتوبر سنة 1944 لطائفة من الموظفين , وصدق ما توقعت فلم تمض أسابيع على ولاية الوزارة الحكم حتى بدأ مجلس الوزراء يفكر في هذا الأمر تفكيرا جديا انتهى إلى وضع مشروع قانون قدم إلى البرلمان بإلغاء المرسوم بقانون الذي أصدرته وزارة أحمد ماهر ( باشا ) في سنة 1945 وألغت به تلك الاستثناءات ,
فلما عرض مشروع هذا القانون على اللجنة المالية بمجلس الشيوخ اعترضت أغلبيتها عليه من حيث الوضع التشريعي , لأن الاستثناء من حق مجلس الوزراء فلا موجب لأن يصدر به تشريع خاص , وبخاصة إذا لوحظ أن المشروع الجديد لا يعطي الموظفين حقا عن المدة التي صدر فيها مرسوم 1944 .
اعتبرت الوزارة موقف اللجنة المالية تحديا لها, ولما كان الذين عارضوا القانون في اللجنة من غير الوفديين فقد حملت الوزارة المعارضة كلها تبعة هذا الموقف , وبذلك بدأت تساورها المخاوف من هذه المعارضة , وبدأت تفكر في الوسيلة للتخلص منها , بعد أن كان تصميمها على التعاون معها والسير بالحياة البرلمانية من طريق هذا التعاون إلى نتائج صالحة .
ولم يدر بخاطرى يومئذ أن هذا التفكير انتقل من حيز الرأي يجول بخاطر بعض الوزراء إلى حيز التصميم المجمع عليه من رئيس الوزارة ومن زملائه جميعا , وقد حاولت أن أجد للوزارة مخرجا من هذا الموقف ليتصل التعاون ,
ولكي لا يكون رأي قانوني أبداه أصحابه في لجنة المالية أساسا لانقلاب شامل للحياة النيابية كلها , وفاتحت بعض الوزراء في الأمر فاطمأنوا له ولعلهم إلى هذه الطمأنينة أنهم كانوا لا يثقون بقدرتهم على احتمال هذا الانقلاب , وسافرت على رأس الوفد الذي يمثل البرلمان المصري في اجتماع مجلس الاتحاد البرلماني الدولي بموناكو , ثم سافرت على رأس الوفد الذي دعاه البرلمان البريطاني إلى لندن وعدت في السابع والعشرين من أبريل إلى القاهرة .
وقد علمت في أثناء غيابي بأوربا أن محمود ( باشا ) محمد محمود استقال من رياسة ديوان المحاسبة , ثم علمت إثر عودتي من أوربا أن مصطفي مرعي ( باشا ) عضوا المجلس وجه سؤالا إلى رئيس مجلس الوزراء يسأله عن سبب استقالة رئيس ديوان المحاسبة , ولم أكن أعرف سبب هذه الاستقالة , وإنني لفي منزلي يوما إذ جاءني الدكتور إبراهيم بيومي مدكور عضو المجلس والسكرتير البرلماني للجنة المالية وأطلعني على قصاصة من تجارب لتقرير ديوان المحاسبة ,
ولم يكن هذا التقرير قد طبع بعد , وذكر لى أن هذه القصاصة تحوى السبب الذي من أجله استقال رئيس الديوان , وتلا على ّ هذه القصاصة فإذا به أن مدير مستشفي المواساة بالإسكندرية , الدكتور أحمد النقيب ( باشا ) , قد أعطي إلى كريم ثابت ( باشا ) المستشار الصحفي لديوان جلالة الملك , مبلغ خمسة آلاف جنيه أتعابا له عن تصرف لم يعرفه ديوان المحاسبة , وأن الديوان ينتقد هذا التصرف ,
وفي هذه المقابلة ذكر لى الدكتور مدكور أن الوزراء طلبت إلى محمود ( بك) أن يرفع هذه العبارة من التقرير فأبي , وأن الإباء أحدث أزمة رفع أمرها إلى القصر , وأن محمود ( باشا ) قابل حسن ( باشا ) يوسف رئيس الديوان الملكي بالنيابة بسببها , وأن حسن ( باشا ) ذكر لمحمود ( بك ) أنه لا بأس ببقاء هذه العبارة في التقرير, وأن محمود ( بك ) رأي من مجموع ما سمع أن تصرفات في ديوان المحاسبة ليست محل الرضا ولذلك قدم استقالته فقبلت فور تقديمها وعين أحمد ( بك ) إبراهيم وكيل الديوان رئيسا له .
وجاء موعد الإجابة عن السؤال الخاص باستقالة رئيس الديوان , فلم ترض هذه الإجابة مصطفي ( بك ) مرعي وأراد أن يعلق عليها طويلا , فلما ذكر باللائحة قال إنه سيقدم استجوابا , وقدم الاستجواب بالفعل وحددت لنظره جلسة في النصف الثاني من شهر مايو .
تقدم قبل ذلك استجواب في مجلس النواب عن الحفلات الخيرية تكلم فيه النائب المحترم إبراهيم شكرى عما يجرى في هذه الحفلات , وأشار خلال حديثه إلى بعض الأميرات وسيدات الطبقة العليا , فأثار هذا الحديث طلعة الناس وتندرهم , وكان له فيما يظهر أثره في الدوائر الرسمية وغير الرسمية .
من ذلك ما حدثني به النحاس ( باشا ) حين التقينا في حفلة دعانا إليها سفير الباكستان في مصر لتوديع السير رونالد كمبل سفير انجلترا في مصر لمناسبة اعتزاله منصبه فقد ذهبت إلى فندق سميراميس إجابة لهذه الدعوة . فلما حان موعد الطعام أقبل النحاس ( باشا ) نحوى وخاطبني قائلا : أنت رئيس الشيوخ ولا يجوز أن يجرى بمجلس الشيوخ مثل ما جرى بمجلس النواب في الاستجواب المنظور عندكم وعجبت لهذا القول , وكان جوابي أنه ليس طبيعيا أن يقال في هذا الاستجواب مثل ما قيل في مجلس النواب , ولما فرفنا من تناول طعام الغداء وآن لنا أن نشكر سفير الباكستان وأن ننصرف لحق بي النحاس ( باشا ) وخاطبني في الموضوع تارة أخرى بحضور فؤاد (باشا ) سراج الدين فلم أقل شيئا , بل قال فؤاد ( باشا ) لا تخف يا رفعة الباشا فهيكل ( باشا ) لا يخطئ .
فكرت في هذا الكلام , ولم يدر بخاطرى إلا أنه يشير إلى أن الاستجواب لا يجوز أن يمس جلالة الملك بحال , وكنت أنا أقدر هذا تمام التقدير , وقد خاطبني أحمد عبد الغفار ( باشا ) يوما في أمر الاستجواب فقلت له : قل لمصطفي ( بك ) مرعي إن الدستور صريح في أن ذات جلالة الملك مصونة لا تمس , وأنا لذلك سأمنع كل كلام يمس جلالته .
وعشية نظر الاستجواب دعيت لحفلة كان بين المدعوين إليها الأستاذ حسين الجندي وكيل مجلس الشيوخ , فقلت له إنني أخشي أن تمنعني صحتى من سماع الاستجواب إلى نهايته , وإنه سيرأس الجلسة إذا أنا اضطررت لسبب أو لآخر إلى التنحي عن رياستها وإن الدستور صريح في أن ذات جلالة الملك مصونة لا تمس , وإنني لذلك مصمم على أن أمنع أى كلام في الاستجواب يمكن أن يمس جلالة الملك .
وسمع الاستجواب في اليوم التالي وحضر فؤاد ( باشا ) سراج الدين عن رئيس الحكومة وقد تكلم مصطفي ( بك) مرعي نحو الساعتين , ثم أجلت الجلسة إلى الغد , وفيها أجاب فؤاد ( باشا ) سراج الدين نيابة عن الحكومة , وكان عنيفا في إجابته أضعاف ما كان مصطفي ( بك) مرعي عنيفا في عرضه واستجوابه , ولست أريد أن أصف ما جرى في الجلسة بخير من أن أدرج مضبطتها بنصها وتفصيلها , وغاية ما أذكره أن مصطفي ( بك ) مرعي لم يحضر في اليوم الذي تكلم فيه ممثل الحكومة, بل سافر إلى الإسكندرية بحجة أنه مسافر إلى الخارج وإن تبين من بعد أن سفره سيكون يوم السبت , بينما تكلم ممثل الحكومة يوم الثلاثاء وكانت لمصطفي ( بك) بذلك فرصة أن يحضر الإجابة وأن يرد عليها , وقد كان لغيابه أثر في مصير الاستجواب , وإن تبناه الدكتور إبراهيم بيومي مدكور ساعة أعلن غياب مصطفي ( بك ) مرعي في أول جلسة الثلاثاء .
وهذا نص ما ورد في مضبطه المجلس عن الجلستين المذكورتين , جلستي الاثنين والثلاثاء 29, 30, من شهر مايو سنة 1950 .
المناقشة في الاستجواب
الموجه إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء , من حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) , عن تصرفات بدت من الحكومة كان لها أثرها في استقالة الرئيس السابق لديوان المحاسبة – استمرار المناقشة إلى غد .
نص الاستجواب :
" حضرة صاحب المعالي رئيس مجلس الشيوخ
بعد التحية , أتشرف بأن أنهي إليكم أنني أريد أن أستجوب حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الحكومة في تصرفات بدت من الحكومة كان لها أثرها في استقالة الرئيس السابق لديوان المحاسبة .
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
مصطفي مرعي
عضو مجلس الشيوخ
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) – حضرات الشيوخ المحترمين , حينما توجهت إلى الحكومة أسألها عن الأسباب التي أدت إلى استقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق , كنت أعلم كما كنتم تعلمون , يا حضرات الشيوخ المحترمين , أن كتاب الاستقالة جاء خلوا من أسبابها , ومع ذلك قدرت , كما قدر غيري , أنا ما نعرفه عن الرجل المستقبل من سلامة التفكير وسداد الرأي لا يتأتي معه الظن أنه استقال بدون سبب لهذا أخذت نفسي ببحث أسباب هذه الاستقالة , وانتهيت إلى أنها استقالة تتصل بعمل الرئيس المستقيل وبخاصة تتصل بملاحظات : منها ما أبداه على وجه من وجوه الصرف بخصوص مستشفي المواساة , منها ما أبداه على وجوه الإنفاق في حملة فلسطين , وأردت – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن أقطع الشك باليقين , فتقدمت للحكومة بسؤال هذا نصه :
هذه الأسباب ما يتصل بعمله وعلى وجه الخصوص هل منها ما يتصل بملاحظات أبداها الديوان على نفقات حرب فلسطين أو على وجوه صرف الإعانة التي قررتها الحكومة لمستشفي المواساة بالإسكندرية ؟ كان هذا هو سؤالي , وقد أجابت الحكومة عن هذا السؤال إجابة مقسمة قسمين :
أما القسم الأول , فقالت الحكومة فيه إن الرئيس المستقيل لم يفصح عن أسباب استقالته , سوى ما جاء في الاستقالة من أنه قد عرضت ظروف خاصة تجعل من العسير عليه الاستمرار في رياسة الديوان المذكور , وهنا أجيز لنفسي – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن أقف عند هذا القسم من قسمي الجواب لأستخرج منه أن للاستقالة أسبابا , وأن هذه الأسباب , وإن كان قد سجل في كتاب الاستقالة أنها أسباب خاصة , فكلمة خاصة لا تعني أنها أسباب شخصية بل هي أسباب تتصل بعمل الرجل .
والدليل على ذلك أن الحكومة إذ راجعته فيما تقول في هذا القسم , قائلة إنها ستحرص على تمكين الديوان من ممارسة رقابته القانونية على موارد الدولة ومصر وفاتها وما كانت الحكومة لتراجع الرئيس المستقل بمثل هذا لو لم تكن الأسباب التي استقال منها أسباب عامة لا أسباب خاصة .
هذا استنتاج أستلخصه من عبارة الحكومة نفسها , على أن هناك دليلا آخر , وهو أن الدكتور درية شفيق تحدثت إلى الرئيس المستقيل وكانت إذ تتحدث إليه تعد حديثها لتنشره جريدة المصري, وقد سألته السؤال الآتي :
" ذكرت الصحف – بمناسبة استقالتكم من ديوان المحاسبة – أن هذه الاستقالة كانت لأسباب شخصية , فهل هذا صحيح – فكانت الإجابة بلا "
هذا الحديث – يا حضرات الشيوخ المحترمين – كان معدا للنشر في جريدة المصري لأن " بروفته " التي كان مقدرا لها أن تطبع , في يد الآن ولكن قوة قادرة تدخلت في هذا الموضوع , فمنعت الجريدة من طبع هذا الحديث ونشره .
إذن فالظروف التي يقول عنها رئيس الديوان إنها عرضت فجعلت من العسير عليه الاستمرار في رياسة الديوان هي ظروف عامة تتصل بعمله , أو من غير شك أن الحكومة التي تلقت هذه الاستقالة قد فهمت أن هذه الظروف ظروف عامة .
وهنا – يا حضرات الشيوخ المحترمين – كان لزاما على الحكومة لتؤدي واجبها على النحو المرغوب فيه أن تسأل الرجل عن هذه الظروف .
والواقع – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أنها سألته , وأنه طالعها بها وكان على الحكومة وقد عرفت هذه العقبات أن تذللها لأن هذه العقبات تحول بينه وبين أداء واجبه على الوجه الأكمل , ففي هذا إبراء لذمتها , لكن الحكومة تقول إنها عملت على اقتناعه بالعدول عن استقالته مؤكدة له حرصها على تمكين ديوان المحاسبة من ممارسة رقابته القانونية على إيرادات الدولة ومصروفاتها , ولكن سعادة رئيس الديوان السابق , مع الأسف الشديد أصر على الاستقالة , فالحكومة هنا في عبارتها تقول إن الذي كان منها هو أنها تؤكد باللسان أنها مستعدة لتمكين الديوان من أن يؤدي واجبه.
يا حضرات الشيوخ المحترمين
أرى هنا قصورا من الحكومة في أداء واجبها , وكنت أود أن تقول إنني أقف مع الرجل بعد أن أيقنت أنه على حق , وإنني أظاهره وأعضده ,لو قالت الحكومة ذلك لأبرأت ذمتها ولكن , وهي هنا مريرة , لا تقول الحكومة ولا تستطيع أن تقول إنها وقفت إلى جوار الرجل تعضده وتسنده , وإنما تقول أعدل عن استقالتك وتغاض , هذا معني كلام الحكومة .
والقسم الثاني من إجابة الحكومة هو : أما أن الاستقالة متصلة بملاحظات أبداها الديوان على نفقات حرب فلسطين , أو على وجوه صرف الإعانة التي قررتها الحكومة لمستشفي المواساة و فالجواب عنه أن القانون رقم 52 لسنة 1942 الخاص بإنشاء ديوان المحاسبة قد نص في مادته التاسعة على حق الديوان في إبداء الملاحظات على صرف الاعتمادات , وفي حالة وقوع الخلاف بين الديوان واحدي الوزارات أو المصالح يعرض الخلاف على مجلس الوزراء للفصل فيه , وإنه لم يحدث في عهد الحكومة القائمة أى خلاف بين الديوان وبين وزارتي الحربية والصحة في صدد هذين الموضوعين.
انظروا – يا حضرات الشيوخ المحترمين – إلى المهم في هذا الموضوع . فعلي العكس , ما وصل من ملاحظات في هذا الشأن قد جعلته الجهات المختصة محل العناية التامة , وإذن بمقتضي صريح لفظ الرد , هناك ملاحظات أبداها رئيس الديوان على هاتين المسألتين :
مسألة مستشفي المواساة ومسألة نفقات حملة فلسطين وكل ما قالته الحكومة إنها أحلت هذه الملاحظات محلها من الرعاية .
وهنا – يا حضرات الشيوخ المحترمين – لب الاستجواب . وذلك لأنني هنا أراجع الحكومة, وأقول إن هذا الذي تقولينه لا يتفق مع الواقع , بل يؤسفني أن أقول إنه يناقض الواقع وإلى حضراتكم البيان .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – أريد أن أعرف في أى عهد من عهود الحكومات حدثت هذه المخالفات , لأنه ليس لدي فكرة عن هذه المخالفات لا سيما مسألة مستشفي المواساة .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) – ماذا يقصد
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين الجندي من ذكر العهود والحكومات ؟
لا يصح لنا أن نقارن عهدا بعهد , ولا حكومة بحكومة والبلد ضائع بين هذا وذاك نحن في وقت لا يصح لنا أن تدخل فيه الحزبية والحكومات المختلفة , وأرجو من حضرات الشيوخ المحترمين أن يقدروا رسالتهم في هذا الاستجواب , وأن يرفعوا هذه المسألة فوق الحزبية وفوق العهود .
قلت إن الحكومة إذ تزعم أن للديوان ملاحظات في شأن المسألتين ,وأنها أحلت هذه الملاحظات محل العناية والرعاية قد جانبت الصواب والحق , فيما يتصل بالمسألة الأولي وهي مسألة مستشفي المواساة , تبين للديوان عند تحقيقه وجوه الصرف , وجوه صرف مستشفي فؤاد الأول – وحضراتكم تعلمون أن هذا المستشفي قد صدر به مرسوم بقانون سنة 1939 ثم صار معهدا خيريا – تبين له أن هذا المعهد كان في الأصل يطلق عليه اسم مستشفي المواساة , وكانت تملكه وتديره جمعية المواساة .
ولكن عندما ناءت هذه الجمعية بحملة رؤى , للخلاص من ذلك , ولكي يتمكن المستشفي من أداء واجبه , أن تخرج الجمعية عن المستشفي , وأن تمنحه الحكومة إعانة قدرها عشرون ألفا من الجنيهات سنويا , وأن تمنحه البلدية إعانة قدرها خمسة آلاف جنيه , على أن يكون للمستشفي معهدا طبيا خيريا يحمل اسم المغفور له الملك فؤاد الأول , وعلى هذا صدر مرسوم بنظام هذا المعهد الخيرى , وقد نص المرسوم على أن يعين رئيس هذا المعهد بمرسوم ملكي , وعلى أن يتكون مجلس إدارته من تسعة أعضاء:
ثلاثة منهم يختارهم وزير الصحة , وثلاثة تختارهم جمعية المواساة , وثلاثة تختارهم البلدية , وقد سن هذا المجلس لائحة داخلية للمستشفي إذا ما صدق عليها وزير الصحة العمومية أصبحت قانونا نافذا وعلى هذا الأساس – يا حضرات الشيوخ المحترمين – انبسطت يد ديوان المحاسبة على هذه المؤسسة , لأن في قانون إنشائه نصا صريحا يقضي بأن تمتد رقابة الديوان على كل مؤسسة تعان , كما تمتد على فروع الحكومة سواء بسواء .
ذهبت رجال الديوان يبحثون – أداء لواجبهم – فإذا بهم يجدون خمسة آلاف من الجنيهات تخرج من مال هذا المعهد الخيري الذي تعينه الحكومة , وتعينه البلدية , ويعينه الخيرون من الناس ,صرف هذا المبلغ بتحويل على بنك مصر تاريخه 14 يناير سنة 1948 , لشخص معين , هو كريم ثابت ( باشا ) , ورقم هذا الشيك هو 15212 , وفي دفتر الصرف ذكر مقابل هذا المبلغ الذي تسلمه ( الباشا ) إنه للدعاية والنشر الخاصين باليانصيب والإعانات .
حضرات الشيوخ المحترمين
وقف رجال الديوان عند هذه العبارة فتمثلت لهم مجموعة من ثلاث مخالفات وما خفي كان أعظم .
أولي هذه المخالفات , أن اللائحة الداخلية لهذا المستشفي تقضي بأن كل وجه من وجوه الإنفاق يزيد على 300 جنيه يتعين عرضه على مجلس الإدارة , وهذا الأمر لم يعرض على مجلس الإدارة .
وثانية هذه المخالفات , أن هذا المبلغ كان يجب أن يكون مؤيدا بالدليل , أو بالأدلة التي تبين وجوه إنفاقه , ولكن لم يكن لهذا المبلغ مستندات .
وثالثة المخالفات - أن الديوان قد راعي أن هذا المعهد الخيري الذي تعينه الدولة , وتعينه البلدية , ويمد يده لرجال الخير يسألهم المعونة - يسخي هذا السخاء , فيعطي خمسة آلاف من الجنيهات مقابل ما قيل إنه بروباجندا ودعاية خاصة باليانصيب .
كتب الديوان إلى وزارة الصحة العمومية في فبراير ومارس سنة 1950 يستنبئها النبأ الصحيح ويكشف عن هذه المخالفات المرة بعد المرة , لوزير الصحة , في عهد هذه الحكومة .
لا أقول هذا لأنني أميز حكومة على أخرى , ولكن أقوله ردا على سؤال لأحد الزملاء عن العهد الذي وقع فيه هذا , يكتب الديوان , ويقول إن هناك مخالفات ثلاثا , فلا تحرك وزارة الصحة ساكنا على الرغم من استعجالها لم يسع الرجل – وهو رئيس الديوان السابق – أمام هذا وهو يعد تقريره السنوى , إلا أن يورد في تقريره العبارة الآتية ...
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – في أى تقرير وردت هذه العبارة ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) أقول – تحت مسئوليتي إني سألت الرجل : هل حقا جاء ذلك في مشروع التقرير الذي أرسلته إلى المطبعة الأميرية ؟ قال نعم .
وإن كتبت إلى فإني على استعداد لأن أؤيد ما قلته كتابة .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا يمكن أن تستند المناقشة في مثل هذا الاستجواب إلى مثل هذه الأسس , وهي أن يقف المستجوب , ويقول إنه قد نمي إلى علمي أن في مشروع التقرير الذي سيقدم إلى البرلمان بعد كذا من الشهور عبارة كذا , وإنه سأل كاتب هذه العبارة عن صحتها فقال نعم , إنني أعترض على سرد هذه العبارات التي لا يمكن للمجلس أن يتحقق من صحتها .
حضرة الشيخ المحترم محمد عبد الجليل أبو سمرة ( باشا ) هل منع التقرير من الطبع ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا غير صحيح .
الرئيس – لقد قال حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) إن رئيس ديوان المحاسبة السابق أطلعه على هذه العبارة وقال له إنها كانت سترد في تقريره .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إني أتساءل , هل جرت التقاليد البرلمانية في هذا المجلس بأن يستند المستجوب في مناقشته إلى عبارة في ورقة بين يديه لا نعرف مبلغها من الصحة , أو بما ينشر في الصحف ؟ ويقول إنه نمي إلى علمه كذا , وسأل كاتب العبارة عن صحتها فقال نعم ؟
أعتقد أنه إذا أقر المجلس مثل هذه السابقة , فإنه لا يمكن الوقوف عند حد للمناقشة حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة – أري أن يترك المستجوب كي يمكن للمجلس أن يتابع الفكرة ويستوعب هذا الموضوع القومي – كما أرجو – ونحن هنا في دور التحقيق وسماع الوقائع – معالي الوزير عدم المقاطعة وله بعد ذلك أن يقول ما يشاء .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني أتكلم من حيث الشكل , وقد قلت إن لهذا المجلس تقاليد في المناقشة , حتى إننا لا نقبل الاستناد في ذكر الوقائع إلى الصحف وما ورد بها من أحاديث ومن وقائع , فلا يليق أن يأتي مصطفي ( بك ) مرعي هنا , ويذكر للمجلس أن هناك ورقة يقول فيها إنه نمي إلى علمي ....
حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة – اتركونا نفهم الموضوع , فعند سرد الوقائع يمكن تقديرها .
الرئيس – الذي أفهمه أن رئيس الديوان أعطي حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) ورقة , وقال له إن الذي دون فيها هو قولي .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي ( بك) بل أكثر من هذا فإن رئيس ديوان المحاسبة كتبها في مشروع تقريره, وأرسلت إلى المطبعة لطبعها , وفعلا طبعت البروفة .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد رأيت البروفة بنفسي وفيها هذا الذي سيقرأ الآن .
حضرة الشيخ المحترم أحمد أبو الفتوح – لأول مرة التاريخ أسمع أن حضرات الأعضاء يذهبون إلى المطبعة ليطلعوا على البروفات .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك) – لم يسع رئيس الديوان يا حضرات الشيوخ المحترمين , إلا أن يورد في مشروع تقريره الذي فرغ منه كاملا وأرسله إلى المطبعة الأميرية – وخذوا عني هذا كمسئول – إلا أن يورد هذه العبارات , فقال :" تبين أن هناك مبلغ خمسة آلاف جنيه بموجب الشيك رقم 15212 بتاريخ 14 يناير سنة 1948 على بنك مصر , وقيد المبلغ المذكور بدفاتر المصروفات على أنه مصروف لشخص معين على أنه ( بروباجندا ودعاية ونشر خاصة باليانصيب والإعانات ) وقد استرعي نظر الديوان حين فحص هذا الموضوع أنه لا يكن هناك ضمن مستندات الصرف أى مستند خاص بمفردات هذا المبلغ , ولا بالأوجه التي أنفق فيها , فضلا عن عدم الحصول على موافقة مجلس الإدارة على هذا الإجراء , خلافا لما تقضي به أحكام اللائحة الداخلية من وجوب عرض كل مصروف يزيد على 300 جنيه على المجلس المذكور , كما استرعي النظر من ناحية أخرى ضخامة هذا المبلغ بالقياس إلى أعمال الدعاية التي قيل بإنفاقه فيها "
حضرات الشيوخ المحترمين
كتب الرجل هذا في مشروع تقريره ,وقال إن في هذا الذي اكتشفه الديوان ثلاث مخالفات واضحة – وأنا أقول إن هناك مخالفات أخرى أخطر وأضخم , وخطورتها تأتي من ناحية الرجل الذي أخذ ذلك المال .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إني أعترض على هذا النحو الذي تتجه فيه المناقشة ونحن هنا لسنا بصدد سماع " حواديت " وإنما نحن بصدد استجواب , والاستجواب هو اتهام موجه أى الحكومة عن تصرفات بدت منها , أما هذا الكلام فمجال المناقشة فيه عند عرض تقرير ديوان المحاسبة , كما أنه لا يجوز اتهام رجل لا يملك الدفاع عن نفسه , لهذا يجب أن ينحصر الكلام في الاستجواب وفيما ينصب على تصرفات الحكومة , وإني أسجل هذا للمبدأ وأرجو أن تنفذ اللائحة ولأن فتح الباب على هذا الوضع سيخلق تقاليد في غاية الخطورة .
الرئيس – أفهم من كلام معالي وزير الداخلية , أن يكون الكلام في الاستجواب عن تصرفات الحكومة التي أدت إلى استقالة رئيس الديوان وذلك هو الواجب .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) – عندما أقول إن الحكومة تغاضت عن مخالفة فيجب أن أشرح وأوضح موضوع المخالفة وأن أبين من المخالف .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إني ألفت النظر إلى إتباع تقاليد المجلس واللائحة الداخلية.
الرئيس – الذي يهمنا هو ما فعلته الحكومة في هذا الصدد , دون سواه .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي باشا – إذا استجوب وزير الداخلية عن مخالفة وقعت وأهملت فيها الحكومة , أليس من حق المستجوب أن يبين هذه المخالفة , وأن يوضح ظروفها وملابساتها للمجلس ؟ إن المقاطعة للمستجوب على هذا النحو لا تليق .
( ضجة من اليمين )
الرئيس – إن الاستجواب خاص بتصرفات الحكومة
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – إن السكوت عن ملاحقة المخالفة والبحث عنها تصرف من الحكومة .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – قلت يا حضرات الشيوخ المحترمين في المسألة مخالفات أخطر من تلك التي سجلها ديوان المحاسبة ,ذلك أن هذا الإنسان الذي استولي على هذا المبلغ ليس إنسانا عاديا , فهو موظف يشغل وظيفة كبرى , وقد لا يلزم – إذا ما قلت إنه موظف – أن يكون موظفا في الحكومة , إذ هو موظف فيما هو شبيه بالحكومة الرئيس – المبلغ الذي صرف وقيل إنه أنفق في الدعاية وكيت وكيت هل تبين , عندما سئلت وزارة الصحة بشأنه , أنه أنفق أم لا ؟
حضرة الشيخ المحترم إبراهيم مدكور – هذا السؤال يوجه للحكومة.
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – هذه هي الصفة الأولي التي تتبينون فيها خطورة الفعلة وتجعل منها أمرا غير عادي ( لأن هذا الشخص يعمل في مؤسسة إن لم تكن حكومية خالصة فهي شبه حكومية ويشغل فيها وظيفة كبرى , ألا وهي مستشار الإذاعة .
والمسألة الأخرى هي أنه ممن تشرفوا بالالتحاق بخدمة ديوان جلالة الملك لأنه مستشار صحفي , وقد يكون وقت أخذه المبلغ لم يكن قد حظي بهذا الشرف , ولكن وقد تبين على أبسط الفروض أن هناك شبهة على هذه اليد التي حظي صاحبها بهذا الشرف , فقد كان حقا على الحكومة بحكم الولاء للجالس على العرش ذاته ألا تسكت , وهنا محل الكلام في مسئولية الحكومة !
أنا لست عابثا ولا هازلا . فشخصية الرجل وصفته إذ التحق بهذا الركب الكريم ما كانت تجيزان أبدا للحكومة أن تسكت , وما دامت هناك شبهة , فمن الخير في إنسان هذا شأنه أن يحقق معه , وأن تهتم الجهة الحكومية المختصة بهذا الأمر , وأن تبحث لتري الرأي الحق , حتى إذا ما بان أن الرجل برئ فيها ونعمت , وهو خليق أن يخطي حيث هو بمكان الشرف .
أما إن كان العكس , فواجب الولاء للجالس على العرش نفسه وواجب الولاء للبلد التي تطمع في أن ترى قوانينها تسود الكافة ولا تسود فردا دون فرد , أن تتبين الأمر وهذا هو ما أنعاه على الحكومة .
يا حضرات الشيوخ المحترمين , بروباجندة ودعاية ونشر خاصة باليانصيب , بروباجندة ودعاية ونشر خاصة باليانصيب !
حضرة صاحب المعالة وزير الداخلية – هل هذا هو موضوع الاستجواب يا سعادة الرئيس ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – نعم .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أنا أحتكم إلى سعادة رئيس المجلس .
الرئيس – هل صرف هذا المبلغ في سنة 1948 ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – من المعروف أنه في سنة 1948 كان كريم ثابت باشا رئيسا لتحرير المقطم , فهل هذا الكلام داخل في الاستجواب ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – وماذا كان في سنة 1950 ؟
قلت فيه شبهة ...
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أنا أتكلم في اللائحة : هل هذه الوقائع تدخل في موضوع الاستجواب ؟
إني أحتكم إلى سعادة الرئيس .
الرئيس– أرجو الاقتصار على الوقائع المتصلة بالاستجواب .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ إبراهيم رشيد – هل يسمح حضرة المستجوب بأن يوضح لنا , هل الحكومة منعت رئيس ديوان المحاسبة ..
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك - أنا متأكد أنك معي بقلبك .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا , لا , وستسمع ردى الآن , والموضوع يجر إلى تعبيرات وألفاظ يجب ألا تقال , بل إنها قيلت فعلا , وسوف أطلب عدم إثباتها في المضبطة وكفي ما نحن فيه .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – إن ما نحن فيه نجم من السكوت على مثل هذا .
بروباجندة , دعاية , نشر خاصة باليانصيب !!
حضرة الشيخ المحترم نجيب إسكندر باشا – هل يمكن لحضرة المستجوب أن يوضح للمجلس تاريخ أول ملاحظة في هذا الموضوع لوزارة الصحة ؟
(ضجة)
حضرة الشيخ المحترم فريد أو شادي بك – ما هذا يا أخي ؟ هل تريد أن تدافع عن نفسك ؟ ليس من حقك هذا , فدعنا لنستمع إلى كلام حضرة المستجوب .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور نجيب إسكندر باشا – لا إنما أريد أن أتبين صحة الواقعة , وأسأل حضرة المستجوب إيضاحا فلماذا يتدخل فريد بك وليس له شأن في الموضوع ؟
(ضجة)
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – المجلس يريد أن يسمع .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – بروباجندة ودعاية ونشر خاصة بالإعانات تشرفت ببيان أن اليانصيب في هذا العهد له متعهد , وقد بقي موضوع الاعانات , وهذه تستحق منكم وقتا , لماذا ؟ الحكومة هي التي تعين المستشفي بعشرين ألف جنيه والبلدية تعينها بخمسة آلاف جنيه .
وقد حدث – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن تقدم هذا المستشفي لمجلس الوزراء في نوفمبر سنة 1947 , قائلا في حاجة إلى عيادة خارجية , فما وضع مجلس للوزراء إلا أن قرر في 23 نوفمبر سنة 1947 إعانة قدرها خمسون ألف جنيه
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس باشا – غير العشرين ألفا ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك نعم قد عرض عليكم هذا الاعتماد في حينه وأقررتموه في شكل قانون , وإذا كانت الإعانات من الأشياء التي يؤخذ عنها أتعاب فهل منها إعانة الحكومة ؟
مكتوب : بورباجندا ودعاية ونشر خاصة باليانصيب والإعانات , والحكومة هي التي تعين والإعانة في نوفمبر سنة 1947 , وهذا المبلغ أخذ في 14 يناير سنة 1948 فهل ينفتح باب الشك والتساؤل حول إعانة الحكومة, هل هي من الإعانات التي لوحظت في صرف المبلغ ؟
وما دام الأجر مدفوعا للإعانات , والإعانات لا تكون إلا من الحكومة أو البلدية ومن الناس الذين يعينون المستشفي, إذن فالوجه الأول من وجوه الإعانات هو الحكومة وقد قررت في نوفمبر سنة 1947 أن تعين هذا المستشفي بخمسين ألف جنيه , فإذا كان ما كتب في دفتر صرف هذا المستشفي هو أن المبلغ دفع مقابل بروباجندا ودعاية ونشر خصة باليانصيب والإعانات , ينفتح الشك – يا حضرات الشيوخ المحترمين – حول إعانة الحكومة باعتبارها من بين هذه الإعانات .
بقيت الإعانات الأخرى , فخيار الناس في الإسكندرية وغيرها دفعوا تبرعات يمكن أن يقال عنها إعانات فتكون قبيحة أيضا , وينفتح جرح دام فالرجل الطيب الخير الذي نذهب إليه متوسلين أن يدفع المبلغ كذا إعانة , يموت الخير في قلبه يوم يعرف أننا مأجورون يستدرون عطف الخيرين يكونون مأجورين على ذلك , لأن هذا فضلا عن كونه عارا فهو يمنع الخيرين عن فعل الخير .
هذه هي الجناية الخطيرة
أنا لا أقطع يا حضرات الشيوخ المحترمين , ولا أؤاخذ الحكومة على أساس القطع والتأكيد , ولكني أقول إن الشك باد , وباد في أقوى صوره مخالفات , ومخالفات خطيرة تتصل بشخص له الآن مركز خطير في هذا البلد .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هل هذا كلام يجوز أن يقال ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – لا أسمح أن يعقب على كلامي بأنه لا يجوز أن يقال .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إذن فسر ما تقول
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – لا أفسر .
حضرات الشيوخ المحترمين – أردت , قبل أن آخذ مسئولية الكلام في هذا الموضوع من فوق هذا المنبر – أن أفهم ماذا قال هذا الرجل ؟ أو ماذا قالت عنه وزارة الصحة , أو مدير مستشفي المواساة ؟.
اتجهت إلى رئيس ديوان المحاسبة الحالي , وحدثته تليفونيا , وقلت له : إني قدمت استجوابا بخصوص استقالة الرئيس السابق , فهل عندك ما أرد به على الملاحظة التي وردت في تقرير رئيس الديوان المستقيل ؟ فإن كان عندك رد أو دفاع , فأكون سعيدا لو أذنت في أن أحضر , أو أرسلت إلى ما عندك , لأطلع عليه قبل أن أقول أية كلمة .
فبخل على رئيس الديوان الحالي باطلاعي على أى شئ وقال إن هذا سر لا يمكنني أن أطلعك عليه فقلت له , إنك في الديوان تمثل البرلمان , بل إن الديوان كله نائب عن البرلمان , بل هو عين البرلمان على ميزانية الدولة ,
فإن أنا طلبت منك – كشيخ – أن تطلعني على ورقة عندك , فأنا في حدود حقي فقال : لا , ومع ذلك فقد وافاني نبأ ما حصل دفاعا عن هذه المسألة , أتدرون ما هو ؟ أن يجمع مجلس إدارة جمعية المواساة , ليقرر ما يدفع الشبهة , إذ من المخالفات الثابتة أن الأمر لم يعرض على مجلس الإدارة كما تقضي اللائحة وهذا ما قاله رئيس الديوان وكل واحد يقول هذا , ما دام فيه لائحة , وفيها هذا النص .
يجمعون مجلس إدارة المواساة بعد تقديم الاستجواب كي يقول :
ليس في الإمكان أبدع مما كان والباشا مشكور على خير ما قدم !
يا حضرات الشيوخ المحترمين
إن كان هذا صحيحا , فأنا مضطر أن أتلمس – لأن رئيس الديوان بخل على بالرد – وآخذ بكل ما أسمعه , فإن كان هذا الذي سمعته صحيحا من أن مجلس إدارة مستشفي المواساة اجتمع بعد الاستجواب , ليقرر أن هذا المبلغ قليل بالنسبة للجهد الذي بذل – فيا حضرات الشيوخ المحترمين يلزمنا هنا أن نصارحهم بأن التصفيق للجريمة لا ينفي كونها جريمة , وأن الإعجاب بالمجرم يؤثم المعجب ولا يبرئ المجرم .
كما قيل بعد تقديم الاستجواب إن هذا الكلام لا يجوز على أحد .
ماذا يبقي بعد ذلك ؟ بقي ما سأله عنه معالي الرئيس : هل هذه المبالغ صرفت ؟ نعم صرفت لهذا الشخص المعين , مقولا في وثيقة صرفها إنها صرفت لقاء عمل ولم يتقدم أى دليل على أن هذا العمل عمل وليس هناك قصاصة ورقة وليس هناك إعلان يانصيب – ولو كان يانصيبا فإن لليانصيب متعهدا خاصا .
الرئيس – لم أسأل هل المبلغ صرف لفلان أو لم يصرف , وإنما أسأل هل هناك مثلا إعلانات نشرت فعلا في جريدة " المقطم " أو غيرها عن مستشفي المواساة فاستحقت هذا المبلغ ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – أين الدليل ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية– هل هذا استجواب ؟
الرئيس – أليس كذلك ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا , ليس هذا استجوابا أبدا .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب باشا – أريد أن أ‘رف من حضرة المستجوب من الذي أمر بصرف مبلغ الخمسة آلاف جنيه ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – الدكتور النقيب باشا هو الذي أمر بصرفه .
حضرة الشيخ عبد اللطيف إسماعيل زعزوع بك – لقد صرف بأمر مجلس الإدارة ؟
حضرة الشيخ مصطفي مرعي – لقد صرف دون موافقة مجلس الإدارة ولم يوافق مجلس الإدارة على الصرف إلا بعد تقديم الاستجواب .
والأمر هو أننا مهم ترفقنا في اللفظ ولنا ما استطعنا أن نلين وسايرنا ما استطعنا أن نساير بشرط ألا تبلغ المسابرة حد الإخلال بالواجب نحو هذا البلد المسكين , فلا شك أن هناك شبهة وأية شبهة نحو شخص كبير , وإن لم يكن كبيرا يوم أخذ المبلغ في شهر يناير سنة 1948 , فقد كان كبيرا عندما قدم ديوان المحاسبة تقريره الذي يقول إن هناك مظنة كان على الحكومة حتما مقضيا أن تتحرك للواجبين معا : واجبها نحو العرش – ونحن جميعا له فداء – وواجبها نحو البلاد والرجل كتب التقرير اكتفاء بهذا القدر من الإيمان وسكت حتى جاءت حوادث أخرى سأتشرف ببيانها وأجمع أمره على أن يستقيل ..
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب باشا – قبل أن نصل للاستقالة أود أن أسأل :هل عندما قدم التقرير للمطبعة توقف الطبع ؟
حضرة الشيخ مصطفي مرعي بك – نعم لقد توقف طبع التقرير .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – من الذي أوقفه ؟ هذا غير صحيح , ولا يصح الإدلاء بوقائع غير صحيحة .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – أنا أقول لا أعرف .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – من هنا تأتي مسئولية الحكومة إن كان التقرير فعلا أوقف طبعه, ومن الذي أوقفه ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – ألم يذهب التقرير إلى المطبعة الأميرية ؟
يا حضرات الشيوخ المحترمين ,
أنا مأذون لى أن أنقل إليكم على لسان رئيس ديوان المحاسبة المستقيل أن هذا الذي تشرفت بتلاوته بين أيديكم كتب في تقرير وأعد كاملا , والذي أعده رئيس الديوان وأرسله للمطبعة الأميرية لطبعه .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هل التقرير جاء وليست به هذه العبارة – إن كانت قد ذكرت في التقرير – حتى تستجوب الحكومة عن ذلك ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – بقيت كلمة أخيرة في هذه المسألة , قد يقال إن تقرير الديوان لم يقدم وإن ولاية المجلس تأتي عندما يرد التقرير وينظر فيه .
يا حضرات الشيوخ المحترمين , أنتم أكرم على أنفسكم من أن تقرروا سابقة خطيرة كهذه فعندما يقدم التقرير سننظره ونقدم تقريرنا عنه , ولكن ليس معني هذا أنه عندما يدق سمعي حادث أو يقرع أذني أمر خطير كهذا قبل تقديم التقرير نسكت عنه وإلا صارت الرقابة البرلمانية حبرا على ورق .
أنا شيخ حديث لم أكمل سنة , ولكني رأيت أن تقارير ديوان المحاسبة تأتي متأخرة , ونحن في هذا كغيرنا , لأنه في فرنسا لوحظ في سنة من السنين أن تقرير ديوان المحاسبة عرض بعد أربع سنين . فهل معني هذا يا حضرات الشيوخ المحترمين أنه حينما تبدو لى ملاحظة – كان مقدرا أنها من الملاحظات التي سترد على التقرير – أقف مكتوف اليدين وأنتظرها ؟ أظن لا , وإلا ضاعت الرقابة البرلمانية , فعندما يرد التقرير نرحب به , ولا يغير هذا ألا نقتصر على ما يلاحظه ديوان المحاسبة أو غيره مما يقع تحت سمعي , مثل مسألة مستشفي المواساة .
حضرة الشيخ المحترم عبد اللطيف إسماعيل زعزوع – وماذا تعمل الحكومة ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – سأقول لك ما تعمله الحكومة لقد قدم رئيس ديوان المحاسبة استقالته لرئيس الحكومة , وأحيط علما بها , وكان الجواب على هذه الاستقالة " معلهش " يا محمود بك " اشتغل , فهل يريد حضرة الشيخ المحترم أن أزيده أكثر من ذلك ؟
بقيت مسألة أخرى في خصوص هذا هي أقرب إلى التفاصيل :5000 جنيه تعطي لإنسان ما على أنها أجر عام أو عمولة , فإن كانت أجر عام يجب أن يؤخذ عليها ضريبة كسب عمل , وإن كانت عمولة فهي تخضع لضريبة الأرباح التجارية والصناعية , وإنما الباشا الذي دفع المبلغ للباشا الثاني , أليس خاضعا لقانون الضرائب مثلي ومثلك ؟ أين حق الدولة ؟ لا يوجد .
إنني لم أتنبه إلى هذه الحالة , ولكنه انتهي إلى أن زميلا في مجلس النواب قدم سؤالا ذكر فيه أنه بموجب شيك على بنك مصر دفعت إدارة مستشفي المواساة 5000 إلى كريم ثابت باشا على سبيل العمولة من التبرعات التي يجمعها المستشفي المذكور , وقد عزاها حضرة النائب المحترم إلى أنها مقابل تبرعات , وإذا كان الأمر كذلك فإنه يلحقه العوار الذي تشرفت ببيانه ,
فهل حصلت مصلحة الضرائب ما هو مستحق على سعادته مقابل هذا المبلغ , وما نوع الضرائب التي حصلت وبأى تاريخ حصلت ؟
وإذا لم يكن التحصيل قد تم فما نوع الضريبة ؟ هل هي ضريبة الأرباح التجارية أو ضريبة كسب العمل ؟ وهل تنوى المصلحة تحصيلها وتوقيع الجزاء الذي ترتب على عدم دفعها ؟ ومتى يسقط حق المصلحة في التحصيل ؟
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود بك – وماذا كان الجواب على هذا السؤال ؟
الرئيس – هذا السؤال وجه في مجلس النواب .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – أنتقل إلى المسألة الأخرى , وهي أخطر عندى وعند البلاد , وهي مسألة نفقات حملة فلسطين , ولعلكم تذكورن يا حضرات الشيوخ أنه حين عقدنا العزم على أن نوجه جيشنا إلى فلسطين , قرر مجلس الوزراء القائم حينذاك أنه يلزم أن يرخص لوزارة الحربية في أن تتحلل من جميع القيود المالية , وعلى ذلك أصدر مجلس الوزراء قرارا في 13 مايو سنة 1948 قضي بهذا الترخيص لوزارة الحربية ,
وبذلك أصبح مقررا من هذا التاريخ أن وجوه الإنفاق التي تنفقها وزارة الحربية لا تلتزم فيها بأن تتقيد بالقيود المالية العادية وفي اليوم نفسه , أى في 13 مايو سنة 1948 , أصدر وزير الحربية قرارا شكل فيه لجنة أسماها لجنة احتياجات القوة المسلحة , خولها سلطة إبرام الصفقات التي تلزم لسد حاجة الجيش من المؤن والذخيرة .
أصبحت هذه اللجنة ياحضرات الشيوخ المحترمين , صاحبة السلطة المطلقة في أن تشترى أو تستولي لحساب الجيش على ما تشاء , لا يقيدها إلا قيد الضمائر , وقيد آخر كان قد احتاط له مجلس الوزراء في مايو سنة 1948 , وهو أن تكون كل صفقة بمستنداتها , وعلى هذا جرى العمل .
يا حضرات الشيوخ المحترمين – ستسمعون مني المزعج المؤلم , ولكن أرجو أن تقدروا أنه ليس عيبا أن تخطئ فالخطأ جائز , ومن لا يخطئ لا يعمل , ولكن العيب كل العيب في ألا نعتبر بأخطائنا وأن نتغاضي عنها وهي قائمة تصيح .
فإن جئت هنا لأحدثكم بأخطاء فإني آسف لها غاية الأسف , وإنما يخفف عني وأرجو أن يخفف عنكم , وأن نأخذ من هذه الأخطاء العبرة والموعظة .
كان هناك مرودون يوردون للجيش الذخيرة والمؤن , ومنهم موردون ما سمعنا عليهم من سوء , ولكن هناك أيضا موردين كانوا على غير هذا , كانوا بحيث اعتقد رجالنا في جبهة القتال أن هناك من هو متآمر عليهم لكيلا ترسل لهم ذخيرة للقتال .
يا حضرات الشيوخ – سأسوق لكم أمثلة , لأن ما عندي كثير , وما عند رئيس الديوان أكثر , وما عند الله أكثر وأكثر وأعظم وأضخم , مورد مصري اسمه رودي رجيله , كان في خدمة بنك من البنوك وصدر ضده حكم من محكمة الجنايات .
اتفق هذا الشخص مع اللجنة التي سميناها " لجنة احتياجات القوات المسلحة " على أن يورد خمسين ألف طلقة مضادة للدبابات مشروط فيها أن تكون مطابقة تماما للنوع الأمريكي وبنفس المواصفات للمواد المكونة لها ونفس الخواص والمفعول , واتفق أن تدفع الدولة ثمنا لكل طلقة من هذه الطلقات تسعة آلاف ليرة إيطالية , فبلغ مجموع هذه الصفقة 450 مليونا من الليرات الإيطالية .
اتفق هذا الشخص مع اللجنة التي سميناها " لجنة احتياجات القوات المسلحة " على أن يورد خمسين ألف طلقة مضادة للدبابات مشروط فيها أن تكون مطابقة تماما للنوع الأمريكي وبنفس المواصفات للمواد المكونة لها ونفس الخواص والمفعول ,واتفق أن تدفع الدولة ثمنا لكل طلقة من هذه الطلقات تسعة آلاف ليرة إيطالية , فبلغ مجموع هذه الصفقة 450 مليونا من الليرات الإيطالية .
كان هذا في فبراير سنة 1949 , وفي مارس 1949 أوفدت الوزارة مفتشا للذخيرة والمفرقعات مع اثنين من المدنيين لفحص الطلقات موضوع العقد واختبارها ومراقبة صنعها , فإذا بهذا المفتش ورفيقيه يقولون في تقرير رسمي إن ما يصنع جديدا بإيطاليا هو الدانات والبارود الأسود فقط ,
أما باقي الأجزاء والعبوات كالطابة والمحول والمادة المحطمة للدانة والمادة القاذفة والظرف النحاس فمستخرج من ذخائر مخلفات الجيوش الأمريكية غير الصالحة للاستعمال ,ويجرى التفتيش عليها لتحليلها بواسطة الضابط مفتش المفرقعات المنتدب لهذه المأمورية , وبالنسبة لأن عملية التفتيش والتحليل وحدها غير كافية للحكم على صلاحية تلك المواد , بل يجب إجراء اختبار بالضرب الفعلي للتأكد من باقي الشروط كاتزان الدانة أثناء الضرب وضبط المرمي والاتجاه وقوة التحطيم والانفجار ,
وهو أمر غير ممكن إجراؤه بإيطاليا في تلك الشركة ( شركة مخلفات الجيوش ) فلذلك اتفقت على أن ترسل الذخيرة لمصر , ولا يتقرر من مفتش المفرقعات صلاحيتها للاستعمال إلا بعد إجراء اختبار لكل رسالة بالضرب الفعلي ومعرفة النتيجة , فإذا ما كانت صالحة يصرف ثمنها بعد أخذ إقرار من مفتش المفرقعات بذلك "
وفي 8 مايو سنة 1949 وردت إلى مصر 5,000 طلقة شديدة الانفجار , واتضح باختبارها بالضرب الفعلي أنها غير صالحة لرداءة العبوة القاذفة والمشعلات , بدليل عدم حصول احتراق كامل , مما تسبب في تخلف بقايا منها بماسورة المدفع , كما أن الدانة لم تصل إلا إلى منتصف مسافة الغرض .
تتابع الإرسال حتى صار مجموع ما أرسل أكثر من 16 ألف قذيفة وإني لأعجب غاية العجب لأني لم أجد أحدا يذكر ما جاء في التقرير من أن هذه الذخيرة غير صالحة للاستعمال , بل سكتوا برغم توالي الإرسال , فصار مجموع ما أرسل نحو 23 ألف قذيفة الرئيس – متى تعاقدت الحكومة على هذه الذخيرة ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – تعاقدت في 8 فبراير سنة 1949 .
الرئيس – لقد عقدت الهدنة في 7 يناير سنة 1949 .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – ما زلنا نستورد ذخيرة إلى الآن .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – هذه القذائف اختبرت وعلى أساس نتيجة الاختبار كتبت رياسة الإمدادات والتموين في 12 ديسمبر سنة 1949 تقول :
(أ) أقترح إلغاء العقد .
(ب) قبول 16,368 طلقة بنصف الثمن المقدر لها إذا قبلت الشركة ذلك و إلا فترد للشركة .
(ت) طلب هذه الذخيرة من الجيش البريطاني بما يتوفر من مبالغ إلغاء العقد .
ثم وجه في ذات اليوم كتاب في هذا الصدد إلى سعادة وكيل الوزارة ختمه بقوله : " وقد تبين لى أن ثمن الطلقة الجديدة المتعاقد عليها أخيرا مع وزارة الحرب البريطانية أقل من جنيهين , لأنه في عقد رودية أبو رجيلة كان الثمن 9,000 ليرة , ( أى أربعة جنيهات ونصف جنيه ) وهنا تقول رياسة الإمدادات والتموين إن هذا الثمن مرتفع , لأننا قد اشترينا من السلطات البريطانية بجنيهن .
ولقد أشر وكيل الوزارة يا حضرات الأفاضل على هذا الكتاب , أى على كتاب الإمدادات والتموين الذي جاء فيه أنها ترى دفع نصف ثمن الـ 16,000 طلقة التي وصلت , على أن يلغي العقد بالنسبة للكمية التي لم ترد بعد ..
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – بل يدفع نصف ثمن الصالح منها فقط .. حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – ولقد كان هذا على أساس أن هذه الطلقات غير صالحة للقتال , وإنما صالحة للتدريب , فكتب وكيل الوزارة يقول في 12 ديسمبر سنة 1949 , ما يأتي :
" الواقع الصحيح يقضي علينا بعدم قبول القنابل الموردة طالما كانت غير صالحة لأغراض القتال , أما ما ثبت صلاحيته لأغراض التدريب فلا مانع عندي من قبوله بالسعر المخفض المقترح بخطابكم بتاريخ 12 ديسمبر سنة 1949 "
وإذا كانت الشركة على استعداد لتوريد قنابل جديدة صالحة من كل الوجوه لأغراض القتال , فلن يوجد ما يمنع من قبولها طبقا للشروط .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – لم تدفع الحكومة مليما واحدا في هذه الصفقة والمسألة معروضة على مجلس الدولة .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – رأيتم – يا حضرات الشيوخ المحترمين – ماذا تقول رياسة الإمدادات , وهي هيئة كبرى في الجيش , ورأيتم ماذا قال وكيل الوزارة فانظروا حضراتكم ماذا تقول لجنة احتياجات القوات المسلحة , وهي الدكتاتور – بعد هذا الذي قبل . تقول :
إن ثمن هذه الصفقة يعتبر رخيصا جدا ولو أنه صالح للتدريب فقط.
هذا ما تقوله لجنة احتياجات القوات المسلحة وأمامها تقرير لجنة الإمدادات وجواب وكيل الوزارة اللذين تلوتهما على حضراتكم , فهي تدافع عن رودي رجيله فتقول ما قرأته لحضراتكم الآن وهذا القول موضع أهمية .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني , في الواقع , مشفق على حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – كلانا مشفق على الآخر .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني أتلمس مسئولية الحكومة في كل ما يقوله حضرة الشيخ المحترم , فأرجو حضرته أن يعين مسئوليتها في هذا الموضوع حتى نتمكن من الرد على ما يقوله .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار باشا – فليتم حضرة الزميل المحترم مصطفي مرعي بك كلامه , حتى تقف على النتيجة التي يريد الوصول إليها .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – أقول إن لجنة احتياجات القوات المسلحة ردت كتابة على كتاب وكيل الوزارة الذي تلوته على حضراتكم بتاريخ 5 فبراير سنة 1950 تقول :
" إن ثمن هذه الصفقة يعتبر رخيصا جدا , ولو أنه صالح للتدريب فقط , ويتخلف بعض الدخان بعد الضرب في برج الدبابة "
أى أنه من المأخوذ على هذه القنابل – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أنها تضرب ولا تصيب الذي أمامها , بل تصيب الذي أطلقها .
وتقول اللجنة أيضا :
" يصرف الثمن بالكامل حسب شروط العقد والموافقة على شحن باقي العقد أو عرض الموضوع على مجلس الدولة "
" يروع رئيس ديوان المحاسبة – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن يري هذا فيكتب للحكومة في 8 مارس سنة 1950 – أى لهذه الحكومة بالذات – وللرجل الطيب الفاضل معالي الأستاذ مصطفي نصرت ويضع تحت نظره المآسي . فيقول له :
" هذا هو ملخص موضوع الذخيرة 75م كما استخلصه الديوان من ملفات الوزارة ويتضح منه بصفة مبدئية ما يأتي :
1- إن الديوان لم يعثر على ما دار من مكاتبات بين الوزارة ( لجنة احتياجات القوات المسلحة ) وبين " رودي رجيله " بشأن تعاقده مع شركة " C .I. R " على توريد هذه الطلقات كما لم يعثر على الخطاب المرسل من " عمر سيف الدين " إلى الشركة برقم 858 / 49 بتاريخ 30 يناير سنة 1949 , والمشار إليه في العقد المبرم بين " رودي رجيله " والشركة المذكورة حتى يتبين حقيقة التزامات الوزارة قبل " رودي رجيله " وبالتالي قبل الشركة .
2- أنه قد تم تحرير عقد توريد هذه الذخيرة دون اشتراك الفنيين من إدارة الذخيرة لتحديد المواصفات أو للتأكد من صلاحيتها فضلا عن عدم الرجوع إلى مجلس الدولة لصياغة العقد من الناحية القانونية .
3- إنه لم يرجع إلى مجلس الدولة كذلك للإستئناس برأيه في الإجراءات القانونية الواجب اتخاذها – محافظة على حقوق الوزارة – عندما تبين أن الذخيرة الموردة لم تكن بكفاية الذخيرة الأمريكية التي اشترط في العقد أن يكون التوريد مطابقا لها .
4- أنه قد وردت 3,000 طلقة على الرغم من ممانعة البكباشي حسين منصور – المنتدب لفحصها – في إرسالها من إيطاليا قبل معرفة نتيجة اختبار الرسالة الأولي ( المكونة من 5,000 , والتي أسفر اختبارها بالضرب الفعلي عن وجود العيوب والمآخذ التي أوردنا تفصيلها فيما تقدم من واقع التقارير الرسمية ) وعلى الرغم أيضا من امتناع حضرته عن إعطاء الشهادة الأولية عنها ,
5- إن هناك تناقضا ملحوظ في نتيجة اختبار الـ 986 طلقة , إذ بينما قررت اللجنة التي تولت فحصها في 9 يولية سنة 1949 صلاحيتها للإستعمال وأن حالتها مرضية , إذ باللجنة التي انعقدت في 18 سبتمبر سنة 1949 تقرر أنه يتخلف عنها بعد التفريغ دخان مماثل للدخان الذي يتخلف من الطلقات التي قررت أنها لا تصلح إلا لأغراض التدريب . كما قررت اللجنة المنعقدة في 11 ديسمبر سنة 1949 أنها مشابهة للدفعة الأولي ( الأربعة عشر ألف ) ولا تصلح إلا لأغراض التدريب , وبرج الدبابة مفتوح .
وقد يكون مرجع هذا التناقض ما اكتنف تحرير بعض محاضر اللجان التي قامت بفحص هذه الذخيرة من ظروف وملابسات ألمعت لمعاليكم عن طرف منها في حديثنا الشفوي بتاريخ 6 مارس سنة 1950 .
6- إن سعر الطلقة من الذخيرة موضوع المكاتبة يزيد كثيرا على سعر مثيلتها من الصفقة المتعاقد علها مع انجلترا , إذ بينما كان سعر الأولي أربعة جنيهات إنجليزية وسبعة شلنات يضاف إليه 5% إذ تم التعاقد عن الثانية مع وزارة الحرب البريطانية بأقل من جنيهين للطلقة , وذلك طبقا لما ورد بكتاب رياسة الإمدادات والتموين لسعادة وكيل الوزارة المؤرخ 12 ديسمبر سنة 1949 .
7- إنه على الرغم من أن مهمة مندوبي إدارة الذخيرة بإيطاليا قد وضحت إيضاحا كافيا بكتاب رياسة الإمدادات والتموين الموجه إلى لجنة احتياجات القوات المسلحة بتاريخ 16 أكتوبر سنة 1949 , والذي ذكرت فيه صراحة أن هؤلاء المندوبين لا يتمكنون إلا من القيام بالتفتيش النظري فقط لعدم السماح لهم بإجراء التجارب العملية في إيطاليا , وإنه لذلك , لا يمكن قبول الذخيرة الواردة إذا لم تكن نتيجة التجربة العملية التي تعمل هنا نتيجة "
وعلى الرغم مما جاء صراحة بتقرير مندوب الذخيرة الأول ( البكباشي حسين منصور الذي سافر إلى ايطاليا , من أن " عملية التفتيش والتحليل وحدها غير كافية للحكم على صلاحية تلك المواد , بل يجب إجراء اختبار بالضرب الفعلي للتأكد من باقي الشروط .. إلخ " ورغم ورود نفس التحفظ في الشهادات الأولية التي أعطيت عن تفتيش الذخيرة .
على الرغم من هذا وذاك , فقد تذرعت لجنة الاحتياجات بشهادات هؤلاء المندوبين – مع ما فيها من تحفظ صريح ومن تعليق , لثبوت صلاحية الذخيرة على نتائج الاختبار الفعلي – واتخذتها بمثابة تكأة أخيرة لإقرار صرف قيمة ما ورد من هذا النوع من الذخيرة وينتهي ديوان المحاسبة – يا حضرات الشيوخ المحترمين – فيقول .
" إنه لا يسعه إلا أن يضع تحت نظر معاليكم ما تكشفت عنه دراسة هذا الموضوع , وقد ترون معاليكم تكليف لجنة فنية , يمكن الاطمئنان إلى حكمها , إعادة اختبار هذه الذخيرة والبت فيها – كما يري الديوان أيضا الرجوع إلى مجلس الدولة للإستئناس برأيه فيما يتخذ من إجراءات تكفل المحافظة على حق الخزانة العامة فيما يتعلق بالطلقات التي ثبت عدم صلاحيتها إطلاقا , وفيما يصح اتخاذه من احتياطات حيال الـ 16, 368 طلقة الأخرى وذلك حتى تبت الوزارة في أمرها .
وقد ترون معاليكم بالنسبة لما كشفت عنه الملاحظات السابقة من مآخذ إجراء تحقيق لتحديد المسئولية فيها واتخاذ ما يكفل عدم تكرار وقوعها مستقبلا .
هذا ما أرسله رئيس ديوان المحاسبة في كتابه بتاريخ 8 مارس , وهو خطير فهل كان له صدى في وزارة الحربية والبحرية ؟
يؤسفني أن أقول : لا
هذا جسيم لو أن الأمور وقفت عند هذا الحد , فكيف والأمور تضخمت , لأن المورد نفسه ورد بضائع أخس وأحط في عقد آخر , وهي 50,000 طلقة للسلاح البحري الملكي ولقد ندب سلاح المهمات مفتشا لكي يطابق المواصفات بناء على شكوى من السلاح البحري الملكي ..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ إسماعيل حمزة – في أى تاريخ كان ذلك ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) – في 6 أكتوبر سنة 1949 , وهذه صفقة كبيرة لم تظهر إلا بعد 8 مارس سنة 1950 .
ذهب هذا المفتش الذي أشرت إليه لمعاينة الـ 50,000 طلقة فوجد أن الذخيرة المستوردة ألمانية وليست إيطالية , وأنها ليست حديثة الصنع بل من مخلفات الحرب الماضية , وأنها جميعها من تواريخ وأنواع مختلفة ثم قدم مندوبه تقريرا مؤرخا 6 أكتوبر سنة 1949 ثبت فيه ما يأتي :
( أولا ) إن الذخيرة المستوردة ألمانية , لا إيطالية من نوع " سولترن " وإنها ليست حديثه الصنع , بل من مخلفات الحرب الماضية .
( ثانيا ) إنها جميعها من تواريخ وأنواع مختلفة , وإنها مختلفة التصميم وغير موحدة
( ثالثا ) إن نوعا منها تعرض للبقاء في المياه المالحة مدة طويلة , فصدئ وحدث به تآكل شديد بالقمة , ويحتاج لفرز 100% لإصلاح ما يمكن إصلاحه منه .
( رابعا ) إن بالطلقات صدأ يدل على تعرضها لرذاذ المياه , ومن اللازم إجراء اختبار حراري للمادة القاذفة بها .
( خامسا ) وهذا أمر خطير , إن الطلقات دهنت بالشحم بكميات كبيرة جدا لمنع امتداد الصدأ , وإن هذه الطريقة غير فنية من جهة , وتسبب أضرارا شديدة للذخيرة وللأسلحة التي تستعمل فيها نفسها وللدانات مع ضياع وقت طويل في عملية تنظيف الشحم وتقليل معدل سرعة الضرب عند استعمالها وإنه يلزم لذلك " تعيين ورشة فورا لإزالة الشحم ".
( سادسا ) إن الصناديق مملوءة بخليط متنوع من الطلقات مختلف الصنع والتاريخ والأنواع والأعداد في كل صندوق بذاته .
( سابعا ) إنه بعد فرز هذه الذخيرة وتنظيفها .. الخ يلزم عمل اختبار بالضرب الفعلي بنسبة 2% من الكمية جميعها .
حضرة الشيخ المحترم طراف على باشا – وما اسم هذا المورد ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – إنه أيضا رودي رجيله .
وقد أحال السلاح هذا التقرير إلى رئاسة إمداد وتموين الجيش في يوم وروده , طالبا " إصدار الأمر بتشكيل مجلس تحقيق مع الشخص الذي قام بفحص تلك الذخيرة قبل شحنها لمصر "
وبعد أيام قلائل – في 15 أكتوبر سنة 1949 – وردت إلى مخازن وادي حوف ذخيرة أخرى زنتها 70 طنا من إيطاليا أيضا ومن المتعهد المشار إليه , وقد أظهر فحصها أنها " كهنة " نتيجة لتخزينها بطرق غير قانونية وتعرضها للسيول والأمطار والتقلبات الجوية المختلفة , وقدم صناعتها وجمعها من جهات مختلفة ( تقرير كبير مفتشي الذخيرة المؤرخ في 16 أكتوبر سنة 1949 ) .
وبتاريخ 19 أكتوبر سنة 1949 وجه سلاح الأسلحة والمهمات إلى رياسة الإمداد والتموين بالقاهرة كتابا آخر بخصوص رسالة ثالثة من تلك الذخيرة ( من عيار 8م) كانت قد وردت إلى مخازن وادي حوف أيضا يوم 16 أغسطس سنة 1949 جاء به أنه بعد فرزها وإتمام فحصها نظريا " كانت النتيجة أنها وجدت غير صالحة للاستعمال عدا كمية قليلة منها "
وقد بدا في هذا الكتاب الأخير مبلغ ما يعانيه سلاح الأسلحة والمهمات من أمر تلك الرسائل المتوالية , ومقدار ما ثار لدي المسئولين فيه من الشك في أمرها حتى لقد جاء به :
" إن جهودنا التي يجب بذلها لأعمال حفظ وصيانة الذخيرة الصالحة والخاصة بالجيش تصرف في سبيل تلك الذخيرة التالفة التي ترد تباعا إلى المخازن , ما نكاد نفرغ من رسالة حتى تلاحقنا رسالة أخرى إننا لنخشي أن تكون هذه ظاهرة لخطة قد تكون مدبرة لتعطيل أعمال الذخيرة بالجيش , وإضاعة جهودنا هباء منثورا ".
هذا سلاح من أسلحة الجيش يقول هذا رسميا , يقول :
نحن في وضع يجعلنا نعتقد أن الذي يموننا بالمؤونة والذخيرة متأمر علينا , ليس هذا كلامي , وهذا هو موضع الآسي الذي ستتجرعونه , ليس بعيدا أن نخطئ ولكن من الواجب علينا أن نعترف بتلك الأخطاء , وأن نتعظ بها , يا حضرات الشيوخ المحترمين , يقول سلاح الأسلحة والمهمات هذا وهو في وضع ليس له عمل إلا أنه يتلقي الشحنة تلو الشحنة من التالف العفن من أوربا , ونحن كدنا نفهم أن هناك مؤامرة مدبرة , فديوان المحاسبة قد أرسل كتابه في أدب جم إلى معالي الرجل الطيب مصطفي نصرت ( بك ) وزير الحربية والبحرية في 23 مارس سنة 1950 يضع كل هذا تحت نظره , ويقول له هذا الذي أتشرف بتلاوته على حضراتكم:
" ولما كانت الملفات المختلفة التي اطلع عليها الديوان تنطق بأدق التفاصيل عما شاب هذه التوريدات جميعا من ظروف غامضة تجتزئ في ذكرها بما أوردناه في كتابنا السابق إلى معاليكم , وبما جاء بكتابنا هذا فإن الذي يستنتج من الأمر بحملته أن كافة الصفقات التي وردت عن طريق المتعهد " رودي رجيله " تحتاج إلى فحص دقيق , وإعادة النظر وأن من الضرورة المبادرة إلى اتخاذ الإجراءات الآتية في شأنها .
1- إيقاف صرف أى مبالغ مطلوبة للمتعهد المذكور عما ورده للوزارة من ذخائر من مختلف الأعيرة حتى يبت في أمر صلاحيتها نهائيا مع الرجوع إلى مجلس الدولة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة للمحافظة على حقوق الوزارة .
2- العهدة إلى لجنة موثوق بكفايتها الفنية ويمكن الاطمئنان إلى حكمها بالنظر في صلاحية تلك الذخيرة بعد حصرها وفرزها وتجربتها بالوسائل الفنية التي أشار بها المختصون مع خصم تكاليف هذه العمليات جميعها من جانب المتعهد .
3- تشكيل مجلس تحقيق لبحث الظروف والشكوك الخطيرة التي أثارتها بعض الجهات الرئيسية بالوزارة حول تصرفات المسئولين عن ورود هذه الرسائل المبايعة على الوجه الذي وردت به على الرغم من توالي الشكاوى والاجتماعات لإيقاف شحنها من إيطاليا فضلا عن تصديرها لمصر .
وإننا على يقين وقد رأيتم معاليكم أن إحدى الجهات المسئولة بالوزارة قد ذهبت إلى حد الاعتقاد بأن في الأمر " خطة قد تكون مدبرة لتعطيل أعمال الذخيرة بالجيش " إنكم ستتفضلون بإيلاء هذا الموضوع ما يلائم خطره من عناية , وبموافاتنا بما يتخذ فيه "
بعد تلاوة هذا الخطاب يمكننا أن نفهم من غير تعليق أن هذه أمور يشيب من هولها الوليد .
يا إخواني
نحن الآن في حالة حرب قانونا , فكيف نسكت على أن يقدم لرجال الجيش الذين يقاتلون ذخيرة عفنة , ويعلم ذلك المسئولين منا , حتى ليبدو أن هناك مؤامرة مدبرة لتعطيل جهودنا الحربية .
هذا نقص ما بعده نقص , وخطر ليس بعده خطر , ولكن لم يحقق هذا الأمر ولم يبحث شئ من ذلك إلى أن استقال الرجل في 20 أبريل سنة 1950
يا حضرات الشيوخ المحترمين
إن كنتم تريدون لهذا البلد جيشا فقوام الجيش الثقة , بمعني أن يثق الجيش بعضه ببعض فإن كان هذا على ما يبدو واضحا جليا أن بعض رجال الجيش يعتقد أن البعض الآخر يتآمر عليه أو يبيعه للموردين , فلماذا سكتنا على هذا المصير ؟
حدثوني بربكم , أيمكنكم أن تتصوروا أن تبلغ الحالة سوءا أكثر من هذا ؟ أيمكن أن يهتز قوام البلاد لسبب أكثر من هذا السبب .
إنني أرى فاجعة تتجمع في الأفق , وأري أن القالة قد انتشرت في الداخل والخارج أن الحكم قد فسد , وأن تجارة النفوذ قد راجت وهذه أعراض هذا الفساد نراها في ناحية هي أخطر النواحي , قدمها رئيس ديوان المحاسبة السابق.
فماذا قلت عن هذا الذي يحرك الحماد ؟
لا شئ إلى أن استقال الرجل في 20 أبريل سنة 1950 فيما يؤكد لى سعادته أنه لو كان قد فهم أن هناك أملا في أن يقدر هذا الكلام وفي أن يراعي وفي أن يسمع لبقي وانتظر , ولكن الرجل خرج إذ أيقن أنه لا مجيب ولا سميع .
الرئيس – ما هي الصلة التي بين تلك الصفقات والمكاتبات التي تمت بين رئيس ديوان المحاسبة والوزارة, وبين استقالته ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) – أنا أقول : إن الرجل أبرأ ذمته بأن أبلغ هذا الأمر إلى الحكومة , وقال لها : لا تدفعي , وقال لها : حققي ولكنه لم يجد صدى لصوته .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ إبراهيم رشيد – تقرير ديوان المحاسبة يقدم عادة للبرلمان وهو الذي يعقب عليه .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إن تقرير ديوان المحاسبة الذي يشير إليه حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) يحتوى على مئات من تلك الملاحظات , فإذا ما ظللنا نستمع عن كل ملاحظة وردت في التقرير مدة ربع ساعة فإننا لا ننتهي من ذلك , لهذا أرجو أن ينصب كلام حضرة الشيخ المحترم على أن يجعل ملاحظاته تبدأ من تاريخ 20 مارس سنة 1950 وهو تاريخ إخطار ديوان المحاسبة للوزارات بتلك الملاحظات أما إذا كنا نناقش كل ملاحظات تقرير الديوان فإننا لا نكون في الواقع بصدد استجواب عن سبب استقالة رئيس الديوان السابق , وإنما نكون بصدد مناقشة تقرير ديوان المحاسبة وهو غير معروض علينا الآن للمناقشة , على أن مسئولية الحكومة تبدأ من 20 مارس سنة 1950 , أما قبل هذا التاريخ , فلا مسئولية عليها .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار باشا– نريد أن نستمع إلى هذه الملاحظات جميعها حتى نعرف كل شئ .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – نحن الآن بصدد استجواب معين .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار باشا – إنني لا أعرف كل هذه الوقائع التي يقولها حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – كل هذه الوقائع تمت في عهد حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار باشا وهو وزير .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار باشا – وكذلك في عهد هذه الحكومة و وأرجو أن تتاح الفرصة لحضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك حتى يتم كلامه حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني أسلم بأن تقرير ديوان المحاسبة يشتمل على مئات من هذه الملاحظات .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – إنه من المصلحة العامة ذكر تلك الملاحظات .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي باشا – يجب أن نتعاون جميعا على درء هذه الأخطار , لا أن يتهم بعضنا بعضا , وأن نقول إن هذا تم في عهد فلان وذلك تم في عهد فلان .
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – كبير مهندسي السلاح البحري الملكي بعد أن أعلنت الحرب في مايو سنة 1948 تقدم بنفسه إلى الوزارة يقول : إن عنده وحدات حربية معينة سماها بأسمائها في حاجة إلى إصلاح لمناسبة الحرب وقال إنها لا تتكلف إلا عشرين ألفا من الجنيهات , وطلب المبلغ ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية - متى ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك – طلب هذا المبلغ في 24 مايو سنة 1948 , وأقره وكيل الوزارة قائلا , إنه يوافق على ذلك بشرط أن يتصل رئيس السلاح برئيس لجنة احتياجات القوات المسلحة للاتفاق معه على تنفيذ العمليات المطلوبة .
وبناء على هذا – يا حضرات الشيوخ – اتصل كبير المهندسين برئيس لجنة الاحتياجات , وتفاهم معه على وضع مبلغ العشرين ألف جنيه تحت تصرف السلاح الملكي .
يقول هذا كبير المهندسين في مذكرة كتبها هو بنفسه , بعد أن اتفق مع رئيس لجنة الاحتياجات على الطريق التي تنفذ بها الأعمال المطلوبة : من طرح مناقصة عن بعضها وإعطاء بعضها الآخر للمتعهدين , ممن سبق لهم القيام بمثل هذه الأعمال , مع تكوين لجنة خاصة للقيام بالأعمال والمشتريات ,
وقد أيد هذا الاتفاق قائد عام السلاح البحري الملكي في أول يونية سنة 1948 , فاتفق مع لجنة القوات المسلحة على أن يصرفها من واقع المناقصة , فإن لم تكن المناقصة فلا يعطي الإصلاح إلا لشركة تقوم بمثل هذه العمليات , وقد أقر قائد السلاح ذلك .
حضرات الشيوخ المحترمين
هذه العشرون ألفا من الجنيهات تصير 145.000 من الجنيهات دون اعتماد ودون اتصال , حدوث هذا . وهل جاءكم نبأ لجنة احتياجات القوات المسلحة ؟
إني أعتقد أنكم على علم بذلك .
لما رأت هذه اللجنة أن السلاح البحري قد فعل هذا , روعت فكتبت تقول للوزارة " تقدم السلاح البحري عند بدء الحملة برغبته في وضع مبلغ 20,000 جنيه تحت تصرفه لإيجاز الأعمال المطلوبة للوحدات البحرية , وقد وافقتم سعادتكم على ذلك بكتاب الميزانية رقم 115 -23/1 بتاريخ 29 مايو سنة 1948 وقد علمنا اليوم حضرة كبير مهندسي السلاح البحري أن السلاح المذكور قام بإجراء إصلاحات بالقطع البحرية , وأن هذه الإصلاحات ستتكلف حوالي 145,000 جنيه ونظرا لأني لا أعلم شيئا عن هذه الإصلاحات التي يجريها السلاح البحري أرجو سعادتكم التكرم بالنظر والإفادة بما يتبع"
وقد أرسلت الوزارة إلى قائد السلاح البحري تستوضحه الأمر , فكتب إليها بأن هذه الإصلاحات أجريت في ظروف استثنائية ,وأن السرعة التي كان يراد بها إنجاز الأعمال ما كانت لتسمح بعمل مناقصات أو حتى بعمل تقدير ابتدائي للأعمال المطلوبة وأنه عهد بالإصلاحات إلى شركات كبيرة تخصصت كل منها في ناحية معينة .
حضرات الشيوخ المحترمين
لم يسع الوزارة في ذلك الوقت إلا أن ترى مبلغ ما في هذا من شطط واستهتار واستخفاف , فكتب الوزير في 12 مارس سنة 1949 موافقا على ما اقترحه سعادة وكيل الوزارة من إجراء تحقيق لتحديد المسئولية في المخالفات التي وقع فيها السلاح , وندب لجنة فنية لمراجعة الإصلاحات التي تمت في ضوء الفواتير المقدمة قبل صرف قيمتها .
أما اللجنة الفنية , فالثابت أنها رأت من مراجعتها أن المبالغ التي تطالب بها الشركات المتعاقد معها على الإصلاحات مبالغ فيها , وأن من الضرورة العمل على تخفيضها فيما يتعلق بفواتير شركة بواخر البوستة الخديوية بنسبة تتراوح بين 10 % و15 من جملة الفواتير , وأن تتنازل شركة " جنرال موتورز" عن 15 % إلى 20% وألا تقل نسبة التخفيض في فواتير شركة توماس كوك عن 20% من جملة الفواتير .
وقد قالت اللجنة الفنية إن هناك غبتا على الدولة بقدر هذه النسب في كل صفقة من هذه الصفقات وهذا فضلا عن أن العمل أجرى بدون إذن أو اعتماد
انظروا – يا حضرات الشيوخ المحترمين – كيف شكلت لجنة التحقيق؟
لقد تولي حضرة قائد عام السلاح البحري تشكيل اللجنة التي ستنظر في أمر قائد عام السلاح !
أما فيما يتعلق بتحقيق المسئولية عن المخالفات التي وقعت وهو التحقيق الذي أشار معالي الوزير بإجرائه فقد تولي حضرة قائد عام السلاح البحري تشكيل مجلس تحقيق مكون من مدير بحرية مصلحة خفر السواحل رئيسا ومن رئيس الإمدادات والتموين بالسلاح البحري وقائد حصن الإسكندرية .
انظروا إلى ذلك – يا حضرات الشيوخ – ثم اعجبوا ما شاء لكم العجب وارثوا لحال دافعي الضرائب .
وقد بدأ هذا المجلس أعماله بتاريخ 4 أبريل سنة 1949 وانتهي إلى أن الأمور تجرى على ما يرام !
وعندما عرض الموضوع على سعادة وكيل الوزارة توفيق أحمد ( باشا ) رفعة إلى معالي الوزير السابق بكتاب موقع عليه منه , جاء فيه :
ومن رأي أن المبررات التي استند إليها مجلس التحقيق ليس من شأنها إعفاء المسئولين من المؤاخذة ولكن لو أن السلاح اتبع الإجراءات الصحيحة لأمكن تحقيق تخفيض في التكاليف "
كتب ديوان المحاسبة بكل هذا إلى الوزارة في 15 يناير سنة 1950 , وأضاف الديوان إلى كتابه :
" ولعل معاليكم توافقوبنا مبدئيا على أن إجراءات تشكيل مجلس التحقيق لم تتم على الوجه الذي يلائم طبيعة مهمته ولما كان محتملا من أن عمله قد يمتد إلى بحث موقف قائد عام السلاح نفسه في الموضوع وهو الاحتمال الذي ووجه به المجلس بالفعل حيث جاء على لسان كبير مهندسي السلاح أنه لفت شفويا , وفي الوقت المناسب نظر القائد العام إلى تجاوز السلاح للاعتماد المخصص للإصلاحات دون الرجوع للوزارة أو لجنة الاحتياجات, كما أن الكثيرين ممن سمعوا في التحقيق عزوا إلى القائد العام إصدار الأوامر المتعلقة بالمخالفات التي حققها المجلس "
ولهذا فإنه لم يكن في وسع مجلس التحقيق أن يتعرض لهذه الناحية على الرغم من وضوح أهميتها واكتفي بالقول بأن مثل هذه الأقوال لا تنهض دليلا على صحة مدلولها ما لم يقرها صاحب الحف في ذلك , وهو صاحب العزة قائد عام السلاح البحري الملكي , دون أن يرجع المجلس في ذلك إلى عزته لينفي أو يثبت ما جاء بالتحقيق بل إن المجلس جاوز ذلك إلى الإطناب في المجهود العظيم الذي قام به السلاح في إصلاح القطع البحرية وإعدادها للقتال : وهكذا ترون , يا حضرات الشيوخ المحترمين أن هذا المجلس أطنب في المجهود الذي قام به السلاح في إصلاح القطع البحرية كما أطنب مجلس إدارة جمعية المواساة في الشكر على المجهود الذي بذل في الدعاية والنشر فاستحق صاحبه خمسة آلاف من الجنيهات ويقول ديوان المحاسبة إن النتيجة التي انتهي إليها مجلس التحقيق لا يمكن قبولها , إذا أن القول بعدم وجود الموظفين المدربين على أعمال المراجعة والميزانيات والحسابات أمر بعيد كل البعد عن التأثير في تصرفات الجهات الرئيسية في السلاح ,
ومن هذا يتضح لمعاليكم أنه لو كان السلاح قد التزم الطريق الصحيح فيما قام به من إصلاحات من بادئ الأمر لقلت التكاليف الفعلية كثيرا عن تلك التي تحملتها الخزانة العامة نتيجة لتلك المخالفات "
وإزاء هذا نرجو التفضل بالنظر في أمر المسئولين عن المخالفات , ومعالجة أمر الأنظمة الحسابية في الوزارة بما يكفل عدم وقوع مثل هذه المخالفات مستقبلا "
وقد بعث ديوان المحاسبة بهذا الخطاب في 15 يناير سنة 1950 ثم استقال رئيس الديوان في 20 أبريل سنة 1950 .
إن الأمر ليس هينا , بل مأساة ومع ذلك لا يتحرك في الوزارة ساكن ولا أمل في أن تتحرك لأنه لو كان هناك أمل لبقي الرجل ولكنه خرج ليس لأنه أوذي إذ رأي أن هذه الصيحات تذهب هباء فقط , بل لأكثر من هذا , لأنه لا أمل في أن تسمع صيحاته .
وفي وسط هذا الغبار الذي كاد يخنقنا منذ انتهت الحرب فعلا أقول كاد يخنقنا الغبار الذي ملأ علينا الجو بتلك الصفقات التي أغتنمها قناصو الربح الحرام وأخذوا من مال البلد ما أخذوا – في وسط هذا الغبار يقع حريق في القلعة ويقع في النفس أن هذا الحريق ليس حريقا واحدا وإنما هو مفتعل .. فيكتب ..
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – إنه لم يكن حريقا واحدا بل ثلاثا حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إلى متى هذه الأمثلة ؟
حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي (بك) – يكتب رئيس الديوان في 24 ديسمبر سنة1949 , ثم في 19 يناير سنة 1950 , ثم في 4 مارس سنة 1950 يقول " مكنوني من أن أري التحقيق لأنهم قالوا إن هناك تحقيقا أجرته الوزارة إن رئيس الديوان يريد أن يطلع على التحقيق ويهمه أن يطلع ليطمئن على الأقل ولكن لا أثر لهذا التحقيق , فيرسل خطاب استعجال ويتبعه بآخر ثم بثالث إلى أن يستقيل الرجل ولما يرسل إليه رد .
حضرات الشيوخ المحترمين
لا أريد أن أتحامل على وقتكم ولا على صدوركم أكثر من هذا – فإن الأمر يبدو في غاية البساطة .
إن أردتم أن يكون ديوان المحاسبة عينكم الساهرة على ميزانية الدولة دخلا وصرفا فظاهروه وعضدوه , وأسندوه ولا تتركوا رؤساء هذا الديوان يتساقطون كما تتساقط أوراق الخريف واحدة تلو أخرى .
وإن أردتم للديوان هذا , بحق فليكن منكم ما يشعر البلد كافة بأنه قد شغلكم أن رؤساء هذا الديوان لا يلبثون حتى ينصرفوا عنه , وأن آخر من تولاه شكا من الظروف والعسر والعقبات التي تعرقل العمل , فالخطر باد أكاد أراه وقد حان الوقت لكي نتيقظ وأن نتدبر لبلدنا فإن أردتم أن يكون لكم ديوان فأقيموه واستعملوا حقكم المخول لكم بمقتضي اللائحة الداخلية , وانتخبوا لجنة تنتقل باسمكم إلى الرجل المستقيل لتسأله : لم استقال ؟ وما هي هذه الظروف التي طرأت ؟ أهي من الحكومة أو من سواها ؟ حققوا هذا وإلا فالعاقبة وخيمة بل هي أوخم تظنون .
(تصفيق )
الرئيس – إن حضرة الشيخ المحترم محمود أبو الفتح له تصريح يريد أن يدلي به , ومعالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) مستعد أن يتكلم الآن , فإذا أردتم التأجيل إلى الغد , فإن معاليه يطلب ألا تنشر المناقشة التي دارت في هذه الجلسة حتى ينشر معها الرد .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود أبو الفتح – أود أن أصحح واقعة ذكرها سعادة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) عن حديث جاء في جريدة المصري "
والواقع أنني أنا الذي منعت هذا الحديث لسبب هو أنه حديث ليس فيه إلا سؤال وجواب عنه , سؤال عن واقعة المواساة , وكان معروفا في ذلك الوقت أن استقال محمود محمد محمود ( بك ) ترجع إلى سببين السبب الخاص بالمواساة والسبب الخاص بحملة فلسطين , فقصر الحديث على هذا يشعر بأن رغبة الجريدة هي مجرد التشهير برجل .
ولهذا منعت الحديث وفي الوقت نفسه لم يتح للمتحدث عنه أن يدافع عن نفسه , ولم يكن قد اطلع على الحديث حتى يدافع عن نفسه ولم يتدخل في منع الحديث أى شخص آخر .
الرئيس – هل توافقون حضراتكم على رفع الجلسة على أن تكون مستمرة إلى الغد ؟
( موافقة )
الرئيس – إذن ترفع الجلسة الآن , على أن تكون الجلسة مستمرة إلى الغد ولآ ينشر شئ مما دار في هذه الجلسة حتى ينشر مع رد الحكومة الذي ستدلي به إلى المجلس غدا وهذا الكلام موجه لرجال الصحافة ( رفعت الجلسة الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والعشرين مساء )
4- استمرار المناقشة في الاستجواب
الموجه إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء من حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك) عن تصرفات بدت من الحكومة كان لها أثرها في استقالة الرئيس السابق لديوان المحاسبة – انتهاء المناقشة , وتأجيل النظر في الاقتراح الخاص بتأليف لجنة تحقيق إلى الجلسة المقبلة .
الرئيس – نعود الآن إلى نظر الاستجواب وقد وافق المجلس في هذه الجلسة على منح إجازة لحضرة الشيخ المحترم مقدم الاستجواب , وبطبيعة الحال ستتولي الحكومة الرد على ما قيل بالأمس .
فهل سيحل أحد من حضرات الأعضاء محل حضرة الشيخ المستجوب , ويكتفي برد الحكومة ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – أنا أحل محل حضرة الشيخ المحترم المستجوب .
الرئيس – إذن تكون الكلمة الآن لحضرة صاحب المعالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) وزير الداخلية .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – حضرات الشيوخ المحترمين
لعل هذه القاعة , على كثرة ما عرض فيها من استجوابات , لم تشهد استجوابا اجتمعت فيه أسباب التناقض والغرابة مثل هذا الاستجواب ولم تشهد استجوابا انقلبت فيه الأوضاع رأسا على عقب كما حدث في هذا الاستجواب .
وهو استجواب غريب في بدايته , غريب في نهايته , وإن كان واضحا في هدفه وفي غايته .
لم نر هذه القاعة استجوابا انتحل فيه المتهم صفة المدعي , كما وقع في هذا الاستجواب ولم استجوابا صفق المطعون فيه للطاعن , كما وقع في هذا الاستجواب , ولم تر استجوابا هش المضروب فيه لجلاده ويسأله المزيد كما وقع في هذا الاستجواب .
والاستجواب في ظاهره اتهام للحكومة على أخطاء لم تجنبها ولم تقع في عهدها غن صحت , وفي حقيقة حملة من التشهير على قوم وصفهم المستجوب بأن الأقدار شاءت أن يكون لهم مركز خطير في هذا البلد .ولقد اعترض من اعترض , وقاطع من قاطع وصفق من صفق . ولكن شيئا واحدا أحسست به وأنا في مقعدي , وهو أن هذا المنبر قد اهتزا اهتزازا عنيفا , كما لاحظ سعادة رئيس المجلس , لفرط ما خولفت تقاليد هذا المجلس ولائحته الداخلية .
جرى في هذا الاستجواب ما لم يجر في استجواب غيره وأخطر منه .
ولكن يؤسفني أن أقول إن التقاليد التي جرى عليها هذا المجلس الموقر لم تتبع في هذا الاستجواب , بل بني الاستجواب على مجرد ظنون وعلى تخمينات , بل على مجرد حكم على النوايا والضمائر , فقيل إن رئيس الديوان السابق استقال ,لأنه لا أمل عنده في أن الحكومة ستهتم بملاحظاته , وعلى هذا الأساس والافتراض من أن الحكومة لن تهتم , فليستقل رئيس الديوان ولتشهر هذه الحملة بمن يراد التشهير بهم .
قال المستجوب في استجوابه : إني أريد أن أستجوب الحكومة بخصوص تصرفات بدت منها , كان لها أثرها في استقالة رئيس الديوان السابق , وأفاض في الشرح ثلاث ساعات متواليات يسرد ما ظن أنه أسباب دعت إلى الاستقالة , ومن الغريب أن ينتهي في استجوابه إلى أن اقترح على حضراتكم تأليف لجنة برلمانية لتنتقل إلى رئيس الديوان السابق لتسأله عن أسباب استقالته .
اقترح ذلك بعد أن ظل ثلاث ساعات يشرح لماذا استقال الرئيس السابق , مع أنه باقتراحه هذا يعترف بأنه لا يدرى شيئا وبأنه لم يذكر شيئا عن أسباب استقالة رئيس الديوان حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي ( بك ) – أقال تنتقل ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – نعم قال ذلك حرفيا , ولن أذكر إلا من المضبطة :
" وانتخبوا لجنة تنتقل باسمكم إلى الرجل المستقيل لتسأله لم استقال "؟
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) أكمل فلعل للجنة مأمورية أخرى وهي التحقيق.
الرئيس – أرجو عدم المقاطعة ومن له من حضراتكم ملاحظة فليبدها في حدود اللائحة ودعوا معالي الوزير يتكلم .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – وما الذي استطاع حضرة المستجوب أن يذكره وقد أطلق له العنان , وكان مجال القول أمامه فسيحا ؟
ذكر أربع أو خمس مسائل على سبيل الحصر : إحداها خاصة بمستشفي المواساة وثلاث أو أربع خاصة بنفقات حملة فلسطين .
وأستطيع أن أؤكد لحضراتكم أن تسعة أعشار ما سمعتموه بالأمس خارج عن موضوع الاستجواب . فليس موضوعه أن يشرح حضرة المستجوب مسائل مما ورد أو يظن أنه ورد في تقرير قدم من ديوان المحاسبة منتقدا هذه التصرفات .
وهذه التصرفات لم تجر في عهد الحكومة الحاضرة بل جرت في عهد الحكومات السابقة منذ سنة 1945 إلى أول عهد هذه الحكومة بمقاليد الحكم , فهذه الحكومة ليست مسئولة عن هذه التصرفات , وإنما في كل مسألة كان لابد له أن ينتهي إلى أن ديوان المحاسبة , قد حرر عنها لوزارة الصحة أو لوزارة الحربية في تاريخ كذل ولم تحرك ساكنا , أما أنها لم تحرك ساكنا , فهذا غير صحيح , بل هو يختلف عن الحقائق التي كانت تحت نظر حضرة المستجوب لو أنه أهتم بذكر تلك الحقائق .
وكان تأخير رد وزارة الحربية أو وزارة الصحة عن الرد على ملاحظات ديوان المحاسبة بالسرعة التي يطلبها الرئيس السابق سببا داعيا لاستقالته في نظر حضرة المستجوب .
وإذن , فما قول حضرة الشيخ المحترم وقد اقتصر على ثلاث أو أربع مسائل , قال إن الرد عليها تأخر من سنة 1945 إلى تاريخ تولي الوزارة الحالية الحكم ؟
ما قوله في رسائل للديوان ظلت دون رد كل ذلك الوقت ؟
لقد بلغ عددها ستة آلاف ملاحظة , أرسلها الديوان إلى الوزارات المختلفة في العهد الماضي , لم يرد للديوان رد عليها إلى اليوم , ومنها ملاحظات من سنة 1945 , أى مضي عليها خمس سنوات من غير رد , ولم تكن في نظر الشيخ المستجوب سببا لإثارة رئيس الديوان السابق .
أما تأخير الرد عشرين يوما , فهذا يكون سببا للاستقالة في ظن حضرة الشيخ المحترم ولا أجئ بهذه الأرقام من عندي , بل هي واردة في تقرير لجنتكم المالية المؤرخ في 22 فبراير سنة 1950 عن تقارير ديوان المحاسبة عن السنوات 1945 - 1946 , 1946- 1947,1947 – 1948
ستة آلاف مكاتبة أرسلها ديوان المحاسبة في ثلاث سنوات , ولم يرد له رد عليها من وزارة واحدة ومنها مكاتبات من سنة 1944 – 1945
لقد بلغت المكاتبات 6,229 مكاتبة , هذه الآلاف من المكاتبات ليست السبب في استقالة رئيس الديوان , أما تأخير ثلاث مكاتبات عشرين يوما أو شهرا , فإنه الكارثة التي حلت بديوان المحاسبة التي من أجلها تستجوب الحكومة الحاضرة بعد ثلاثة أشهر من توليها الحكم .
فهل هذه المخالفات الأربع التي حددها الشيخ المستجوب , وأفاض في شرحها وفي التعليق عليها , هي كل ما أخذه الديوان , وكل ما سطره من ملاحظات على الحكومات السابقة في السنين الأربع السابقة ؟
إن هذه المجلدات الضخمة , يا حضرات الشيوخ المحترمين وصفحاتها نحو الألف , كلها مليئة بالمخالفات التي ارتكبت في الوزارات المختلفة , سجلها الديوان , وطلب عليها ردودا , فلم يحرك أحد ساكنا , واعترف الديوان في تقاريره بهذه الآلاف من المخالفات بخلاف تقرير سنة 1948 الذي سيقدم إليكم .
ومع هذا فإن كل الذي اختاره من بين هذه الآلاف حضرة الشيخ المستجوب هي أربع مسائل بالذات لتكون محل استجوابه . فما باله ترك هذه الآلاف المؤلفة من الملاحظات في التقرير , ولم يعلق على واحدة منها ؟ إنه لا يعلق , لأنه يقصد شخصا معينا , فهو القصد وهو الهدف .
فكل هذه المخالفات – التي لا تتعلق بمبلغ خمسة آلاف جنيها بل هي تتعلق بمئات الآلاف من الجنيهات – فضلا عن أنها مخالفات دستورية وصفها رئيس الديوان السابق سعادة بهي الدين بركات ( باشا ) بعبارات قاسية شديدة .
ولكن كل هذه المخالفات ليست لها قيمة في نظر حضرة الشيخ المستجوب , وإنما هذه الملاحظات الثلاث التي ذكرها في وزارة الحربية والملاحظة الوحيدة الخاصة بوزارة الصحة هي كل نظام الحكم في مصر , وهي دليل الفوضي والفساد.
أما هذه المئات من الصفحات المملوءة بالمخازى والمخالفات التي وقعت في السنين الأربع السابقة , فليس لها أدني اعتبار في نظر حضرة الشيخ المستجوب , فإذا تأخرت الحكومات السابقة في الرد على ستة آلاف مكاتبة أرسلها الديوان للوزارات المختلفة في سنين أربع مضت ولم يرد عليها رد , فليس لذلك وزن في نظر حضرة الشيخ المستجوب .
أما تأخر الحكومة الحاضرة في الرد عشرين يوما , فهو التفريط في حقوق البلاد وهو الذي يدعو إلى الاستقالة , وهو الذي يطلب منا أن تكون عندنا الشجاعة لمواجهته .
ومع ذلك ما هو موضوع الاستجواب ؟ وأين مسئولية الحكومة , إن صح كل ما ذكره حضره الشيخ المحترم , التي يمكن أن تستجوب عنها الحكومة الحاضرة ؟
إن صحت هذه المآخذ والتهم , فهي وصمة في جبين الحكومات السابقة التي ارتكبت في عهدها تحاسب عليها وتسأل عنها .
وإن صح أن الذخيرة التي كانت ترسل إلى الجيش في فلسطين كانت تنطلق في صدور الجنود المصريين الذين أطلقوها – كما قال حضرة المستجوب – فهذه جريمة والمجرمون لسنا نحن , وليست هذه الحكومة , وإنما الذين ارتكبت هذه الجرائم في عهدهم , وهذه الحكومة الحاضرة هي آخر حكومة يمكن أن تؤاخذ على هذا . وأن يوجه إليها استجواب عن هذه المخازي إن صحت .
وهذا آخر استجواب يمكن أن يوجه إلى هذه الحكومة بالذات فهذه المخالفات ما ثبت منها في هذا التقرير وما سيثبت في تقرير سنة 1949 , كلها شهادة ووصمة عار على الحكومة التي اقترفت في عهدها هذه الآثام لا نحن .
وإذا تركتم جانبا وقائع هذه المسائل الأربع بالذات , ونفذنا إلى الصميم وهو مدي مسئولية هذه الوزارة , كنت أفهم أن يقول حضرة الشيخ المحترم إن الديوان أرسل إلى الحكومة , فلم تجب ولم تهتم .
وسأذكر لحضراتكم باختصار وإيجاز الوقائع والتواريخ لتروا مبلغ التجني على الحكومة في هذا الاستجواب:
بدأت المسألة بكتاب أرسله الديوان بتاريخ 26 فبراير سنة 1950 إلى وكيل وزارة الصحة , هذا نصه :
" حضرة صاحب العزة وكيل وزارة الصحة .
أتشرف بأن أرسل إلى عزتكم رفق هذا مستخرجا بأهم الملاحظات التي أسفر عنها تفتيش الديوان على حسابات مستشفي الملك فؤاد الأولي ( المواساة ) بالإسكندرية . رجاء التكرم بالتنبيه إلى اتخاذ اللازم نحوها والإفادة .
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام .
مراقب عام المجالس والهيئات العامة
إمضاء
أى أن هذا الكتاب أرسل قبل استقالة رئيس الديوان بشهرين , لا خمس سنوات وكان الكتاب المذكور غير مقصور على الملاحظة الخاصة بمبلغ الخمسة آلاف جنيه التي ذكرها حضرة المستجوب , بل كان هذا الكتاب مكونا من اثني عشرة صفحة من الفولسكاب ويحتوى على إحدى وأربعين ملاحظة , ويقول مصطفي مرعي بك إن وزارة الصحة لم تحرك ساكنا عندما وصلها هذا الكتاب , وهذا غير صحيح , وإنني أترفق في التعبير عندما أقول إنه غير صحيح فقط , فقد كتب الكتاب في 26 فبراير سنة 1950 وأرسل في 27 أو 28 منه , أرسل إلى وزارة الصحة في 4 مارس سنة 1950 ثم أرسلته وزارة الصحة إلى مستشفي فؤاد الأول بخطاب هذا نصه :
" حضرة صاحب السعادة مدير مستشفي الملك فؤاد الأول .
تتشرف بأن نرفق طيه مستخرجا بأهم الملاحظات التي أسفر عنها تفتيش ديوان المحاسبة على حسابات مستشفي الملك فؤاد الأول بالإسكندرية بأمل التكرم بعد الاطلاع عليها التنبيه إلى اتخاذ اللازم نحوها والإفادة لإمكان الرد على الديوان بصفة عاجلة ".
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ؟
المراقب العام
( إمضاء )
وبعد هذا و هل يليق بشيخ محترم في يده مستندات رسمية أن يتجاهل هذا الكتاب ويقول إن وزارة الصحة لم تحرك ساكنا ؟ ومن بين الملاحظات الإحدى والأربعين ملاحظة تحت رقم 10 نصها كالآتي :
" صرف بموجب الإذن رقم 15212 مبلغ 5000 جنيه كمصاريف دعاية , ولم يستدل على استصدار قرار من مجلس الإدارة بصرفه , ونرجو الحصول على القرار المذكور مع التنبيه بعدم صرف أى مبلغ يزيد عن 300 جنيه إلا بعد عرض الأمر على مجلس الإدارة والحصول على موافقته على الصرف , كما لوحظ أن المبلغ مدرج بدفاتر المصروفات دون إرفاق مستندات الصرف بمستندات الشهر "
وإذا رجعتم إلى ما قاله حضرة المستجوب , نجد أنه قد أسقط كلمة " مصاريف " ولم يذكرها مرة واحدة – ولو خطأ – في الوقت الذي كرر فيه كلمة " دعاية " أكثر من عشر مرات , بل إنه أسقط هذه الكلمة , وهو يتلو عليكم نص الإذن الذي فيه هذه الكلمة وظاهر من هذا أن الديوان لم يعترض على مبدأ الصرف في ذاته ,
ولم يعترض على أن المستشفي صرفت هذا المبلغ لأنه كما استبان لحضراتكم أن هذا معمول به في مستشفي المواساة منذ إنشائه إلى اليوم , واعترض على أن قرار مجلس الإدارة لم يثبت في مستندات الصرف التي ترفق بمصروفات الشهر .
لقد قلت لحضراتكم إنه بعد أربعة أيام من وصول هذا الخطاب , كتبت وزارة الصحة إلى إدارة المستشفيات تحيل عليها هذه الملاحظات الإحدى وأربعين , تطلب منها بحثها والرد عليها واتخاذ اللازم نحوها والإفادة لإمكان الرد على الديوان بصفة عاجلة , فلو أن أى واحد من حضراتكم أو مصطفي مرعي ( بك ) نفسه , كان وزيرا للصحة , هل كان يمكنه أن يتصرف أكثر من هذا التصرف ؟ من الطبيعي أن بحث 41 ملاحظة كلها ملاحظات حسابية , وكلها ملاحظات هامة . يقتضي بعض الوقت للرد عليها , وقد رأيتم – حضراتكم – كيف أن الحكومة الماضية لا ترد على الملاحظات خمس وست سنوات فهل إذا لم يرد على ملاحظات الديوان البالغ عددها 41 ملاحظة في مدى شهرين يعتبر هذا تعطيلا لأعمال الديوان ؟
يقول حضرة الشيخ المحترم مقدم الاستجواب إن الديوان كتب لوزارة الصحة المرة تلو المرة , ومن يسمع هذا يعتقد أن الديوان كتب إلى وزارة الصحة عبارة " المرة تلو المرة " عشر مرات , والحقيقة أن الديوان لم يكتب إلا مرتين : إحداهما هي التي نتكلم عنها والأخرى في 6 أبريل لاستعجال الرد وقد استعجلت وزارة الصحة الرد من المستشفي وحددت لها أسبوعين .
هذا هو دور وزارة الصحة فهل هذه المسألة يصح أن تكون محل مؤاخذة وموضع استجواب ؟
خطاب وصل وزارة الصحة من الديوان , فحولته بعد أربعة أيام من وصوله إليها واستعجلت الرد عليه بعد ثمانية وثلاثين يوما وحددت أسبوعين للرد عليها – فهل هذا يدعو إلى المؤاخذة ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة – ألم يسبق هذا الكتاب كتاب من الديوان لوزارة الصحة يحتوى على ستين ملاحظة ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الصحة العمومية – يحتوى على 41 ملاحظة ؟
حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة بك – أولي ملاحظات الديوان على وزارة الصحة كانت عن أية سنة ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – في أغسطس سنة 1949 انتقل مفتش الديوان إلى مستشفي فؤاد الأول بالإسكندرية لمراجعة حساباتها عن سنة 1948 , وأمضي في هذه المهمة نحو أسبوعين عاد بعدها إلى الديوان في شهر سبتمبر سنة 1949 وظل الديوان يراجع تقرير المفتش ويحرر ملاحظاته حتى 26 فبراير سنة 1950 , وفي هذا التاريخ أرسل الديوان ملاحظاته إلى وزارة الصحة وعددها 41 ملاحظة , ومن بينها الملاحظة رقم 10 الخاصة بملبغ خمسة آلاف جنيه فظل الديوان يبحث ملاحظات المفتش خمسة أشهر .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أبو الفتوح – معني هذا أن الديوان ظل خمسة أشهر يعد هذه الملاحظات والمستجوب يري أن وزارة الصحة قد تأخرت في الرد على هذه الملاحظات , مع أنه لم يمض عليها أكثر من شهرين .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – في 28 أبريل سنة 1950 أجابت المستشفي على ملاحظات الديوان بكتاب سأقرأه على حضراتكم وقد ألحق به كتاب آخر أرسل بعد يومين من إرسال الكتاب الأول , فكأن المستشفي استغرقت في بحث هذه الملاحظات وعددها 41 ملاحظة , وإعداد الرد عليها الفترة من 5 أو 6 مارس إلى 28 أبريل سنة 1950 أى حوالي شهر ونصف . ليت مصالح الحكومة ترد بهذه السرعة فلو أن هذا حدث في المصالح الحكومية ما بقيت ستة آلاف ملاحظة للديوان لم يرد عليها طوال خمس سنوات .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) – بم أجابت المستشفي على كتاب وزارة الصحة ردا على ملاحظات الديوان ؟
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – هل الرد كان قبل الاستقالة أو بعدها ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – الرد أرسل في 28 أبريل والاستقالة في 20 أبريل . الرئيس – الاستقالة كانت قبل الرد .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – قلت لحضراتكم إن الرد تعرض لكل الملاحظات وسأتلو علي حضراتكم الرد على الملاحظة رقم 10 الخاصة بمبلغ الخمسة الآلاف من الجنيهات " بخصوص الاعتراض على مبالغ الدعاية للتبرعات أرجو أن تسمحوا لى بالإفاضة في الرد على هذا الموضوع الحيوي للمستشفي كما هو حيوي لجميع المؤسسات الخيرية , بل هو حيوي لكل مؤسسة صناعية أو تجارية , كما أن التجارب قد علمت الجميع أن الاقتصاد في هذا الباب فيه وبال كبير على كل المؤسسات .
" وقد جرت جمعية المواساة بالإسكندرية من يوم نشأتها خصوصا عند شروعها في إنشاء هذا المستشفي الذي يدين بوجوده بعد فضل الله وعناية الفاروق إلى الصحافة والدعاية لجمع الأموال الطائلة التي تمكنت بها من إتمام عملها العظيم جرت على صرف نسبة بين 20,5 في المائة تم هذا العمل الذي تفتخر به البلاد ولم تساهم فيه الحكومة بمبلغ يذكر .
" والآن وقد تم هذا المشروع وصار حقيقة واقعة ونحن على أبواب مشروع جديد لا يقل عن الأول عظمة بل يفوقه كلفة ومظهرا نرى الاعتراض علينا في سلوك نفس السبيل .
" ويدهشني أن يعترض علينا في سلوك هذا السبيل مع أن وزارة الداخلية تصرح بنسبة 26 % لباعة أوراق اليانصيب , ثم تحتم صرف 50% من مجموع المتحصل إلى رابحي التذاكر فلا يبقي للمؤسسات أو الجمعيات الخيرية إلا مبلغ ضئيل يتراوح بين 10 أو 30 في المائة من جميع المبالغ المجموعة .
" فهل بعد هذا يعد صرف 10% من المبالغ المجموعة كتبرعات بواسطة الدعاية أو أشخاص تبذيرا أو عملا يصح الاعتراض عليه بعد أن تحصل المؤسسة لعى 90% من المبلغ ؟
" إني لمست أن المؤسسة التي أتشرف برئاستها الآن نشأت وترعرعت ونجحت على هذه الأسس , وأني أدين بها وسأستمر عليها ولن يقف في طريقي للإنشاء والتعمير للخير أى عائق ما دمت أعلم فيه الحق والصواب .
" وأضيف إلى ذلك نقطة أخيرة وهي أن نسبة الـ10% التي تصرف ليست هي في الواقع مصروفات , بل هي تستقطع من المال المجموع فليست في نظرى مصروفات , بل إن الباقي بعد صرف هذه المبالغ هو الإيراد الفعلي .
كما أقرر أن الجزء المعترض علي صرفه خاص بالمال المجموع لمعهد فاروق الطبي الذي لم يتم إنشاؤه بعد وليست له أية علاقة بميزانية المستشفي
" وسأعرض على مجلس الإدارة هذا المبدأ الذي أؤمن به وإني على يقين أن المجلس سيرحب به لأني أربأ أن يغلقوا على المستشفي بابا كبيرا يدر عليه المال الكثير .
" وزيادة على ذلك هل لى أن أسأل الديوان إذا رأي غير ذلك من جهة التبرعات سواء للمستشفي أو للمؤسسة الجديدة من أين لى أولا بالمال الذي يغطي ميزانية المستشفي التي تبلغ 85 ألف جنيه, مع أن الحكومة لا تدفع إلا 25 ألف جنيه وهي قيمة لا تغطي مرتبات الموظفين , ومن أين لى بالمال المراد جمعه للمؤسسة الجديدة وهو يبلغ أكثر من نصف مليون جنيه ؟
" ويا حبذا لو أن ديوان المحاسبة وفر على هذا المجهود وكفاني مشقة التعب وبذل ماء الوجه في الشحاتة للخير كما يوفر على احتمال اللوم والاعتراض بأن يدبر المال اللازم لإدارة هذه المؤسسة وإتمام المؤسسة الجديدة من أبواب ميزانية الحكومة وأكون شاكرا له مدى الحياة باسم المرضي والفقراء.
"هذا رأينا ومبدأنا في موضوع جمع التبرعات عامة .
" أما في الموضوع الذي أشار إليه تفتيش الديوان بالذات وهو صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه فقد بدأنا حملة صحفية كبيرة وكلفنا أمرها إلى صحفي كبير في أواخر سنة 1947 , وقد قام بهذه المهمة مشكورا ولم يكن ذا صفة في ذلك الوقت إلا صحفيا كما كان له ولصحيفته من قديم فضلا كبيرا على هذا المستشفي الذي تفخر به البلاد ,
وكان ذلك هو السبب الوحيد الذي من أجله كلفناه بهذه المهمة النبيلة الذي وفقه الله فيها وحصلنا بها على مبلغ يقرب من 60 ألف جنيه للمؤسسة الجديدة , وكانت النسبة التي تكلفناها أقل نسبة صرفناها على الدعاية منذ نشأة الجمعية والمستشفي ,وقد تقدمنا لعزته في ذلك الوقت بخطاب شكر أتشرف بإرفاق صورة منه وإني أشعر بأسف شديد أن يثار اعتراض على سلوك قديم نبيل فقد تدعو إثارته إلى قتل الهمم وإيقاف الإنشاء والتعمير للخير .
" والله أسأل ألا يعترينا يأس من هذه الاعتراضات ونحن في طريق إنشاء تلك المؤسسة الكبيرة التي نتمني أن يتم إنشاءها قريبا لنضيف بها فخرا على فخر ".
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – هل ثبت أن مفتش الديوان اطلع على إذن الصرف والكتاب المرفق له ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – نعم , ووقع عليه بما يفيد المراجعة . أى أن هذا المستند لم يصطنع لخدمة الاستجواب , بل أرفق نص الكتاب مع إذن الصرف .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب باشا – ما مقدار المبالغ التي حصلت عليها المستشفي نتيجة لهذه المجهودات ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – المبالغ التي حصلت عليها المستشفي نحو 55 ألف جنيه , ولما ذهب مفتش الديوان إلى المستشفي سأل مديرها في محضره عن المبالغ التي حصلت , فقدم المدير بيانا بالتبرعات الكبيرة التي جمعت نتيجة لهذه الحملة الصحفية وهذا المجهود .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد جاء بيان بهذه المبالغ إلى اللجنة المالية بالمجلس في حينه , وهو يحتوى على خمسة عشر ألف جنيه من سعادة عبود باشا , وعشرين ألف جنيه من بنك مصر , وخمسة عشر ألف جنيه من بلدية الإسكندرية , وعشرة آلاف من الجنيهات من كوتسيكا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – وقد تبين من كلام مدير المستشفي أن الدعاية والبروباجندة التي عملت لم يقتصر أثرهما على المبالغ التي جمعت فقد , بل إنه كان من نتيجة ذلك أن زاد الإقبال على شراء أوراق اليانصيب , وذلك بعمل الدعاية اللازمة لذلك ومن الطبيعي أنه لا يمكن أن يتبادر إلى الذهن أن يقوم الأستاذ كريم ثابت بك وقتئذ بتوزيع أوراق اليانصيب بنفسه .
ولقد كان من نتيجة هذه الدعاية والجهود التي بذلت أن صرح مدير المستشفي بأن الإقبال على شراء الأوراق قد زاد زيادة ملحوظة .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – هل توجد مستندات بالحملات الصحفية والإعلانات التي نشرت والمقالات ؟ وفي أى الجرائد والمجلات ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني لا أريد أن أقع في الخطأ الذي انتقدته بالأمس , فحضراتكم لستم الآن بصدد تحقيق وجوه الصرف وليست هذه مهمة المجلس في هذه الليلة , ولا هي موضوع الاستجواب .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – إذن لماذا تلوت هذا الكتاب علينا ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – تلوته بناء على طلب حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) وهذه تفاصيل لأمور أو مسائل واردة في تقرير ديوان المحاسبة , وللديوان فيها رأي , وسيعرض التقرير على حضراتكم , وسيحال إلى لجنة مختصة , لها مطلق التصرف , أن تبدي رأيها , ولكم أن تناقشوه .. فليس الاستجواب مقدما بسبب أن مدير المستشفي قد صرف مبلغ 5,000 جنيه لسعادة كريم ثابت باشا , ولو كان الاستجواب مقدما لهذا السبب ..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – إذن ما وجه الكلام في هذا الموضوع الآن ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – وجه الكلام أن حضرة المستجوب قد أفاض في الكلام عن هذه الواقعة ساعات طوالا.
حضرة الشيخ المحترم الدكتور جاد قنديل – إن معالي الوزير يريد أن يرضي المجلس بقوله هذا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا ما قلته مرارا , ولفت النظر إليه , فقد قلت إن المناقشة في هذا الأمر خارجة عن موضوع الاستجواب , فالاستجواب لم يقدم عن تصرف مدير المستشفي لصرفه مبلغ 5,000 جنيه إذ لا يمكن أن يكون هذا موضوع استجواب , أيدرى حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل من الذي كان يجب أن يوجه إليه هذا الاستجواب عن هذه الواقعة ؟
إنه كان يجب أن يوجه إلى معالي وزير الصحة الذي كان يتولي شئون تلك الوزارة سنة 1949 , والذي أرسلت إليه ميزانية هذا المستشفي والحساب الختامي عنها , وإن كان هناك خطأ قد وقع من المستشفي , فقد كان على وزير الصحة حينذاك , الذي تلقي الحساب الختامي عن أوجه الصرف سنة 1948 أن يناقش المستشفي في هذا الخطأ إن كان هناك خطأوما كان يصح أن يسأل عن ذلك وزير الصحة الذي يتولي شؤون تلك الوزارة سنة 1950 .
حضرة الشيخ المحترم نجيب إسكندر باشا – ولكن الحساب الختامي لم يرد إلا سنة 1950 حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) هل تضمنت ميزانية المستشفي وحسابها الختامي هذا المبلغ ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أعتقد ذلك . حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك) – إذن يكون الأمر في غاية الخطورة .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة – لى سؤال في الموضوع .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – حضرة الشيخ المحترم أن يتكلم بعد أن أنتهي من كلمتي .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة – صرحت معاليكم أمس أنه قد منع طبع التقرير .
الرئيس – لم يصرح بهذا .
حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة – هل سترد هذه المسائل في تقرير ديوان المحاسبة ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إذا كانت الورقة التي تلا منها حضرة المستجوب قد حصل عليها من رئيس الديوان السابق . فسترد في التقرير .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أباظة – إذن لماذا منع الطبع ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لم يحصل منع الطبع .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة – لا جزئيا ولا كليا ؟
الرئيس– لقد قال معالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) أمس إن الطبع لم يمنع .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) – من رأيي أن نمكن معالي فؤاد ( باشا ) أن يتم كلمته , ولمن شاء أن يطلب الكلمة بعد ذلك .
الرئيس – وهذا هو ما نريده , ونرجو معالي الوزير ألا يمكن أحدا من حضرات الزملاء من مقاطعته .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لقد قلت بالأمس , وأقول اليوم إن هذه الوقائع , ليست موضوع الاستجواب , وإن موضع مناقشتها هو عند عرض تقرير الديوان على حضراتكم , ولكن الرغبة في التشهير , والرغبة في إثارة هذا الغبار كله حول أشخاص معينين بالذات , هي التي أضاعت من وقتكم الثمين ثلاث ساعات بالأمس في الاستماع إلى وقائع ما كان ينبغي أن تعرض عليكم قبل عرض تقرير الديوان , ولكن وقد ذكرت الوقائع , وذكرت محرفة ,واستقطعت كلمات وألفاظ عمدا , وذكرت وقائع مغلوطة , وغير صحيحة واتهمت وزارة الصحة بأنها لم تحرك ساكنا , كل هذه الوقائع غير الصحيحة هي التي تدفعني أن أقول هذه التفصيلات .
ويخلص من هذه الخطابات ومن أقوال مدير المستشفي أولا أن المبلغ صرف بإذن صرف ومقيد بالدفاتر , ولم يصرف خلسة ولا خفية .
وعندما سئل مدير المستشفي عن المستندات , قال : أية مستندات ؟ هل الدعاية الصحفية أو المجهود الخاص يمكن أن تقدم عنه مستندات ؟ إنه مجهود شخصي وفكري , وثانيا لم يصرف أى مبلغ من إعانة الحكومة بل كان هذا المبلغ من ضمن المبالغ التي جمعت عن طريق التبرعات الخاصة بالمؤسسة الجديدة , ولم تكن من حساب المستشفي .
والمفهوم أن من بين عناصر الصرف مصاريف مدفوعة , أفهم أن يطلب الديوان هذه المستندات الخاصة بالصرف , ولكني لا أفهم إثارة كل هذه الزوبعة دون أن تستوفي بحثا إن كان هناك نقص في البحث , ولا أفهم أن يسقط المستجوب كلمة " مصاريف " عمدا مع أنها واردة في كتاب الديوان ..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – إن الكتاب المحرر في 26 فبراير لم يتضمن كلمة " مصاريف " بل ذكر فيه مبالغ للدعاية .
الرئيس – أليست عبارة " مبالغ للدعاية " معناها " مصاريف " أظن أن هذا أمر مفهوم ضمنا .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – هذه الكلمة لها أهمية .
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة– هل يري حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل أن تسمي " أتعابا "؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – لقد جعل معالي فؤاد ( باشا ) أهمية كبرى لكلمة " مصاريف " وأنا أقول لمعاليه إن الديوان لم يذكر هذه الكلمة في خطابه .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – يضاف إلى هذا كله أن كريم ثابت ( باشا ) كان في ذلك الوقت الأستاذ كريم ثابت ( بك ) الصحفي , ورئيس تحرير جريدة " المقطم" ولم يكن هناك ما يمنعه كصحفي من رجال القلم أن يتولي مثل هذه الدعاية لحساب أية مؤسسة اجتماعية أو خيرية , لم يكن هناك مانع , لا من القانون ولا من العرف ولا مما جرى عليه العمل , أن يتولى صحفي كبير شأن مثل هذه الدعاية لمستشفي خيرى أو لجمعية خيرية أو أهلية أو اجتماعية .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – ما هو التاريخ الذي عين فيه كريم باشا مستشارا صحفيا لجلالة الملك ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لقد عين في سنة 1949 .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – ما هو تاريخ اليوم الذي عين فيه على وجه التحديد ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد كان في أوائل سنة 1947 بحسب الميزانيات .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – على كل حال بعد حصوله على الشيك . ويمكن أن يستفسر عن تاريخ التعيين من دولة إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) الذي كان رئيس ديوان جلالة الملك وقتئذ .
حضرة الشيخ المحترم عبد القوى أحمد ( باشا ) – أري أن ننتقل إلى نقطة أخرى .
الرئيس – هذه المسائل عرضت أمس , ويري معالي الوزير أن يجيب عنها .
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) يجب أن تتاح الفرصة لمعالي الوزير أن يتم كلامه .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – قبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أختتم هذه المسألة بما هو في صميم موضوع الاستجواب , وهو مسئولية وزارة الصحة عن واقعة الخمسة الآلاف جنيه بالذات , وهل كانت مسئولية توجب تقديم هذا الاستجواب ؟
أعتقد أن هذه نقطة قد وضحت تماما أمام حضراتكم , وما كان يخفي على حضرة المستجوب وما كان ليجهل , والمعروف عنه أنه برلماني مشهور وقانوني كبير , إن موقف وزارة الصحة من هذه النقطة موقف سليم لا غبار عليه , وليس محل مسئولية مطلقا أيا كانت الصور التي تكون عليها هذه المسئولية , ولكنها الرغبة كما قلت في التشهير مطلقا أيا كانت الصور التي تكون عليها هذه المسئولية ولكنها الرغبة كما قلت في التشهير والتجريح هي التي دفعته إلى تجاهل هذه القواعد الأولية في الاستجواب ,وإقحام الحكومة إقحاما حتى يمكن أن يقدم استجوابا ويمكن أن تثار هذه الحملة الطائشة .
والآن أنتقل إلى مسألة نفقات حملة فلسطين .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – لكي نستوفي هذه النقطة , أقول لقد جاء في كلام معالي الوزير إن وزارة الصحة سألت المستشفي عن سبب الصرف من غير عرض الأمر على مجلس الإدارة , ورد المستشفي لم يرد فيه شئ عن هذه المخالفة .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا إن وزير الصحة لم يفعل أكثر مما فعله كل وزير , وهو أن يحيل الملاحظات جملة إلى الجهة المختصة فيطلب منها ردا عليها .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – من ضمن الملاحظات أن هذا المبلغ صرف من غير عرضه على مجلس الإدارة .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا كما قيل إن الديوان لم يعترض على مبدأ الصرف ,وإنما قال إن المبلغ صرف قبل عرضه على مجلس الإدارة .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – إن رد المستشفي لم يتناول هذه النقطة. حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – ولقد قال مدير المستشفي في رده على ديوان المحاسبة إن عادة المستشفي جرت منذ إنشائه إلى الآن على هذه القاعدة .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – هل جرت العادة أن تدفع مصاريف دعاية ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – جرت العادة على أن تدفع نسبة مئوية من المبالغ المتجمعة لمن يكون له مجهود في جمعها .
وسلم المدير ضمنا بأنه لم يعرض الموضوع على مجلس الإدارة , وعلل هذا بأن عادة المستشفي منذ إنشائه إلى الآن جرت على هذه القاعدة , وهي صرف نسبة معينة ووعد بعرض الأمر على مجلس الإدارة , ولقد سبق القول إن في هذا مخالفة من ناحية الشكل وكتاب ديوان المحاسبة نفسه أشار إلى أن المخالفة تنحصر في هذه النقطة .
حضرة الشيخ المحترم عبد القوى أحمد ( باشا ) – إن النقطة المهمة التي ترغب في الوقوف عليها هي معرفة : هل الحكومة تدخلت في منع طبع التقرير أولا ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – صور حضرة المستجوب لحضراتكم أن وزارة الحربية والبحرية وأن المسئولين فيها يضعون العقبات لتحول دون أن يتمكن ديوان المحاسبة من مراجعة مستندات وحسابات حملة فلسطين .
والواقع – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن الحقيقة خلاف ذلك باعتراف الديوان نفسه , وإني أذكر لحضراتكم وعلى لسان رئيس الديوان السابق شخصيا أنه أيد لى ما نشره معالي وزير الحربية والبحرية في إحدى الصحف من أنه عندما زاره رئيس الديوان السابق أبدى له كل استعداد لتسهيل مهمة ديوان المحاسبة , كما أبدى له أنه على استعداد لأن يضع الخزانة السرية تحت تصرفه , وفعلا وضعت الأوراق والمستندات تحت تصرف الديوان , ذكر هذا معالي وزير الحربية والبحرية في الصحف , وأيده لى رئيس الديوان السابق .
وثابت – باعتراف الديوان نفسه – أنه في هذه الفترة القصيرة من سبتمبر لحين وضع التقرير قد اطلع على 40 ألف مستند خاص بحملة فلسطين , وإذا توجه أحد من حضراتكم إلى وزارة الحربية , لوجد عددا كبيرا من موظفي الديوان يحتلون قاعة كبيرة في الوزارة وتحت تصرفهم عشرات من موظفي الوزارة , فلم يحل أحد دون الديوان وتمكينه من تأدية عمله , ومن الظلم والتجني أن يقال إن رئيس الديوان السابق قد استقال لأن عقبات قامت في سبيله تحول دون تمكينه من مراجعة مستندات حملة فلسطين , وهذا غير صحيح , ومن يقول به فإنما يجافي الحقيقة , فالديوان قد اطلع على كل المستندات ولم يرفض له طلب ولم يخف عليه أى مستند مما طلبه , ولم يقل لكم المستجوب إن الديوان قد طلب أى مستند , فرفضت الوزارة هذا الطلب ,
ولكن كل ما ذكره انحصر في ثلاث مسائل : هي اقتراحات لم يطلب عنها رد , وترك التصرف فيها لمعالي وزير الحربية والبحرية , وطلبات بعدم صرف مبالغ ,ولكنه لم يذكر أن الديوان طلب بيانا أو مستندات أو ملفا ومنع عنه , فما هي هذه العقبات التي حالت دون تمكين رئيس الديوان من القيام بمهمته وأدت إلى استقالته ؟
إن حضرة المستجوب لم يذكر عقبة واحدة , وإنما القصد فيما ذكره هو الوصول إلى حملة التشهير والتجني , لا أكثر ولا أقل , وتقارير ديوان المحاسبة السابقة في السنوات الثلاث السابقة أيضا مليئة بالمخالفات عن وزارة الحربية كشأن أية وزارة أخرى .
وبالرغم من ذلك لم يذكر حضرة المستجوب من هذه المخالفات إلا هذه الوقائع فما هي ؟ قال إنها سوء تموين الجيش والغش والتدليس في شراء الأسلحة والذخائر , من الجائز أن يكون هذا الكلام صحيحا , كما أنه من الجائز أن يكون غير صحيح , وكل يوم نرى متعهدين يتعاملون مع الحكومة ويغشونها , ولكن المسئولية في ذلك ليست على وزير اليوم , ولكنها تقع على الحكومة التي كانت قائمة وقتئذ .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور نجيب إسكندر ( باشا ) – إن الحكومة السابقة لم تعرف ذلك , لأن الديوان لم ينبه عن هذه المخالفة إلا في عهد هذه الحكومة .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – كان يجب أن تكون الرقابة كاملة في وقت التنفيذ والحرب قائمة, وأكثر من هذا قال حضرة الشيخ المحترم المستجوب : كيف تتعاقد وزارة الحربية مع رجل يدعي رودي رجيله , وهو رجل كان محكوما عليه بالسجن وهرب ؟
أتعرفون حضراتكم متى كان هذا التعاقد ؟ لقد كان هذا التعاقد في فبراير سنة 1949 وقت أن كان حضرة الشيخ المستجوب وزيرا .
ونحن الآن الذين نستجوب عن هذا . أليس هذا بعجيب ؟ إن معالي الأستاذ مصطفي نصرت وزير الحربية والبحرية هو الذي يستجوب الآن عن تعاقد حدث مع رودي رجيله في فبراير سنة 1949 ولا يستجوب عنه الذين أبرموه .
إن الذين كانوا في الحكم في سنة 1949 وحدث التعاقد في أيامهم هم الذين يصفقون اليوم لمصطفي ( بك) مرعي حينما يقول إن الوزارة تعاقدت مع هذا الرجل . أليس هذا غريبا ؟
يقول حضرة الشيخ المستجوب إن وزارة الحربية استوردت ذخائر في يناير سنة 1949 , قال عنها الخبير إنها فاسدة ,إن صح هذا , فهل نحن مسئولون عنه ؟
هل تستجوب الحكومة الحاضرة عن عمل خاطئ قامت به الحكومة السابقة , أم الأولي أن يستجوب بها الآن من كانوا في الحكم ؟
إن المفروض أن تستجوب الحكومة القائمة في الحكم .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) – لقد كان معالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) عضوا في الحكومة في ذلك الوقت .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – يقول مصطفي مرعي ( بك ) إن رئيس الديوان السابق قد كتب إلى معالي وزير الحربية ينبهه إلى هذه المسائل , فمتى كان ذلك ؟
لقد حدث هذا في 8 مارس سنة 1950 , وكان هذا أول إخطار يصل إلى معالي وزير الحربية الحالي , ورئيس ديوان المحاسبة يستقيل بعد 30 يوما من هذا التاريخ , ويقال إن سبب استقالته هو أن وزير الحربية الحالي أخر الرد عليه مدة 30 يوما , وأنه عطل مهمته بينما يوجد هناك ستة آلاف مخالفة لم ترد عليها الوزارات منذ خمس سنوات , فهل يعقل أن يقال إن سبب استقالة رئيس الديوان هو تأخير رد الوزارة عليه مدة ثلاثين يوما ؟ هذا لا يمكن أن يقال . إن رئيس الديوان السابق برئ من كل كلمة قيلت بالأمس من فوق هذا المنبر , ولكن رغبة التشهير بأشخاص معينين هي التي أقحمت مسائل حملة فلسطين ومستشفي المواساة .
هل يعقل أن يستقيل الأستاذ محمود محمد محمود , المعروف بالعقل والاتزان لأن معالي وزير الحربية والبحرية آخر عنه الرد لمدة ثلاثين يوما , بينما الأمر الذي يطلب الرد عليه يتعلق بمسائل يقتضي بحثها زمنا طويلا للرجوع إلى مستنداتها وملفاتها كي يكون رد الوزارة عليها شاملا وافيا ؟
فهل أؤكد لحضراتكم أنه إن كان رئيس ديوان المحاسب السابق قد استقال لتأخير الرد عليه ثلاثين يوما , فإنه لا يمكن أن يمكث رئيس ديوان في منصبه شهرا واحدا ؟ فمن العجيب أن يضيع وقت المجلس سدى في مثل هذا الكلام , ومع ذلك فإن خطاب 8 مارس سنة 1950 لم يطلب فيه ديوان المحاسبة أى رد أو بيان عنه , بل وضع اقتراحات تحت نظر معالي وزير الحربية والبحرية ...
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا ) – نريد أن نسمع نص الخطاب حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إن نص الخطاب طويل ولا يتسع وقت المجلس لتلاوته , وعلى كل فأنا أؤكد لحضرة الشيخ المحترم زكي علي ( باشا ) أن هذا الخطاب لم يطلب فيه أى بيان أو رد بل تضمن عدة اقتراحات كما قلت .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – وماذا تضمن خطاب 8 مارس سنة 1950 ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني سأتكلم عنه , وما رأي حضرة الشيخ المحترم في الستة الآلاف مخالفة , هل أرد عليها ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – سأتكلم عن هذه المخالفات .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – على كل حال سأتلو على حضراتكم الجزء الأخير من هذا الخطاب , وهو خلاصة ما جاء في الكتاب كله :
" لهذا ومع التسليم بقصور وسائل الديوان عن القطع برأي في الناحية الفنية للمسألة, فإنه لا يسعه إلا أن يضع تحت نظر معاليكم ما تكشف عنه دراسة هذا الموضوع , فقد ترون معاليكم تكليف لجنة فنية يمكن الاطمئنان إلى حكمها لإعادة اختبار هذه الذخيرة والبت فيها "
هذا هو خلاصة ما جاء في كتاب 8 مارس سنة 1950 , وهو كما ترون حضراتكم لا يحتاج أى رد , بل يتضمن ملاحظات يبسطها رئيس الديوان أمام معالي وزير الحربية والبحرية , وقد قال فيه : لعله يكون من المفيد أن يقوم الوزير بعمل معين من الأعمال .
وهناك كتاب ثان خاص بصفقات أخرى لنفس هذا الشخص ,وقد أرسل إلى كتابا من حقي أن أتلوه على حضراتكم , كما أرسل صورة منه إلى سعادة رئيس مجلس الشيوخ أما كتاب 22 مارس فهو خاص بعمليات لصفقات لمثل هذا الرجل . وقد طلب ديوان المحاسبة في هذا الكتاب وقف صرف أى مبلغ إلى أبو رجيله .
وكان الغرض من هذا الطلب العاجل وقف الصرف في الحال ,ولو أنه قد تبين فيما بعد أنه لا ضرر من الصرف , وفعلا أمر الوزير بعدم الصرف , فلم يصرف مليم واحدا لهذا الرجل إلى اليوم , بعد طلب ديوان المحاسبة , بناء على ما ورد في هذا الكتاب , وقد تحققت من هذا شخصيا من رئيس ديوان المحاسبة .
ولقد أشيع في وقت من الأوقات أن مبالغ صرفت , فأرسل الديوان بعض مفتشين فتبين لهم أنه لم يصرف أى مبلغ بعد طلب الديوان وقد كانت باقي طلبات الديوان تحتاج إلى بحوث وبيانات ومعلومات .
أرسل كتاب ديوان المحاسبة إلى الوزارة فوصل إليها في يوم 24 مارس , وكانت استقالة رئيس الديوان بعد ذلك بعشرين يوما , فهل تعتبر هذه الفترة القصيرة التي تأخر فيها الرد سببا في استقالة رئيس ديوان المحاسبة .
وهل يقال إن الحكومة تسببت في استقالته في حين أن الوزير قد أوقف في الحال ما يخشي منه وهو الصرف ؟
ألا يكون ظلما – يا حضرات الشيوخ المحترمين – للحكومة بعد ذلك أن تستجوب , وأن تتهم بأنها وضعت العراقيل التي تحول دون قيام رئيس الديوان بواجبه ,وتسببت في استقالته , لأنها لم ترد على كتاب في هذه الفترة القصيرة التي سبقت الاستقالة ؟
هذا كلام لا يصح أن يقال من فوق هذا المنبر , وهذا كلام لا ينطلي على أحد وعيب – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن يلقي مثل هذا الكلام عليكم وأن يكون موضع استجواب خبروني لم أثيرت هذه الضجة حول التحقيق ؟
افرضوا أسوأ الفروض : أن أبا رجيله قد تعاقد مع الحكومة كأى متعهد يقوم بتوريد أسلحة وذخائر , وفي كل دفعة من دفعات التوريد تمتحن هذه الأسلحة والذخائر فتسقط ثم ترفض , كما جرى الأمر في مثل هذه العمليات , لكن سبب اللبس أن حضرة المستجوب عندما تعرض إلى هذا الموضوع, أسقط من كلامه أن الذخائر والأسلحة التي تبين من فحصها عدم صلاحيتها ترفض , أسقط هذا من كلامه ليدخل في روعكم أنه مع سقوطها لا ترفض .
أتحدث إليكم بعد هذا عن مسئولية الموظفين والضباط الذين يقومون باستلام هذه الأسلحة والذخائر , فأتساءل ما مسئوليتهم ؟ افرضوا أن متعهدا نصابا قام بتوريد أسلحة وذخائر ليست صالحة فلم يقبلها الموظفون أو الضباط, افرضوا هذا , فما ذنبهم حتى يحقق معهم ؟ إن الضجة التي أثيرت حول أبي رجيله ليست زوبعة في فنجان , إن شأن هذا المتعهد شأن أى متعد آخر لا يفي بالتزاماته .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – لقد فهمنا أنه بعد أن ثبت الغش في أكثر من رسالة وكلف هذا المتعهد بتوريد رسالات أخرى .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لقد سبقني حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) فيما كنت أريد أن أقوله بلحظة قصيرة , لقد كانت هناك خطورة وقت حرب فلسطين : كنا بالميدان , وكنا عرضة بعد ذلك للخطر في أية لحظة , وما يقصده حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) هو أنه كان من الواجب اتخاذ إجراء مع هذا المتعهد كفسخ العقد مثلا أو مصادرة التأمين أو طلب تعويض ,لست – يا حضرات الشيوخ المحترمين – في الموقف الذي يسمح لى بأن أقول إذا كانت مثل هذه الإجراءات قد اتخذت أو لم تتخذ , وهل استمر الرجل في توريد الأسلحة والذخائر أو لم يستمر, لأن مجال الكلام في هذا الموضوع يكون عند نظر تقرير ديوان المحاسبة ؟ إنما أنا بصدد الرد على استجواب عن مسئولية الحكومة الحاضرة .
ولا أعتقد أن حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) يطالبني بأن أذكر الأسباب التي دعت الوزارة السابقة التي كانت في الحكم سنة 1949 إلى عدم القيام بإلغاء مثل هذا التعهد وإلى عدم مصادرة التأمين , كل هذه إجراءات يقصد بها الوصول إلى تحديد المسئولية والأخطاء التي وقعت من المتعهد .
إن المهم في الموضوع, هو أنه عندما طلب ديوان المحاسبة إيقاف الصرف حتى يتم البحث , أوقف الصرف في الحال , والذي أمر بإيقاف الصرف هو معالي وزير الحربية الحالي .
أنتقل بعد ذلك إلى ما ذكره حضرة المستجوب عن موضوع حريق القلعة , لقد غالي فيه , ولقد راجت إشاعات وقتئذ حول خذا الموضوع فقيل هل حدث الحريق بفعل فاعل أو وحدث قضاء وقدرا ؟
حدث الحريق , وبدأ بعد ذلك ديوان المحاسبة يكتب عنه إلى وزارة الحربية وطلب في شهر يناير ومارس سنة 1950 الاطلاع على أوراق التحقيق , ولم يكن التحقيق إذ ذاك قد انتهى لأن هذا التحقيق كانت تقوم به هيئتان , هيئة عسكرية من ناحية , وهيئة من رجال النيابة من ناحية أخرى ,
كما كانت هناك معاينات فنية وعسكرية تحتاج إلى وقت فلم يكن من المستطاع إجابة الديوان إلى طلبه ما دام التحقيق لم ينته بعد , ولما انتهي التحقيق منذ أسبوع أو أكثر , أرسله معالي الوزير إلى النيابة العمومية , دون أن يأخذ بنتائجه أو يبت فيه لتتصرف فيه كما تشاء فماذا يؤخذ إذن على وزير الحربية ؟ ديوان المحاسبة يستعجل الرد , والتحقيق لم ينته , ولما انتهي التحقيق أرسل إلى النيابة العمومية , فأى محل للاستجواب في هذه النقطة ؟
إن التحقيق في النيابة يستغرق وقتا طويلا إذا كان الحادث جنحة أو مخالفة , فما بالكم بأمر حريق في مخازن ذخائر هائلة ؟ هذه هي الحقيقة , وليس فيها ما يؤخذ على الحكومة الحاضرة , أو يكون موضع استجواب للوزارة .
وأخيرا أنتقل إلى مسألة السلاح البحري .
لقد ارتفع الاعتماد من 20,000 جنيه إلى 140,000 جنيه , فمتى حدث هذا ؟
حدث هذا في 24 مايو سنة 1948 , وشكل مجلس للتحقيق في 4 أبريل سنة 1949 , وكان حضرة الشيخ المستجوب وزيرا في الوزارة التي تم في عهدها تشكيل هذا المجلس , قال حضرته إن قائد السلاح البحري يحاسب قائد السلاح البحري , هذا صحيح . ولكن حدث هذا في عهد الوزارة التي كان عضوا فيها , فكيف تستجوب الوزارة الحاضرة في أمر لم يحدث في عهدها ؟
لقد كتب ديوان المحاسبة للوزارة في 15 يناير سنة 1950 يطلب تقديم المسئولين للمحاكمة , ولم يكن بد قبل ذلك من اتخاذ إجراءات تستغرق وقتا كبيرا, إذ لابد للوزير من طلب الملفات وفحصها , وأخذ رأي المستشار القضائي في أمر إحالة أحد التجار إلى المحاكمة ؟ ألا يستغرق هذا وقتا من الوزير المختص الذي تسلم عمله في 13 يناير سنة 1950 وتسلم كتاب الديوان في 15 يناير ؟
هذا الكتاب الذي يطلب فيه الديوان محاكمة قائد السلاح البحري الملكي لمخالفات وقعت في سنة 1948 ؟ إذا استغرق التحقيق في هذا الموضوع وقتا , يقال إننا عطلنا ديوان المحاسبة حتى أصبح الأمر فوضى وإننا تأخرنا عن طلب رئيس الديوان ؟ وهل تلزم الوزارة بالرد على الديوان فورا قبل بحث الموضوع ؟ أليس من الجائز أن يخطئ الديوان مثلا ؟
ورئيس الديوان بشر يخطئ ويصيب فهو ليس معصوما , وليس من المحتم أن ينفذ كل رأي يشير به , وإنما على الوزير أن يبحث ويحقق كما بحث رئيس الديوان فقد, ظل يبحث من سنة 1948 حتى سنة 1950 أى سنة ونصف سنة , مكث طوالها يبحث هذه المسألة حتى انتهي لرأي .
أفليس من حق وزير الحربية أن يأخذ ثلاثة شهور لبحث هذه المسألة التي تتصل , لا بمأمور مركز ولا بضابط , بل تمس قائد السلاح الملكي البحري المصري كله – وطلب من أجلها تقديمه إلى المحاكمة؟
هذا كل ما جاء بشأن حملة فلسطين سردته على حضراتكم على سبيل الحصر , فخبروني بربكم , ماذا يمس الحكومة الحاضرة من تصرفات فيه حتى يكوم موضوع استجواب ؟
أريد أن تقروني على أن المستجوب – وهو رجل كما تعلمون له خبرة ودراية بالقانون وليس بالجاهل , وليس بالذي تفوته هذه الأوليات الدستورية – لم يكن في كل ما ذكره أمس في ثلاث ساعات حرف واحد أو واقعة واحدة تنهض سببا لاستجواب الحكومة , بل إن كل ما وقع – وكان صحيحا – لا يمسنا إطلاقا ولا يحسب علينا ولا يجب أن تؤاخذ به , بل يؤخذ بجريرته أولئك الذين وقع في عهدهم , ولقد كان حضرة المستجوب أحد الوزراء المشتركين في الحكم حينذاك , فليستجوب نفسه قبل أن يستجوبنا , لكنه أرادها زوبعة أن تسمع تقاليد المجلس بذكر مثلها .
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) _...
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية -..
حضرة الشيخ المحترم محمد عبد الجليل أبو سمره ( باشا ) هذه الاتهامات من حقه , لأنها لم تحقق بعد .. وكلنا نشعر أن في حملة فلسطين سرقات وفضائح كبرى لم تحقق فيجب تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في هذه الأمور .
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة – ليس هذا أوانها .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إنني لا أدعي مطلقا ولا يستطيع أحد أن يدعي أن حملة فلسطين قد خلت من عيوب وأخطاء , إذ لا توجد حملة ولا حركة حربية , بل ولا تجريدة عسكرية , تمول فيها جيوش يمكن أن تخلو من عيوب وسرقات واختلاسات , ولكن هذا شئ , وإن سلمنا به – وذكر عبارات لا يصح نشرها شئ آخر .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) كيف يسلم بمثل هذه المسائل ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أنا لا أقول إني مسلم بها , أى أقر صحتها ولكني أقصد أن هذه المخالفات قد تقع بحسن نية , وقد تقع بسوء نية , وقد ينتهي فيها البحث إلى أنها لم تكن موجودة أو إلى أنها قد وقعت فعلا , أو إلى وجود أضعافها – مما سيكشف عنه تقرير الديوان عند عرضه على المجلس .
ولكن الذي أقصده أن هذا لا يجوز أن يصحبه ذكر عبارات مثل بعض العبارات التي جاءت على لسان حضرة المستجوب .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) ...
الرئيس – أظن أن من الخير تأجيل مسألة حذف العبارات أو إبقائها حتى تنتهي من مناقشة الاستجواب
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية..
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية ..
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) ..
حضرة الشيخ المحترم محمد نجيب محمد جمعة ..
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا )
حضرة الوكيل البرلماني لوزارة الداخلية ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية ..
الرئيس – قد طلب الكلام حضرات الشيوخ المحترمين : ( إبراهيم ( بك) مدكور فريد ( بك ) أبو شادي , الأستاذ إبراهيم رشيد , أحمد عبد الغفار ( باشا ) ولذا يحسن تأجيل الكلام في الحذف والإبقاء إلى آخر الاستجواب .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور نجيب اسكندر ( باشا ) – وإني أطلب الكلمة كذلك حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) قبل أن تنتهي الحكومة من كلمتها , أريد أن أقول إن الاستجواب قائم على الأسباب التي حملت رئيس الديوان على تقديم الاستقالة , وحتى الآن لم نفهم من رد الحكومة ما هي الأسباب الحقيقية للاستقالة مع أن المفروض بطبيعة الحال أن الحكومة عندما قدمت الاستقالة إليها حاولت أن تثني الرئيس عن عزمه على تقديمها , وناقشته في أسبابها , ولابد أن الحكومة قد اطلعت على حقيقة هذه الأسباب وحتى الآن لم تذكر الحكومة لنا الأسباب الحقيقية التي أدت إلى استقالة رئيس الديوان .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – قبل أن أجيب حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) إلى طلبه , أعتبر أن طلبي الذي تقدمت به إلى هيئة المجلس لا يزال قائما لم يفصل فيه , وهو الخاص بعبارات وردت على لسان حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك )
وللمجلس الموقر أن يفصل في هذا الطلب في الوقت الذي يراه ..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل - ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية -...
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل -...
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية -..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل -...
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية-...
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل -..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية -....
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل-..
الرئيس – مثل هذه العبارات سواء قرر المجلس بقاءها أو حذفها لا يصح أن تكون موضوع نقاش الآن , لأنه يصح حذفها أو بقاءها دون إثارة مناقشة حولها , ومن غير هذا الجدل .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – يستتبع هذا حذف كل كلام قيل حول هذا الموضوع .
الرئيس – المضبطة لما ينته الأمر فيا للآن , وإذا رؤى – بالاتفاق فيما بيننا – ألا نبقي بعض عبارات , فكل كلام يتعلق بها يكون بالطبع مصيره الحذف .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) – لم يكن في كلام المستجوب ما يستحق الحذف .
الرئيس – من أجل هذا طلبت منذ اللحظة الأولي , ومن فؤاد ( باشا ) بالذات , ألا تثار هذه المسألة إلى أن تنتهي من الاستجواب , ولدينا من الوقت ما يسمح لنا – في هدوء وسكينة بتقدير المسائل على وضعها الصحيح
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أنتقل الآن إلى النقطة التي أثارها حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا )
نص هذا الاستجواب هو أنه قد بدا من الحكومة تصرفات بشأن مراجعة حساب حملة فلسطين , وبشأن مستشفي المواساة , كان من شأنها أن تسببت في استقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق , وقد وضح لحضراتكم أنه لم يبد من الحكومة أى تصرف كان يمكن أن يتخيل منه إنسان بسيط الإدراك سببا أو شبه سبب لاستقالة الرئيس السابق , وليس أقطع في الدلالة على ذلك من نص كتاب استقالته الذي رفعه إلى الحكومة يوجه إليها الشكر فيه صراحة لما لقيه من صادق المعونة وحسن المجاملة .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) أرجو تلاوة هذا الكتاب .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا هو نص الكتاب :
" حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس ( باشا )
تحية واحتراما ,وبعد, فقد عرضت ظروف خاصة تجعل من العسير على الاستمرار في رياسة ديوان المحاسبة .
لذلك أتشرف بأن أرفع استقالتي من رياسة الديوان , وراجبا التفضل بقبولها , كما أرجو أن تتفضلوا بقبول شكرى لكم وإلى حضرات أصحاب المعالي الوزراء على ما لقيته منكم من صادق المعونة وحسن المجاملة .
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
محمود محمد محمود "
أظن , يا حضرات الشيوخ المحترمين أنه لا يمكن بعد هذا الاعتراف من رئيس الديوان بأنه لقي من الحكومة صادق المعونة أن يكون هناك مجال للتعقيب على موقف الحكومة منه
أما ما يسأل عنه حضرة الشيخ المحترم غالب ( باشا ) وما ذكره من أن رئيس الديوان قد اتصل برئيس الحكومة, ففعلا حصل هذا الاتصال من رفعة رئيس الحكومة , وألح عليه رفعته كثيرا – وقضي معه في ذلك أكثر من ساعة , في أن يبقي في مركزه , فرفض وأصر عليها .
هذا , وقد ألححت أنا بدورى عليه مرتين , إذ استعان بي رئيس الحكومة , لما يعلمه من زمالتي وصداقتي لمحمود محمد ( بك) كي أقنعه ,ولكنه أصر على الاستقالة . كما توسط كثير من أصدقائه فلم يثنه كل ذلك عن عزمه .
وإني أؤكد لحضرات الأعضاء أنه – في كل هذه الاتصالات – لم يذكر شيئا واحدا يتصل بعمله رئيسا للديوان , مما ورد في الاستجواب , لكنه ذكر سببا لست في حل من ذكره , وأنا أقول – وهو حي يرزق , يستطيع أن يقرر ما يريد – إنه لا حملة فلسطين ولا مستشفي المواساة , ولا عقبات من الحكومة كانت سببا لهذه الاستقالة , بل إن سببها خاص بحت , وشخصي صرف , لست في حل من ذكره – كما قلت – دون إذنه , ولا علاقة له مطلقا بعمله .
هذه هي الحقيقة الصريحة الصادقة .
ومن يستقيل بسبب إهمال الحكومة لا يمكن أن يحرر مثل هذا الخطاب .
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة – اضرب لهم مثلا , استقالة المستجوب نفسه من وزارة سري ( باشا )
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – وحضرة المستجوب عندما أراد أن يستقيل وكانت استقالته لأسباب تتعلق بعمله – ذكر ذلك في كتاب استقالته .
كلمة أخيرة
رئيس الديوان السابق رجل لا يمكن أن يقال عنه إلا كل خير , وقد استقال بهي الدين بركات ( باشا ) مرتين , عدل في إحداهما وصمم في الثانية , وقد يستقيل بعد ذلك الرئيس الحالي , كما أنه قد يستقيل في كل يوم رئيس وزارة أو وزير أو رئيس محكمة أو غيره , فلا أدرى معني لهذه الضجة التي تثار عمدا حول هذه الاستقالة فلمصلحة من تثار ؟
ألمصلحة المستقيل ؟ لا أري له مصلحة في هذا !
ألمصلحة البلد ؟ أركد أيضا أنها ليست كذلك .
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة – لمصلحة المستجوب ...
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) لا , لا إن المستجوب – وأى مستجوب – حينما يقدم استجوابه إنما يقدمه لمصلحة يراها للبلد في رأيه على الأقل .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لو كان الغرض كذلك , لما وقع حضرة المستجوب وهو الفقيه الكبير والدستوري الخطير في هذه الأخطاء الأولية , ولأنتظر حتى يقدم تقرير ديوان المحاسبة إلى البرلمان وهنا يكون مجال القول .
أما أن يختلق الاستجواب اختلاقا وينتحل انتحالا لأسباب لا تمت لصالح البلد , بل لمجرد الرغبة في التشهير والتجريح , فذلك ما لا يصح أن يكون . ( تصفيق من اليمن )
الرئيس – للترتيب بين حضرات طالبي الكلام , سيبدأ حضرة الزميل المحترم الدكتور مدكور, ثم تكون الكلمة لأحد مؤيدي الحكومة , تتلوها كلمة لأحد مؤيدي الاستجواب وهكذا.
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – حضرات الشيوخ المحترمين .
إن هناك مسائل يجب أن نسمو بها عن كل اعتبار حزبي , وأن نخرج بها عن الآفاق الضيقة التي يمكن أن تحدها , ذلك لأنها مسائل النظام العام , مسائل الدستور .
ولا شك في أن الموضوع الذي ناقشناه بالأمس وتناقشونه اليوم من بين هذه المسائل بل في مقدمتها .
من أجل ذلك أرجو وأرجو مخلصا , بعد كل ما قيل سواء من المستجوب أو رد الحكومة عليه , أن نخرج عن حد السجال الحزبي , الذي غالبا ما ينظر للأشياء من نواحيها الشكلية , ويدع صميم الموضوع جانبا .
مع أن هذا الصميم هو الذي يثور له رجل الشارع , وهو الذي يشغل الرأي العام , تتناوله الأحاديث في الأندية وفي كل مكان .
ولا أنكر أن ديوان المحاسبة قد صادف منذ نشأته حتى اليوم أزمات , ولا أود أن أعرض لها ,لا أحب أن أطيل في شرحها , أزمات لم يكن الأمر فيها مقصورا على عهد ولا على حكومة , فالأولي أن نخرج عن جو حكومة معينة إلى ذلك الجو الأعلى والاسمي .
ولعل من الطريف أن ديوان المحاسبة و الذي نتكلم بشأنه اليوم وتكلمنا عنه بالأمس تم قانون إنشائه على يد الحكومة التي تتولي الحكم اليوم , ولا شك في أن حكومة كانت عاملة على قيام مؤسسة ما ولا شك أنها تكون من أحرص الحكومات على أن يتحقق لهذه المؤسسة حياة كاملة في حدود النظام والقانون .
وهناك مصادفة أخرى لا يفوتني أن أشير إليها في بدء حديثي هنا , وهي أنني في عضويتي بلجنة المالية طوال سنوات عدة مضت كان لى شرف مزاملة حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية الذي تكلم باسم الحكومة , ويسعدني, بل من واجبي , أن أقرر أنه وهو عضو في هذه اللجنة كان أول الأعضاء دعوة إلى توطيد ديوان المحاسبة وإقامة أركانه .
وفي كل مناسبة عرض فيها تشريع يتصل بهذه الناحية , كان غالبا ما يذهب إلى حدود أبعد مما كان يتجه إليه سائر الأعضاء .
لهذا كله , أرجو ألا يكون الأمر مجرد أن رئيس الديوان استقال أو أنه باق , أو أن حكومة ما تم في عهدها تصرف ما أو أن هذا التصرف كان قد تم في عهد سابق – فإن هذه المسائل تخرج عن الصميم , ولا أحب أن أدخل في الأوضاع الإدارية أو الدستورية المعروفة من أن الحكومة مستمرة وأنها مسئولة عن أعمال اليوم وأعمال الأمس على السواء .
نحن نريد الإصلاح ونريد التقويم ولا نريد سجالا , ولا عتابا , ولا لوما , ولا نقدا, بل نريد الإصلاح الحقيقي للمسائل الإدارية في ذاتها .
لهذا المعنى أرجو أن تتفقوا معي جميعا , ومعنا معالي وزير الداخلية , على أن هذا الاستجواب سواء في إثارته أو عرضه – كما أعتقد جازما لا معبرا عن نفسي فقط بل معبرا في اعتقادي وبإخلاص عن المستجوب ,عن كل من يحاول الكلام في هذا الموضوع :
مؤيدين أو معارضين – ليس فيه محل لإيقاع أو تشهير . فبمن نشهر ؟ أنشهر بالحكومة ؟
أو بالنظم المصرية ؟ أو بعملياتنا المختلفة ؟ لا يمكن أن يخطر هذا ببال مصري فضلا عن عضو في هذا المجلس الموقر أرجو أن يكون هذا بعيدا , وبعيدا جدا عنا جميعا , إنما أعتقد أننا عندما نتكلم لا يدفعنا إلا الصالح العام , وقد نخطئ في التقدير فقط فحذار أن تدخل في النوايا لأن ذلك يوقعنا في عدم الثقة ببعضنا .
فلندع الأشخاص دانبا إذن ولنتكلم في صميم الموضوع الذي تقدم الاستجواب من أجله وهو أن هناك استقالة لرئيس ديوان المحاسبة , وأن هذه الاستقالة لابد أن تكون لها أسباب , وأن المستجوب على نحو ما بدا له تصور أن هذه الأسباب تتلخص في واقعتين رئيسيتين .
واقعة يري فيها أن هناك تصرفا في جزء من المال العام بغير حق , وبغير أن يأخذ الشكل والأوضاع والأنظمة المألوفة , وهو تصرف له ظروف وملابسات تدع مجالا للشك والريبة وكان طبيعيا أن يعرض هذا على الحكومة أو على البرلمان كي يستبين الموقف فيه .
وإنني وزملائي في لجنة المالية استنكرنا كل الاستنكار تلك المسائل التي أثارها ديوان المحاسبة من سنين مضت , والتي بلغت على ما يقول معالي وزير الداخلية نحو ستة آلاف مكاتبة حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هل لديك شك في هذا الرقم ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لا , أنا لا أشك مطلقا في ذلك. بل أنا معك فيما تقول, إذ كنا قد استنكرناه سويا , لأنه إن أبطأت الوزارات المختلفة في الرد على الديوان , فإن المصلحة العامة توجب علينا ذلك .
ولا يصح أن تنظر المسائل من هذه الناحية , ولكن يجب أن ننظر من ناحية أخرى فليست المسألة مجرد مخالفات فالمخالفات – يا حضرات الشيوخ المحرمين – ذات درجات وذات أقدار وهذا المعني لا أشك مطلقا في أن معالي وزير الداخلية يقدره كل التقدير , ما شأننا وما شأن الرأي العام في أن موظفا ما اختلس في عملية مناقصة بضعة قروش , أو متعهد عمال زور توقيع بعض عماله ليختلس أجرهم ؟
إن المخالفات التي من هذا النوع ما أظنها هي التي يقوم لها الرأي العام ويقعد , ومثلما يقوم عندما يري مخالفة في عمل خيرى يدعي للإكتتاب إليه , فيصرف في سبيل الدعاية له – على ما يقال – مبلغ على سبيل العمولة أو الأتعاب أو المكافأة – سموها ما شئتم .
هذه هي الناحية الجوهرية في الموضوع والتي كنت أتمنى مخلصا قبل أن يستقيل رئيس ديوان المحاسبة , وقبل أن يصل هذا الموضوع إلى هذا المجلس – كنت أتمنى كما تمنى معالي وزير الداخلية أن تعالج هذه الأمور في مناسباتها وجوها قبل أن تكون محل نقاش وأخذ ورد هنا , أو أن تكون محل استجواب .
يا حضرات الشيوخ المحترمين .
ديوان المحاسبة أنشئ على أساس أن المصريين أمام القانون سواء , فإذا أريد أن تنصب مراقبته على أفراد معينين , وعلى عدد معين , وأن ترسم لهذه الرقابة حدود . كيفما كان أمرها .
لم يبق معنى لهذه الرقابة , ولا للبرلمان , وبالتالي لا معني لهذا الديوان .
يا حضرات الشيوخ المحترمين .
يكفي أن يظن الناس أن الرقابة لا تمتد إلى كل الأشخاص – وأنا لست بصدد إثبات وقائع بالذات – يكفي أن يظن الناس هذا فيكون فيه القضاء على النظام والرقابة والمسئولية بل والدستور .
فهذا الذي يحدث هو الذي جعلنا نعيش في جو نسمع فيه عن فساد الأداة الحكومية وعن سمعة الحكم وعن استغلال النفوذ على صور شتى , إذا فالعلاج الأول هو تنفيذ الرقابة على وجهها الصحيح .
فهل ديوان المحاسبة سلطة تنفيذية ؟ وهل في يده المال اللازم ؟
كلا , فعمل الديوان كعمل جندي البوليس , يري المخالفات ويثبتها , سواء أكانت مخالفة أم جنحة أم جناية , والمحكمة هي التي تقضي بالعقوبة الرادعة , إذا في نظام – كنظامنا – أساسه الرقابة بعد الصرف العلاج الأول والرئيسي هو أنه وقت وقوع المخالفة لا تدع المخالف – مهما كان مركزه ومهما كانت شخصيته – بل بالعكس إن المخالفات ذات الشأن الخاص التي تسترعي نظر الجمهور , أظنها هي التي تتطلب اهتماما من كل حكومة حريصة على الرقابة الحسابية وحريصة على النظام في هذا البلد واجبها الأول أن تقول سأنظر أو أحقق, وسأبحث لأتبين مدى هذا الكلام هذا هو الوضع الصحيح .
فانظروا ماذا حدث اليوم ؟
الذي حدث أن معالي وزير الداخلية قال صحيح حصل صرف المبلغ , وأن مدير مستشفي المواساة يري أن الذي يعمل عملا يأخذ عنه أجرا , وليست المسألة مسألة نظام عام أو ذوق عام أو تقليد عام .
فهل يقول أحد إن جمع مبلغ 61,000 جنيه من بنك مصر وعبود وكوتسكا يستحق عليه أجر دعاية 5000 جنيه ؟
لا أريد أن أذيع أسرارا لا يريد معالي وزير الداخلية إجابة سعادة غالب ( باشا ) عنها , ولا أريد الدخول في التفاصيل , إنما الذي أستطيع أن أؤكده أن صديقي وزميلي معالي وزير الداخلية يعلم جيدا هذه التفاصيل لأن واقعة حدثت أمامه بالذات , وكانت في يده من بدايتها حتى نهايتها , وأعتقد أنه لا ينكر واقعة كانت بين يديه وموضوع هذه الخمسة آلاف جنيه مر بين يديه أثناء ملابسات هذه الاستقالة , وليس الأمر أمر مستندات أو خطاب شكر أو أن المسألة حصلت بعد التعيين أو قبله , إنما المهم أن الموضوع عرف , لأنه كتب في مشروع تقرير الديوان , والذي أثير في هذا الموضوع لا أعرض له بحال ,والذي لا نزاع فيه أن هذه النقطة وقعت تحت سمع الحكومة .
حضرة الشيخ المحترم عبد اللطيف إسماعيل زعزوع – هل هذا سبب الاستقالة ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – إنني أتكلم كلاما واضحا ولم أدخل في أسباب الاستقالة , وإن هذا الوضع بأى اسم يسمى لا يتمشى مع الذوق المصري .
فهل مما يتفق مع ذوقنا وتقاليدنا في القرى المصرية أن يجمع شخص ما مبلغا لإنشاء مسجد ثم يدفع قهوة الضيوف مما جمعه من تبرعات لإنشاء ذلك المسجد ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – وإذا كان الذي دفع هو أجر للنشر , فماذا يقال في ذلك ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد تحاشيت الدخول في التفاصيل ومعالي فؤاد ( باشا ) سراج الدين يعرف هذا الموضوع جيدا كما أعرف أنا تفاصيله .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لقد دخلت في التفاصيل ...
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – أريد أن أقول وأوضح أن مصاريف اليانصيب في هذه الحسابات لها بند خاص في حسابات الجمعية ولها مبلغ معتمد في الميزانية وإنني أعلم جيدا أن الجرائد والمجلات في مثل هذه المناسبات تقوم بالنشر مجانا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – مجانا ؟ كيف يكون ذلك ؟
حضرة الشيخ المحترم إبراهيم مدكور – نعم مجانا : إنني أعلم ذلك تماما , لم ينشر شئ مطلقا , ولم نر إعلانات , إذا لمن يكون النشر ؟ أيكون لعبود أو لبنك مصر أو لكوتسيكا ؟
حضرات الشيوخ المحترمين
واضح من رد الحكومة أن هناك مبلغا قد صرف وأن في ذلك الصرف مخالفة , وقد سلمت الحكومة بهذا سواء أكانت المخالفة بسيطة أم كبيرة وقد سلمت الحكومة بذلك في إجابتها على سؤال سعادة غالب ( باشا ) من أن الأمر يعرض على مجلس إدارة مستشفي المواساة وفي هذا الظرف أؤكد لكم أن رجل الشارع لا يجب أن يسمع شيئا مثل هذا .
أنتقل بعد هذا إلى الموضوع الثاني من أسباب الاستجواب , هناك ملاحظات على الجيش وعلى صفقاته وعلى بعض تصرفات في هذا الشأن ..
حضرة الشيخ المحترم عبد اللطيف إسماعيل زعزوع – ما الذي كان يريده رئيس الديوان من الحكومة إزاء مبلغ الخمسة الآلاف جنيه إن صح أنه صرف ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – أؤكد لك أن الحكومة بوسائلها التي أعرفها – ولها وسائل كثيرة – تستطيع أن تعالج هذا الموضوع .
حضرات الشيوخ المحترمين
لقد حاولت جاهدا أن أبعد نفسي عن موقف الهجوم والدفاع , وحاولت جاهدا أن أصور لحضراتكم أثر مثل هذه الأحداث في بلدكم وفي رأيكم العام , وفيما نشكو منه ويشكو منه معالي وزير الداخلية , والذي من أجله لا نعرف كيف نقاوم الدعايات الضارة ,
فهذه الأحداث غذاء لأفكار ضارة , فيجب أن نقطع دابرها على وجه فاصل , ولا نزاع أن هذا هو العلاج , أما أن يقال إن هناك كتابا أرسل أو إنه لم يرسل ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – ألم يقل هذا الكلام بالأمس ثلاث ساعات ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – هذا الذي قيل من المستجوب , وما قبل من الحكومة لا يرضي الرأي العام في شئ ....
أنتقل إلى النقطة الثانية , وهي أن المستجوب رأي أن هناك مخالفات تدور حول بعض التصرفات المتصلة بأعمال الجيش , وخاصة في حملة فلسطين .
ولا تظنوا أن هذا الذي عرض على حضراتكم بالأمس, والذي حصره معالي وزير الداخلية حصرا دقيقا هذه الليلة هو كل شئ في الموضوع , بل هناك أشياء أخرى , وتحت يدي بعض مواد لن أتكلم فيها , والذي أريد أن أقوله إن هذا هو الذي كشف عنه ديوان المحاسبة , مع أن الخزائن السرية لم تفتح إلا منذ أشهر , وأن تفتيشه على حملة فلسطين لم يتح له إلا منذ سنة 1949 .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي , - وهل الحكومة مسئولة عن هذا ؟ حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد أجبت عن هذا السؤال في أول كلامي .
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة – هذا استجواب عمومي
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – سيظهر في نهاية كلامي أنه استجواب خصوصي .
قالت الحكومة إن هناك مسائل محل تحقيق ومحل بحث دقيق , وإن هذه الملاحظات قد أخذ ببعضها معالي وزير الحربية ومعني ذلك أن هناك مخالفات ,وكل الذي يطلبه رئيس ديوان المحاسبة , وهذا المجلس أن يحقق في هذه المخالفات .
حضرات الشيوخ المحترمين .
نريد ويريد مجلسكم الموقر رقابة برلمانية حقة , وأن تضعوا هذه المسائل في وضح النهار لتبدوا جلية للناس , لا أن نقول ونتعجل كلمتنا فيها بل نبحثها ونحققها .
وأؤكد لحضراتكم ولا أحب أن أقول شيئا أكثر مما قاله حضرة المستجوب – من أن معالي وزير الحربية الرجل الطيب الفاضل , وهو في رأيي واعتقادي وفي رأينا جميعا زميل كريم نجله , ولست في حجة إلى أن أقول لحضراتكم إن معاليه عاون فيما أريده , هذا هو الذي يجعل الاستجواب خصوصيا .
وأقرر والخطابات أمامي وثابت منها أن موضوع أبر رجيلة وغيره عرض على معالي وزير الحربية الحالي , وكتب الديوان بشأنه مرة ومرة ولا أقول تلو المرة – وفوق هذا قد تمت زيارة شخصية من رئيس الديوان لمعالي وزير الحربية الحالي استعرضت فيها هذه المسائل وبينت فيها وجوه النقص بل وفي كتاب هنا بين يدي ومن غير أن أبين النصوص وأناقشها يبدو من كتاب متبادل بين الديوان وبين وزير الحربية إشارة إلى هذه المحادثة , وإشارة أخطر من هذا أنه يظهر أن الذين عهد إليهم إجراء التحقيقات ( لجنة التحقيقات ) لم يستطيعوا أن يقولوا الحقيقة فيها أو إنهم غير قادرية على تبيانها .
وقد كتب رئيس الديوان إلى وزير الحربية يقول له : إننا تحادثنا معا وتكلمنا في هذه الموضوعات إلا أن هناك بعض تناقض يحتاج إلى بعض بيانات من الفنيين بوزارة الحربية وقد يكون موضع هذا التناقض ما اكتنف تحرير بعض محاضر اللجان التي قامت بفحص هذه الذخيرة من ظروف وملابسات ألمعت لمعاليكم عن طرف منها في حديثنا الشفوي .
هذه الظروف والملابسات هي التي أضع تحتها خطا وأحب أن يوضحها معالي وزير الحربية وأكمل هذا الخط بتوجيه النظر إلى أن لجنة من اللجان التي طلب إليها بحث هذا الموضوع قالت إن هذه الذخيرة في الحقيقة لا تنفع للجيش , ولكنها تنفع للتدريب بشرط أن يوافق على استعمالها سلاح الفرسان الملكي .
تصوروا حضراتكم أن لجنة من اللجان الفنية يعرض عليها مثل هذا الموضوع فتقول إن هذه الذخيرة لا تنفع الجيش ولكنها تنفع للتدريب بشرط أن يسأل عنها سلاح الفرسان الملكي ما هذا ؟ أليس في استطاعة هؤلاء الفنيين أن يقولوا ما يريدون قوله أو أن التحقيق لم يمض في طريقه الطبيعي ؟
الأمر يحتاج إلى تحقيق وهذا التحقيق لابد منه للمستقبل أولا , ولابد منه للحاضر ثانيا , فهو ضروري للمستقبل لأننا نريد جيشا وجيشا قويا يستفيد من تجارب الماضي حتى لو كانت هذه التجارب مستندة إلى أية قوة أو أية جهة , كيفما كان الذي صدرت منه الأخطاء متعهدا أو فنيا , وإننا في حساباتنا لا نبحث عن الغلطة بقدر ما نبحث عن الإفادة منها فإذا كانت الأمور ستسير على هذا الوضع فلن نستفيد من تجاربنا الماضية , ولن نطمئن على شئ ونخرج من هذا كله بأن الملاحظات التي قالها الديوان كشفت عن أن عمليات الحسابات والمراجعة ناقصة والفنيين في قسم سلاح الفرسان الملكي ناقصون , وكل هذه المسائل وغيرها – ولا داعي لتفصيلها تتلخص في كلمة واحدة هي أن باب المرض قد فتح وأن هناك مريضا وفي ناحية من أخطر النواحي : ناحية يرقبنا فيها الخارج والداخل , فأما الخارج فيرقبنا لأننا أعلنا ونعلن في شمم , وإباء أننا نعد أنفسنا ونتسلح للمستقبل وجدير بنا أن يكون إعلاننا مدعما قائما على أساس متين
ونحن في حاجة أيضا إلى هذا في الداخل لأننا ونحن نجي هذه الأموال الطائلة التي تصعد سنويا إلى نحو الخمسين مليونا من الجنيهات مقصورة على شؤون الدفاع وحدها نعلم ما أمامنا من مستوى معيشة نشكو منه , وجهل نريد أن نقاومه , ومرض نريد معالجته – كل هذا يجعلنا أمام الداخل مطالبين بأن نطمئن كل هؤلاء الذين نجي منهم هذه الأموال أن كل مليم فضلا عن مئات وملايين الجنيهات يصرف في وجهه .نريد هذا أيضا في الداخل باسم الجيش , لأن هذا الجيش الذي يسمع أو يرى – وهو في ميدان القتال أو غيره – أن مئونته ليست على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه يتعرض لخطر لا أحب أن نسترسل إلى نتيجته ومع هذا فإن هذا الجيش عزيز علينا وحرام أن يقدم إليه مادة لا تلائمه
حضرات الشيوخ المحترمين
لقد سمعنا من معالي وزير الداخلية في نهاية حديثه : ما لنا ولأمثال هذه الاستجوابات ؟
ومالنا وإثارة هذه المسائل , وما كانا أغنانا عن أن نثيرها ؟
أؤكد لحضراتكم أن الأمر لو وجه بما ينبغي أن يواجه به حينما تقابل رئيس ديوان المحاسبة مع معالي وزير الحربية ,لكننا اليوم في غني عن كل هذا .
على أن هناك نواح أخرى أحب أن أقولها , ومن اللازم إثارتها من فوق هذا المنبر , فكل مسألة وكل معني له صدي في الرأي العام إن تلميحا وإن تصريحا , على أن أعتقد أن المسائل التي تثار تلميحا جديرة بالبحث والتوضيح أكثر مما يثار تصريحا لأن تلك التلميحات والإشارات هي التي تخلق في الأمة الغضب والاستياء وعدم الثقة .
وهذا ما نريد أن نحاربه في أمتنا العزيزة علينا .
والذي ثبت من الاستجواب والذي ثبت من رد الحكومة عليه أن هناك مخالفات لم يحقق فيها , ولا يجدي في شئ أن يقال مالنا ولهذه المسائل وموعدها يصدر ولجان تصدر .
قد يكون هذا الكلام جميلا لو لم تثر هذه المسائل , وأؤكد لكم أن الرأي العام كان ينتظر أن يسمع من الحكومة أن لخمسة آلاف من الجنيهات لم تدفع أو أن أحدا لم يأخذها حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – أو أنها ردت
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – وكنا نحب أن نسمع من الحكومة أنها قد شكلت لجنة لبحث المسائل التي أثيرت بالنسبة للجيش , وأنها أسندت أو شكلت من فلان وفلان وبذلك يطمئن الرأي العام ويشعر بأن هذه المسائل عولجت .
أما أن تسلم الحكومة بالمخالفات ويبقي الأمر معلقا , فهذا يدعوني أن أعرض علي حضراتكم – وقد بينت هذه المسائل – أن توافقوا على تشكيل لجنة لتحقيق هذه المسائل وإثبات المسئوليات إن كانت هناك مسئوليات .
( تصفيق من اليسار )
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ إبراهيم رشيد – حضرات الزملاء المحترمين ,
لم يعد هناك كثير يقال بعد ما سمعنا من المناقشات , ولكني أود أن أذكر لحضراتكم باختصار وفير وفي غير تطويل , بعض البيانات الجديدة , وأرسم لحضراتكم صورة لما رسخ في ذهني بعد هذه المناقشات وقد حضرتها وأنا موطد العزم أن أجرد نفسي من كل عاطفة حزبية أو شخصية .
وقد خلصت بالنتيجة الآتية :
الناحية الأولي هي مسئولية الحكومة عن استقالة رئيس الديوان وهل هناك علاقة سببية بين تصرف للحكومة وبين هذه الاستقالة ؟
والناحية الأخرى هي موضوع المخالفات نفسها التي أثير موضوعها هنا ومن المسئول عنها وكيف تحققها .
أما بخصوص مسئولية الحكومة , فلا يمكن أن تسأل إلا عن أحد تصرفات أربعة
فالأول أن تكون الحكومة لم نمكن رئيس ديوان المحاسبة من الاطلاع على بعض المستندات , وهذا ما لم يقل به أحد , بل إن الحكومة قد سلمت لرئيس الديوان مستندات حرب فلسطين التي امتنعت الحكومات السابقة عن تسليمها إليه بحجة أسرار الحرب , فقد اطلع رئيس الديوان على جميع المستندات ولم يمنعه أحد من الاطلاع على مستند منها ,
الثاني أن تكون الحكومة قد امتنعت عن طبع تقريره أو أوعزت برفع جزء منه .
وأود أن أذكر لحضراتكم أني سألت اليوم الأستاذ محمود محمد محمود عن هذه الواقعة , وهل امتنع أحد عن طبع تقريره أو رفع جزء منه ؟ وهل كان هذا سببا من أسباب استقالته فقال لى هذا غير صحيح إطلاقا فلم يمتنع أحد عن طبع تقريري , ولم يكن هذا سببا من أسباب استقالتي .
أما الأمر الثالث , فهو أن تكون الحكومة قد امتنعت عن تحقيق المخالفات التي أرسلها رئيس الديوان , وقد تبين لحضراتكم من رد وزير الداخلية أن الوزراء المختصين لم يقصروا مطلقا في طلب البيانات الخاصة لتحقيق هذه المخالفات .
أما الأمر الرابع والأخير الذي قد تؤاخذ فيه الحكومة فهو أنها تكون قد منعت تقرير رئيس الديوان بوسيلة من الوسائل من الوصول إلى البرلمان ولهذا سابقة استقال من أجلها رئيس ديوان المحاسبة الأسبق معالي بهي الدين بركات ( باشا ) في أوائل سنة 1949 لأن تقريرا خاصا من تقاريره لم يصل إلى المجلس , وقد منع من المجلس بواسطة رئيسه بواسطة الحكومة ولقد كانت هذه الاستقالة هي التي تستحق أن تكون موضع استجواب وتثار حولها الضجة , لأنها خطيرة وخطيرة جدا .
أما فيما يختص بموضوع المخالفات , فإنه بجانب ما تقوم الحكومة بتحقيقه فستعرض على لجنة المحاسبة , وهي التي طالما طالب بإنشائها رئيس الديوان , ولم تنشأ إلا في عهد هذه الحكومة وهذا البرلمان , لقد أنشئت هذه اللجنة خصيصا لبحث تقارير ديوان المحاسبة حتى لا تتعطل هذه التقارير وحتى تسير سيرها الطبيعي أما بخصوص المخالفات فإنها ستحقق ونحن نطلب اختصاص ديوان المحاسبة وقد لا تدخل .
وللحكومة الآن أن تحقق وأن تظهر الحقيقة خصوصا فيما سمعناه من فضائح ومخالفات ارتكبت ضد جيشنا الباسل حينما كان يقوم بدفاعه المجيد في أرض فلسطين , فهذه الفضائح والخيانة الكبرى إذا صحت لابد أن يحاسب مرتكبوها حسابا عسيرا لأن الأمة تريد أن تعرف الحقيقة , وأن يظهر للعالم من المذنب ومن المحق .
( تصفيق من اليمين )
ويؤسفني كل الأسف أن أقول إن مجلس النواب وافق على هذا الاعتماد في جلسة 12 يناير سنة 1948 قبل صرف الشيك بيومين .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذه مصادفة
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – فلتكن كذلك , وإنما موضع العجب يا حضرات الشيوخ المحترمين أن ميزانية المستشفي في سنة 1947 كما تبين لى – وفي هذا الملف صورة منها – ينقص إيرادها عن مصروفاتها , بمبلغ 43,600 جنيه , ثم يجد هذا المستشفي أو مدير المستشفي مشجعا له , مع وجود عجز في ميزانيته لغاية سنة 1947 , على أن يسخو بمبلغ خمسة آلاف جنيه في يناير سنة 1948 .
وأكثر من هذا استهتارا أن ديوان المحاسبة سنة 1947 كان قد لاحظ عليه أنه قد صرف بدل الانتقال والسفر المقرر له شهريا وقدره 25 جنيها عن مدة كان فيها مسافرا في الخارج فكتب ديوان المحاسبة وطالبه برد هذا المبلغ فرده .
وقد أعفي كذلك بعض المرضي من مصاريف العلاج , فلاحظ عليه الديوان هذا أيضا فكلفه بالكف عن ذلك ووجوب عرض أمر هذه الحالات على مجلس الإدارة قبل البت فيها , بعد هذا , وبعد أن تبينت رقابة ديوان المحاسبة ومداها , فأى استهتار أكثر من أن يسرف هذا المبلغ ؟
ولقد ذكر معالي فؤاد باشا المبالغ التي جمعت والتي لم تزد مليما واحدا إلى الآن منذ أن زرت المستشفي وقدرها 61 ألف جنيه , ولا أستطيع أن افهم مطلقا أن يترك هذا المسئول ويشاركه في هذا السفه مجلس الإدارة , فأين كان مجلس الإدارة ؟
وأين كان وكيل وزارة الصحة الذي رأس مجلس الإدارة ؟ وأين كان السكرتير العام لوزارة الصحة ؟ وأين كان مدير مستشفي الإسكندرية ؟ أقول أين كان هؤلاء الثلاثة , وهم ممثلو الحكومة في مجلس الإدارة , وأين كان مدير صحة البلدية , وهو أيضا من موظفي الحكومة ؟
إنني أعتقد أن هؤلاء جميعا يجب أن يلاموا على هذا التصرف , وكنت أحب أن يكون زميلنا الدكتور نجيب إسكندر باشا موجودا الآن لأسأله أين كان عندما عرضت عليه ميزانية وزارة الصحة سنة 1948 , ولماذا سكت عن هذه المخالفة ؟
والناحية التي تثير في هذا – وأعتقد أنها تثير الحكومة أيضا وتثير معالي فؤاد سراج الدين باشا بالذات – أن مؤسسات البر يجب أن يطمئن المتبرعون لها إلى أن المبالغ التي يتبرعون بها تذهب إلى وجود الخير , لأن هذا مما يشجعهم من غير شك على الاستمرار في عمل الخير . أما أن تعطي الحكومة إعانات , ورجال البر ينفقون .
ونحن لا نعرف أين تذهب هذه الأموال أو أن تصرف في طريق غير الطرق المقصودة , فأظن أن هذا لا يليق مطلقا .
هناك بعض مسائل لن أطيل الكلام فيها كثيرا , إنني أعرف تصحيحا للواقعة التي ذكرها زميلي الأستاذ إبراهيم رشد. فقد صرح أمامنا في لجنة المالية عالي وزير المالية السابق .
كما صرح أيضا في لجنة الشئون المالية بمجلس النواب بأنه سيضع مستندات مصاريف حملة فلسطين تحت تصرف ديوان المحاسبة , ولقد كان كريما جدا من معالية أن فتح خزائنه السرية وأعطي ملفات لموظفي الديوان لمراجعتها .
هذا جميل جدا , ولكن بعد أن تكشفت كل هذه الأشياء , فماذا أنتم فاعلون ؟
ألا يصح لى كرجل مسئول , أن أعتبرها على الأقل بلاغا مؤيدا بقرينة , ولا داعي أن أعتبرها دليلا , وأنا هنا أتكلم قانونا ؟
أقول ألا يستدعي هذا أن نتحفظ , وأن نقول لهؤلاء الذين تثار حولهم هذه الضجة هؤلاء الذين طعنوا الجيش من الخلف , وتسلموا ذخيرة , تنحوا عن أماكنكم ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لم يتسلموا .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – لقد تسلموا هذه الذخائر وقدرها 5,000 طلقة أبقوها , ثم قالوا بعد ذلك إنها لا تصلح للميدان , بل تصلح للتدريب فقط
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هل اطلع حضرة الشيخ المحترم على تصريح وزير الحربية في مجلس النواب ردا على سؤال وجه إليه في هذا الموضوع . فقد صرح أعلي صوته بأنه لن يتأخر عن تكليف النيابة بإجراء تحقيق مع أى موظف تثبت إدانته .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – إني لا أذيع سرا إذا قلت إنني قد تكلمت مع صديقي , وصديقي القديم . معالي مصطفي نصرت بك في هذا الشأن ووعد بما قاله معالي وزير الداخلية ..
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – إني لا أذيع سرا إذا قلت إنني قد تكلمت مع صديق , وصديق القديم , معالي مصطفي نصرت بك في هذا الشأن ووعد بما قاله معالي وزير الداخلية ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إذا انتهينا .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) إنني أقرر ذلك من فوق هذا المنبر .
ولكن متى سيتم ذلك ؟
أليس من الخير ومن الصالح العام – إلى أن يبدأ التحقيق , وإلى أن تحين الفرصة له – تنحية هؤلاء ولا أقول إيقافهم أو إبداعهم السجون , بل أقول تنحيتهم عن مركزاهم توطئة لإجراء التحقيق؟
ولكن نحن نتكلم هنا ورجال الشارع يتكلمون في الخارج , ويبقي اللصوص هم اللصوص , والسارقون هم السارقون والمهيمنون هم المهيمنون , إنما أقول يجب أن ينحي هؤلاء عن مراكزهم توطئة للتحقيق .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – سأنحي كل من يثبت عليه شئ .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – ومتي يثبت ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أبو الفتوح – أظن أن موضع هذا الكلام ليس الآن .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) هل أفهم من هذا أن أكف عن الكلام ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أبو الفتوح – بالعكس يسرنا جميعا أن نسمع هذا الكلام , ولكن في مجاله ومكانه , وليس موضعه هذا الاستجواب .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – هل معني هذا أن أقدم استجوابا جديدا ؟ إني لا أرغب في ذلك .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أبو الفتوح – إنما أقصد أن يكون مجال هذا الكلام عند نظر تقرير ديوان المحاسبة .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) وهل أنتظر حتى يرد التقرير إلى المجلس , ثم يبحث في اللجان وقد يستغرق ذلك مدة طويلة ؟
أعود فأقول إني لا أنتظر حتى تثبت الإدانة , بل أقول إن هناك بلاغا من رئيس ديوان المحاسبة عن وقائع تحت نظر الوزير , وأكثر من هذا فإنني أعلم أن هناك وقائع تحت نظر معالي الوزير ضد أكثر من موظف .
أفلا يكون من العدل أن هؤلاء الذين تحوم حولهم هذه الشبهات أن تنحيهم عن مراكزهم إلى جهات أخرى بالجيش لكي تتاح فرصة التحقيق معهم في جو هادئ ؟
ولكن إذا استمر هؤلاء الناس في مراكزهم , فكيف يمكننا أن نجرى هذا التحقيق , وهم المهيمنون والمتسلطون على أعمال الجيش ؟ ومن الذي يجرؤ أن يشهر عليهم وأن يوجه إليهم أى لوم .
إنني أعتقد أنه حتى يكون جو هادئا سليما يجب إبعاد هؤلاء عن مناصبهم وإني أؤكد لمعالي الوزير أنه من الخير لدافع الضرائب ولرجل الشارع الذي نمثله هنا أن يعلم – وليس للآن فقط ولكن للمستقبل أيضا كما قال حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – أن كل مليم يرصد في ميزانية الجيش إنما ينفق عليه .
لقد سمعنا الكثير وتألمنا ألما ممضا مما سمعناه من حضرتي الشيخين المحترمين الدكتور زكي ميخائيل بشارة وحسن عبد الوهاب ( باشا ) عن سمعة بعض رجال جيشنا , فمن الخير أن سمعة الجيش تكون حسنة ومن الخير أيضا أن الذين أساءوا لسمعة البلاد يجب أن نعاملهم معاملة فيها ردع لهم وعظة لغيرهم , ولكن التساؤل عن أى العهود حدث فيها هذا لا يجدي الآن ولا داعي لإثارته , لأننا نسلم بأن هذه الأعمال لم تحدث في عهد هذه الوزارة , ولكن من واجبنا أن نطالب الحكومة بإجراء تحقيق سريع في هذه المسائل .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار( باشا ) – حضرات الشيوخ المحترمين ,
أريد أن أبدأ كلمتي بإرسال تحية خالصة لحضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي (ب ك) عن الموقف الشريف الذي وقفه أمس , هذا الموقف الذي ولا شك أنه أنبل المواقف التي عرفت منذ بدء الحياة النيابية إلى الآن .
ولا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يقال إن حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) قدم هذا الاستجواب بدافع المصلحة العامة وبدافع حبه للبلاد وبدافع حب الإصلاح وأن هذا لأمر يجب علينا جميعا أن نشكره عليه .
ولا يمكن أن يفهم أن مثل هذا الاستجواب يقدم إلا لتلك الأغراض السامية , فكان من الواجب علينا أن نحل نية حضرة الشيخ المستجوب المحل الحسن , محل حب الإصلاح وحب الخير للبلد , وأنني أغبط حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي بك على الموقف النبيل الذي وقفه أمس وأظن أن حضراتكم جميعا تشاركونني في هذا الشعور .
ولقد كنت أود أن تقف الحكومة من هذا الاستجواب موقفا غير الموقف الذي وقفته وأن تبدي روحا غير تلك الروح التي بدت منها , كما كنت أود أن يقدر معالي وزير الداخلية في رده على هذا الاستجواب الروح التي أملت على حضرة الشيخ المستجوب تقديم استجوابه , كما كنت أود أن ينظر معاليه إلى هذا الموضوع من ناحية أوسع مدى من تلك الناحية التي نظر إليها , كما كنت أود أن تكون روح رد معالي وزير الداخلية على هذا الاستجواب غير تلك الروح التي بدت في رده .
لا شك – يا حضرات الشيوخ المحترمين – في أن معالي محمد فؤاد سراج الدين باشا كان محاميا ماهرا في الرد على هذا الاستجواب , لأنه أخذ الموضوع من ناحيته الشكلية وبين أن الحكومات السابقة هي المسئولة عن تلك الأعمال , لأنها حدثت في عهدها ولكن أحب أن أذكر معالي وزير الداخلية أنه كان وزيرا في إحدى هذه الوزارات السابقة التي كان لى شرف الاشتراك فيها .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لم تحدث هذه الأعمال في مدة حكم الوزارة التي يشير إليها حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) - إن معالي وزير الداخلية كان وزيرا في تلك الوزارة , فهل علم بتلك المخالفات ؟
إن المسئولية تبدأ من وقت العلم بالمخالفة , فقد كنت وزيرا للزراعة , وكان معالي محمد فؤاد سراج الدين ( باشا ) وزيرا للمواصلات في تلك الوزارة , فهل علمنا بتلك المخالفات ؟ وهل علمنا أن الحكومة قد تعاقدت مع رودى رجيله , الذي كان يورد للجيش المصري ذخيرة قال عنها حضرة الشيخ المستجوب إنها عندما تطلق فبدلا من أن تندفع إلى الأمام تخرج من الخلف ؟
( ضحك )
يقول معالي وزير الداخلية إن الحكومات السابقة هي المسئولة عن ذلك , ولكني أعود فأقول إن المسئولية تبدأ من يوم العلم بالمخالفة , وإنني أقول قولي هذا من كل قلبي وأنا مقتنع به ..
حضرة الشيخ المحترم أحمد أبو الفتوح ..
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) إنني أريد بهذا الاستجواب أن تبعد عن مصر مثل هذه الصغائر التي تلوكها الألسن , وهذه هي الروح التي دفعتني إلى الكلام , فليست قيمة الاستجواب في وقائعه المادية مثل الخمسة آلاف من الجنيهات أو المليون جنيه الذي دفع ثمنا للذخيرة التالفة , بل قيمة الاستجواب في ناحيته الأدبية , إذ انحطت الأخلاق في البلاد من هذه الناحية ..
لقد قرر الخبراء أن هذه الذخائر فاسدة , كما رأت لجنة أخرى أنها لا تساوى إلا نصف الثمن , فتأتي لجنة أخرى وتشير بقبول هذه الصفقة بنصف الثمن على أن تستعمل في التدريب أقوال متضاربة وأعذار غير مقبولة !
وهناك مسألة الخمسة آلاف من الجنيهات وليست قيمتها في ناحيتها المادية وإنما قيمتها في أنها تمس رجلا في مركز سام , فإذا ما ثبتت مثل هذه الواقعة , فإنها تؤثر على الجميع , إننا ننظر إلى هذا الاستجواب من ناحية أثره على الرأي العام فمثل هذه الأعمال لها خطرها ولها أسوأ الأثر في النفوس , لقد سمعنا أن معالي وزير الداخلية يعد مشروع قانون خاص بالمشبوهين السياسيين لمكافحة الشيوعية في البلد , لأنه وجد الشيوعية تتسرب في البلاد , وأحب أن أوجه نظر معاليه إلى أن مثل هذه الأعمال تساعد على نشر الشيوعية والمبادئ الهدامة بين طبقات الشعب المختلفة .
كنت أود من هذه الحكومة أنه بمجرد علمها بوقوع هذه المخالفات الخطيرة تتخذ الإجراءات الرسمية فورا بالتحقيق في تلك المخالفات ومعاقبة من يظهر التحقيق إدانتهم
لقد بين حضرة الشيخ المستجوب أن وزارة الحربية والبحرية علمت بوقوع مخالفات فيها من شهر يناير سنة 1950 , وأن الوزارة لم تتخذ أى إجراء بالنسبة لهذه المخالفات حتى الآن , وقيل إن هؤلاء المخالفين أحيلوا إلى النيابة فلننتظر طويلا حتى تنتهي النيابة من تحقيقها .
وقد يطول هذا التحقيق أمدا طويلا دون توقيع الجزاء الرادع السريع , إن مثل هذا الاستجواب – يا حضرات الشيوخ المحترمين يجب أن يقابل بصدر رحب , لأن الغرض منه غرض سام وهو الإصلاح , وما دفعني إلى الكلام إلا المصلحة العامة .
ولا أحب أن يقابل مثل هذا الاستجواب برد من الحكومة بأنها ليست مسئولة , بل المسئول عن ذلك الحكومات السابقة , لأن هذا ليس هو موضع البحث , وإنما هدفنا جميعا هو التعاون والتآزر على الضرب على أيدي هؤلاء المخالفين وإصلاح الأداة الحكومية مما يشوبها من فساد .
لقد بدأنا حياتنا النيابية بروح غير تلك الروح التي تسودنا اليوم , ولو كان هذا الاستجواب قدم في سنة 1924 , لما قوبل بمثل ما قوبل به الآن , ولو كان معالي وزير الحربية يوم أن سمع بهذه المخالفات أسرع بتأليف لجنة تحقيق أو اتخذ إجراء سريعا حازما مع المخالفين , لكنت أول الشاكرين له . وإنني – يا حضرات الشيوخ المحترمين – لا أتكلم بصفة كوني حزبيا , بل إنني أتكلم بصفة كوني مصريا يحرص على سمعة بلاده .
وإنني أناشدكم أن تنظروا إلى هذا الاستجواب نظرة قومية بعيدة عن الحزبية ولا سيما أنه أول استجواب يعرض للفساد الذي يدب في الأداة الحكومية.
أما القول إن هذه الحكومة غير مسئولة , وإن المسئولية تقع على عاتق الحكومات السابقة , فهذا قول لا يهمنا كثيرا وإنما المهم هو إنزال العقاب بهؤلاء المخالفين ولهذا كنت أود من معالي وزير الداخلية أن يقابل هذا الاستجواب بروح قومية وبروح خير من تلك التي قابل بها هذا الاستجواب .
نسمع – يا حضرات الشيوخ المحترمين – أن لكل مقاولة سماسرة ,نسمع هذا ونحن كمصريين وكمواطنين , وكرجال مدينين لهذا البلد بما وصلنا إليه من مراكز – يجب علينا أن نقوم الحكم , وخلق الحكم , وفإذا أديتم هذا الواجب , كان لكم الفضل , وإذا نحن قصرنا في هذا , فليس معني ذلك أن تطلبوا منا أن ننتظر حتى يقدم الديوان تقريره , وحتى تفصل النيابة في الموضوع في السنة القادمة .
وإني أصارحكم بأنه إذا لم يتخذ إجراء حازم سريع لقطع دابر مثل هذه الفضائح , فقولوا على الحياة النيابية العفاء , ويجب إذا أن نعتبر نحن الشيوخ أنفسنا وأن نعتبر رجال البرلمان أو الحكم جميعا أنفسهم .
وإني أناشدكم , كشيوخ , أن توافقوا الليلة على تشكيل لجنة تحقيق مكونة من جميع الأحزاب الممثلة في هذا المجلس لتحقق في هذه المخالفات , وتصل إلى المسئولين عنها قطعا لدابر مثال هذه الفضائح .
( تصفيق )
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – حضرات الشيوخ المحترمين ..
كنت على وشك التنازل عن كلمتي في هذه الليلة , ولكن موقف المعارضة في هذا المجلس دعاني للأسف إلى أن ألقي كلمة في سبيل المصلحة العامة .
وإني أتساءل هل من المصلحة العامة أن تقف هنا ونندد ونشهر برجل كبير لم تثبت عليه التهمة ؟
أسألكم : ألم يكن من اللائق يا شيوخ المعارضة , ومن بينكم القضاة والمحامون أن تحققوا هذه المسألة , مسألة " القومسيون " التي قيل إنها حدثت في 12 يناير سنة 1948 , التحقيق العادل , حتى إذا ثبتت, استجوبتم وطالبتم باتخاذ الإجراءات اللازمة ..؟
( ضجة)
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا )
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – إن المعارضة التي صفقت لمصطفي مرعي (بك ) هي المسئولة عن هذا الاستجواب , فقد وقف حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) منددا .
وأذكر أن أحد رجال السياسة طلب إلى فيما مضي أن أبحث المسائل التي نسبت إليه على صفحات الجرائد , فامتنعت عن إجابته إلى طلبه في سبيل مراعاة الزمالة فكيف يليق أن نتهم رجلا عظيما , وهو الرجل الذي اتهمه حضرة المستجوب ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ فريد أبو شادي – إن حضرة الشيخ المحترم لم يؤد واجبه .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا) الواجب فوق كل شئ , ولا يقف في سبيله أى اعتبار .
حضرة الشيخ المحترم حسين محمد الجندي – هناك ذوق يا حضرة المستشار السابق .
( ضجة)
عاد سعادة الرئيس إلى تولي الرياسة )
حضرة الشيخ المحترم عباس أبو حسين – لقد أفسد حضرة الشيخ المحترم القضية التي دافع عنها معالي فؤاد سراج الدين ( باشا )
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – إن المعارضة هي التي دفعت المستجوب إلى هذا الاستجواب .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أرجو أن يقف حضرة الشيخ المحترم عند هذا الحد , حضرة الشيخ المحترم الأستاذ راغب إسكندر ( بك ) – هل هذا كلام يصح أن يقال في المجلس ؟
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) إني أطلب حذف جميع كلام الأستاذ حسين الجندي من أوله إلى آخره , لأنه تعرض لشخصيات الأعضاء فإن لم يحذف انسحبنا .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) ..
حضرة الشيخ المحترم عباس أبو حسين ( باشا ) إذا كانت كل إشاعة تنشر في الجرائد يجب التعليق عليها فنحن على استعداد على كل ما ينشر , فإن الإشاعات تملأ الجو ,نحن على استعداد للإدلاء بآرائنا فيها .
الرئيس – إذا استمرت المناقشات على هذا النحو , فإني سأضطر إلى رفع الجلسة . حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أقترح أن يترك لسعادة الرئيس – وهو فوق كل شبهة من هذه الناحية – أن يحذف من المضبطة كل عبارة خارجة أو لفظ ناب , دار في هذه المناقشة
( أصوات : توافق على هذا )
الرئيس – الكلمة الآن لحضرة الشيخ المحترم محمد زكي على باشا )
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا ) حضرات الشيوخ المحترمين , كنا ننتظر أن يمر هذا الاستجواب بهدوء وسكون رعاية للمصلحة العامة , وكنا ننتظر أن يكون هذا الاستجواب في حدوده التي وضعت له والتي يجب أن تكون له , ولكني بكل آسف لاحظت أن المسألة يحاول نقلها من الوضع الطبيعي لها , وهو استجواب الحكومة الذي لا يقصد به أخذ قرار بلومها ولكن بقصد به مجرد الوصول إلى الدفاع عن مصلحة البلاد العامة عن طريق إجراء التحقيق في مسائل لا يمكن أن يختلف في خطورتها اثنان في المجلس , ولا يمكن أن تكون محل خلاف .
فمن المسلم به من جانب الحكومة ومن جانب المعارضة أيضا أن هذه المسألة خطيرة في ذاتها وكل ما في الأمر أن الحكومة تقول إنها لم تكن مقصرة تقصيرا يستدعي أن تستجوب عنه , ولكن يا حضرات الشيوخ المحترمين ليس هذا هو الوضع السليم فهذا الاستجواب لا يعدو أن يكون وسيلة لأن تطرح على هذا المجلس وقائع هي في الواقع وبنفس القدر مخاز لهذه الأمة .
حضرة الشيخ المحترم أحمد أبو الفتوح – إذا هي ثبتت .
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا ) أرجو أن يفسح لى حضرة الشيخ المحترم صدره , فهذه الوقائع بالصورة التي عرضت وبالوضع الذي تبينتموه إذا ثبتت لا يمكن مطلقا أن يسكت عليها ضمير حي لرجل يري أنه مصري يجب أن يدافع عن مصريته ووطنيته .
وكل ما نطلبه نحن للخروج من هذا الاستجواب , هو أن تحقق هذه المسائل التحقيق الذي يتضمن الوصول إلى معرفة الحقيقة , ولا أظن أن هناك خلافا في شأن إجراء هذا التحقيق , لأن الحكومة نفسها تقول إن من واجبي أن أجرى هذا التحقيق , ولكنها لم تعط الوقت الكافي لإجراء هذا التحقيق وسيجرى التحقيق كذلك وزير الحربية .
إذ قال إنه مستعد لأن يحيل إلى النيابة كل شخص تحوم حوله أية شبهة في هذه المسألة فأظن بعد ذلك أننا كلنا على اتفاق في وجوب إجراء تحقيق في هذا الأمر .
بقيت المسألة التي يقول عنها وزير الداخلية , من الذي يجرى هذا التحقيق ؟
إن اللائحة الداخلية والدستور نفسه في المادة 108 منه قد أعطي المجلس هذا الحق , فهل إذا طلب هذا المجلس تأليف لجنة للتحقيق يكون بذلك خارجا على أحكام الدستور ومتعديا على السلطة التنفيذية .
هذه هي المسائل التي يجب أن تكون محل بحث دستوري في هذا المجلس وأنا أجيب من فوق المنبر عن سؤالي هذا بكلمة : لا وذلك لأن تأليف اللجان المنصوص عليها في المادة 108 من الدستور والمنصوص عليها كذلك في المادة 224 من اللائحة الداخلية لم يربطا تأليف هذه اللجان لإجراء هذا التحقيق بأى تحقيق آخر تجريه النيابة أو أية هيئة إدارية آخري .
الرئيس – لاشك في أن من حق المجلس أن يعين لجنة للتحقيق , فهذا ليس محل نزاع , ولكن الذي ينازع فيه معالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) هو : هل هناك ما يقتضي هذا ؟
ثم إن حضرة الشيخ المحترم قد طلب الكلمة وقت إثارة موضوع الحذف والإبقاء والآن ستلقي الحكومة بيانها عن لجنة التحقيق , وكل بيان تدلي به الحكومة يعقب عليه المجلس بأحد الأعضاء , ولذلك يحسن أن تترك هذه المسألة إلى أن تدلي الحكومة ببيانها ثم يعقب عليه بعد ذلك .
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا ) –
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية ...
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا )
حضرة صاحب المعالي وزير التجارة والصناعة -..
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على ( باشا )
الرئيس
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي ..
الرئيس -..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي ..
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – حضرات الشيوخ المحترمين , تناول كلام بعض ..
حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي ( بك ) ما الذي تم في حذف كلام حسين الجندي بك ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – لقد ترك لسعادة الرئيس حذف مالا يجوز إثباته من كلام .
الرئيس – سأرفع من المضبطة كل لفظ ناب قيل في جلسة اليوم أو في جلسة الأمس ,
حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي (بك ) – وما الذي سيعطي الصحفيين لينقلوه إلى صحفهم ؟
الرئيس- كما أني سأرفع المسائل الشخصية التي قيلت وكانت موجهة من عضو إلى عضو – وأستأذنكم في هذا – وأطلب إلى الصحفيين أن يراعوا ذلك .
( أصوات : وهو كذلك )
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – تناول كلام حضرة الشيخ المحترم ما جاء في مناقضات ديوان المحاسبة الخاصة بتوريد ذخيرة غير صالحة وبمخالفات بحرية جلالة الملك الخاصة بإجراء إصلاحات في بعض القطع البحرية .
وقد وصلتني هذه المناقضات بعد مدة قصيرة من تولي وزارة الحربية والبحرية , فكان من الطبيعي أن أتقصي الحقائق المتعلقة بما اتبع بصفة عامة في أمر توريد احتياجات الجيش أثناء حرب فلسطين , وأتحرى عن الأشخاص الذين كانت لهم علاقة بتلك التوريدات حتى أكون ملما بجميع المعلومات التي تمكنني من تكوين رأي صحيح فيما يوجه من اتهامات وهذا هو السبب في تأخير ردي على ملاحظات ديوان المحاسبة .
وقد اتضح لى أن هناك أفرادا كثيرين كما أن هناك جهات متعددة أملت عليها مصالحها الخاصة إثارة الشكوك في كل أعمال التوريدات , كما أن قيام لجنة الاحتياجات بالأعمال الخاصة بالتوريدات من جهة , وقيام الجهات المختصة في القوات المسلحة باستلام وفحص ما يورد من جهة آخري , وكان ذلك سببا في حدوث بعض الاحتكاك وإثارة منافسات أدت إلى التقدم ببعض البيانات التي استند إليها ديوان المحاسبة في مناقضاته , على أنه بعد البحث والتدقيق , اتضح لى أن التوريدات التي أثارت مناقضات ديوان المحاسبة لا غبار عليها كما سأبين لحضراتكم
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك) – هل كل المسائل الثلاث لا غبار عليها ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – نعم وسأوضح كل شئ
حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة – هل هذا بناء على التقرير أم على شئ آخر ؟
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك) بذلك تغلقون الباب أمامنا .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – سأوضح كل الاستفسارات ولابد أن أدلي برأيي , لأن التحقيقات التي حصلت ...
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) – نريد أن نسمع بيانك .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – لشرح ذلك أقول إن ظروف الحظر الذي فرضته هيئة الأمم المتحدة وصعوبة فتح الاعتمادات في الخارج جعلت من المستحيل علينا التعامل مباشرة مع الحكومات أو المؤسسات الصناعية وكان لابد لنا من التعامل مع الموردين للحصول على ما يمكن الحصول عليه من احتياجات القوات المسلحة .
ومن بين الموردين الذي تعاملنا معهم عبد اللطيف أفندي أبو رجيله الذي كان مقيما بإيطاليا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لى كلمة وهي أني لا أحب لوزير الحربية أن يتعرض لمسائل تعرضت أنا لمثلها , مع أنها ليست من صميم المسائل المتعلقة بالاستجواب بل قد قلت عنها إنها خارجة عنه , وأنا أستميح زميلي في عدم الاستمرار فيما يريد إلقاءه لذلك .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) أنا متفق في ذلك مع فؤاد ( باشا ) لأنه لو استمر معالي الوزير في إلقاء بيانه فسوف نغلق على أنفسنا باب الكلام .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) معالي الوزير يقول إن هذه ليست مخالفات ولا غبار عليها .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – إنما أريد ببياني أن أوضح أنه لا لزوم للجنة برلمانية تتولي التحقيق فيما أثير من مسائل .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) أري أن يستمر معالي وزير الحربية في إلقاء بيانه .
الرئيس – الجلسة طالت , ويظهر أن الأعصاب قد أرهقت ونحن إزاء أحد أمرين :
إما أن نعتبر ما انتهي إليه الاستجواب الآن كافيا , ويؤخذ الرأي على الاقتراح الخاص بتأليف لجنة برلماني تتولي التحقيق , وإما أن نؤجل باقي الكلام في الاستجواب إلى جلسة مقبلة حسبما ترون تحديد ميعادها سواء كان غدا أو في الأسبوع المقبل .
حضرة الشيخ المحترم المعالي وزير الداخلية – أعتقد أن الموضوع في ذاته قد استوفي , وقد استعرضت جميع وجهات النظر من حيث الناحية الشكلية والناحية الموضوعية , وبقي الاقتراح المقدم الخاص بتأليف لجنة تحقيق برلمانية لتحقيق هذه الوقائع .
فإن لنا على هذا الاقتراح عدة ملاحظات بعضها دستوري وبعضها موضوعي ,
ونحن على استعداد لإبداء هذه الملاحظات ومناقشتها – ولكني ألاحظ أن العدد غير قانوني , ولا ينبغي أن ندلي بما نريد أن نقوله , وأكثرية المجلس غير موجودة .
لذلك أقترح اعتبار المناقشة في موضوع الاستجواب قد انتهت , ويؤجل الكلام في موضوع الاقتراح إلى الجلسة المقبلة .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) المعارضة أو صاحب الاستجواب ذكر مسائل خاصة بوزارة الحربية , ووزير الحربية يقول إنها لا غبار عليها.
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – نعم وسأوضح كل شئ .
حضرة الشيخ المحترم السيد أحمد أباظة – بذلك تغلقون الباب أمامنا .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية ,سأوضح كل الاستفسارات ولابد أن أدلي برأيي لأن التحقيقات التي حصلت ..
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك ) – نريد أن نسمع بيانك .
حضرة صاحب المعالي وزير الحربية والبحرية – لشرح ذلك أقول إن ظروف الحظر الذي فرضته هيئة الأمم المتحدة وصعوبة فتح الاعتمادات وكان لابد لنا من التعامل مع الموردين للحصول على ما يمكن الحصول عليه من احتياجات القوات المسلحة .
ومن بين الموردين الذين تعاملنا معهم عبد اللطيف أفندي أبو رجيله الذي كان مقيما بإيطاليا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لى كلمة , وهي أني لا أحب لوزير الحربية أن يتعرض لمسائل تعرضت أنا لمثلها , مع أنها ليست من صميم المسائل المتعلقة بالاستجواب قد قلت عنها إنها خارجة عنه , وأنا أستميح زميلي في عدم الاستمرار فيما يريد إلقاءه لذلك.
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك) أنا متفق في ذلك مع فؤاد ( باشا ) لأنه لو استمر معالي الوزير في إلقاء بيانه فسوف نغلق على أنفسنا باب الكلام .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك) – معالي الوزير أن أوضح أنه لا لزوم للجنة برلمانية تتولي التحقيق فيما أثير من مسائل .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود ( بك) – أري أن يستمر معالي وزير الحربية في إلقاء بيانه .
الرئيس - الجلسة طالت , ويظهر أن الأعصاب قد أرهقت ونحن إزاء أحد أمرين :
إما أن نعتبر ما انتهي إليه الاستجواب الآن كافيا , ويؤخذ الرأي على الاقتراح الخاص بتأليف لجنة برلمانية تتولي التحقيق , وإما أن تؤجل باقي الكلام في الاستجواب إلى جلسة مقبلة حسبما ترون تحديد ميعادها سواء كان غدا أو في الأسبوع المقبل .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – نعتبر ما قيل كافيا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أعتقد أن الموضوع في ذاته قد استوفي , وقد استعرضت جميع وجهات النظر من حيث الناحية الشكلية والناحية الموضوعية , وبقي الاقتراح المقدم الخاص بتأليف لجنة تحقيق برلمانية لتحقيق هذه الوقائع .
فإن لنا على هذا الاقتراح عدة ملاحظات بعضها دستوري وبعضها موضوعي . ونحن على استعداد لإبداء هذه الملاحظات ومناقشتها – ولكني ألاحظ أن العدد غير قانوني , ولا ينبغي أن ندلي بما نريد أن نقوله , وأكثرية المجلس غير موجودة .
لذلك أقترح اعتبار المناقشة في موضوع الاستجواب قد انتهت , ويؤجل الكلام في موضوع الاقتراح إلى الجلسة المقبلة .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلاح محمود ( بك ) - المعارضة أو صاحب الاستجواب ذكر مسائل خاصة بوزارة الحربية , ووزير الحربية يقول إنها لا غبار عليها .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – نحن لا نناقش تصرفات وزير الحربية والبحرية الرئيس – والآن هل توافقون حضراتكم على إقفال باب المناقشة في موضوع الاستجواب نظر الاقتراح في الجلسة القادمة ؟
( موافقة )
الرئيس – وهل توافقون حضراتكم على رفع الجلسة على أن تعود للانعقاد في يوم الاثنين المقبل 19 شعبان سنة 1369 , الموافق 5 يونية سنة 1950 الساعة الخامسة والنصف مساء ؟
( موافقة )
( رفعت الجلسة الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والأربعين مساء )
تأجل نظر الاستجواب بعد كلام ممثل الحكومة يوم الثلاثاء إلى جلسة الاثنين الذي يليه , وفي هذه الفترة حدثت أمور تتصل بالاستجواب كان لها أثرها حين نظره من بعد فقد قدم كريم ثابت ( باشا ) استقالته إلى جلالة الملم فرضها جلالته إيذانا منه بثقته بكريم ( باشا ) وبأن ما نسب إليه في هذا الاستجواب لم يزعزع هذه الثقة , وأذيع في أوساط مختلفة أن هذا الاستجواب لم يكن حسن الأثر في نفس جلالة الملك , وأن جلالته لم يكن راضيا عنه , حينذاك ذكرت الحديث الذي أدلي به إلى النحاس ( باشا )
في حفلة سفير الباكستان توديعا للسفير البريطاني , ولكنني لم أقدر أن سيكون لذلك من الأثر في حياة مصر ما ترتب عليه من بعد .
كان جلالة الملك مسافرا إلى الإسكندرية للمصيف بعد ذلك بأيام ,وفي صباح الأربعاء نشرت جريدة الأهرام أن جلالته دعا الوزراء لتناول طعام الغداء على المائدة الملكية . وأنه دعا كذلك رئيس مجلس النواب لهذه المأدبة , لم يكن رفض استقالة كريم ( باشا ) ثابت هو المظهر الوحيد إذن بأن جلالة الملك غير راض عن الاستجواب وما قيل فيه .
فدعوة رئيس النواب للمأدبة معناه عدم الرضا عن رئيس الشيوخ وعن مجلس الشيوخ , ولم يكن غير الاستجواب ما يدعو لعدم الرضا عني أو عن المجلس , ترى ماذا أصنع ؟
أأستقيل من رياسة المجلس ؟ أم أرسل إلى كبير الأمناء أستفسر عن السبب في عدم دعوتي ؟ أم أطلب مقابلة جلالة الملك أشرح له تصرفي وأضع استقالتي بين يديه ؟ أم ماذا ؟
... تولتني حيرة شغلت ذهني طيلة النهار ولم أصل معها إلى قرار .
وكنا مدعوين مساء ذلك اليوم بمنزل حافظ عفيفي ( باشا ) وكان بين المدعوين الأستاذ محمود أبو الفتح صاحب جريدة المصري , وكان أبو الفتح صديقا قديما ترجع صداقته إلى أيام كان يعمل معي رئيسا لقلم الأخبار بجريدة السياسة في سنة 1925 .
وق\ توطدت صداقتنا حين كنت بأمريكا في سنتي 1946, 1947 أرأس وفد مصر لدي الأمم المتحدة , وحين كان هو هناك لبعض أعماله المالية , ولمراسلة جريدة المصري بالهام من الأمور مما يزيد على مقدرة مراسله هناك , فلما التقينا بمنزل حافظ عفيفي ( باشا ) سألني عما نشرته الأهرام , وعما إذا لم أكن قد تلقيت , وأنا رئيس الشيوخ , دعوة للمائدة التي دعي إليها رئيس النواب ,
فلما أخبرته أنني لم أتلق هذه الدعوة وأنني في حيرة ما أصنع , وأى طريق أسلك , قال لى : إياك أن تفكر في الاستقالة إنك لم تصنع إلا أن قمت بواجبك في رياسة المجلس كما قمت به قبل وأنت إن استقلت كانت هذه سابقة خطيرة في حياتنا الدستورية لا أحب لك أن تتصل بتاريخك أنت , قلت : ولكن الأمر لا يتعلق بي وحدى , بل يتعلق بمجلس الشيوخ كله , وأنا لا أريد أن يساء إلي مجلس الشيوخ أكثر من أى شئ آخر .
قلت , فما رأيك في أن أطلب مقابلة جلالة الملك أشرح له الموقف قال : أغلب ظني أنك إن طلبت هذه المقابلة لن تجاب إليها فكانت هذه لطمة أخرى لك وللمجلس لا خير لأحد فيها , وإذا رفض الملك مقابلتك كان ذلك أدعي لاستقالتك ولقيام هذه السابقة الدستورية الخطيرة التي أعيذك من أن تتصل بتاريخك تكلمنا طويلا في الموضوع وأصر هو على رأيه فيه ,
ومع أنه وفدي لم أسئ الظن برأيه وإن لم يخرجني هذا الرأي من حيرتي , وعدت أفكر فيما حدث بالجلسة , لقد كان فؤاد ( باشا )سراج الدين عنيفا في رده على مصطفي مرعي ( بك ) حتى لقد خرج به العنف إلى حد مهاجمة رياسة المجلس بقوله إن كرسي الرياسة قد اهتز غير مرة لما يحدث من مخالفة اللائحة الداخلية , ولم تكن اللائحة قد خوفلت قط , ولكنني تركت هذه العبارة ولم أعترض عليها حتى يمر الاستجواب كله في سلام , فلما رأيت كريم ( باشا ) ثابت يستقيل فترفض استقالته , ثم رأيت رئيس مجلس النواب يدعي إلى المأدبة الملكية وتهمل دعوتي عمدا إعلانا لعدم الرضا عما حدث في الاستجواب وإحراجا لى , رأيت أن الأمر يجب أن يوضع له حد فكلفت الأستاذ حافظ محمود رئيس تحرير السياسة ووكيل نقابة الصحفيين أن يتصل بإدجار ( باشا ) جلاد صاحب جريدة الزمان والمتصل بالقصر , وأن يسأله إذا كان ما حدث من عدم دعوتي مقصودا ويراد أن يستمر , أو يراد أن تحل المسألة بالحسنى.
وعلمت منه بعد ثلاثة أيام أن إدجار ( باشا ) سافر إلى الإسكندرية وتكلم مع رجال القصر ثم عاد وأخبرني أنه لم يجد حلا سريعا للمسألة , وإن كان يأمل أن تحل من بعد عند ذلك رأيت أن أضع الأمور في نصابها وأن أصرح في جلسة الاثنين حين يبدأ نظر الاستجواب بأن اللائحة الداخلية احترمت , وبأن كرسي الرياسة لم يتأثر ولا يمكن أن يتأثر إلا بأحكام الدستور واللائحة على نحو ما حدث خلال رياستي التي استمرت إلى يومئذ خمس سنوات ونصف السنة , واتصل مقصدي هذا ببعض الوفديين فجاءوا إلى يحاولون أن تكون الصبغة مخففة حتى لا تثير ثائرة جديدة , ووضعت صيغة أبلغوها إلى الحكومة ثم عادوا يناقشونني في بعض ألفاظها , وإنني لفي مكتبي صباح الاثنين الذي ينظر الاستجواب في مسائه إذ جاءني عبد الجليل ( باشا ) أبو سمرة ومعه صيغة مكتوبة لست أعرف من كتبها, ولكني رضيت عنها , وفيما نحن كذلك جاء فؤاد ( باشا ) سراج الدين واطلع على هذه الصيغة وقال إنه يرى الخير في ألا يعترض عليها وهذه الصيغة هي :
" أرى بوصفي رئيسا لهذا المجلس الموقر – أكبر هيئة تشريعية في البلاد – أن أضع الأمور في نصابها , لمناسبة اللغط الذي أثير حول استجواب حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك )
" إنني لحفيظ على الدستور , واللائحة الداخلية , وحرية الرأي , في هذا المجلس الذي يضم نخبة رجال الأمة وصفة أبنائها , وهم يعرفون حقوقهم وواجباتهم الدستورية وما لهم من حق إبداء الرأي في حرية تامة .
ليس من شأن الجالس على هذا الكرسي أن يتولي الرد على ما ينشر في الصحف من مهاترات , وأؤكد لحضراتكم أن هذا الكرسي , الذي تشرفت بالجلوس لعيه للسنة السادسة , ثابت ثبوت الطود ,فالجالس عليه يؤدي واجبه في كل الظروف , في حدود الدستور واللائحة الداخلية والتقاليد الكريمة التي جري عليها مجلسكم الموقر "
وتلوت هذه الصيغة حين نودي الاستجواب لإتمام مناقشته , تكلم الدكتور إبراهيم بيومي مدكور وطلب في ختام كلامه تعيين لجنة تحقيق برلمانية تنظر مسألة مستشفي المواساة ومسألة مشتريات الجيش , ورد عليه فؤاد ( باشا )سراج الدين وقد ثبت في مضبطة المجلس من كلام المتكلمين في الاستجواب ما يلي :
الرئيس – قدم في هذا الاستجواب اقتراح من حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور , سيتلو نصه حضرة الزميل المحترم الأستاذ عبد الرحمن نور .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عبد الرحمن برهان نور – هذا هو نص الاقتراح :" بعد سماع المستجوب والبيانات التي أدلت بها الحكومة يري المجلس تشكيل لجنة من أعضاء مجلس الشيوخ لتحقيق ما تم في صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه من حساب مستشفي المواساة في سنة 1948 , وما حدث في مشتريات الذخيرة للجيش ومعداته المختلفة سنة 1949 "
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) اسمحوا لى بكلمة صغيرة ففي الجلسة الماضية , بعد أن انتهي معالي وزير الداخلية من رده على هذا الاستجواب , سألته سؤالا عن السبب الحقيقي في استقالة رئيس ديوان المحاسبة فكان جوابه أنه ليس في حل من ذكره , وهو يختلف عن الأسباب الظاهرة والمطروحة أمامنا , ثم قرأنا في الصحف خطابا من رئيس ديوان المحاسبة السابق يحل فيه معالي وزير الداخلية من ذكر السبب الحقيقي للاستقالة
لهذا نريد أن نعرف , بعد أن أصبح معالي وزير الداخلية في حل من ذكر السبب , هل يجب أن نسمعه ؟ هذا هو الوضع الصحيح .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا أري مما يتفق وتقاليد هذا المجلس أن يناقش بيانات تنشرها الصحف , وقد قلت إن ما ذكره حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) لا يصلح لأن يكون سببا معقولا لاستقالة الرئيس السابق للديوان , أو أى رئيس لديوان المحاسبة , فإذا كان رئيس الديوان السابق يؤكد أن ما ذكره مصطفي مرعي ( بك ) من أن الحكومة تأخرت في ردها على ملاحظات الديوان عشرين أ و ثلاثين يوما ,وأن هذا هو السبب لاستقالته فلا مانع عندي إطلاقا في أن أعتبر هذا هو السبب في الاستقالة وفي هذه الحالة يعتبر سببا غير مقبول للاستقالة .
الرئيس – لقد انتهت المناقشة في هذا الاستجواب ويجب ألا نتكلم فيه مرة ثانية , خصوصا إذا كان الكلام مبنيا على أقوال نشرت في الصحف ,لأن معني هذا أنه كلما انتهت المناقشة في استجواب ثم تعرضت له الصحف نعود إلى مناقشة مرة ثانية .
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) – لا يليق بمعالي وزير الداخلية أن ينعت سبب استقالة رئيس الديوان السابق ..
الرئيس – سيثبت في المضبطة أنه سبب ( غير معقول ) في نظر معالي وزير الداخلية ,
حضرة الشيخ المحترم أحمد عبد الغفار ( باشا ) ولكنه وصفه ..
الرئيس – أمامنا الآن اقتراحان : أحدهما مقدم في الجلسة الماضية من حضرة الشيخ المحترم إبراهيم مدكور , خاص بلجنة التحقيق , والثاني قدم في هذه الجلسة , وهو خاص بالانتقال إلى جدول الأعمال , وللاقتراح الثاني الأولوية على الاقتراح الأول لأنه أبعد مدي وهذا نصه :
" تقترح الانتقال إلى جدول الأعمال ,
الدكتور جاد قنديل , إسماعيل حمزة , السيد معوض الباز , محمد نجيب محمد جمعه حسين سالم الغراب , أحمد عطا الله , أحمد قرني , صلاح الدين الشواربي , جلال أباظة عبد المجيد الرمالي "
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – في الجلسة أعلن معالي فؤاد سراج الدين ( باشا ) أن الاستجواب نوقش شكلا وموضوعا , وأن المناقشة في الشكل والموضوع قد استوفيت , وأنه تقدم اقتراح , وله على هذا الاقتراح ملاحظات دستورية واحتفظ لنفسه بالحق في الكلام في هذا الاقتراح .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – إذا كان معالي فؤاد ( باشا ) لا يريد إبداء ملاحظاته فلا مانع .
حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي ( بك) هناك اقتراح ثالث لم يعرض على المجلس وهو الاقتراح الذي قدمه مصطفي ( بك ) مرعي في نهاية استجوابه , وهو ثابت في المضبطة في الصفحة السابعة والثلاثين , وهذا نصه :
" استعملوا حقكم المخول لكم بمقتضي اللائحة الداخلية , وانتخبوا لجنة تنتقل باسمكم إلى الرجل المستقيل لتسأله : لم استقال ؟"
حضرة الشيخ المحترم عبد القوى أحمد ( باشا ) – لقد تبني حضرة الشيخ المحترم إبراهيم مدكور الاستجواب , وقدم اقتراحا بهذا المعني .
الرئيس – لم يقدم حضرة الشيخ المحترم مصطفي مرعي ( بك ) اقتراحا مكتوبا , وما جاء في أقواله ينطوى في الاقتراح الثاني المقدم من حضرة الشيخ المحترم الدكتور مدكور الذي حل محل المستجوب الأصلي , ولنبدأ في أخذ الرأي على الاقتراح الثاني الخاص بالانتقال إلى جدول الأعمال , وقدم اقتراح من أكثر من عشرة من حضرات الشيوخ المحترمين بأخذ الرأي على الاقتراحين نداء بالاسم .
(موافقة )
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت ( باشا ) يجب قبل أخذ الرأي أن نتكلم في دستورية الاقتراح الأول المقدم من حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور
( ضجة )
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) – حضرات الشيوخ المحترمين , إن أخذ الرأي الآن بهذا الشكل معناه الفصل في جواز تشكيل لجنة للتحقيق ..
( أصوات : لا , لا )
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) –انتظروا حتى انتهي من كلامي , يجب أن نبحث أولا في جواز تعيين لجنة تحقيق أم لا : قد ينتهي هذا الاستجواب بالموافقة على الاقتراح الخاص بالانتقال إلى جدول الأعمال , وفي هذه الحالة لا يكون هناك محل لتشكيل لجنة تحقيق , كما أنه قد يرفض هذا الاقتراح , ويفهم من هذا الموافقة على تشكيل لجنة تحقيق .
لذلك يجب قبل أخذ الرأي البحث فيما إذا كان يجوز تشكيل لجنة تحقيق أم لا , وبذلك يكون الموضوع قد استوفي بحثا .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – وهل هناك شك في جواز تشكيل لجنة تحقيق ؟ هذا مبدأ مسلم به
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ إسماعيل حمزة – الرأي الذي يقول به حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) منشأة الاستنتاج ولكنه قد فات سعادته أن كل اقتراح عند العرض يأخذ مركزه وأولويته طبقا للائحة . فالاقتراح المقدم بالانتقال إلى جدول الأعمال يجب أن يعرض أولا , لأنه أبعد مدي ويأخذ حقه في الرفض أو القبول , وهذا لا يمنع من عرض الاقتراح الثاني بتاتا .
الرئيس – سنأخذ الرأي بالنداء بالاسم على الاقتراح الخاص بالانتقال إلى جدول الأعمال فالموافق على هذا الاقتراح يقول " نعم " وغير الموافق يقول "لا" .
( أخذ الرأي بالنداء بالاسم على هذا الاقتراح , فوافق عليه 38 عضوا ورفضه 56 عضوا وامتنع عن إبداء الرأي حضرتا الشيخين المحترمين عبد الوهاب طلعت ( باشا ومحمد خطاب ( بك ) الرئيس – يقرر المجلس رفض الاقتراح بأغلبية 56 صوتا ضد 38 صوتا , وليتفضل حضرتا الشيخين المحترمين عبد الوهاب طلعت ( باشا ) ومحمد خطاب ( بك ) بإبداء أسباب امتناعهما . حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت ( باشا ) لقد امتنعت عن إبداء الرأي لأنه كان لى رأي أريد إبداءه إذا ما عرض اقتراح حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور معرض البحث من الوجهة الدستورية .
حضرة الشيخ المحترم محمد خطاب ( بك ) – سبب امتناعي أن الاقتراح الخاص بتشكيل لجنة تحقيق شمل مسألتين : هما مسألة مستشفي المواساة , ومسألة الجيش وشتان بين الأمرين فالأمة جميعها ترجو وتنتظر من هذا المجلس أن يدي رأيه في مسألة ذخائر الجيش التي كانت ترسل له . أما مسألة المواساة , فهي مسألة فردية لا يصح تأليف لجنة لتحقيقها .
( أصوات : لا, لا )
حضرة الشيخ المحترم محمد خطبا ( بك ) – هذا رأيي .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أرجو أن يسمح لى سعادة الرئيس بكلمة ,
الرئيس – قبل أن يتكلم معالي وزير الداخلية أري أن يتفضل الدكتور إبراهيم مدكور مقدم الاقتراح بتحديد مداه وبيان اختصاصات لجنة التحقيق المقترحة , وهل هي في موضوع الجيش فقط أم تتعداه إلى غيره ؟
فمسألة المواساة كل وقائعها متفق عليها ومسلم بها فهناك شيك دفع قبل استئذان مجلس الإدارة ومدير المستشفي يقول في إجابته الرسمية ولا شأن لنا بما يذكر في الصحف – إن الأمر قد عرض فيما بعد على مجلس الإدارة ووافق عليه وهو لم يعرض الأمر قبل ذلك لأن هذا هو العرف المتبع في مثل هذه المسائل , وبناء على هذا فكل العناصر والمسائل المطلوب التحقيق فيها متفق عليها .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) أريد أن أشرح مسألة المواساة , خصوصا أنها لم تبحث في المجلس أو بعبارة أخرى , فإن بحثها لم يؤد إلى معرفة الحقائق كلها فلا تزال نجهل المجهودات التي قام بها من استلم المبلغ في سبيل الدعاية , ولا نعرف كم من المبالغ حصلت بسبب هذه الدعاية ؟
وهل المجهود الذي قام به مناسب أو لا يناسب هذا المبلغ ؟ وهل هذا المبلغ صرف كله في سبيل الدعاية , أو كان جزء منه مكافأة أو أجرأ له على القيام بهذه الدعاية ؟
كل هذه الأمور لم تبين البيان الكافي الذي يحسن السكوت عنده وما زلت أقول وأكرر بأن الذي وصلنا إليه في موضوع المواساة أو الذخائر يحتاج إلى مزيد من التحقيق , وأريد أن أعرف على التحقيق ..
الرئيس – إن الاستجواب مقدم عن تصرف الحكومة الذي أدي استقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق , وقد أورد صاحبه هاتين المسألتين فهل التحقيق المطلوب يراد به :
كيف أدت هاتان المسألتان إلى تلك الاستقالة , أم يراد به شئ آخر ؟
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) ما دام أن رئيس الديوان السابق قد أبلغ الحكومة عن هذه الملاحظات, فكان واجبها أن تجرى تحقيقا وبحثا لمعرفة الحقائق كلها ووضع العلاج اللازم , وتحديد المسئوليات بعد ظهور نتيجة التحقيق , وفيما يتعلق بالمواساة فإن النتائج التي وصلنا إليها إلي الآن ليست مما يحسن السكوت عنده فيجب أن يستنير المجلس ويتحقق مما إذا كان المبلغ صرف في الدعاية حقا ولهذا أري أن ما وصلنا إليه غير كاف ..
الرئيس – لنترك الكلام في المسألة الأخرى لحضرة الزميل المحترم الدكتور إبراهيم مدكور .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – أري أن البحث في قبول هذا الاقتراح أو عدمه يتوقف أولا : على ما إذا كانت الحكومة قد قامت بالتحقيق اللازم , وهل تم هذا التحقيق , هل لها رأي فيه , أو أن التحقيق لا يزال جاريا ؟
نريد أن نتعرف الحقيقة فيما وصلت إليه حتى الآن فمعالي وزير الداخلية يقول لا محل لمسئولية الحكومة , لأن ملاحظات الديوان قدمت إليها في مارس والاستقالة حصلت في أبريل , فالوقت لم يكن كافيا لإجراء البحث اللازم , في حين أن معالي وزير الحربية والبحرية يقول إن البحث قد تم ولم نتبين أن هناك مسئوليات , فقبل أن تقرروا حضراتكم لزوم إجراء التحقيق أو عدم لزومه نريد أن نتعرف عما إذا كانت الحكومة قد قامت بهذا التحقيق أو لم تقم ؟ وهل هذا التحقيق لا يزال مستمرا , أو أن الحكومة قد فرغت منه , وإذا كان قد انتهي فما هي وجهة نظرها في هذا التحقيق ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – يبدو لي أننا سنعود إلى الموضوع من جديد , وإلى تكرار كل المسائل التي سبق ذكرها , بينما المسألة الدستورية يجب أن تكون مقدمة على كل ما عداها ؟
الرئيس – حتى على الاقتراح ؟
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – لا معني لتكرار كل هذه المسائل, وإن لسعادة الرئيس من السلطة ما يجعله يمنع تكرار المناقشة فيها , ولو أنه منع في الجلسة الماضية ما حصل كل ذلك .
( ضجة )
الرئيس – إني أعترض على هذا القول ولا أقبله بحال من الأحوال , وأنا مستعد أن أحتكم إلى المجلس , وإني وقد قلت كلمتي في هذا الموضوع كنت أرجو حضرة الزميل المحترم الأستاذ حسين الجندي ألا يعود الكلام في مسائل لا خير في الكلام فيها , وألا يثير أمورا لا خير في إثارتها .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ حسين محمد الجندي – إنني لم أقل شيئا .
الرئيس – لقد ذكر معالي وزير الداخلية أن للحكومة كلاما في دستورية هذا الاقتراح , وكلاما في موضوعه , وهذا ثابت في المضبطة السابقة .
وبعد أن نتبين حدود هذا الاقتراح , وبعد الكلام في دستوريته , فإننا جميعا متفقون على ضرورة شرح الاقتراح .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – لى كلمة , فإنه عندما تلي الاقتراح في الجلسة السابقة , لم يطلب معالي وزير الداخلية الكلمة في هذا الموضوع .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لقد طلبت الكلمة , وسعادة الرئيس قال ذلك.
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – لقد قيل لى إن معاليه لم يطلب الكلمة , ولقد وصلنا بعد هذا إلى عرض الاقتراحات , وتقديم الأولي , وانتهينا من الاقتراح الواجب عرضه أولا , والآن فإنه يتم عرض الاقتراح الثاني بلا كلام .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – كيف يكون ذلك ؟
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – يا حضرات الشيوخ المحترمين , لا أحاول أن أوضح أكثر مما رميت إليه في اقتراحي , وهذا الاقتراح يقضي بتشكيل بجنة من بين حضرات أعضاء هذا المجلس للتحقيق ويراد من هذه اللجنة أمران :
أولا : تحقيق ما تم صرفه من مبلغ الخمسة الآلاف من الجنيهات الخاص بمستشفي المواساة , والذي دفعني إلى طلب تحقيق هذه النقطة هو أنا وقد شاهدنا المناقشة , ورد الحكومة عليها , لاحظنا أن هناك أموالا عن أعمال للدعاية , وأخرى لليانصيب , وأن هناك مجهودا صحفيا معينا , كل ذلك لم يقدم عنه بيان للمجلس مطلقا , وهذا يحتاج إلى استكمال معينا , كل ذلك لم يقدم عنه بيان للمجلس مطلقا , وهذا يحتاج إلى استكمال في البحث كي تتضح المسائل , وهناك تسليم من جانب الحكومة نفسها , بأن هناك مخالفة للائحة المستشفي ملخصها أنه قد صرف أو أمر بصرف مبلغ بدون أن يستأذن مجلس إدارة المستشفي .
وفوق ذلك فإنه يقال إن هناك سوابق تقضي بصرف مثل هذه المبالغ , والأمر يقضي أن نعرف هذه السوابق ونتتبعها , وبهذا يستبين الأمر أمامنا , وإنا لا نود بحال أن نتهم من هم أبرياء , بل نتمنى أن تثبت براءتهم , لا بمجرد كلام عام يقال , بل بوضوح الأمر وجلائه تماما , وفوق ذلك نريد أن نعرف : هل هناك دعايات أخرى ؟ وهل هناك عمليات أخرى لنفس هذه المؤسسة قد صرفت عنها مبالغ من هذا النوع ؟
لا شك أن كل هذا الذي أطلبه لا يمكن أن يعالج إلا بإجراء تحقيق حتى توضع الأمور في نصابها , ومتى استكملت هذه العناصر , فقد ظهرت لنا بوضوح مدى مسئولية الحكومة ومحاسبة المقصرين والمهملين ليحاكموا على تقصيرهم وإهمالهم , وبذلك نكون قد وضعنا نظاما للمستقبل .
أنا أوضح لا أناقش , فلو وقفت المسألة عند هذا الحد لتقرر مبدأ من المبادئ وهو يقضي بدفع جزء مما جمع بطريق الاكتتاب وإن صرف في غير محله .
والمسألة هي أن هناك مبلغا من الأموال التي تشرف عليها الحكومة قد صرف , ونريد أن نعرف هل صرف هذا المبلغ بحق أو بغير حق ؟ فإن كان قد صرف بغير حق فالحكومة لا شك هي المسئولة .
ثانيا : أما الشق الثاني , فهو أنه قد أثيرت أمام هذا المجلس موضوعات معينة بالذات تتصل بمشتريات حملة فلسطين التي راجعها ديوان المحاسبة وقد أثيرت في هذه الجلسة , وقدم فيها دليل مؤيد من جانب , ودليل معارض من جانب آخر , وفيها تسليم بأن هناك تقارير متضاربة من أشخاص هم مسئولون عن هذه العمليات , فهذه الأوراق الرسمية منها ما يقول بصلاحية هذه المشتريات ,
وأخرى تقول بالعكس , فلكي نحكم حكما سليما فلابد من إجراء تحقيق , وتحقيق يظهر الحقيقة واضحة جلية , خصوصا أن القائلين بهذه العملية متعارضون , ويطلبون التحقيق , والمسألة فيها خلاف ووجهات نظر متعددة , وإني أسوق دليلا على ذلك أن معالي وزير الداخلية رأي , حين بدأ معالي وزير الحربية والبحرية يدلي ببيانه ألا يسبق الحوادث ورجاه أن يقف عند حد في الإدلاء بهذا البيان .
إذن تبقي هذه الوقائع التي حددتها بما دخل في حسابات السنة المالية 1948 -1949 , وهي السنة المالية التي أقفلت حساباتها , ويمكن أن تراجع بالتحقيق.
هذان هما الشقان اللذان قصدتهما بهذا التحقيق , وأنا لم أدافع عن وجهة نظر معينة ولم أناقش شيئا , وأترك الرأي للمجلس في موضوع الاقتراح مع الاحتفاظ بحق في الدفاع عن دستوريته , وضرورة الأخذ به .
حضرة الشيخ المحترم محمد بدير ( باشا ) – هل هناك استجواب للحكومة عن تصرفاتها فيما يتعلق بمستشفي المواساة ونفقات حملة فلسطين ؟ ليس هناك استجواب في هذا المعني , وإنما الاستجواب موضوع المناقشة هو خاص باستقالة رئيس ديوان المحاسبة السابق .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد شرحت اقتراحي وبينت الغرض منه حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – حضرات الشيوخ المحترمين .
كنت أعتقد وقد استغرقت مناقشة هذا الاستجواب جلستين طويليتين قال كل منا فيهما ما يريد أن يقوله , وعنف من عنف , لان من لان , كنت أعتقد وقد مضت هذه الأيام الستة أن جو مناقشة هذا الاستجواب سيتغير بعض الشئ , وسيسير في الطريق الذي أعتقد أنه طريق صحيح , ولكن يؤسفني أن أشعر أن جو الاستجواب لا يزال هو الجو الأول بالرغم من كل ما قيل , وبالرغم مما أتيح لكل منا من فرصة ليقول فيها ما يشاء , يؤسفني أن أقول وأنا عضو في هذا المجلس – قبل أن أكون وزيرا – أحرص على تقاليده وعلى احترام لائحته الداخلية كما أحرص على نصوص الدستور يؤسفني أن أقول – إنني أشعر – وأرجو أن أكون مخطئا – أنه لا يزال للعوامل الشخصية الأثر الأول في سير المناقشات .
حضرات الشيوخ المحترمين
لقد أسفرت هذه المناقشات الأخيرة عن الغرض من الاستجواب , وقد تبين أن الاستجواب لم يكن موجها إلى الحكومة , بل تبين من هذا الاقتراح ومن شرحه وتفسيره أنه موجه لمستشفي المواساة ونفقات حملة فلسطين ,ولم يكن كما قلت منذ البداية , وكما قلت في الجلسة التي عرض فيها هذا الاستجواب لتحديد موعد لمناقشته – أقول لم يكن هذا الاستجواب موجها للحكومة , ولم يطلب تأليف لجنة للتحقيق مع الحكومة ,
بل طلبت اللجنة للتحقيق مع موظفي مستشفي المواساة عن صرف مبلغ الخمسة الآلاف من الجنيهات وللتحقيق مع المختصين مع موظفي وزارة الحربية والبحرية المشرفين على حملة فلسطين , فأين مسئولية الحكومة الحاضرة في هذا الاستجواب الذي قدم إليها ؟
إذا هو استجواب فقد عنصره الأساسي , بل فقد الأساس في أن يكون اتهاما للحكومة الحاضرة , وأصبح الاستجواب اتهاما لمستشفي المواساة وللقائمين على حملة فلسطين .
لا يمكن للمجلس الموقر , يا حضرات الشيوخ المحترمين , الذي عرف عنه الاتزان في كل ما يصدره وأنه يزن قراراته بميزان الذهب – لا يمكن أن يصدر هذا القرار على الأساس الذي شرحه لحضراتكم حضرة الشيخ المحترم مقدمه , ولم أسمع من صديقي حضرة الشيخ الذي شرحه لحضراتكم حضرة الشيخ المحترم مقدمه ,
ولم أسمع من صديقي حضرة الشيخ المحترم الذي تبني هذا الاستجواب ولا من غالب ( باشا ) ولا من أى شخص تكلم عما المحترم الذي تبني هذا الاستجواب ولا من غالب ( باشا ) ولا من أى شخص تكلم عما يتعلق بلجنة التحقيق , أن مهمة هذه اللجنة هي التحقيق مع الحكومة إن كانت قد تأخرت أو لم تتمكن من الرد على الديوان, أو قد بدا منها ما حمل رئيس الديوان السابق على الاستقالة .
( تصفيق من اليمين )
وكل الذي سمعناه أن مهمة اللجنة هي التحقيق مع المستشفي عن صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه ,فأين الحكومة الحاضرة من هذا الاستجواب ؟ إذن فقد استبان لحضراتكم هدف الاستجواب وغايته , وإنني يا إخواني أرى في هذا الاقتراح اعتداء صارخا على الدستور من ناحية , وعلى مبدأ فصل السلطات من ناحية أخرى , وعلى الأوضاع الطبيعية والمنطق في أبسط مظاهره - ماذا يراد من هذه اللجنة ؟ أيراد منها كما قيل أن تحقق كيف صرف مستشفي المواساة هذا المبلغ ؟ وهل قدمت خدمات مقابل هذا المبلغ ؟ وهل هذه الخدمات تعادل هذا المبلغ أو تزيد عليه أو تقل عنه ؟
وكذلك للبحث في نفقات حملة فلسطين بصفة عامة لمعرفة مدى احترام القائمين عليها للوائح الحكومة وقوانينها وأصول الصرف .
تهمة عائمة , وليست محددة, ما الذي تحيلونه إلى لجنة التحقيق ؟ هل هناك مستندات فيها وقائع محددة وتهم معينة حتى تحال إلى التحقيق ؟! هل تحيلون مضبطة المجلس السابقة التي فيها أقوال المستجوب إلى هذه اللجنة ؟ أيليق بمجلسكم الموقر أن يحيل إلى لجنة برلمانية يؤلفها المجلس الأعلي في البلاد مضبطته وأقوالا منقولة من الصحف عن زيد أو عبيد ؟ أو أن الواجب هو أن يكون أمام اللجنة أساس رسمي وتهم ووقائع محددة لتتبين اللجنة مدى المخالفة فيها ؟
إن الحكومة الحاضرة لا تخشي التحقيق , ولو أن غيري في هذا المكان لرحب بهذا التحقيق , فكل ما سيظهره هو وصمة عار في العهد الذي جرت فيه هذه المخالفات ..
( تصفيق من اليمين )
هذا التحقيق يا حضرات الشيوخ المحترمين , لا يخيفنا ولا يضيرنا .
( تصفيق من اليمين )
أقول : هذا التحقيق لن يخيفنا , فهو عن أعمال ووقائع إن صحت فهي في غير عهدنا , ولو أن غيرنا في مكاننا لرحب بتأليف هذه اللجنة أو غيرها ولأوعز إلى المجلس الآخر بتأليف مثل هذه اللجنة لتحقيق هذه الوقائع , ولكننا نحرص على الدستور وعلى اللائحة الداخلية وعلى المنطق وعلى ما ينبغي أن يتوافر لقرارات هذا المجلس من تقدير ومطابقة للدستور وللائحة الداخلية .
أما من الناحية السياسية فليس أحب إلى السياسي من أن يسجل هذا المجلس على العهد الماضي كل هذا الذي وصفتموه – إن صح – بأنه مخاز ومساوئ ولكننا نضحي بالكسب السياسي في سبيل الدستور الذي ضحينا من أجله ما ضحينا .
حضرات الشيوخ المحترمين
إننا نري في تأليف هذه اللجنة من الناحية الموضوعية سبقا للحوادث واستعجالا للأمور في غير ما ضرورة, وأخشى أن يقال عنا إننا نسير في هذا الطريق – الذي يتبعه هذا المجلس لأول مرة في تاريخه – دون أن يكون لنا سند من الدستور أو اللائحة الداخلية , أو طبيعة العمل , ومنطق الحوادث يؤيد هذا السير , الاستجواب كما قلت لحضراتكم أساسه ونصه , تستجوب الحكومة عن تصرفات بدت منها , ولا عن تصرفات من مستشفي المواساة أو عن تصرفات من بعض الضباط , فيجب أن يكون الاستجواب عن تصرفات بدت من الحكومة أدت إلى استقالة رئيس الديوان السابق .
حضرة الشيخ المحترم محمد بدير باشا - هذا هو لب الكلام .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أفهم أن يقال إن المجلس يريد تأليف لجنة لتحقيق وقائع معينة , فيكون الطلب منصبا عليها , أما أن يترك هذا كله , ويعترف حضرة الشيخ المحترم , والرجل البرلماني الكبير محمد زكي على باشا , بأن الحقيقة كانت مناورة برلمانية للوصول إلى هذه المسألة بالذات ..
حضرة الشيخ المحترم محمد زكي على باشا – إنني لم أقل مناورة برلمانية في هذه النقطة بالذات , وإنما قلت إنها مناورة لنقل الاستجواب من المصلحة العامة إلى نقطة خاصة بينها في كلامي ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا ما قصدته تماما ولا أريد أكثر منه ولم تكن هذه المناورة خافية , بل كانت مكشوفة مفضوحة منذ طلبت الحكومة تحديد وقائع هذا الاستجواب فهل يريد حضرته أن يرتب المجلس الموقر هذه النتيجة على تلك المناورة ؟
لو أن لجنة التحقيق كانت مطلوبة لتحقق مع الحكومة فيما انصب عليه الاستجواب – وهو أن تصرفات الحكومة هي التي أدت إلى استقالة رئيس الديوان السابق – لما عارضنا في ذلك .
حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي بك – كنت أريد التحدث في هذه النقطة , ولكني منعت من الكلام والذي أطلبه هو التحقيق مع الحكومة لأنها حالت دون إتمامي لاقتراح مصطفي بك مرعي ..
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ أحمد أبو الفتوح – أرجو حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي بك عدم المقاطعة , لأن هذه المقاطعة ستعطل أعمال المجلس ..
حضرة الشيخ المحترم الدكتور جاد قنديل – إن حضرة الشيخ المحترم أحمد رمزي بك مارس الحياة النيابية منذ خمسة وعشرين عاما , وبالرغم من ذلك فإن حضرته يقاطع .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أقول لحضراتكم: هذه اللجنة المقترحة , كنت أود أن يحدد اختصاصها عندما طلب سعادة الرئيس من حضرة الشيخ المستجوب أن يبين مهمتها على سبيل التحديد , فلو أنه قال عندئذ : إن المجلس لم يقتنع بما قالته الحكومة عن أسباب استقالة رئيس الديوان , ولذلك أرجو تأليف لجنة تحقيق , لكان هذا الطلب معقولا بعض الشئ .
أما أن يقال بتأليف هذه اللجنة للتحقيق مع مدير مستشفي المواساة , عن صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه , ومع القائمين على حملة فلسطين- فهذا خروج باللجنة ومهمتها عن موضوع الاستجواب و هذا كان له موضع آخر , وهو مناقشته عند تقديم تقرير ديوان المحاسبة الذي سيحدد الوقائع الخاصة بحملة فلسطين , وكذلك الوقائع الخاصة بمستشفي المواساة – فعندئذ يحق لحضرة الشيخ المحترم مقدم الاستجواب أن يطلب ما يشاء فإنا أن يطلب إحالة هذا التقرير – وهذا لا يحتاج إلى طلب - إلى لجنة المحاسبة التي شكلها المجلس في هذه الدورة بالذات , وهي المختصة بنظر تقارير ديوان المحاسبة ,
وإما أن يطلب تأليف لجنة خاصة لبحث هذا الموضوع , وهنا يكون الطلب معقولا , لأنه يستند إلى تقارير رسمية من هيئة مختصة , بها وقائع معينة ومسائل محصورة , أما أن تحقق اللجنة المراد تشكيلها في أقوال مختصة , بها وقائع معينة ومسائل محصورة , أما أن تحقق اللجنة المراد تشكيلها في أقوال يقولها أحد حضرات الأعضاء قد تكون منقولة عن شخص , أو أقول منقولة عن صحف , أو في أقوال وردت في المضبطتين السابقتين للمجلس فهذا لم يسبق له مثيل في الحياة النيابية , لا في مصر وحدها , بل في العالم أجمع .
ما الذي يخشاه حضرة الشيخ المحترم ؟ إن تقرير ديوان المحاسبة سيقدم إلى حضراتكم في القريب العاجل , بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع , فما سر هذه العجلة ؟ وما الداعي إليها ؟ وما الداعي إلى هذه الإجراءات الاستثنائية التي لم يسبق أن لجأ إليها المجلس ؟ ماذا يقال عنا ؟ أيقال إننا شكلنا لجنة للتحقيق , لأن مدير مستشفي المواساة قد صرف 5000 جنيه في حملة صحفية ؟
أفهم أن يقال إن المجلس يريد تشكيل لجنة للتحقيق في تقرير ديوان المحاسبة المقدم إليه , لا للتحقيق في أقوال ذكرها أحد حضرات الأعضاء .
إن الفرصة آتية ومواتية لمن يريد التحقيق والبحث بالطريق الطبيعي , وفي حدود اللائحة الداخلية والدستور والتقاليد البرلمانية , وإني أرى أيضا أن في تشكيل هذه اللجنة اعتداء وخلطا بين السلطات , وإهدارا لمبدأ فصل السلطات , فالتحقيق في مثل هذه المسائل من اختصاص السلطة التنفيذية , وهي لم تستنفذ جهدها , ولم تنته من بحثها لهذه المسائل ولم تبت فيها بعد برأي , أما أن يقرر المجلس تشكيل لجنة من بين أعضائه يوكل إليها أمر هذا التحقيق , فإن في هذا انتزاعا لاختصاص السلطة التنفيذية .
ولا شك في أن المجلس يجب أن يكون حريصا على احترام أحكام الدستور ومبدأ فصل السلطات , وهذا التحقيق الإداري الذي يطلب , هو من صميم عمل السلطة التنفيذية .
أفهم أن يقال إن الحكومة قد قصرت أو تهاونت , أو خانت الأمانة التي في عنقها , فاستدعي الأمر طلب تشكيل هذه اللجنة , أما والحكومة تصرح أمام حضراتكم بأوضح بيان بأنها لا تقل عنكم رغبة في الوصول إلى الحقيقة في تحرى هذه الوقائع, وتحديد المسئولية فيها, فإني لا أفهم معني لطلب تشكيل هذه اللجنة .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام محمود بك – هل ستقوم الحكومة بالتحقيق في هذا الشأن ؟
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – لا شك في ذلك , إن مبدأ الفصل بين السلطات هو أسا الحياة الدستورية,وأساس الحياة النيابية , فإذ تداخلت هذه السلطات بعضها في بعض اختلط الأمر , وتحرجت الأمور إلى أقصي حد. وذلك لأن كل سلطة سوف تخص نفسها بكل سلطة ممكنة إلى أبعد حد , وإن هذا المجلس الموقر , وهو المجلس التشريعي الأعلى في البلاد, لأحرص الهيئات على احترام الدستور , ووضع الحدود الفاصلة بين السلطات .
لا يستطيع أحد من حضراتكم ولما تمض أشهر على تسلم الحكومة ملاحظات ديوان المحاسبة – وبعضها كما ذكر حضرة المستجوب أرسل من عشرين يوما , وبعضها الآخر منذ شهر أو شهرين – لا يستطيع أحد أن يتهم الحكومة بأنها قد تهاونت , أو قصرت وهي تصرح أمامكم بأن هذه الملاحظات موضع بحثها وتحقيقها .
فإذا ما انتهي الأمر , وقدم إلى حضراتكم تقرير ديوان المحاسبة , ورأيتم أن الحكومة قد تهاونت أو قصرت – فلكم أن تلوموها , أن تستجوبوها , وأن تطلبوا تشكيل ما شئتم من لجان التحقيق , أما اليوم ولما تمض أسابيع على تسلم الحكومة ملاحظات الديوان – فكيف يأتي المجلس ويريد أن ينتزع سلطة التحقيق والبحث من السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية ؟ إن في هذا إهدارا وخلطا في مبدأ فصل السلطات .
وعندما يقدم إلى حضراتكم تقرير ديوان المحاسبة سيكون الأمر واضحا , وستتبينون ما انتهي إليه الأمر في المكاتبات التي ستدور بين الحكومة والديوان , ولكم بعد ذلك أن تحكموا حكما عادلا مبنيا على أساس هذا التقرير , لا على مجرد أقوال تقال في المضبطة ويعلم الله مدي مطابقتها للحقيقة والصواب.
أقول على أساس هذا التقرير , وهذا المستند الرسمي يصح لحضراتكم التفكير في تشكيل لجنة للتحقيق , أو إحالة الأمر – إذا أردتم – إلى لجنة المحاسبة , أما الآن فإنكم تحكمون مقدما – وبلا دليل قاطع , وبغير مستند رسمي - على الحكومة بأنها غير أمينة علي التحقيق وحاشاكم أن تحكموا بغير دليل قاطع أو مستند رسمي , ولا يمكن بأية حال أن تقولوا إننا نعتقد أن الحكومة لن تبحث ولن تحقق , لأن هذا حكم على النيات , وحاشاكم أن تحكموا على الأمور بالنيات في مثل هذه المسائل الخطيرة .
ومن الناحية الدستورية كذلك , أذكر لحضراتكم أن هذا الحق – حق تشكيل لجان تحقيق برلمانية – منصوص عليه في المادة 108 من الدستور , فقد نصت على ما يأتي :
" لكل مجلس حق إجراء التحقيق ليستنير في مسائل معينة داخله في حدود اختصاصه ".
وحق إجراء التحقيق المخول للمجلس يقصد به الاستنارة , لا تحديد المسئولية , كما ذكر حضرة الشيخ المحترم محمود غالب باشا .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب باشا – لم أقل إن المجلس هو الذي يحدد المسئولية , وإنما ذكرت أن الحكومة عند إجرائها التحقيق هي التي تحدد المسئولية .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – نصت المادة108 من الدستور على أن لكل مجلس حق إجراء التحقيق ليستنير في مسائل معينة داخله في حدود اختصاصه. ولكي يكون الأمر واضحا أتلو على حضراتكم ما جاء في محاضر لجنة الدستور عن هذه المادة بالذات , حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة – هل هذا هو كل ما ورد في هذه المادة ...؟
( ضجة)
أرجو عدم المقاطعة , أكلما تلكم أحد منا قمتم في وجهه كالزمامير ؟ هذا لا يليق إن هذه مسألة قومية , ولم يسبق أن عرض على المجلس مثلها , وإني مع القائلين بألا تشكل اللجنة إلا لما يتعلق بموضع الاستجواب فقط , ولكن أردت أن أستفسر من حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية عن النص الكامل للمادة 108 وإني أعرف كيف أتفاهم مع الرجل الذي أوجه إليه الخطاب , ولكن لا تصح المقاطعة .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أرجو أن يدعني حضرات الشيوخ المحترمين أتفاهم مع حضرة الشيخ المحترم الأستاذ السيد أحمد أباظة وأرجو أن تكون أعصابنا أكثر هدوءا .
فالواقع – أنه كما قال حضرة الشيخ المحترم – أن هذه المسألة خطيرة وأن المجلس يواجهها لأول مرة , ولا شك في أننا في النهاية سنضع في اعتبارنا الصالح العام وأن هذا الصالح العام وحده هو الذي سيملي على كل من حضراتكم رأيه .إن ما تلوته على حضراتكم هو النص الكامل للمادة 108 , ولهذه المادة تاريخ قصير يبين لحضراتكم غرض الشارع منها , كانت هذه المادة في مشروع لجنة وضع الدستور خالية من عبارة " ليستنير في مسائل .... ...." فأضافتها اللجنة الاستشارية التشريعية التي راجعت مواد الدستور , وعلقت على هذه الإضافة بقولها حرفيا :" يظهر أن عبارة " لكل مجلس حق إجراء التحقيق " مبالغ في إيجازها , فيخشي أن تؤول تأويلا خاطئا فيما يختص بمدى حق التحقيق ,
والواقع أن لكل مجلس الحق في الاستنارة في أية مسألة معينة بتكليف لجنة بجمع بيانات وتقديم تقرير عنها , وإن أريد تخويل أحد من اللجان سلطة قضائية لإجراء تحقيق فإنه يجب أن يكون ذلك بقانون , فلهذا يقترح توضيح مرمي المادة بشكل أدق , بأن تضاف إليها هذه العبارة " ليستنير في مسألة معينة داخلة في حدود اختصاصه "
لقد وضحت بذلك تماما فكرة الشارع في هذا الحق الوارد في المادة 108 فاللجنة المشار إليها في هذه المادة ليست لها أية سلطة قضائية .
حضرة الشيخ المحترم عباس محمود العقاد – حدث بناء على هذه المادة أن سئل وزير من وزراء المعارف السابقين عن عمل انتهي وتغير ..
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – أذكر ذلك . وأذكر أنه لم يكن للجنة أية سلطة قضائية , وإنما كانت مهمتها لا تتجاوز حدود طلب البيانات للاستنارة , وكان موضوع التحقيق خاصا بنظر الميزانية وتعديل برامج التعليم لا موضوع اختلاس أموال .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي بك – أذكر أنه قد شكلت في سنة 1938 لجنة للتحقيق بمجلس النواب في موضوع سراي المحمودية بالإسكندرية .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – إن اللجنة التي شكلت في ذلك الوقت يحكمها نص هذه المادة , ويحكمها تفسير لجنة الدستور ..
الرئيس – الذي نريد التفاهم عليه هو : هل موضوع الاستجواب يحكمنا في تأليف لجنة التحقيق
( أصوات : نعم , هذا ما نريده )
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – قلت إن الاستجواب موجه إلى الحكومة , وليس خاصا بحملة فلسطين أو مستشفي المواساة , فلو أنه قيل إننا نريد أن نحقق مع الحكومة على تصرفاتها كان هذا معقولا , أما تشكيل لجنة للتحقيق مع مستشفي المواساة , أو موظفي وزارة الحربية , فلا يمكن أن يدخل هذا في موضوع الاستجواب , بل ينبغي أن يقدم عن هذه المسائل استجواب جديد , أما أن يقال إن هذا أمر شكلي ,
وهذه مسألة خطيرة فإن هذا يمكن أن يقال على صفحات الجرائد , ولا يصح أن يقال في مجلس تشريعي , للنص فيه حكمه , وللشكل فيه وزنه , وللدستور فيه تقديره وإلا لما كان ثمة داع للرجوع إلى أحكام الدستور وللسوابق والتقاليد البرلمانية , ولأخذنا المسائل حسب أهميتها وناقشناها في الحال وقررنا فيها ما يتراءى لنا , وينبغي على الهيئة التشريعية أن تصدر قراراتها طبقا لأحكام الدستور واللائحة الداخلية والسوابق البرلمانية .
أما هذه اللجنة المقترح تشكيلها فإنها لا تغني فتيلا , إذ ليست لها أية سلطة قضائية وهي لا تملك حتى التفتيش أو أن تأمر بضبط الأشخاص .
وبمقتضي هذا ستكون لجنة تشريعية استشارية مهمتها جمع بيانات فقط , وهذا عمل يقوم به الآن ديوان المحاسبة على أكمل وجه – كما قال حضرة المستجوب – وعلى أوضح ما يكون بل إنه يقوم بأكثر من ذلك , فهو يحقق ويتحرى ويسأل , فإن كان المقصود من تشكيل اللجنة هو إجراء هذه العملية فهي قائمة فعلا عن طريق ديوان المحاسبة واللجنة لن تصل إلى ما وصل إليه الديوان , إذ إنها لن تتعدي جمع البيانات طبقا لأحكام الدستور , قد يقال : كيف يتهم الوزراء وكيف يتهم رجال الحكم , وكيف يحقق معهم ؟
ولكن هذا أمر آخر يملكه مجلس النواب عن طريق اتهام الوزراء, فمجلس النواب وحده – بحكم الدستور – يملك أن يتهم الوزراء , ويحقق معهم , ثم لهذا المجلس – كما تعلمون – الرأي في النهاية عن طريق المحكمة العليا , فهذا المجلس إذا لا يملك حق الاتهام , واللجنة لا تملك سلطة قضائية , ولا تستطيع أن تعمل أكثر من طلب بيانات للاستنارة , وتقرير ديوان المحاسبة سيقدم إلى حضراتكم قريبا , وهو ملئ بالبيانات والمستندات والردود والمكاتبات فلا فائدة من تأليف اللجنة المقترحة إلا مجرد الرغبة في أن يقال إنه قد شكلت لجنة للتحقيق , ولا أعتقد أن هذا المجلس ينتهي إلى ذلك بحال من الأحوال .
لقد وصل الأمر في فرنسا – عند ما أثير حق تأليف لجنة برلمانية – إلى أكثر من هذا فقد أثيرت هذه المسألة في مجلس الشيوخ الفرنسي مرتين : مرة للتحقيق مع وزير الداخلية ومرة للتحقيق مع وزراء آخرين في سنين مختلفة – فرأي مجلس الشيوخ الفرنسي بإجماع الرأي : أن هذا الطلب مخالف للدستور , فلماذا ؟
لأن هذه اللجنة قد تنتهي إلى ما يحدد مسئولية الوزير , فاتهامه , مجلس الشيوخ لا يملك اتهام الوزراء , فهذا حق مقصور على مجلس النواب الفرنسي وحده , والمرجع في ذلك هو إيجين ييبر وهو تحت يدي ومسلم به طبعا فلا أدري على أى مستند من الدستور المصري أو الدستور المقارن أو اللائحة أو العقل أو المنطق أو الإنصاف يمكن لهذا المجلس أن يوافق على تشكيل لجنة ليس لها إلا أن تجمع بيانات , ويراد بها أن تنتزع هذا السلطان الذي سلم به الدستور للهيئة التنفيذية .
أقول إنه لا يراد بهذه اللجنة إلا انتزاع هذا الحق انتزاعا من السلطة التنفيذية التي تباشره لتكله إلى لجنة برلمانية ... إن اللجنة – إذا ما ألفت في حدود هذا النص, وطبقا لأحكام الدستور - لا فائدة منها ولا طائل تحتها , لأنها لن تستطيع أن تتعدي حدود طلب بيانات للاستنارة – وهذه البيانات كما قلت لحضراتكم سترد بالتفصيل في تقرير ديوان المحاسبة .
وأستطيع أن أقول لحضراتكم إن السلطة التنفيذية بمقتضي أحكام الدستور وبما لكم من رقابة عليها ليست مستعدة للتساهل في حقوقها الدستورية وإلا كانت معرضة لمؤاخذتكم ولمحاسبتكم ولاستجوابكم ,والدستور قد فصل الحدود بين كل سلطة وأخرى تفصيلا واضحا مرسوما وثابتا ولهذا – فالاقتراح المعروض هو من ناحية الشكل مخالف للدستور , ومن ناحية الموضوع غير مجد , هذا , وهناك كما قلت ناحية أخرى كانت أول ما نحرص عليها جميعا , وقد حرصنا عليها في الماضي , في ظروف شديدة وعصيبة دون أن تؤثر فينا وسيحرص كل عضو في هذا المجلس بإذن الله , على أن تكون قرارات هذا المجلس هي , هي تلك القرارات التي توزن دائما – كما سبق أن قلت – بميزان الذهب .
(تصفيق)
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – أريد أن أقول كلمة ..
حضرة الشيخ المحترم عبد الرحمن برهان نور – إن حضرات طالبي الكلام حسب ترتيب طلباتهم هم حضرات الشيوخ المحترمين :
توفيق دوس ( باشا ) الأستاذ عباس الجمل , فريد أبو شادي ( بك ) الدكتور إبراهيم مدكور, محمد خطاب ( بك ) .
الرئيس – إني أعتبر المسألة الدستورية في هذا الموضوع مقدمة على كل مسألة في الاستجواب , فيجب أن يفصل أولا في : هل من اختصاص هذا المجلس أن يحقق مع الموظفين عن طريق تحقيقه مع الوزراء ؟
وعندما تكون هناك مسئولية على الوزراء في مسألة بذاتها ,فهل نستطيع أن نحقق مع الموظفين ؟ ومن جهة أخرى , إذا حققنا مع الوزير عن طريق الاستجواب , فهل يمكن أن نحقق في حدود هذا الاستجواب أو فيما يتجاوز هذا الاستجواب ؟
هذه مسألة أريد أن نفهمها جيدا فقد تعرض لمثلها مجلس الفرنسي وكان اختصاصه مثل اختصاصنا , وتعرض لها البرلمان المصري, فهل يكون التحقيق بناء على اقتراح مباشر أو غير مباشر ؟ هذه مسائل نريد أن نستنير فيها.
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – لقد طلبنا الكلمة لبيان هذه المعاني فقط.
الرئيس – يجب أن نتفاهم على طريقة الكلام .
حضرة الشيخ المحترم محمد حسن العشماوى باشا – بدل أن نبحث هذا الأمر بحثا ارتجاليا هنا , أرى أن نحيله على لجنة الشئون الدستورية وهي اللجنة المختصة فنتعرف فيها ما نملكه وما لا نملكه , ونحدد معني الاستنارة وهذا هو الوضع الصحيح .
الرئيس – أوجه النظر إلى أن الكلام الآن يجب أن ينصب على الناحية الدستورية وحدها .
حضرة الشيخ المحترم عبد الوهاب طلعت ( باشا ) من الأوفق أن يحال هذا الموضوع على اللجنة المختصة وهي لجنة الشئون الدستورية .
وأعتقد أن هذا هو الوضع السليم والمعقول .
الرئيس – حضرات الزملاء المحترمين .
تقدم حضرنا الشيخين المحترمين عبد الوهاب طلعت ( باشا ) ومحمد العشماوي ( باشا ) باقتراح فيه معني تأجيل نظر المسألة أمام المجلس , فتطبيقا للائحة تقدم طلبات التأجيل على ما عداها .
وأعتقد أن إخواننا الذين يريدون الكلام سيتكلمون أولا في الإحالة أو عدمها , فقد يجوز أن يحال الموضوع على لجنة الشئون الدستورية .
والكلمة الآن لحضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا )
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) حضرات الشيوخ المحترمين .
إنني أؤيد طلب الإحالة على لجنة الشئون الدستورية , فالموضوع المعروض للبحث – وأرجو أن تكونوا هادئين – هام جدا , وخطير جدا من وجهتين : خطير جدا من وجهة علاقته بالدستور , وهل من اختصاص هذا المجلس أن يبحث ما هو معروض عليه الليلة في الاستجواب أم لا , وخطير جدا في الموضوع المتعلق بالأموال العامة في حالة ما إذا كان المجلس مختصا بنظره من الجهة الدستورية , فلا يصح مطلقا أن ترتجل الآراء في هذا المجلس فيما يتعلق بنقطة دستورية وخطيرة دون أن يعرض الأمر على لجنته الدستورية .
فليست المسألة من العجلة في شئ مطلقا حتى نعرض هذا المجلس الآن لإصدار قرار قد يكون مخالفا للدستور ومسائل الجيش إن كان فيها ما يخالف المصلحة العامة فالتحقيق فيها يتم غدا كما يتم اليوم .
حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور – لقد صدر أمر بإيقاف الصرف .
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) ولقد صدر الأمر بإيقاف الصرف . وفيما يتعلق بالموضوع فقد وصل إلى علمنا جميعا أن عبد اللطيف أبو رجيله يرحب بالتحقيق معه لأنه برئ والحكومة تقول إنها تحقق لمعرفة المسئولين .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) – إن هذا ما نريد أن نتبينه .
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) يجب أن نتبين هذا طبقا للدستور , ويجب أن يحترم الدستور , فهل من حق هذا المجلس أن يبحث هذا الموضوع طبقا للدستور أم لا ؟ ولا يجوز أن نصدر قرارا دون أن نتبين مغزي الدستور ومعناه.
وقد كنت أعددت بحثا طويلا في هذا , ولكنني لا أريد أن أضيع وقت المجلس فيه , لأسمع ردا على أو تأييدا لى , ارتجالا بل يجب أن يبحث الأمر في لجنة الشئون الدستورية
ولا خطر في التأجيل مطلقا على الصالح العام , ولا على أموال الدولة , إنما الخطر كل الخطر على كرامة هذا المجلس في أن يصدر قرارا قد يكون مخالفا للدستور .
لذلك أرجوكم ,وألح عليكم في الرجاء , أن تحيلوا هذه المسألة الدقيقة على لجنة الشئون الدستورية , لتسمع فيها الآراء من الوجهتين المختلفتين حتى تعرض عليكم رأيا بعد يتخذ وتدقيق , وحتى يمكنكم أن تستنيروا فيما إذا كان من اختصاص هذا المجلس أن يتخذ قرارا بتعيين لجنة تحقيق أم لا ؟ أرجوكم , وألح عليكم في هذا حفظا لكرامة قرارات هذا المجلس وصونا ها عن مزالق الارتجال .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – حضرات الشيوخ المحترمين , لو أن الاستجواب كان قد أنتهي عند الحد الذي رآه معالي وزير الداخلية لكان الأمر يسيرا ولما كان هناك محل لإثارة تشكيل لجنة تحقيق ولا لإثارة الإحالة على لجنة الشئون الدستورية ,
ولكن الأمر الخطير الذي حدث بعد ذلك , وهو أن معالي وزير الدفاع قال من فوق هذا المنبر أن ليست هناك مسئولية على الحكومة .
حضرة الأستاذ عبد الفتاح حسن ( وكيل وزارة الداخلية البرلماني ) لقد انتهينا من هذا الموضوع .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي (بك ) لما سئل معالي وزير الحربية قال:
" لا مسئولية ولا غبار على ما أثير من تصرفات ".
ومعني هذا أن الحكومة حققت كما قال , وانتهت إلى قرار
حضرة الشيخ المحترم محمد بدير ( باشا ) وهل هذه التصرفات محل الاستجواب ؟
الرئيس – المسألة التي نتكلم فيها هي : هل يحال الاقتراح إلى لجنة الشئون الدستورية أو لا يحال ؟ أما أن يتكلم حضرة الشيخ المحترم في أن معالي وزير الحربية قال أو لم يقل فهذا كلام في الموضوع .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – أنا أمهد لكلامي في , هل يحال الاقتراح إلى لجنة الشئون الدستورية أو لا ؟
حضرة الشيخ المحترم محمد حسن العشماوى ( باشا ) – النقطة الدستورية لا يمكن أن نتبينها هنا ارتجالا , وإنما مجال ذلك في اللجنة , حيث يمكننا أن نطلع على مختلف الآراء .
الرئيس – لقد تكلم سعادة توفيق دوس ( باشا ) كما تكلم سعادة العشماوى ( باشا ).
مؤيدين إحالة الاقتراح إلى لجنة الشئون الدستورية , فليرد حضرة الشيخ المحترم على ذلك إن كان غير موافق .
حضرة الشيخ المحترم فريد أبو شادي ( بك ) – لقد قال معالي وزير الحربية إنه بعد البحث والتدقيق ظهر أن الموضوع لا غبار عليه , فإذا كان معاليه يقول إن هناك تحقيقا يجرى – وسواء كانت المسألة تحتاج أو لا تحتاج إلى السرعة , فإننا حينئذ نذهب إلى لجنة الشؤون الدستورية .
حضرة الشيخ المحترم إبراهيم عبد الهادي ( باشا ) – حضرات الشيوخ المحترمين , احتدم الجدل طويلا في هذا المجلس الموقر حول حدود حق المجلس فيما ورد في اقتراح حضرة الشيخ المحترم الدكتور إبراهيم مدكور ومما لا شك فيه أن مجلسكم هذا كان – ولا يزال , وأعتقد أنه سيظل وسيكون – أحرص الهيئات على رسم الحدود الدستورية عملا , كما هي مقررة في الدستور . فلا ضير علينا ولا ضير على أحد , ولا ضير على وجهة نظر أبدا , من أن تحال المسألة على لجنة الشؤون الدستورية , ولكل من حضراتكم أن يدلي هناك برأيه فإذا ما جاء التقرير كان جديرا بالبحث , لأنها في مرتبة السابقة الأولي .
ومن أجل هذا , فأنا أؤيد وجهة النظر القائلة بإحالة المسألة إلى لجنة الشئون الدستورية , حضرة الشيخ المحترم محمد حسن العشماوى ( باشا ) – لماذا يحال بيننا وبين فهم الدستور وفهم المادة 10 وحدودها ؟
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) – يا إخواتي .
أنا أري أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى الإحالة إلى لجنة الشئون الدستورية فإذا كانت الحكومة قائم بالتحقيق في موضوع الاستجواب وجب أن ننتظر نتيجة التحقيق , ولا يمكن لهذا المجلس أن يقوم بتحقيق في الوقت الذي تقوم فيه الحكومة بالتحقيق فتحقيقان في وقت واحد أمر غير ممكن دستوريا ولا قانونيا .
حضرة صاحب المعالي وزير الداخلية – هذا كلام صحيح مائة في المائة
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب (باشا ) إذا كانت الحكومة , كما يقول معالي وزير الداخلية , قائمة بالتحقيق ولم تصل إلى نتيجة بعد وجب على المجلس أن ينتظر نتيجة التحقيق .
حضرة الشيخ المحترم عبد السلام الشاذلي ( باشا ) فلتصرح الحكومة بهذا .
حضرة الشيخ المحترم توفيق دوس ( باشا ) لقد تردد ذلك على لسان الحكومة أكثر من مرة .
حضرة الشيخ المحترم محمود غالب ( باشا ) والتحقيق في رأيي ما زال واجبا , لأننا لم نصل بعد إلى نتيجة في الموضوع يحسن السكوت عليها .
حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل – لقد قال معالي وزير الحربية إنه حقق وانتهي وقال لا غبار .
الفصل الرابع
قضية الوثائق السياسية المزورة
ذات يوم من أوائل فبراير سنة 1951 اتصل بي حسن باشا عبد الوهاب في غرفة المعارضة بمجلس الشيوخ وأخبرني أن ضابطا كبيرا بالمعاش زاره وأطلعه على صورة بالقلم الرصاص من خطاب أرسله النحاس باشا إلى المفوضية الروسية , وأن هذا الضابط يستطيع أن يحضر أصل هذه الرسالة ليأخذ صورتها الفوتوغرافية إذا قدرت أنا إن لذلك فائدة سياسية أوجبته أني لا أثق بهؤلاء الأشخاص ولا بما يجيئون به , وأن السيدة سنية قراعة مرت بي في منزلي غير مرة وأحضرت إلىّ ترجمة عربية على الآلة الكاتبة لما ذكرت أنه تقارير قدمت للمفوضيات الأجنبية أو أرسلت منها إلى وزارات خارجيتها , فلم أجد فيها أكثر من ملاحظات قد يستفيد منها الإنسان ,
ولكنها فائدة ضئيلة إلى حد لا يدعو إلى إتفاق أى مبلغ للحصول عليها , وأضفت أنه إذا كان للرسالة التي يتحدث عنها حسن باشا أية قيمة سياسية فصورتها لا شك عند الانجليز , فقلم استعلاماتهم لا تخفي عنه من هذه الأمور خافية .
وأعاد حسن باشا على الكرة بعد أيام وجاءني بصورة بالقلم الرصاص لهذه الرسالة التي بعث بها النحاس باشا إلى المفوضية الروسية يذكر فيها أنه قليل الرجاء في الاتفاق مع الانجليز , وأنه متى تحقق من إخفاق المحادثات معهم تعاون مع السوفييت , ويشكر فيه المفوضية على المعاونة المادية التي قدمتها للوفد , أقوى هيئة شعبية في البلاد ,
وأضاف حسن باشا وماذا علينا إذا اطلعنا على أصل هذه الوثيقة أو صورتها الفوتوغرافية إن المبلغ الذي يطلبه الضابط لقاء هذا العمل ليس جسيما , وقد تفيد هذه الوثيقة , وكررت ترددي : فقال : إن الضابط كان يشتغل قبلا في المخابرات السرية بالمخابرات الحربية , ويمكن بذلك الاطمئنان إليه والثقة به , ولا ضير على كل حال من الحصول على الصورة الفوتوغرافية للوثيقة المذكورة , فإذا كانت ذات فائدة كلفت هذا الضابط بالحصول على وثائق أخرى وإلا دفعنا له بضعة جنيهات وشكرناه وانتهينا عند هذا الحد .
وطلبت إلى ابن عم لي يتقن التصوير الفوتوغرافي أن ينقل صورة هذه الوثيقة فقالة لى حسن باشا إن الضابط الذي سيحضرها لن يستطيع إبقاءها عنده أكثر من ساعتين يردها بعدها إلى المفوضية الروسية , وأتم ابن عمي هذه المهمة وأحضر لى الصورة السلبية للوثيقة وأربع صور إيجابية منها وأخبرني في نفس الوقت أن الضابط الذي أحضر له الوثيقة لا يوحى إلى نفسه بالثقة التي تجعله يطمئن إليه ,
وعلى ذلك رأيت أن أهمل الموضوع برغم ما رأيت من مطابقة الإمضاء الذي عليه لإمضاء مصطفي النحاس باشا وبرغم وجود تأشيره عليه قيل إنها تأشيرة رئيس المحفوظات في المفوضية الروسية .
وأفضيت إلى صديقي الدستورى أحمد على علوبة باشا وزير العدل السابق بما حدث وأطلعته على الوثيقة وذكرت له ما بدا لى من مطابقة توقيع النحاس باشا عليها لإمضائه التي أعرفها .
واتصل علوبة باشا بحسن عبد الوهاب باشا فقدم إليه الضابط الذي جاء بالوثيقة فناقشته في أمرها مناقشة محقق دقيق اشتغل بالمحاماة وكان مستشارا بالاستئناف ثم مستشارا بالنقض وعاد بعد ذلك فأخبرني بما دار وبأن هذا الضابط يدعي هجرس وأنه أكد صحة الوثيقة وكتب ورقة بإمضائه كفل فيها هذه الصحة ,
وأنه أضاف إلى ذلك أن طلب إلى علوبة باشا أن يرسل هو أو من يثق به خطابا إلى المفوضية الروسية , وأنه كفيل بأن يحضر إليه أصل هذا الخطاب بعد ثلاثة أيام من إرساله , وأضاف علوبة باشا أن اقتناعه بصحة الوثيقة جعله لا يتردد في أن يدفع إلى هجرس خمسين جنيها تشجيعا له كي يحضر غيرها من الوثائق .
وبعد أيام ذكر حسن باشا عبد الوهاب أن هجرس لديه وثيقة أخرى تؤيد الوثيقة الأولي وأنه مستعد لتقديمها لنأخذ صورتها الفوتوغرافية , وأن هذه الوثيقة ليست على الآلة الكاتبة كالوثيقة الأولي , بل هي مكتوبة بخط محمود بك شوقي ابن شقيقة النحاس باشا وسكرتير عام مجلس الوزراء , وأن علوبة باشا طلب إلى حسن باشا عبد الوهاب فأخذت صورة هذه الوثيقة الفوتوغرافية كذلك ,
وقد كان عليها توقيع النحاس باشا كالوثيقة الأولي , وتجرى بمعني ما تجرى به تلك الوثيقة وتزيد عليه أن النحاس باشا يشعر بأن تعديلا هاما سيجرى في القيادة وأنه سيبذل جهده لمنع هذا التعديل قبل وقوعه .
تبادلت الرأي مع علوبة باشا في أمر هاتين الوثيقتين وكيفية الانتفاع بهما سياسيا , ورأيت أنا تقديمهما إلى البرلمان أو نشرهما في الصحف , فاعترض علوبة باشا على هذا الرأي بأن الحكومة ستبادر إلى تكذيب الوثيقتين في نسبتهما لرئيس الوزراء ,
ورأي أن يحمل هو الوثيقتين إلى حسن باشا يوسف رئيس الديوان الملكي بالنيابة للإستعانة به على مزيد من الثقة بصحتهما , ففي الديوان وثائق بتوقيع النحاس باشا يمكن المضاهاة عليها , ولم اعترض على هذا الرأي لما أعرف أنه بين علوبة باشا ورئيس الديوان بالنيابة من صلة وثيقة , وعاد إلى ّ علوبة باشا بعد يومين أو ثلاثة أيام يخبرني أنه قابل حسن باشا وأطلعه على الوثيقة الأولي وأن رئيس الديوان بالنيابة أظهر من العناية بهذه الوثيقة وتقدير خطورتها الشئ الكثير , وأنه قام بمضاهاة توقيع النحاس باشا عليها على أوراق عنده فإذا المطابقة بين التوقيعين تامة ولهذا رأي رئيس الديوان بالنيابة من واجبه أن يحيط جلالة الملك علما بالأمر ليتخذ الإجراء الذي يراه .
وتقابل علوبة باشا وحسن باشا مرة أخرى , واطلع رئيس الديوان على الوثيقة الثانية وأبدي من الاهتمام لها ما أبدي من الاهتمام للوثيقة الأولي , وذكر لعلوبة باشا أن الأمر من الخطورة حتى لقد يرى جلالة الملك أن يدعو إليه رئيس الحزب , أو أن يكلف رئيس الديوان بمقابلتي إذا كان جلالته غائبا بالإسكندرية مثلا ,
وأجابه علوبة باشا : وهلا أكفيكم أنا . فقال حسن باشا : إن الأمر أخطر من أن يضاف لشخص بعينه , بل يجب أن يسند إلى حزب وأن يكون رئيس الحزب هو الصلة في شأنه بجلالة الملك وطلب إلىّ علوبة باشا أن أجارى هذا التفكير وأن أقابل جلالة الملك أو رئيس الديوان فقلت له :
" إذا دعاني جلالة الملم للتشرف بمقابلته كان واجبي أن أجيب هذه الدعوة , أما أن أذهب إلى رئيس الديوان فأقابله فذلك ما لا أقبله , لأنني أشعر أن الغرض منه لن يكون خالصا , إنني لم أقابل رئيس الديوان من قبل الاستجواب الخاص باستقالة رئيس ديوان المحاسبة , ولم أقابل أحدا من رجال القصر أنني أذعنت وخضعت وهذا ما لا سبيل إليه .
رأي علوبة باشا إصراري ورأي فيما بينه وبين نفسه أنه تشبث لا موجب له , وإنما دلني على ذلك أنه ذكر لى في سياق الحديث عن مقابلاته مع حسن باشا يوسف أنهما اتفقا على ألا يعلم بمقابلتهما وما دار فيها أحد غيري , وطلب المقابلة بعض ما دار في هذه المقابلات ولعله من أهمها , مع ذلك جاءني حسن باشا عبد الوهاب بعد أسبوع أو نحوه يسألني عن السبب في تشبثي بعدم مقابلة حسن باشا يوسف ,
ويذكر لى أن هذه المقابلة قد يترتب عليها للحزب وللبلاد خير كثير , وبعد أيام جاءني دسوقي باشا أباظة يكرر علىّ مثل هذا القول , ويحاول بكل الوسائل إقناعي للعدول عن رأيي وتكرر الكلام من جانب الإخوان الثلاثة على نحو شعرت بأنهم يحسبون أن تمسكي برأي فيه من الإضرار بالحزب ما يلقي علىّ تبعة لا قبل لرئيس حزب بحملها ..
عدت أفكر في الأمر , ثم ذكرت لإخواني أن اتصالي بالقصر لن يلبث أن يعرف , وقد تشير إليه الصحف فيخلق ذلك بيننا وبين زملائنا في المعارضة , وبيننا وبين السعديين خاصة , جوا لا يعاون على تضامن المعارضة التضامن الواجب لمقاومة طغيان الحكومة وبطشها , وكان جوابه : وهل عبأ بنا السعديون يوما ؟
أو لم يحاولوا القضاء علينا ونحن شركاءهم في الحكم ؟ فما بالنا نحرص على رضائهم كل هذا الحرص . قلت : إذن فلأستشر زعيمهم إبراهيم باشا عبد الهادي , فإذا وافق على أن أقابل حسن باشا يوسف فلن أقابله إلا إذا خاطبني شخصيا بطلب هذه المقابلة وأقرني إخواني ,
وتحدثت مع إبراهيم باشا وشرحت له الأمر كله , فكانت مشورته ألا أتردد في مقابلة حسن باشا وذكرت ذلك لعلوبة باشا ودسوقي أباظة باشا , وأعدت عليهم أنني لم أقابل حسن باشا إلا إذا خاطبني هو بنفسه في ذلك , فليس يكفيني أن يبلغني أحدهم رغبته لأخف إلى هذه المقابلة , وأضفت : " إنني سأصارحه برأيي في سياسة القصر إذا هو حدثني في السياسة "
وعدت إلى منزلي , وإنني لأتناول طعام الغداء إذ دق التليفون فجئ إلىّ به وقيل لى إنه حسن باشا يوسف ,فلما خاطبته قال لى إنه ينتظرني بعابدين الساعة السابعة مساء .
وذهبت إلى موعدي ومعي الصورة الفوتوغرافية للوثيقتين , وكان علوبة باشا قد ردهما إلىّ . فلما تبادلنا التحية وضعتهما على منضدة بيننا وقلت له : هاتان هما الوثيقتان , وليس لى من العلم بأمرهما إلا ما ذكره لك علوبة باشا . فأخذهما واحدة بعد الأخرى وجعل يعيد تلاوتهما ويسألني عن المقصود بعبارات وردت فيهما , من ذلك إشارة الوثيقة الأولي المكتوب بالآلة الكاتبة إلى المعاونة المادية التي بذلها الروس للوفد , ومنه تغير القيادة المشار إليه في الوثيقة الثانية ,
وكان جوابي .. أنتم هنا في القصر أقدر مني على معرفة المقصود فأمور الحكم تمر بكم وتقع بإشرافكم ولا يخفي شئ منها عليكم أما أنا فلا أعرف من ذلك شيئا إلا ما نشرته الصحف أو اتصل بي بوصف كوني زعيما للمعارضة بمجلس الشيوخ ,
ولم يبد حسن باشا ما يدل على شكه في صحة الوثيقتين بأية صورة من صور الشك , فقد كان يتحدث عنهما حديث المطمئن إلى صحتهما بعد أن قام مع علوبة باشا في المقابلتين اللتين نمتا بينهما بشأنهما بمضاهاة التوقيعات الواردة على الوثيقتين بالأوراق الرسمية الموجودة في الديوان , والممهورة بإمضاء النحاس باشا وإبراهيم فرج باشا .
ورأى حسن باشا يوسف أن لا فائدة ترجي من المناقشة في عبارات الوثيقتين وما تنطوى عليه من قصد , ورأيت أن أعدل بالحديث إلى غير هذه الناحية فسألته عن المفاوضات الجارية بين وزير الخارجية المصرية والحكومة البريطانية بشأن جلاء القوات البريطانية مصر ووحدة مصر والسودان واغتبط هو لهذا التحول في الحديث وقال :
لم تتقدم هذه المحادثات خطوة فصلاح الدين بك لم يكن يصنع كلما التقي بمستر بيفن أكثر من أن يلقي خطابا يشرح فيه وجهة النظر المصرية في الجلاء والوحدة ولا يتقدم في المناقشة إلى ما وراء ذلك , فإذا التقي الرجلان بعد يوم أو يومين عاد صلاح الدين بك فألقي بالخطاب نفسه كره أخرى , وأبدي مستر بيفن ما لديه من اعتراضات .
ذلك ما تشهد به محاضر المحادثات الموجودة عندنا في السراي , وسيبقي الأمر على ذلك إلى أكتوبر أو نوفمبر المقبل , وبعدهما ينتقل الحديث من الجلاء وتشبث انجلترا ببقاء قواتها على قناة السويس ما بقيت الأزمة الدولة الحاضرة إلى مسألة السودان , وفيما حدث من مفاوضات إلى اليوم أتفق وزير خارجيتنا في أثناء مقامه بأمريكا وبإنجلترا وفرنسا مائة وخمسة وسبعين ألفا من الجنيهات غير خمس وسبعين ألفا اعتمدت لوفد الأمم المتحدة الذي كان صلاح الدين بك يتولي رياسته .
وأظهرت دهشتي لدي سماع هذه الأرقام العجيبة التي لم يعرف لها من قبل مثيل وقلت : وفيما أنفق هذا المبلغ الجسيم ؟ قال : للدعاية فيما يقولون , ربع مليون من الجنيهات ينفق بغير نتيجة , ولما عرفت ذلك قلت لزكي بك عبد المتعال إن ما حدث يدعوه للاستقالة من وزارة المالية , لكن زكي بك لم يسمع يومئذ لمشورتي , وبقي وزيرا للمالية حتى انتهز خصومه في الوزارة فرصة إحراجه وإخراجه منها .
قلت : وعلى هذا النحو يجرى الحكم في مصر اليوم .
وكان جواب حسن باشا .. وما عسانا أن نصنع , الحكم سيئ والمعارضة أقفلت الباب بيننا وبينها والبلد في هذا الموقف ينتظر .
قلت : المعارضة هي التي أقفلت الباب بينكم وبينها ! أم أنتم الذين ضربتم الباب بعنف في وجه المعارضة حين أصدرتم مراسيم 17 يونيو الماضي .
قال: المعارضة هي التي أقفلت الباب بالاستجواب , إذ تعرضت فيه لرجل من رجال الملك .
قلت : أتريد أن تقول إن كريم ثابت رجل الملك أكثر مني أو من أى مصري فأطرق هنيهة لدي سماعه هذه العبارة , ثم قال :
- إن الواجب يقتضي إبلاغ جلالة الملك كل مأخذ على الذين يتصلون به اتصالا مباشرا قبل اتخاذ أى إجراء آخر ليري في الأمر رأيه .
قلت : هذا صحيح وهو بعض ما تقضي به المجاملة الواجبة . ولكنه لا ينطبق البتة على ما حدث ثم أدي إلى الاستجواب , فالاستجواب قد تناول واقعة أو وقائع كانت معروفة عندكم تمام المعرفة , تناول استيلاء كريم ثابت باشا على خمسة آلاف جنيه بشيك حرره النقيب باشا من أموال جمعية المواساة ,
وهذه الواقعة قد أثبتها محمود بك محمد محمود رئيس ديوان المحاسبة يومئذ في تقرير الديوان , فعلمت الوزارة بإثباتها , فطلبت إليه رفعها فلم يقبل , فأبلغ الأمر إليك , فتقابلت أنت مع محمود بك مرتين وأبلغته في ثانيتهما أن جلالة الملك لا يري بأسا ببقاء هذه الواقعة في تقريره , ثم كان أن استقال محمود بك من رياسة الديوان حين رأي أن بقاءه في هذا المنصب غير مرغوب فيه , ومن بعد ذلك تقدم سؤال إلى مجلس الشيوخ في الموضوع قبل أن يقدم الاستجواب ,مع هذا كله لم يتخذ أى إجراء .
هنا أطرق حسن باشا هنيهه ثم قال : كل هذا صحيح وبعد هنيهه أردف :
- وهل الخمسة آلاف جنيه هي كل ما أخذ من الأموال العامة بغير حق .
دل الحديث من بعد على أن حسن باشا لم يقصد أن كريم ثابت باشا استولي على أموال أخرى بل كان يقصد إلى أن غيره استغل مركزه كذلك بغير حق , لكنني لم ألبث حين سمعت اعتراضه أن أجبت :
- كلا ليست الخمسة آلاف شيئا مذكورا بالقياس إلى غيرها , فقد أخبرني المرحوم إسماعيل صدقي باشا قبل سفره الأخير إلى أوربا , وكان قد جاء إلى رياسة المجلس يحدثني في أمر استقالته من عضوية الشيوخ , أن كريم باشا استولي على خمسة وسبعين ألفا من الجنيهات من اليهود الذين اعتقلوا أو وضعت أموالهم تحت الحراسة في أثناء حرب فلسطين للإفراج عنهم أو رفع الحراسة عن أموالهم , وقد علق صدقي باشا على كلامه هذا بقوله :
- وها أنت ذا تشتغل بالسياسة المصرية من ثلاثين سنة ولم تحصل على ثلث هذا المبلغ أو ربعه أو أقل من ذلك , وأجبته أنا يومئذ : وأنا راض عن عملي السياسي والحمد لله .
وأضفت إلى ما سبق أن خمسة الآلاف قام الدليل على استيلاء كريم ثابت باشا عليها أما ما ذكره صدقي باشا فلم يقم عليه دليل حاسم إلا ما ذكره من أن حرم كريم باشا اشترت أرض فضاء إلى جانبه وكتبت إلى دولته أنها دفعت فيها أربعين ألفا من الجنيهات , ورغبت إليه ألا يطلب أخذها بالشفعة .
ورأي حسن باشا أنني اتجهت في إجابتي عن سؤاله غير الوجهة التي أرادها فقال :
- وهل كريم باشا ه وحده الذي استولى على أموال بغير حق ..
وأجبته : كلا , وأنا أعلم وأنت تعلم أن كثيرين من وزراء هذا العهد ومن أنصاره قد استولوا في صفقات القطن وفي الاستيراد والتصدير وفي غير ذلك على أموال طائلة بغير حق .
قال : وفي وزارتكم أنتم , ألم يحدث فيها مثل ذلك !
فأجبته : لم تكن للأحرار الدستوريين وزارة منذ استقالت وزارة محمد باشا محمود عام 1939 , أما اشتراكنا في الوزارات التي أتت بعد ذلك فلم يتح لنا المشاركة في هذا النوع من الشئون العامة , ولا يسأل الأحرار الدستوريون فيها إلا عن الوزارات التي يتولوها وعما أقره مجلس الوزراء .
قال: وعبد المجيد باشا إبراهيم صالح , وأحمد باشا عبد الغفار ..
وسارعت إلى إجابته : أنا لا أعرف عن عبد المجيد باشا إبراهيم إلا مسألة زاما , وهذه مسألة تولت النيابة تحقيقها وقد حدثت قبل أن يكون عبد المجيد باشا وزيرا , وقد طلب إلى عبد المجيد باشا وإلى غيره ممن كانوا معه في مجلس إدارة الشركة المذكورة أن يدفعوا مبالغ اعتبرتهم النيابة مسئولين عنها فدفع كما دفعوا , ثم استقال عبد المجيد باشا ,
وقد كانت استقالته على غير رأيي , إذ أشرت عليه بألا يستقيل , فخشي بطش الحكم به بعد إقالته , أما أحمد باشا عبد الغفار فقد أشرت عليه بعد أن نشر مصطفي بك فودة مقالاته بأن يبلغ النيابة , وقلت له : إذا رأيت في تصرفك ما يخالف المألوف فالخير في أن تستقيل , وقد أبلغ النيابة وأبلغ النقراشي باشا إذ ذاك أنه يري أن يستقيل , فلم يوافقه النقراشي باشا وحرص على بقائه في الوزارة .
قال حسن باشا وكأنه يقاطعني .
- بل نحن الذين حمينا أحمد باشا عبد الغفار , السراي هي التي حمته , وهي التي حرصت على بقائه في الوزارة .
- وأجبت : ذلك ما لم أكن أعلمه . وإذا كنت بهذا القول تريد أن أحمد باشا كانت عليه مسئولية , وأنكم برغم ذلك حميتموه وأعفيتموه من نتائج هذه المسئولية فذلك شأن آخر ,
قال : ولكن هذا هو الذي حدث .
قلت : وهذا هو الفرق بيني وبينكم . أنا طلبت إليه إذا رأي أنه خالف العرف المألوف أن يستقيل , وأنت تقول إنه خالف وأنكم مع ذلك حميتموه !
قال : على كل حال ذلك هو الذي حدث .
قلت : وعلى كل حال فما تقول إنه حدث إذ ذاك لا يبلغ أن يكون قطرة من بحر فيما هو حادث اليوم من تلاعب في الحكم وفي الاستيراد والتصدير وفي المحاباة والمحسوبية وفي كل شئون الدولة من استغلال للنفوذ بكل صوره وألوانه .
قلت : وما عسانا نستطيع أن نصنع ... إننا لا نستطيع شيئا .
قلت : لما حدثت مناقصة مزرعة الجبل الأصفر في سنة 1938 , وحين كان رشوان باشا محفوظ وزيرا للزراعة , رأى الملك فاروق أن ما حدث لا يتفق مع نزاهة الحكم , ومع أن رشوان باشا لم تكن له شخصيا أية فائدة مما حدث فقد أبلغ جلالته محمد باشا محمود أن الخير في أن يستقيل وزير الزراعة سموا بنزاهة الحكم أن ترقي إليها شبهة ولو كانت باطلة , وقد اغتبط الناس يومئذ بهذه المشورة الملكية لأنهم كانوا ولا يزالون يريدون أن يكون جلالة الملك دائما في مصر وخارج مصر , النبراس المضئ والنجم الساطع الذي يتطلع الكل إليه ويرى في حكمته ما يطمئن معه إلى مصير البلاد في الداخل والخارج .
واستقال رشوان باشا وتولي غيره وزارة الزراعة , مع ذلك جري تحقيق دقيق في الأمر استمر زمنا غير قصير , فأى جديد حدث حتى تغير الذي كان بالأمس والسلطات التي تشرف على الحكم هي هي لم تتغير .
قال : ألم أقل لك يوما التقينا في نيويورك في الأشهر الأخيرة من عام 1947 إن أمورنا في مصر قل الرجاء فيها .
قلت : لعلك لم تنس ما كان يدرس لنا في الحساب حين كنا تلاميذ في المدارس الابتدائية كانت إحدى المسائل التي تطرح علينا أن فردا كان يتسلق خشبة طولها كذا , وأنه كان يقفز عدد كذا قفزات في الساعة , وفي كل قفزة يرتفع ثلاثة أقدام ثم يتزحلق إلى أسفل قدمين , فإذا كان قد بلغ أعلي الخشبة بعد كذا من الدقائق فما طول الخشبة .
هذه المسألة الحسابية التي كنا نعرفها أطفالا تنطبق اليوم على السياسة المصرية أكثر مما كانت تنطبق على ذلك الفرد , فنحن في مصر الآن نقفز ثلاث خطوات في سبيل التقدم ثم نرتد إلى الوراء عشرين خطوة , ولو أن المشرفين على شئوننا العامة وجدوا من رقابة الرأي العام ومن رقابة من يملك الإشراف على تصرفاتهم ما لا يغريهم باستغلال النفوذ وسوء استعمال السلطة لكان شأننا غير هذا الشأن , وحالنا غير هذه الحال .
قال : أؤكد لك أنني لو كنت أملك بضعة أفدنة أطمئن بها إلى حياتي لآثرت الانسحاب إليها وترك منصبي .
قلت : الحمد لله أن لى أفدنة ليست كثيرة ولكنها تكفي لأعيش أنا أولادي من غلتها , ولذلك أستطيع أن أتابع عملي في الحياة السياسية لما أري فيه مصلحة البلاد قال : وهلا تزال تري أن الاستجواب كان في محله !
قلت : ليس من شأن رئيس المجلس أن يحكم على استجواب إن كان في محله أو لم يكن , بل المجلس هو المختص بالفصل في ذلك بعد مناقشة الاستجواب , ومع ذلك ماذا كان في الاستجواب ؟ لم يكن فيه إلى جانب مسألة كريم ثابت والخمسة آلاف جنيه غير فضائح الجيش , ففضائح الجيش حققها النائب العام ورفع أمرها إلى القضاء ليفصل فيها , وذلك ما يسوغ الذي حدث بشأنها في الاستجواب كل مسوغ .
قال : فضائح الجيش وتحقيق النائب العام . بكره تشوف( غدا ترى)
قلت : على أية حال هذا الذي حدث يسوغ الاستجواب ويجعل للحياة النيابية في مصر ما يبررها ..
قال :ألست أنت الذي قلت إن الحياة النيابية في مصر مسرحية من بدء الانتخابات إلى مل ما يجرى في البرلمان !
قلت : نعم أنا الذي قلت لك ذلك , وهو صحيح ولا زلت مقتنعا به , لكني رأيت وأري أن هذه المسرحية يجب أن تصبح يوما حقيقة واقعة , ويجب أن نعاون جميعا على ذلك حتى يألف الرأي العام المصري الحكم البرلماني ويدرك معناه , ولا يكون ذلك ومجلسا البرلمان لا عمل لهما إلا الموافقة على ما تتقدم به الحكومة ن تشريعات والانتقال إلى جدول الأعمال في الاستجوابات , والاستجابة إلى السليم وغير السليم من مطالب النواب والشيوخ في الوزارات , وإنما يكون ذلك بأن يثبت البرلمان وجوده الحين بعد الحين على نحو ما فعل في هذا الاستجواب الخاص بأموال المواساة وبفضائح الجيش ..
قال : أتحسب أن البرلمان يستطيع في الوقت الحاضر وبالصورة التي تراها أن يوجه الرأي العام على النحو الذي تذكره .
قلت : لعلك تشعر معي بأن ما يحدث في البرلمان من نشاط يظهر له صدى قوى في الخارج , ربما لا يتجاوز هذا الصدى دائرة محدودة في انتشاره , لكن علينا أن نشجع مصدر الصدى حتى يكون البرلمان في يوم قريب أداة توجيه صالحة للحكم . وإنما يكون تشجيع البرلمان بأن يشعر الكل أن ما يجرى فيه لا يذهب صرخة في واد , وبالأحرى لا يكون محل مؤاخذة للأعضاء الذين يبدو من نشاطهم ما يثير هذا الصدى .
قال : لا تحسب إصلاح الأمور في مصر يسيرا. لقد تحدثنا الآن عن كثير من شئون البلاد الداخلية والخارجية , وقد ذكرت أنت أن هذه الشئون ترتد ارتدادا مضطردا إلى الوراء . وما ذكرته من ذلك يشهد بصحة ما قلته لك بنيويورك في سنة 1947 أن أمر مصر ميؤوس منه , قال هذه العبارة الأخيرة بالانجليزية هكذا
وأجبته : البركة فيكم .
فقال : أى أننا نحن المسئولون عن هذه الحال .
قلت : أنا لم أقل إلا أن البركة فيكم . فإذا فسرتها أنت على هذا النحو فتبعة التفسير عليك. وابتسمنا , ورأيت أن الحديث طال , وأنني نفضت ما في جعبتي وأديت واجبي في تصوير الحال , واعتذرت أن أضعت من وقته ما أضعت واستأذنته في الانصراف , فصاحبني إلى مصعد القصر واستمر حديثنا ونحن في طريقنا إليه فلما بلغناه , كررت عبارتي الأخيرة , والبركة فيكم , ثم ذكرت أنني تركت الصورة الفوتوغرافية للوثيقتين في مكتبة فقال :" هما في الحفظ والصون"
وعدت إلى منزلي , وفي الغد التقيت بدسوقي أباظة باشا وأحمد على علوبة باشا وقصصت عليهما الحديث فقالا حسنا فعلت إذ نبهت إلى ما يجب التنبيه إليه .
واعتقدت أن المسألة انتهت عند هذا الحد .
وفي الأسبوع الأخير من شهر مارس سافرت إلى أوربا لأحضر اجتماع لجان الاتحاد البرلماني الدولي ومجلس الاتحاد , وكان مقررا عقدهما بموناكو , وبعد انتهاء أعمال اللجان والمجلس سافرت إلى برن بسويسرا ثم إلى باريس وعدت إلى مصر في منتصف أبريل ,
فلما التقيت بعلوبة باشا أبلغني أن حسن باشا يوسف اتصل به في أثناء سفري وذكر له أنه تحقق من أن الخط المنسوب إلى محمود بك شوقي , الذي كتبت به الوثيقة الثانية ليس خط محمود بك , وأنه لذلك يشك في صحة الوثيقتين ولهذا أعاج الوثيقتين إلى علوبة باشا بعد أن بقينا عنده , منذ تركتهما أنا بمكتبه في القصر , بضعة أسابيع , ولم أعر الخبر من العناية إلا ما يستحقه , وقلت لعلوبة باشا : هذه مسألة فرغ منها نهائيا ولم أفكر في أمر الوثقتين من بعد , لكن بعض الصحف نشرت , قبيل سفري لحضور اجتماع موناكو للإتحاد البرلماني الدولي , إنني قابلت حسن باشا يوسف ,
ولما كانت مثل هذه المقابلة محل تساؤل من كثيرين لأن حجابا حدث بين المعارضة والقصر منذ مراسيم 17 يونيو سنة 1950 , ثم ازداد كثافة حين بعثت المعارضة بكتابها إلى جلالة الملك في أكتوبر من تلك السنة تحتج فيه على تصرفات الوزارة القائمة , لهذا رأيتني في حل بعد هذا النشر في الصحف من أن أذكر السبب الذي أدي للمقابلة وترددي فيها , واستشارتي إبراهيم باشا وما دار من حديث بيني وبين رئيس الديوان بالنيابة ,
وما كنت لأفضي بشئ من هذا كله لولا النشر في الصحف , فقد اتفق حسن باشا يوسف وعلوبة باشا على ألا تخرج المسألة من بينهما إلا لى أنا , وألا أذكر أنا عنها شيئا لأحد , وكانت المقابلة بعد هذا الذي اتفق على عدم ة باشا على ألا تخرج المسألة من بينهما إلا لى أنا , وألا أذكر أنا عنها شيئا لأحد , وكانت المقابلة بعد هذا الذي اتفق على عدم إذاعته . فلما أذيع نبؤها لم يكن بد من أن أقص كل ما حدث على كل رجل في المعارضة سألني عنها .
ولقد حدث بعد سفري إلى أوربا مباشرة أن أثير في مجلس الشيوخ استجواب كنت وكان قد تأجل غير مرة إجابة لطلب الوزير . فلما شرحت الاستجواب ذكرت فيه أن وزير الخارجية أتفق في الدعاية للمسألة المصرية في أثناء وجوده بأمريكا رئيسا لوفد مصر لدي الأمم المتحدة.
وفي أثناء مقامه بأوربا في لندن وباريس ومحادثات مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية مبلغ مائة وخمسة وسبعين ألفا من الجنيهات إذا أضيفت إلى ما أنفقه وفد الأمم المتحدة وقدره خمسة وسبعون ألفا من الجنيهات إذا أضيفت إلى ما أنفقه وفد الأمم المتحدة وقدره خمسة وسبعون ألفا بلغت ربع مليون من الجنيهات وتلك هي الواقعة التي قصها على حسن باشا وذكر معها أنه أشار على الدكتور زكي بك عبد المتعال أن يستقيل بسببها فلم يقبل , على أنني حين ذكرت القصة بمجلس الشيوخ لم أنسبها إلى حسن باشا ولا إلى شخص معين ,
بل ذكرت أنها رويت لى , وأن العهدة فيها على الراوي , فلما رد وزير الخارجية على استجوابي كذب هذه الواقعة وذكر أنه لم ينفق فيما خلا الخمسة والسبعين ألفا التي اعتمدت لوفد الأمم المتحدة , غير عشرة آلاف من الجنيهات .
وقد أثار تكذيبه هذا ضجة في المجلس كنت قديرا على القضاء عليها بذكر المصدر الذي استقيت منه الخبر , وذكر اسم حسن باشا يوسف لكنني لم أفعل إيثارا مني للمحافظة على سرية الحديث الذي دار بيننا عن أن تلوكة الألسن .
انقضت أسابيع من عودتي لأوربا لم يجد فيها جديد في أمر الوثائق التي قيل إنها غير صحيحة , ولا في أمر الحديث الذي دار بيني وبين حسن باشا يوسف , واقتنعت كذلك بأن المسألة طويت إلى غير عودة .
وإني لفي منزلي يوما إذ تحدث إلىّ عبد الرحيم بك غنيم النائب العام تليفونيا وأخبرني أنه يريد زيارتي , ودهشت وأخذت أسائل نفسي عن سبب هذه الزيارة , ولم يدر بخاطري قط أنها تتعلق بموضوع الوثيقتين فقد نسيت هذا الموضوع واعتقدت أنه دفن نهائيا إلى غير بعث .
نزلت إلى غرفة الاستقبال في الموعد الذي اتفقنا على حضور النائب العام فيه ,وحضر وتبادلنا التحية وجلسنا فأخبرني أنه تقدم إليه بلاغ من مصطفي النحاس باشا والأستاذ إبراهيم فرج وزير البلديات يذكران فيه قصة الوثيقتين وأنهما مزورتان , وأنهما قدمتا إلى الديوان الملكي فأضيفت بذلك إلى جريمة التزوير جريمة استعمال أوراق مزورة فرويت له القصة من أولها , حين جاءني حسن باشا عبد الوهاب وذكر لى أمر الضابط الذي يستطيع إحضار هذه الوثائق , ما دار بيننا من حديث وما كان من أمر علوبة باشا ومقابلته حسن باشا يوسف ومضاهاتهما الورقتين على أوراق بالقصر ,
وحرص حسن باشا على مقابلتي أنا , ولكنني لم أرو من الحديث الذي دار بيني وبين حسن باشا إلا ما يتعلق بأمر الوثيقتين , فلم أذكر شيئا مما ذكره عن المفاوضات وعن الاستجواب وعن فساد الحكم وعن كل ما قصصته في هذا الفصل , وختمت حديثي بأن حسن باشا رد الورقتين إلى علوبة باشا وأخبره أنه تأكد من أن خط الوثيقة الثانية ليس خط محمود بك شوقي وأننا اعتبرنا المسألة منتهية عند ذلك .
أتممت حديثي فسألني عبد الرحيم بك : ألديك مانع من تدوين أقوالك هذه في المحضر الذي أدلي فيه النحاس باشا وإبراهيم بك فرج بأقوالهما ؟ قلت : كلا . لا مانع عندي . قال : كاتب النيابة في السيارة ومعه المحضر , فهل تسمح بدعوته ؟
استدعينا الكاتب فجاء ومعه المحضر فأطلعني النائب العام على البلاغ المقدم من النحاس باشا والأستاذ إبراهيم فرج ثم طلب إلىّ إملاء ما ذكرته له , فانتقلنا إلى غرفة مكتبي ليكون سكرتير النيابة مستريحا في عمله , فأمليت في المحضر كل ما لدي من معلومات في الموضوع وأضفت إلى الإملاء أن أخرجت من مكتبي الصورة الفوتوغرافية للوثيقة الأولي المكتوبة على الآلة الكاتبة ,
والصورة السلبية للوثيقة الثانية التي قيل إن صلبها بخط محمود بك شوقي لأنني لم تكن لدي منها صورة إيجابية , واعتقدت بعد الإفضاء بكل ما عندي أن النائب العام سيأمر الكاتب بأن يطوى محضرة وسيعتبر الحادث من جهتي منتهيا , فما كنت أظن , ولا كان يدور بخلدي , أن يري النائب العام في أقوالي غير الصورة الواضحة للحقيقة الناصعة , وما كنت أظن , ولا كان يدور بخلدي أن تتخذ العدالة أداة من أدوات النضال السياسي أو أن تهيأ لها أسباب مصطنعة تمكنها من أن تكون هذه الأداة .
لكني تبينت بعد قليل أنني مبالغ في حسن الظن وقد رأيت النائب العام يوجه إلى أسئلة يريد بها أن يقول إن الظواهر أمامه تدله على أنني أعلم . أو أنني كان واجبا على أن أتبين في غير عناء, أن الوثيقتين مزورتان ,وأنني لذلك شاركت في استعمالهما بتقديمهما إلى رئيس الديوان بالنيابة وأنا أعلم بتزويرهما , وقد تولتني لهذه الأسئلة دهشة أشد الدهشة ,
وقد قلت له وأثبت في محضره أنني كنت ولا أزال أرجح صحة هذه الوثائق وأن حسن باشا يوسف ضاها توقيع النحاس باشا وإبراهيم بك فرج على ما عنده من أوراق رسمية , وذلك بحضور علوبة باشا , فدلتهما المضاهاة على تمام الشبه بين التوقيعات على الوثيقتين وما ضاهيا عليه من أوراق رسمية ,
فكان واجب النائب العام أن يتخذ هذه الأقوال التي أدليت بها حجة مسلمة وأن يتجه بالتحقيق وجهة أخرى إن شاء , فما كان لمن له مثل ماضي ومثل مكانتي أن يقول غير الحق , لذلك استهجنت تصرف النائب العام حين بدأ يوجه إلى أسئلة فيها معني الريبة في أنني أعلم أن الوثائق غير صحيحة , وأظهرت له هذا أعلم أنها مزورة ؟ هذا بطبعه غير معقول , فلم يجب على هذا الاعتراض بأكثر من قوله :
إن واجبي يقتضيني أن أحقق كل نقطة تعرض أمامي , ولم أر أن أناقشه في هذا الاتجاه العجيب , لأنني شعرت أنه يؤدي ما يعتقد أنه واجبه محافظة على كرامته وكرامة منصبه , أو رجل لا يعرف واجب التحقيق وواجب المحقق , ولا فائدة في الحالين من مناقشته , وجال بخاطري أن أرفض الإجابة عن أسئلته, ثم رأيت الرفض يقوى حجته في ضرورة سؤالي , فجاريته ولم أترك سؤالا وجهه إلا أجبت عنه وإن بلغ من الإغراب حدا لا أحب أن أصفه .
وزاد في دهشتي أنه طلب إلي الكاتب فأخرج من ملف البلاغ المقدم من النحاس باشا وإبراهيم بك فرج صورة فوتوغرافية للوثيقتين اللتين يجرى التحقيق بشأنهما وأطلعني عليهما , من أين حصل المبلغان على هاتين الصورتين؟ ثمة احتمالات لا ثالث لهما :
فإما أن يكون الشخص الذي أحضر إلينا هذه الوثائق قد صنع مثل هذا الصنيع مع النحاس باشا , وإما أن تكون الصورتان قد أخذتا من الصورتين اللتين تركتهما في مكتب حسن باشا يوسف يوم قابلته , واستبعدت أنا الفرض الأول, لأنه لا يؤدي إلى علم النحاس باشا بأن علوبة باشا أو بأنني قابلت حسن باشا يوسف وتحدثت معه في أمر الوثيقتين .
لم يبق إذن إلا الفرض الثاني , وهو أن يكون حسن باشا قد سمح بأخذ صور فوتوغرافية من الصور التي تركتهما له وقال لى إنهما " في الحفظ والصون " وهذا هو الفرض الذي أكدته وأثبته في محضر النيابة , ولكنني تساءلت مع ذلك . كيف سوغ رئيس الديوان لنفسه أن يفعل هذه الفعلة وهو الذي طلب ألا يتجاوز الحديث في هذا الأمر ثلاثة رجال .. هو وعلوبة باشا وأنا , لهذا دهشت , لكن خفف من دهشتي أنه رجل يعمل لحساب غيره , فإذا أمر وجب عليه أن ينفذ الأمر .
وإذا كان حسن باشا يوسف قد سمح بأخذ الصورتين اللتين أرفقنا ببلاغ النحاس باشا فمن الذي أوصل هاتين الصورتين إلى النحاس باشا ليقدمهما مع بلاغه ؟ فقد ذكرت الصحف بعد حين أن النحاس باشا كان يوما في حضرة جلالته فسلمه الملك إلى النحاس باشا وأن صورتا الوثيقتين كانتا فيه ثم صدر بلاغ رسمي بتكذيب هذه الواقعة , ثم لم تسأل النيابة الصحف التي نشرتها عن الدليل عن صحتها.
استمر النائب العام يسألني وأنا أجيبه ساعتين ونصف الساعة , ثم إنه أقفل محضره وسألني إن كنت أريد أن أقرأه قبل أن أوقعه فلم أرد أن أحمل نفسي هذا العناء اطمئنانا منى إلى ذمة الكاتب , ووقعت المحضر فلما آن للنائب العام أن ينصرف قلت له : كان الله في عونك , وأجابني : بل كان في عونكم أنتم .
وقبل الظهر من غد ذلك اليوم خاطبني النائب العام تليفونيا بأنهم أحضروا " هجرس" الذي ذكرت كنيته في التحقيق , وأنه سيسأله في الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر , وسألني إن كنت أريد أن أحضر سؤاله , فأجبته بأن هذا الموعد لا يوافقني , وأنني لا يهمني أن أسمع ما يقوله هجرس لأنني لم أره قط , واتفقنا على أن أذهب إليه بدار النيابة في الساعة السابعة من المساء , فلما دخلت عليه أخبرني أنه سأل " هجرس " وأن " هجرس " اعترف بأنه لم يقابلني ,
وذكر الوقائع التي ذكرتها وأضاف إليها أنه أخذ مبلغا من علوبة باشا , وروي أمورا أخرى لا تتصل بي , وأراد النائب العام أن يسوغ إزعاجه إياى ودعوته لي على الرغم من أن أقوال هجرس ليس فيها ما يقتضي هذه الدعوة ,
فسألني عما إذا كانت الوثائق التي اطلع عليها حسن باشا يوسف عندي , فقلت له : لقد ذكرت لك أنها ردت إلى علوبة باشا ولا تزال عنده , فرجاني في أن أخاطب علوبة باشا تليفونيا من مكتبه ليرسلها مع سائق سيارة النائب العام الذي سيذهب ومعه بطاقة مني وخاطبت علوبة باشا وجاء السائق بالصور الفوتوغرافية للوثائق فأودعت في التحقيق , كما أودع إقرار كتابي بخط هجرس وتوقيعه يؤكد صحة الوثائق وأن أصلها موجود في المفوضية الروسية .
اعترف هجرس بهذا الإقرار فاستأذنت النائب العام وانصرفت مقتنعا من أن ما أسموه تحقيقا قد انتهي بالنسبة لي , لكن التليفون دق بعد يومين فخاطبني النائب العام واعتذر عن إزعاجي ثم طلب إلى أن أزوره زيارة أخرى بمكتبه مساء ذلك اليوم,
وذهبت إليه فسألني بعض أسئلة لا قيمة لها ثم أخبرني أن التحقيق هداهم إلى مصدر هذه الأوراق المزورة وأنهم ضبطوا أصول الورقتين محل التحقيق كما ضبطوا أوراقا كثيرة أخرى مزورة كذلك وإنما اهتدوا إلى هذا المصدر بعد أن أخبرهم محمد سليمان هجرس أن الذي سلمه الوثيقتين لم يكن موظفا بالمفوضية الروسية , بل كان موظفا بالسكة الحديد المصرية اسمه عبد العزيز جاد الحق ,
وأن جاد الحق هذا يتصل بالمفوضية الروسية عن طريق موظفين ثلاثة منهم فتاتان , فلما أدلي هجرس بهذه الأقوال فتشت النيابة منازل عبد العزيز جاد الحق , فله أكثر من منزل واحد لأن له أكثر من زوجة , فوجدت في منزل له بناحية " طرة" غرفة ملأى بهذه الأوراق المزورة , ومن بينها أصول الورقتين اللتين أعطيت إلينا صورتهما , وأطلعني النائب العام على أوراق أخرى مزورة ذكر أن النيابة ضبطتهما من بينها خطاب موجه إلى المفوضية الروسية أيضا بالإمضاء سيف الإسلام عبد الله .
الأمير اليمني , يتحدث فيه عن بترول اليمن وعن عروض قدمت لاستغلاله حديث من يعرف شئون اليمن حق المعرفة , وأبدى النائب العام اغتباطه بالعثور على مصدر هذه الأوراق المزورة , وشاركته في هذا الاغتباط وقلت له : الآن تستطيع أن تتصرف في القضية مطمئنا .
قال : كلا . بل لابد من سؤال علوبة باشا وحسن باشا عبد الوهاب وهما عضوان في مجلس الشيوخ فلابد من رفع الحصانة عنهما , قلت .. أوما أنت ستسألهما كشاهدين فلا ضرورة لرفع الحصانة. قال : ولو أنا أخشي أن تثار هذه المسألة وتكون موضع مناقشة حين تثار في المجلس , وأنا لا أريد هذا .
أما إذا كان لابد من رفع الحصانة عنهما لسؤالهما فأطمئنك عن علم أن الأمر سيتم من غير مناقشة في المجلس فسأتصل أنا بالرجلين وأطلب إليهما حين يبلغ إليهما طلب رفع الحصانة عنهما , أن يكتبا إلى رئيس المجلس بالموافقة على رفع الحصانة , فيستطيع رئيس المجلس عند ذلك أن يجمع لجنة العدل بصفة مستعجلة , وأن تقدم اللجنة تقريرها إلى المجلس في اليوم نفسه فيوافق المجلس عليه من غير مناقشة , وتسأل الرجلين في اليوم التالي فينتهي هذا التحقيق .
ولست أنكر أنني كنت جد حريص على انتهاء التحقيق , حريصا كذلك على أن يسمع النائب العام أقوال حسن باشا يوسف , وقد أفضيت إليه برغبتي في ذلك فكان جوابه : لا أري أية ضرورة لسماع حسن باشا ما دمت قد قررت أن الأوراق عرضت عليه قلت : ولكنها عرضت عليه للتحقيق من صحتها أولا , وهذا أساسي . فقال : لست أرى ضرورة لسماعه , وقدرت عند ذلك أنه مقتنع بالواقع الذي رويته له , فازددت حرصا على إنهاء التحقيق .
وإنما حرصت على هذا الإنهاء لأن النائب العام كان قد أصدر أمرا يحظر به على الصحف نشر أنباء التحقيق اعتمادا على المادة 193 من قانون العقوبات لكنه أصدر هذا الأمر بعد أن كانت بعض الصحف المؤيدة للحكومة قد نشرت ما أرادت الحكومة نشره ,
وكان النائب العام يعد برفع الحظر متى انتهي التحقيق , ويعترف بأن من حقنا أن نرد على ما نشره لولا أن مصلحة التحقيق توجب عليه التمسك بأمر الحظر إلى أن يتم هو إجراءاته , لهذا عاونته بالرأي حين أصر على رفع الحصانة عن علوبة باشا وحسن باشا عبد الوهاب حتى تجرى الأمور بأسرع ما يستطاع .
وخاطبت علوبة باشا وحسن باشا عبد الوهاب وذكرت لهما ما حدث , فلما أبلغا طلب رفع الحصانة كتبا إلى رئيس مجلس الشيوخ بموافقتهما على رفعهما , وأقر المجلس هذا الإجراء في نفس اليوم , يوم الاثنين وفي يوم الثلاثاء أول أيام رمضان طلبهما النائب العام ليذهبا إليه , وطلب إلىّ أن أحضر فذهبت مع علوبة باشا , فألفينا حسن باشا عبد الوهاب سبقنا وعلمنا أن النائب العام سأله ,
وقد استمر يسأله من الساعة الثانية إلى الساعة العاشرة , واستمر يسأل علوبة باشا من الساعة العاشرة والربع إلى ما بعد منتصف الليل , فلما ذهبت إليه بعد سؤالهما قال : لقد قرر الباشاوات كل ما ذكرته فليس لدي ما أسالك عنه , قلت : لعل هذه السهرة في النيابة هي تحية رمضان , ولعل سعادة النائب يستطيع التصرف في التحقيق الآن قال : لقد أحلت الأوراق التي ضبطناها عند عبد العزيز جاد الحق إلى إدارة الطب الشرعي لإبداء الرأي في تزويرها .
ورفع النائب العام قراره بحظر النشر غداة ذلك اليوم فكتب محرر مجلة روز اليوسف مقالا عن التحقيق وموضوعه جاء فيه .
" إنه حادث كان يجب أن يمر أى حادث تصادم , أو حادث نشل محفظة وجيه . مما نشره الصحف في عمود أخبار البوليس .. فهو نتيجة طبيعية لنظام الحكم الذي يعتمد على إفساد الذمم وشراء الضمائر والتحريض على الوشاية والتجسس.
" وقد ثبت من التحقيق أن المتهمين في هذا الحادث كانوا من عملاء وزارة الداخلية الذين يتعاونون مع البوليس السياسي واعترف فؤاد باشا سراج الدين بأنه كان يشترى الوشايات من هؤلاء المتهمين .. فليس بمستغرب بعد هذا أن يقوموا بتزوير خطاب أو وثيقة طمعا في زيارة الربح الحرام الذي تعترف به الدولة وتصرفه من الخزانة العامة ...
" وهم – أى هؤلاء المتهمين – ليسوا في هذا الحادث جناة , بل هم ضحايا ,, ضحايا النظام الذي أفسد أخلاقهم , وقتل ضمائرهم وأرشدهم إلى الطريق الدنس الذي يرقون منه , ضحايا الأساتذة الكبار المحترمين الذين علموهم أن للوشاية ثمنا وللوقيعة أجرا وللدس على الأبرياء مكافأة .. "ورأيت الفرصة مناسبة لبيان وجهة نظرى في هذا الأمر فبعثت إلى روز اليوسف بخطاب هذا نصه:
.... رئيس تحرير روز اليوسف
أدليتم في العدد الأخير من مجلتكم يبحث دستورى أثارته الوثائق التي تنسب إلى النحاس باشا أنه اتصل بالمفوضية السوفييتية وذلك لمناسبة اطلاع رئيس الديوان الملكي على هذه الوثائق ,
وذهبتم إلى أن القصر ليس جهة مختصة وأن غاية ما يملكه هو أن يحيل لهذه الوثائق إلى الوزارة , ورأيتم لذلك أن اطلاع حسن باشا يوسف كان عملا غير دستورى أملته فكرة رجعية لم يكن لى أن أقزها, بل كان الواجب يقتضي تقديم هذه الوثائق إلى البرلمان أو إلى الصحف أو إلى النحاس باشا نفسه ..
واسمحوا لى أن أخالف رأيكم في هذا الموضوع سواء من الناحية الدستورية أو من الناحية العملية :
فما أحسبكم ترون أن إرسال الوثائق إلى النحاس باشا كان منتجا , ولو أنها أرسلت إليه لبادر إلى تكذيبها , - ولو كانت صحيحة – ولأثار من الضجة حولها ما أثار اليوم لأغراض حزبية .. وهذا فضلا عن أنه طرف في الموضوع فلا يجوز أن يكون حكما فيه .
وقد فكرنا في تقديم هذه الوثائق إلى البرلمان وفي إرسالها إلى الصحف , ثم قدرنا أن النحاس باشا سيكذبها ولو كانت صحيحة , وسيثير حولها ضجة ضخمة ليصرف الناس عن التفكير في أمر وزارته , وما هي سادرة فيه من غي أثار في الأرض الفساد.
ولما كان أكبر همنا يوم حصلنا على الوثائق أن نصل إلى تأكيد لا يرقي إليه الريب في أمر صحتها وذلك رغم ما قام به علوبة باشا من إجراءات رجحت عندنا هذه الصحة , لهذا رأينا أن نلجأ إلى رجل تكون تحت يده أوراق رسمية تحمل توقيع النحاس باشا وإبراهيم فرج باشا , فلجأنا إلى رئيس الديوان الملكي بالنيابة وأطلعه علوبة باشا على الوثيقتين للتحقيق من صحتهما , وكان تفكيرنا أنه إذا ثبتت هذه الصحة ثبوتا يقينيا كان لديوان جلالة الملك أن يرتب على ذلك ما يراه من النتائج الدستورية , وكان لنا من جانبنا أن نرتب عليه ما نراه سواء في البرلمان أو خارج البرلمان .
ولو أن حسن باشا يوسف تيقن من صحة الوثائق , وأفضي بيقينه هذا إلى جلالة الملك لكان من حق جلالته الدستوري أن يشير برأيه في هذا الموضوع على رئيس وزرائه , إن رأي إبداء هذه المشورة , ولرئيس الوزارة بعد ذلك أن يكون له رأيه في الموضوع , فهو المسئول أولا وأخرا عن تصرفه بحكم الدستور .
ولجلالة الملك حقه الدستوري في المشورة . ذلك ما يجرى به الفقه الدستوري وما يستفاد صراحة من نص الدستور على أن أوامر الملك لا تخلي الوزراء من المسئولية ولا تكون نافذة إلا إذا وقعها الوزير المختص.
لم يطمئن رئيس الديوان بالنيابة إلى صحة الوثائق بعد أن بقيت عنده أياما عدة , فردها إلى علوبة باشا , واعتبر هو من جانبه , واعتبرنا نحن من جانبنا أن المسألة انتهت عند هذا الحد , وكنا نعتقد أنها لن تثار من بعد لأن الصورة الفوتوغرافية للوثيقتين ردت إلى علوبة باشا وذكر رئيس الديوان بالنيابة أنه لم يبق عنده من هذا الموضوع آثر .
كيف حصل النحاس باشا على صورة فوتوغرافية أخرى للوثيقتين فقدمها إلى النيابة مع بلاغه المشترك مع إبراهيم فرج باشا ؟
لقد كذب رفعته أنه تسلمها من القصر , ولم تحقق النيابة كيف وصلت إليه , ولم تسأل حسن باشا يوسف في هذه المسألة ولا في غيرها , مع أن اسمه ورد في التحقيق غير مرة ومع أنني طلبت سؤاله .
أحسبكم بعد الذي تقدم , توافقونني على أن حرصنا على معرفة الحقيقة معرفة يقينية هو الذي دفع علوبة باشا – بموافقتي – فأطلع حسن باشا يوسف على هذه الوثائق للتحقيق من صحتها , فإذا كانت صحيحة ترتبت عليها النتائج الدستورية التي أشرنا إليها, والرأي الدستوري في هذه النتائج هو ما ذكرت وهو المتفق مع التقاليد المتبعة في البلاد الدستورية كلها .
فالقصر يملك من أسباب تحقيق الوثائق ما لا يملكه غيره وإن لم يكن سلطة تشريعية ولا سلطة تنفيذية ولا سلطة قضائية .
ثم إنني أحسبكم توافقونني أخيرا على أن الضجة التي أثيرت حول هذا الموضوع إنما كانت زوبعة في فنجان ,قصد بها إلى ستر تصرفات الوزارة في المسألة القومية ونكوصها في عهدها إلى الوراء , وستر تصرفاتها في شئونها الداخلية التي دب فيها الفساد من كل جانب ,
وأدع المسألة الدستورية الآن وأتحدث في الموضوع من حيث هو : لقد قدم النحاس باشا وإبراهيم فرج باشا بلاغا للنيابة يتهمونني فيه بأني استعملت أوراقا مزورة مع علمي بتزويرها وهما يعلمان بغير شك أن اتهامهما كاذب , ومع ذلك جارتهما النيابة , وحققت بلاغهما وطلبت في أثناء التحقيق رفع الحصانة عن رجل كان وزير عدل ومستشارا في النقض ومستشارا في الاستئناف هو أحمد على علوبة باشا , وعن رجل آخر من رجال الجيش العظام تولي كبرى مناصبه جميعا, هو اللواء حسن باشا عبد الوهاب .
ما معني هذا وما دلالته ؟
معناه أن النحاس باشا يريد بالناس أن يعتقدوا أن النضال السياسي يجيز لرجل تولي رئاسة أكبر هيئة تشريعية في البلاد خمس سنوات ونصف السنة أن يستعمل أوراقا مزورة مع علمه بتزويرها .
وأن النحاس باشا يريد بالناس أن يعتقدوا أن النضال السياسي يجيز لرجل كان وزيرا للعدل وقاضيا في أكبر هيئة قضائية في البلاد أن يرتكب مثل هذه الجرائم , كما يجيز للواء عظيم من رجال الجيش أن يفعل مثل ذلك .
إذا كان هذا هو رأي النحاس باشا فهلا يكون معناه أنه هو نفسه يجيز لنفسه أن يرتكب الجريمة في سبيل النضال السياسي , وأقل جريمة يرتكبها هي تقديم البلاغ الكاذب ؟!
وإذا كان ذلك شأن عظماء مصر , فأي مكانة تطمع أن تحتلها بين الأمم ؟
وإذا كانت النيابة لا ترى أن تسأل رئيس الديوان الملكي بالنيابة سموا بمركزه عن السؤال ثم هي مع ذلك تطلب رفع الحصانة عن عضوين عظيمين من أعضاء البرلمان , وهي تعلم سلفا أنهما لم يرتكبا إثما , فما عسي أن يوسف به هذا التصرف في أمة متمدينة ؟
لا أريد أن أطيل في التعليق ولكن أشعر بالأسف أن تتدهور القيم الأخلاقية في نفس من يتولون أمر هذه البلاد إلى هذا الحضيض .
إن لى لنصيحة أسوقها إلىالذين دفعهم الحظ الطيب أو العاثر إلى الاشتغال بالسياسة ألا يزجوا بالقضاء في نضالهم وخصوماتهم , فالقاضي المنصف في النضال السياسي هو الرأي العام وهو الذي يميز الخبيث من الطيب , وإن أعجبته في بعض الأحيان كثرة الخبيث ..
وقي الله مصر شر الذين يتشدقون بحبها , فأكثرهم – إن صدق هذا الحب – كالدبة التي أرادت أن تنقذ صاحبها الصياد من ذبابة فأودت بحياته .
وتفضلوا ................
كنت أتوقع أن يتصرف النائب العام في التحقيق بعد يومين أو ثلاثة أيام من تحويله الوثيقتين إلى إدارة الطب الشرعي ,بل الواقع أنني لم أفهم علة لهذا التحويل بعد أن ضبط البوليس أصول الوثيقتين مع أوراق أخرى من فصيلتهما بمنزل عبد العزيز جاد الحق .
فإنما رجح صحتهما ما قيل من أنهما كانتا بملفات المفوضية الروسية .
ولقد ذكر لى النائب العام يوم أطلعني على الوثائق التي ضبطت بمنزل جاد الحق هذا أن القضية أصبحت قضية تلبس بالتزوير ,فأحالتها بعد ذلك إلى إدارة الطب الشرعي لم تزد عن أنها استكمال شكلي للإجراءات كان من اليسير الاستغناء عنه وكان في مقدور النائب العام على أية حال أن يضع قراره بالتصرف في التحقيق ليعلنه ساعة يصله تقرير الطب الشرعي بتزوير الوثائق .
مع ذلك أنقضي أسبوع وانقضي أسبوعان ولم يعلن القرار ولم يعرف أحد أقدمت إدارة الطب الشرعي تقريرها أم لم تقدمه ,وفي هذه الأثناء جعلت أفكر في هذه التحقيقات وفي إجراءاتها وما تدل في رأيي عليه , لقد زارني النائب العام بمنزلي فأفضيت إليه بكل شئ لأنني أعتقدت أن المجاملة هي التي دفعته ليحضر عندي ,
وأنا الوزير السابق ورئيس مجلس الشيوخ السابق , فلا يكلفني عناء الانتقال إلى النيابة , وقد أمليت عليه في محضر التحقيق كل هذه المعلومات : مع ذلك جعل يسألني ساعتين كاملتين أسئلة ما أشك في أنه , بذكائه العادي , كان يقدر أنها لا تقدم ولا تؤخر , أتراه كان يصنع هذا الصنيع لو أن البلاغ الذي كان يحقق مشتملاته قدم إليه من أحد الأفراد , ولم يقدم إليه من رئيس الوزراء ومن وزير معه ؟
وزاد من عجبي ما علمته بعد انصراف النائب العام من منزلي من أن المنزل أحيط برجال البوليس السري . ثم ما نشرته الصحف في الصباح الباكر غداة التحقيق من أن النائب العام فتش منزلي , كان هذا البوليس السري الذي أحاط بالمنزل موكلا بمهمة تتصل بتفتيش المنزل إذن لأن هذا التفتيش كان محتملا , أليس ذلك عارا يدمغ جبين الحكم في أى بلد يجري فيه شئ من مثله ؟
فما الذي يدعو إلى التفتيش في تحقيق مسألة من هذا القبيل , حتى لو أن البلاغ كان مقدما ضد شخص عادي , , بل ضد شخص ذي سوابق , إن الورقتين اللتين كان التحقيق يجرى بشأنهما إنما كانتا صورتين فوتوغرافيتين.
أفظن النحاس باشا أم ظن النائب العام أنني زورت أصول هاتين الورقتين , وأن هذه الأصول كانت عندي , وأن التفتيش كان المقصود به أن يعثر المحقق عليهما ؟
إن ذلك قد دار بخاطر أحد من هؤلاء السادة فما بالهم لم يفتشوا؟ وإن لم يكن هذا الفرض قد دار بخاطرهم مقصورا على البحث عن الصور الفوتوغرافية التي قدمت إلى رئيس الديوان بالنيابة , أفما كان واجبا عليهم أن يسألوا رئيس الديوان بالنيابة قبل أن يسألوني ليذكر لهم أن علوبة باشا قدم إليه الأوراق بغية التأكد من صحة التوقيع عليهما أو عدم صحته , وأنه رأي مع علوبة باشا مطابقة التوقيعات للإمضاءات الواردة على الأوراق الرسمية الموجودة بالديوان الملكي , ثم ليذكر أنه رد الأوراق لعلوبة باشا ولم يردها لى ؟..
هذه أوليات درسناها في تحقيق الجنايات , وكنت ألقيها على طلبة قسم العلوم الجنائية بالجامعة المصرية حين كنت أدرس فيها تحقيق الجنايات العملي , أفغابت هذه الأوليات عن النائب العام لأن البلاغ الذي أدي إلى التحقيق كان مقدما من رئيس الوزارة ؟
أم غابت عنه لأنه لم يشتغل طوال حياته القضائية بالأمور الجنائية كما أخبرني علوبة باشا وكان زميلا للنائب العام حين كانا مستشارين بمحكمة النقض والإبرام؟ سواء أكان هذا أم ذاك فهو أمر يثير العجب ويدعو إلى التفكير .
ثم ما بال النائب العام قد أصر أشد الإصرار على ألا يسأل رئيس الديوان بالنيابة حسن باشا يوسف, في هذا التحقيق , فقد طلبت إليه غير مرة أن يسأله , فهو الذي قدمت إليه هذه الأوراق , وهو الذي يستطيع أن يقول إليه للتثبت من صحتها أم لغرض آخر , وهو الذي يملك أن يذكر ما دار بينه وبين علوبة باشا , وما دار بينه وبيني , وأقواله حاسمة في تصوير الوقائع وفي تقرير ما قد يترتب عليها من مسئولية سياسية أو غير سياسية .
أترى النائب العام رأي مركز رئيس الديوان الرسمي أسمي من أن يسأل صاحبه في تحقيق , أذكر أن حسين رشدي باشا سئل وهو رئيس للوزراء في تحقيق جنائي , ولم يفكر أحد يوم ذاك في أن المنصب وإن سمي يعفي صاحبه من المعاونة في إنارة الطريق أمام العدالة , أترى القيم في عهدنا هذا تغيرت عما كانت عليه في ذلك العهد , وأن عدالة يومئذ لم تكن تفرق بين الناس بسبب مناصبهم على حين ترى عدالة عهدنا هذا أن للمناصب حرمة أكبر من حرمة العدالة ؟
وسأل النائب العام الأميرالاي محمد سليمان هجرس غداة حضر إلىّ بمنزلي وسألني وقد أقر هجرس كل ما قلت وأضاف إليه ما يؤيده , مع ذلك حريص النائب العام على أن أذهب إليه بمكتبه في النيابة ثلاث مرات بعد ذلك , ولم يجد في كل مرة أمرا ذا بال يسألني عنه ,
أفكان القصد من هذا الاستدعاء المتكرر تغذية الصحف وإشعار الرأي العام بأن شيئا ذا بال يجري مع رئيس الشيوخ السابق , حين لم يكن في الحقيقة شئ ذو بال أو غير ذي بال ؟
وكان عبد الرحيم بك غنيم النائب العام يوجه لى بعد ذلك كله أسئلة لا أراها تنتج في التحقيق أو تؤدي إلى غاية , فكنت ألاحظ ذلك له فيجيبني : إنني أريد أن أحقق دفاعك فسألته غير مرة : أفأنت توجه إلى تهمة إذن لتحقيق دفاعي عنها فكان جوابه :
إنما نريد أن نصل إلى الحقيقة . ولم أفهم أنا في كل أدوار التحقيق أية حقيقة يريد أن يصل إليها بعد أن أوضحت له الحقيقة كلها منذ اللحظة الأولي .
وقد كان من نتيجة ما ذكرته في هذا التحقيق ومما أدي إليه من سؤال الأميرالاي هجرس أن اهتدت النيابة إلى عبد العزيز جاد الحق , وأن ضبطت عنده أوراقا كثيرة منسوبة إلى أشخاص سياسيين قررت إدارة الطب الشرعي أن توقيعاتهم مزورة بطريق " الشف " فكان حقا على النيابة وقد أوصلها ما ذكرت إلى ما لم يستطيع أن يوصلها إليه من قبل أن تغتبط بالعثور على هذه الأوراق ومعرفة مصدرها ,
وأن تتبين أن الذين وضعوا هذه الأوراق إنما أرادوا اتخاذها أحبولة لتصيد المال ممن يظنون أن هذه الأوراق تعنيهم , فهي إحدي الطرق الاحتيالية التي تتألف منها جريمة النصب لكن عبد الرحيم بك غنيم أبي أن يتجه هذا الاتجاه على وضوحه ,
كأنما شعر أن مهمته أن يصل إلى إثبات ما ورد في بلاغ النحاس باشا أو أن يدل على الأقل على أن هذا البلاغ يحتمل الصحة ,ولهذا شغل نفسه أيما شغل بالوسيلة التي تؤدي إلى سؤال حسن باشا عبد الوهاب وأحمد على علوبة باشا وهما عضوان بمجلس الشيوخ يتمعتان بالحصانة البرلمانية ,
وأفضي إلىّ بما يشغل باله فذكرت له أنه في غير حاجة إلى أن يطلب رفع الحصانة فهو سيسألهما بوصفهما شاهدين وسماع الشهادة ليس إجراء جنائيا ضد الشاهد , لكنه أفهمني أنه يريد سؤالهما من غير أن يحلفا اليمين , أى أنه برغم ضبط الأوراق عند عبد العزيز جاد الحق كان لا يزال يريد أن يظن أنهما قد تكون لهما يد في التزوير ,
أو أنهما كانا يعلمان به , وعجبت كل العجب لهذا الاتجاه إزاء رجل كان زميلا له في محكمة النقض منذ أشهر , ثم كان وزيرا العدل فكان بذلك رئيسا له حين نقل هو , عبد الرحيم بك غنيم من محكمة النقض إلى مجلس الدولة وإزاء رجل آخر لواء بالجيش وقد تقلد في الجيش من عليا المناصب ما يدل على تقديره والثقة به .
وزاد من عجبي أن يحرص النائب العام على سؤال رجلين لهما هذه المكانة وأن يأبي سؤال حسن باشا يوسف رئيس الديوان الملكي بالنيابة .
وسألته عن مصدر حرجه في طلب رفع الحصانة فلم يكن مصدر هذا الحرج مقام الرجلين ومكانتهما , بل خشية أن تثور في الجلسة التي يبلغ فيها طلب رفع الحصانة مناقشات حول التحقيق برغم قراره حظر النشر في موضوع التحقيق .
فقلت له : إن يكن ذلك سبب حرجك فأنا مطمئن إلى أن ما تخشاه لن يحدث , فسيكتب الرجلان إلى رئيس مجلس الشيوخ للموافقة على رفع الحصانة إذا أنت طلبت رفعها غدا وستمر المسألة من غير مناقشة بعد غد , لتستطيع أن تسألهما يوم الثلاثاء , وتم ما ذكرت وطلب الرجلان إلى النيابة يوم الثلاثاء أول يوم من شهر رمضان كما قدمت .
وانتظرنا قرار عبد الرحيم بك غنيم في التحقيق فإذا به لا يصدر إلا بعد ثلاثة أسابيع من اليوم الأخير الذي سمع فيه علوبة باشا وحسن عبد الوهاب باشا وإذا به يحاول في جهد مضن أن يورد ما قام بنفس عبد الرحيم بك من شبهات تدعوه للظن بأنا ربما كان يعلم أن الصورتين الفوتوغرافيتين مزيفتان , ليقول بعد ذلك إنه لا يستطيع القطع بصحة هذا الظن وإنه لذلك يحفظ بلاغ النحاس باشا والأستاذ إبراهيم فرج بالنسبة لنا , ويقرر رفع الدعوى على عبد العزيز جاد الحق والأميرالاي محمد سليمان هجرس بتهمة تزوير هذه الأوراق .
ولا أدل على الجهد المضني الذي بذل في صياغة القرار لتسويغ ما قام بنفس النائب العام من ظن من تلاوة هذه الفقرات من القرار ونصها ..
"ومن حيث إنه يبين مما تقدم أنه يقوم في وجه أدلة نفي العلم بالتزوير قرائن ودلائل من شأنها أن تثبت العلم به غير أن هذه الدلائل ليست كافية للقطع بثبوت الركن المعنوى لجريمة استعمال الأوراق المزورة على ما جرى به قانون العقوبات وقضاء محكمة النقض من أنه هو العلم بالتزوير علم اليقين .
"ومن حيث إن لذلك وفي مقام تحديد المسئولية الجنائية ونزولا على حكم القانون لا يكون ثمة مناص من التقرير بأنه لا محل لرفع الدعوي العمومية على حضرات أصحاب السعادة حسن عبد الوهاب باشا وأحمد علي علوبة باشا ومحمد حسين هيكل باشا ..
كنت مسافرا صباح الغد من صدور ذلك القرار إلى لبنان لكني لم أر أن أدعه دون تعليق عليه فاتصلت بعلوبة باشا , وكان يؤمئذ يعالج بالمستشفي , فألقيته حريصا من جانبه كذلك على أن ينشر كلمة يعلق بها على هذا القرار وفي صبح الغد , وأنا في طريق إلى الإسكندرية أركب منها الباخرة إلى بيروت , قرأت في الصحف التعليق الموجز الذي بعثت به إليها والتعليق الذي بعث به علوبة باشا , وأنا أثبتهما هنا كما أثبت فقرات قرار النائب العام لأن الوثائق الثلاث ترسم صورة من الحكم في مصر وكيف كان يجرى في ذلك العهد .
وأما تعليق علوبة باشا فهذا نصه :
" لم يغب بعد عن الأذهان أني بمجرد علمي بأن وزارة العدل طلبت إلى مجلس الشيوخ رفع الحصانة عن حسن عبد الوهاب باشا وعني كتبت إلى المجلس أبدي موافقتي على طلب الوزارة وصرفت النظر عن كون الحصانة من حق المجلس وتقديره الخاص ولا شأن فيها للعضو المقصود منها ,
وبأنها لا ترفع إلا لتحقيق تهمة موجهة إلى عضو البرلمان , وشئ من ذلك لم يحصل بالنسبة إلينا إلى ما قبل صدور قرار النائب العام بالتصرف في القضية بأن ( لا مناص ) من التقرير بأنه لا محل لرفع الدعوى العمومية على وعل زملائي كتبت بذلك ظنا مني بأنه يجب أن نتعاون جميعا على ظهور الحقيقة في أمر الوثائق واطمئنانا إلى ما تحت يدي من الأوراق وقد كان لها وحدها الفضل كما ظهر في الكشف عن الجماعة التي ظلت سنوات تدس وثائق على غيرنا من الأشخاص والهيئات والمصالح الرسمية وثقة مني , بأن الحكومة مهما قصدت من أن تتخذ من هذه المسألة فرصة للنيل سياسيا من رئيس حزب معارض ومن زميلين لهما ماضيهما ومركزهما الاجتماعي , بأن الحكومة مهما قصدت من أن تتخذ من هذه المسألة فرصة للنيل سياسيا من رئيس حزب معارض ومن زميلين لهما ماضيهما ومركزهما الاجتماعي , بأن في مصر قضاء كفيلا بأن يحول بينها وبين تحقيق مأربهما عن طريقه
,وفاتني أن أفترض أن النيابة وإن التقت معنا في أن أية جريمة معدومة الأركان بالنسبة إلينا إلا أنها مع ذلك تجهد نفسها لكي تتبع كل ما يخيل إليها أنه مبرر لهذه النتيجة التي انتهت معنا إليها فترد عليه بمقولة أن في القضية قرائن ودلائل " كذا" تثبت توافر تلك الأركان ,
وإني إذ أري أن النيابة بهذا تقف بيننا وبين القضاء أبادر كما كان شأني في رفع الحصانة البرلمانية إلى أن أتقدم إلى سعادة النائب العام بأن هذا القول منه يتعين معه عليه أن يرفع الأمر في شأننا إلى القضاء بل إني ألح عليه في ذلك فإن لم يفعل فإني أتحدي المجني عليهما في نظر النيابة , وهما رفعة النحاس باشا ومعالي إبراهيم فرج باشا , بأن يستعملا حقهما في رفع الجنحة المباشرة علينا فإن لم يفعلا فإن للنيابة أن تطلب اعتبار الوثيقتين ورقتين رسميتين لنسبتهما إلى رئيس الوزراء ووزيره, في شأن يتصل بسياسة الدولة وبذلك ينتقل اختصاص نظر القضية إلى محكمة الجنايات وهذه لها بحكم القانون أن تقيم من نفسها الدعوى علينا إذا أقرت ما جاء في قرار النائب العام من " أن بالقضية قرائن ودلائل كثيرة تثبت علم التزوير "
فإن لم يفعل النائب العام والمجني عليهما شيئا من ذلك كان لى كل الحق في أن أعتبر ما جاء بالقرار مما لا يتفق مع نتيجته لغوا وانحرافا في نظرى عن المنطق السليم , فإن سعادة النائب العام الذي لم يقصد بداهة هذا الانحراف كان لا شك يتريث في تضمين قراره ما تضمن لو قدر أنه بعمله سيحرم رئيس حزب سياسي معارض وزميلين له في أعضاء البرلمان من حقهم الطبيعي في الدفاع عن أنفسهم وأن هذه الحرمان هو في صالح رئيس الوزراء وأحد الوزراء .
وإذ كان سعادة النائب العام قد أشار في قراره إلى وثيقة الإخوان المسلمين التي أنكرتها السفارة البريطانية فلعل سعادته يكون قد تتبع ما نقلته إليه في التحقيق عن لسان الأميرالاي هجرس بك عن طريقة الحصول على تلك الوثيقة الشخص الذي اشتراها وهو شقيق أحد الوزراء والثمن الذي دفعه وتاريخ ورقم الشيك , فإن تزويرها واستعمالها جريمة في نظر القانون مماثلة للجريمة التي أصدر قراره فيها "
خاتمة
وبعد , فقد رأي القارئ في ثنايا هذا الكتاب بعض ما كان الدكتور هيكل ينوى كتابته من فصول هذا الجزء الثالث من مذكراته في السياسة المصرية , كالفصل الخاص بإدارة السودان أو ما اصطلح على تسميته في ذلك الوقت بسودنة الوظائف , واهتمام الدكتور هيكل بالسودان معروف من قديم ولعل القارئ يذكر كتابه الصغير "عشرة أيام في السودان "
الذي أصدره في سنة 1935 والذي يبرز إلى حد كبير اهتمامه كصحفي في ذلك الوقت بالسودان وأموره .
كما أنه كان يقدر لهذا الجزء أن يشتمل على فصل خاص عن قيام جامعة الدول العربية ونشاطها في السنين الأولي من حياتها وموقف مصر والمصريين منها وأثرها في تسيير أعمالها
كذلك كان يقدر له أن يتناول في فصل خاص تطور الحياة النيابية في مصر منذ بدأت فيها هذه الحياة النيابية بشيرا بديمقراطية حقيقية وقد كان دافع الدكتور هيكل إلى ذلك اقتناعه بأن الديمقراطية كنظام متحرر هي أفضل ما وصل إليه الفكر السياسي في تصوير نظم الحكم .
ولعل هذا الجزء الثالث من المذكرات مع جزأيها السابقين ,يكمل أو يكاد أمام الشباب الذي أهداه الدكتور هيكل مذكراته , الصور التي أراد أن يرسمها لما اتصل هو به من حياة مصر السياسية , لتكون لنا اليوم " موعظة وعبرة " في سعينا نحو إقامة نظام ديمقراطي حر لا تعصف به الأهواء والرياح .
" الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "
أحمد هيكل
المحامي