مذابح الإسلاميين في سجون العسكر الحلقة السادسة
تقديم
احتلت فرنسا الجزائر في 14 محرم 1246هـ الموافق 5 يوليو 1830م ، ولقد تذرعت فرنسا بحجة واهية، وهى أن حاكم الجزائر الملقب بداي الجزائر «الداي هو منصب عسكري يوازي قائد العسكر» واسمه «حسين باشا» قد لطم سفير فرنسا بمروحة ورقية صغيرة في يده، عندما اعتدى هذا السفير عليه بالقول وأهانه في قصره متعمدًا ليستفزه، لتكون ذريعة للهجوم.
وبالفعل تذرعت فرنسا بهذه الحجة وهجمت بأسطول ضخم عليه أربعون ألف مقاتل على سواحل الجزائر ، واحتلتها وظلت الجزائر تحت نير الاحتلال الفرنسي أكثر من مائة وخمسين سنة.
اهتم الأستاذ البنا بالجزائر وعمل على فضح جرائم المحتل الفرنسي، وفتح أبواب المركز العام للمجاهدين الجزائريين، حتى إن الإخوان عملوا على تقديم المساعدات المادية والأدبية لثوار الجزائر.
وفي شهر يوليو عام 1947م الموافق 1366ه عقد الإخوان مؤتمرا للتنديد بالسياسة الفرنسية في الجزائر، حيث استنكر المجتمعون السياسية الفرنسية الغاشمة في الجزائر العربية وسائر بلاد المغرب العربي ويطالبون الدول العربية بإنذار فرنسا بمقاطعتها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا إن لم تعدل من سياستها الاستعمارية مع رفع الأمر إلى الهيئات الدولية.
لقد انتشر الفكر الإخواني في الجزائر على يد الوافدين إلى البلاد من مصر وسوريا والذين تربوا في مدرسة الإخوان حيث استطاعوا أن يتركوا بصمات في شعب هذه البلاد.
ومن الصعب تحديد تاريخ رسمي لنشاه تنظيم جماعه الإخوان المسلمين في الجزائر، لكن يمكننا القول ان حركه الإخوان المسلمين في الجزائر تشكلت عام 1976 كتنظيم سري تحت اسم حركه “الموحدين”، لكن هذا التنظيم حل في عام 1980 ثم عاد للعمل في ذات العام باسم “جماعه البليده”.
يقول الأستاذ رياض حاوي:
نملك شهادات دقيقة وموثقة عن هذه المرحلة سوى ما ذكر أن الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله كان على صلة ببعض الأساتذة المدرسين من جماعة الإخوان المسلمين في البليدة وقاموا بتزكيته لدى القيادة المركزية لجماعة الإخوان التي بايعها أثناء أداء العمرة نفس السنة التي أعتقل فيها أي 1976 . وإن كان من الصعب توثيق هذه الرواية بشكل دقيق ذلك أن الباحث الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي المطلع على شؤون جماعة الإخوان اعتبر المرحلة الفاصلة بين 1973 و 1977 هي مرحلة الفراغ التنظيمي، وأن التحرك الفعلي باتجاه الأقطار بدأت محاولاته الأولى في 1977م.
وتعتبر حركة مجتمع السلم أكثر الأحزاب الجزائرية تأثرا بالإخوان المسلمين وقد تأسست هذه الحركة سنة 1990 م أسسها الشيخ محفوظ نحناح الذي اعتقل أكثر من مرة من النظام الحاكم (1).
الجبهة الإسلامية للإنقاذ
تم الإعلان الرسمي عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 18 فبراير 1989 م، وذلك بمبادرة من عدد من الدعاة المستقلين من بينهم الدكتور عباسي مدني الذي أصبح رئيسًا للجبهة ونائبه الشيخ علي بلحاج.واعترفت بها الحكومة الجزائرية رسميا في 6 سبتمبر 1989 (2).
أول انتخابات نظمت في مرحلة التعددية كانت الانتخابات المجالس البلدية الولائية وقد أفرزت نتائجها فوزا كبيرا للجبهة الإسلامية للإنقاذ إذا حصلت على 953 مجلس بلدي من أصل 1539 و32 مجلس ولائي من أصل 48 مجلس ولائي.
زاد فزع النظام الحاكم لهذا التحول الديناميكي، فاضطهد الجبهة لكنها – على الرغم من ذلك – استطاع أن تجتاح الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 ديسمبر 1991 وفازت بها بأغلبية ساحقة وصلت إلى 82% بـ 188 مقعد من أصل 231 وهو ما جعلها تصل إلى أحد مراكز صنع القرار. تدخل العسكر فألغيت الانتخابات وأجبر الشاذلي بن جديد على الاستقالة وسيطر العسكر على مقاليد الحكم، وأعلنوا الطوارئ في 9 فبراير 1992م، شنت بعدها حملت اعتقالات ضخمة مما أدى ذلك إلى العشرية السوداء في الجزائر والصراع المسلح بين الجيش والجماعات الإسلامية.
وفي مارس 1992 تم حل حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحظره تماما عن المشاركة في الحياة السياسية (3).
سجن البرواقية
سجن البرواقية هو أحد أشهر السجون الجزائرية. ويقع بولاية المدية وعرفه الوطنيون الجزائريون في عهد الاحتلال الفرنسي وخاصة خلال الثورة.
تتردد الأقوال بأن مذبحة سجن البرواقية قد وقعت في 14 نوفمبر 1994، بعد محاولة هروب من سجن البرواقية الجزائري.
إلا أن شهادة النقيب أحمد شوشان كشفت غموض هذه المذبحة التي مارسها النظام العسكري ضد السياسيين والإسلاميين.
يقول شوشان: مجزرة البرواقية هي باختصار جريمة موصوفة ضد الإنسانية بالمقاييس المتعارف عليها في مواثيق حقوق الإنسان الشرعية والوضعية لأنها إبادة جماعية لا تبررها الأسباب المفتعلة التي تذرع بها القتلة.
وهي عمل جبان غادر بمقاييس أنظمة القتال وقواعد السياسة القديمة والحديثة لأنها استهدفت بالنيران الكثيفة مساجين عزل محاصرين في قلعة عسكرية حصينة ومحاطين بطوق ثابت من الوحدات القتالية من مختلف الأسلحة.
وهي خيانة عظمى لأن الذين نفذوها هم المفوضون دستوريا بالسهر على أمن وحماية المواطنين الجزائريين من العدوان.
أما الطامة الكبرى فهي أن يساهم التلفزيون الرسمي في تشويه الحقائق للتغطية على الجريمة الموصوفة التي تعرف حقيقتها هيئات الدولة المعنية من الرئيس إلى أعوان وزارة العدل.
بدأت إرهاصات الأحداث قبل عملية الفرار من سجن تازولت بباتنة ربيع سنة 1994 حيث تم تحويل دفعات من المساجين المشبوهين من باتنة والحراش وسركاجي وتيزي وزو.
وقد تمكن بعض المثقفين والأساتذة من تحويل سجن البرواقية بين 1992 و1994 إلى مدرسة حقيقية رغم ما يعانيه المساجين من تعسف وظلم فاهتم أغلب المساجين بترقية مستواهم الثقافي والمعرفي إلى درجة جعلت عمي مختار (57 سنة) يقول لزوجته لقد كتب الله علي السجن لأتعلم الكتابة والقراءة فقالت له إذن إبق في السجن أحسن لك وأصبحت نكتة نتفكه بها.
وقد تجاوز عدد المساجين السياسيين 1200 سجين سنة 1994 مما اضطر إدارة السجن لتعزيز الوضع المستقر الذي حققه السلوك الإيجابي لأولئك الإطارات خاصة خلال موسم الإعلان عن الحوار الوطني. ولم يرق هذا الأمر للخفافيش التي كانت ترصد الوضع فقامت فجأة بعملية التحويل المذكورة وغيرت إدارة السجن وبدأ مخاض الأحداث.
واستهدفت أول خطوة التشهير بالدعاة والأساتذة المؤطرين ثم شكلت إدارة السجن عصابة من المساجين القادمين من سجن سركاجي والحراش تربطهم على ما يبدو علاقة سابقة بالمدير شخصيا وأصبحوا الوسيط المعتمد بين الإدارة والمساجين وتجاوزت صلاحياتهم بعض حراس السجن بتوصيات من المدير. وكان من بين أفراد هذه العصابة عملاء لدوائر أمنية تم تحويلهم للقيام بعملية تصفية جسدية لإطارات الجبهة الإسلامية للإنقاذ . وكانت الخطة كالآتي:
1- يتم التغرير ببعض المساجين المراهقين الذين تعرضوا للإحباط جراء ما تعرضوا إليه من تعذيب وإهانة في مراكز الاستنطاق أو ما وقعوا فيه من أخطاء في حق الأبرياء
وإقناعهم بإمكانية الفرار من السجن بالتعاون مع حراس مفترضين دون التعرض إلى موضوع التصفية المبيت من طرف المدبرين للمؤامرة وقد تم فعلا تجنيد حوالي ثلاثين سجينا منهم الابن البكر لمنصوري الملياني.
2- لضمان الامتثال التام للأوامر يتم الإعلان عن إمارة شرعية للمعنيين بالفرار يبايعون فيها الأمير على السمع والطاعة.
وقد تم فعلا تعيين عبد الكريم صفصافي أميرا للمجموعة ثم رقي إلى خليفة بعد مقتل أمير الجماعة الإسلامية المسلحة قواسمي الشريف الملقب بأبي عبد الله كما عين بريش عبد الفتاح الملقب بأبي سليمان إماما وعين مراد من بلكور الملقب بالطيب الأفغاني أميرا للحرب وكان الرأس المدبر هو عبد القادر بوخشم.
وقد اعترف لنا بهذه المعلومات بعض الضحايا المتورطين بعد أن وقع الفأس في الرأس واكتشفوا أنهم كانوا ضحية عملية مخابراتية محبوكة.
3- اختيار أشد المجندين تطرفا وتوزيعهم بالتعاون مع الإدارة على الزنزانات التي يسكنها الإطارات المستهدفون بالتصفية وقد تم تأجيل هذا الإجراء إلى يوم العملية.
4- بعد تنفيذ عملية التصفية يتم القضاء على المتورطين فيها ويعلن التلفزيون الجزائري أن عناصر من الجماعة المسلحة قتلوا عناصر من الجبهة في إطار الاقتتال الحاصل بينهما ولولا تدخل رجال الأمن الأشاوس لكانت المجزرة أفضع وهو بالفعل ما صرحت به مذيعة التلفزيون الرسمي
التي أصبحت فيما بعد وزيرة وسيناتورة في مجلس الأمة رغم أن رجال الدرك والأمن قتلوا خمسين سجينا أعزلا فيما قتل عملاؤهم سجينا واحدا من المتورطين في العملية.
أما باقي المساجين بدون استثناء فقد كانوا بين جريح وصريع ولم يتمكن واحد منهم من الدفاع عن نفسه. ورغم العدد الكبير من الضحايا إلا أن الخطة فشلت لأن المستهدفين بالتصفية فيها نجوا من المذبحة بتدبير من الله (4).
ويضيف:
قد ظهرت بوادر الفشل ليلة العملية عندما رفض أغلب الشباب المغرر بهم فكرة التصفية وتردد البعض منهم ووقعوا في حرج كبير فعدلوا عن تسريبهم إلى زنزانات المستهدفين بالتصفية الجسدية من إطارات الجبهة والدعاة خوفا من افتضاح أمرهم.
ولكنهم في منتصف ليلة العملية خرجوا من زنزاناتهم الثلاثة المفتوحة وأمروا مجموعة من ضحاياهم بالاقتراب من سور الحصن في حين بقيت مجموعة أخرى داخل العمارة.
وفي هذه اللحظة بالذات خرج أحد حراس السجن وصرخ بأعلى صوته لقد أوقعوكم في كمين وسيقتلونكم جميعا أناشدكم الله يا إخوتي أن ترجعوا إلى زنزاناتكم.
وكان هذا هو الصوت الذي أيقظ المساجين الآخرين وأصبح الجميع شهودا على ما وقع منذ تلك اللحظة إلى نهاية الأحداث. ولكن المتواجدين في القاعة (أ) وأنا من بينهم كانوا أقدر على معاينة الأحداث لأن نطاق العملية كان مفتوحا أمامنا.
رجع جميع المساجين إلى العمارة وأصر اثنان على الاقتراب من السور وهما الشاهدان الوحيدان الباقيان ممن تورطوا في مأساة (قمار ـ واد سوف) تورطا مباشرا ولم يكن أمامهما سوى الانتحار للتخلص من الضغط النفسي الذي يعانونه منذ اعتقالهما.
وكان بالإمكان صرعهما أو قطع الحبل الذي حاولا تسلقه، ولو افترضنا جدلا أنهما تمكنا من الوصول إلى أعلى السور فقد كان من المستحيل عليهما أن يقفزا من ارتفاع أكثر من عشرة أمتار
فوق الصخور الصماء ومع ذلك فقد كان بإمكان حراس السور والدوريات العسكرية للثكنات المحيطة بالسجن اصطيادهما حتى بعد تجاوز سور الحصن لأنهما أعزلان.
ولكن حارسا مجهولا من أعلى السور اختار إطلاق النار عليهما بكل برود فأرداهما قتيلين وهما داخل السجن. أما الباقون فقد طلبوا من المساجين فتح زنزاناتهم فلما رفضوا فتحوها عنوة ليصبح اكثر من ألف سجين يتجولون في أروقة العمارة. وقد حاول أحد المتورطين تحذير المساجين مما يراد بإطارات الجبهة ولكن رفاقه عالجوه بقضيب فولاذي حتى الموت.
لم تطلع شمس اليوم التالي إلا والموقف واضح وضوح الشمس للجميع. حوالي عشرين سجينا على علاقة مشبوهة بالإدارة يحاولون الفرار، قتل منهم ثلاثة وبقي الاخرون محاصرين بإحكام مع أكثر من ألف سجين أبرياء في عمارة بدون ماء ولا طعام ولا كهرباء.
ولم يسفر قصف العمارة بمئات الحشوات من الغاز والقنابل الدخانية عن خروج المساجين ثم فتح باب التفاوض على إخلاء العمارة بين الإدارة وقيادة فوج التدخل السريع للدرك من جهة ومنفذي العملية وبعض المساجين من جهة أخرى وكان المساجين يريدون حضور طرف مدني من ممثلي حقوق الانسان يضمن لهم التمتع بحقوقهم في حين أصر الطرف الآخر على الاستسلام غير المشروط أو الإبادة الجماعية.
وانتهت المفاوضات إلى الفشل وجاء الأمر الفصل على لسان قائد فوج التدخل السريع للدرك الوطني الذي أعلن بمكبر الصوت بعد منتصف الليل قائلا:
ابتداء من الساعة الثامنة صباحا سأخلي العمارة بقتلكم إذا لم تخرجوا. وفعلا تم اقتحام الطابق السفلي للعمارة بعد منتصف الليل وتم إخراج الأسرة التي استعملت لسد المدخل من طرف حراس السجن تحت غطاء من القصف الكثيف بالغازات والقنابل الدخانية وحشر المساجين في الطابقين العلويين.
وبعد الساعة الثامنة صباحا بقليل وجه أكثر من خمسمائة مسلح رشاشاتهم الخفيفة والمتوسطة نحو نوافذ العمارة وأبوابها وبدأ إطلاق النار لتعيش العمارة بمن فيها جحيما حقيقيا أثناء اقتحام الطابق الأول وتساقط المساجين بين قتيل وجريح وأصبح الجنود يرمون المساجين العزل المحصورين رميا مباشرا من مسافة أقل من عشرين مترا داخل العمارة ورغم صراخ وكيل الجمهورية الذي لم يحتمل بشاعة الموقف بإيقاف الرمي إلا أن حضرة الرائد قائد الفوج الهمام لم يصدر الأمر بإيقاف الرمي إلا بعد أن دخل وكيل الجمهورية شخصيا في قطاع الرمي وهدده بالعقوبة. فرد عليه قائد الدرك بكلام بذيء و أوقف الرمي عند ذلك (5).
ويستكمل شهادته بقوله:
عندما توقف الرمي كان الجنود المتقدمون من مدخل العمارة قد وصلوا بمحاذاة الزنزانة رقم 28 التي انتقلت إليها مع سجينين آخرين قبل بداية الاقتحام بناء على تقدير قتالي للموقف ولم يكن الجنود يتصورون أن نكون في ذلك المكان المتقدم لأن مئات المساجين اندفعوا إلى القاعة (أ)
باعتبارها أبعد نقطة عن مدخل العمارة هربا من جحيم الرصاص فاكتظت بهم القاعة وما حولها من الزنزانات وبقي الكثير منهم خارجها يتزاحمون وظهورهم دريئات طرية للنحاس الملتهب.
وبعد أن توقف الرمي نادى وكيل الجمهورية المساجين وأذن لهم بإخراج القتلى أولا ثم بدا إخلاء العمارة.
كنت ومن معي نسمع ونرى دون أن يتفطن لوجودنا أحد. وبعد أن بدأ المساجين في الخروج اشرت إلى أحدهم أن يخبر وكيل الجمهورية بوجودنا حتى لا يضطرب الجنود ويطلقوا النار عشوائيا فاقترب أحد الجنود من مدخل الزنزانة وأذن لنا بالخروج.
توقعنا أن الكابوس انتهى فخرجنا لنلتحق بطابور المساجين الخارجين من العمارة تحت النظرات الحاقدة لأعوان الدرك. وما أن وضعنا أرجلنا على عتبة الباب الخارجي للعمارة حتى تلقفت القضبان الحديدية من كان أمامنا من المساجين ليمروا بصراط جديد بين العمارة والساحة المعدة للمحشر الجديد وطوله حوالي 300 متر يمر خلالها السجين بين صفين من حراس السجون حوالي 250 حارسا يضربونه بجنون فلا يصل إلى الساحة إلا صريعا مضرجا بدمائه ومجردا من جميع ثيابه فيتكدس بعضهم فوق بعض في منظر مريع يدل على الاحتقار البشع للذات البشرية عند القوم.
ومن لطف الله بي أن أحد الحراس المتعاطفين معي كان مكلفا بالتعرف على المحكوم عليهم بالإعدام حتى يتم عزل من بقي منهم حيا عن باقي المساجين
لايهام الرأي العام بأن عملية التصفية لم تكن مقصودة فأخرجني من الصف مع واحد ممن كانوا معي وألحقنا بجناح المحكوم عليهم بالإعدام ونصحني بأن لا أجيب إذا ناداني أحد باسمي حتى تنجلي الأمور.
وفي آخر عملية الإخلاء تم إخراج السجين عبد العالي وهو أحد العناصر النشطة المتورطين في العملية منذ إرهاصاتها الأولى وتم إطلاق النار عليه بكل برود أمام المساجين حسب ما أخبرنا به شهود العيان في أوانه مما جعل رفيقه يبادر إلى ضرب حارس متورط معهم في القضية فأطلقوا النار عليه وأخرجوه إلى خارج العمارة وقتلوه بالسلاح الأبيض شر قتلة فاعتصم من بقي من المساجين داخل القاعة رقم (أ) وأغلقوا بابها على أنفسهم وكان بينهم عناصر ممن لهم علاقة بالعملية خشية أن يلاقوا نفس المصير فما كان من قوات الدرك إلا أن سربت إليهم سوائل ملتهبة من منافذ القاعة ثم قصفتها فتفحم أغلب المساجين فيما أصيب بعضهم إصابات بالغة وقد أخبرنا بعض الناجين أن قوات التدخل أجهزت على بعض الأحياء من بينهم المحكوم عليه بالإعدام يوسف بوصبيع. وقد جمعت بعد ذلك جثث واحد وخمسين سجينا أغلبها متفحمة في ساحة العمارة وبقيت ليلة كاملة في العراء تعبث القطط السائبة بما بقي منها من أشلاء لتنقل على متن شاحنتين صباح اليوم التالي وتدفن في حفرتين مختلفتين إحداهما في منطقة البرواقية والأخرى في مقبرة تاخابيت ضواحي المدية.
أما باقي المساجين فقد كدسوهم عراة حفاة في قاعات ضيقة لا تتسع لهم واقفين ملتصقين ببعضهم وعاشوا صورة من يوم الحشر العسير وبقوا على تلك الحال يومين أشرف بعضهم فيها على الموت.
وكان الحراس يخرجونهم بالضرب بالقضبان الحديدية ويدخلونهم به لضبط قوائم المناداة وكان المساجين يفضلون الضرب بالقضبان خارج القاعة هروبا من وضعية الوقوف عراة كما ولدتهم أمهاتهم لا يمكن لأحدهم تغيير وضعية رجله دون إيذاء أخيه.
علما بأن بين السجناء من تجاوز عمره 75 سنة ومعه أبناؤه وإخوته.
وكان من بينهم مجاهدون وآباء شهداء ثورة التحرير الوطني بكوا بكاء مرا وهم يقلبون الذاكرة بين جلادي الجزائر المحتلة قبل سنة 1962 وجلادي الجزائر المستعمرة بعد 1992.
وفي اليوم الثالث وزع الحراس على المساجين سراويل خشنة مؤذية للجلد وخففوا من الاكتظاظ بحيث أصبح بإمكان كل سجين أن يجلس دون أن يمد رجليه أو يستلقي لينام والقاعة التي التحقت بها في اليوم الثالث كان طولها اقل من عشرين متر وعرضها لا يتجاوز 6 متر وفيها ثقبة واحدة للخلاء غير مستورة وبدون ماء وكان عددنا في البداية 400 سجين ثم اصبح حوالي 360 وكنا نفترش الإسمنت المشبع بالرطوبة والماء في البداية ونتغطى بسقف القاعة الذي يتسرب الماء من كل زواياه إذا ذاب الثلج الكثيف المتجمد عليه ومع ذلك فقد كانت هي أحسن القاعات حالا.
لقد بقينا في هذه الوضعية أكثر من شهرين كانت وجبات العقوبة فيها أكثر من وجبات الأكل ولم نغتسل فيها مرة واحدة وكنا نوفر ماء الشرب للاستنجاء حتى نبتت من جلودنا الديدان الحية وتفشى الجرب في المساجين إلى درجة جعلت الحراس يخافون على انفسهم من العدوى. وعند ذلك فقط سمح لنا بالاغتسال بالسوائل المطهرة واتخذت بعض الإجراءات لعلاج الحالات المرضية المتقدمة وتم تزويدنا ببعض البطانيات والملابس وفتحت الزيارة بعد ذلك. وقد زارني في الاسبوع الثاني أو الثالث من الأحداث الأستاذان المحاميان مشري بشير ومحمد بغدادي بترخيص استثنائي من ديوان رئيس الجمهورية للتساؤل عن حقيقة ما حدث ولم يكن مسموحا لأي هيئة أو شخص أن يدخل السجن أو يخرج منه في تلك الفترة إلا بترخيص من وزير الدفاع باعتبار السجن منطقة عمليات عسكرية.
وقد استنكر الأستاذ مشري بشدة الوضعية المزرية التي رآني فيها ورفض مقابلتي فيها وهدد مدير السجن بالمتابعة ولم اتكلم معه إلا بعد أن ألبسوني حذاء ولباسا عاديا وقد أخبرتهما بما رأيت في ذلك الوقت وأكدت لهما أن قوات التدخل السريع هي التي قتلت خمسين سجينا بدم بارد أما السجين الواحد والخمسين فقد تعاون على قتله اثنان من المتورطين المشبوهين في العملية وقد تم قتلهما بطريقة ملفتة للانتباه أثناء خروج المساجين من العمارة من طرف رجال الدرك والفرقة الخاصة الملحقة بهم من الملثمين المجهزين بالسلاح البيض وأن المساجين يعانون من معاملة لا أتخيل لها مثيلا من الحقارة في تاريخ البشرية.
وقد أخبرني الأستاذين بأنهما مكلفين باستقصاء الحقيقة لصالح قيادة الجبهة الاسلامية ومصالح الرئاسة حتى يكونوا على بينة مما حصل وسينقلانها لهم كما وصفتها وقد كنت أمينا في شهادتي وما زلت والحمد لله.
وقد تبين لنا بعد مراجعة التفاصيل مع بعض المتورطين والحراس ومن خلال محاضر التحقيق أن 8 جواسيس كانوا مندسين في صفوف المساجين اختفى منهم سبعة وأصيب واحد منهم بالخطأ مما جعله يعاتب إدارة السجن على إطلاق الرصاص عليه رغم إعطائه إشارة التعارف بينه وبينهم
وكان ذلك على مرأى ومسمع من سجينين كانا يعذبان داخل مكتب رئيس الحرس وقد تم نقل العميل خارج السجن فورا وأجريت معه مقابلة صحفية في ذلك الوقت قال فيها ما أملي عليه من شهادة الزور البينة باعتباره أحد السجناء.
كما أخبرني طبيب سجين استدعي للمساعدة في عيادة السجن أن بعض الأشخاص المشبوهين من المتورطين في العملية كانوا تحت تأثير المخدرات مما يدل على أنهم لا يمتون بعلاقة للمساجين السياسيين المستهدفين كما أن هذه المعلومة لم تشر إليها الدعاية الرسمية التي من عادتها اختلاق القرائن لتشويه سمعة الإسلاميين.
هذه بعض الصور من مأساة البرواقية ولو استعرضنا شريط الأحداث كاملا لصعب على الناس تصديقها ولكن الشهود الأحياء على الأحداث يعدون بالمئات ولن تمحو الأيام مهما طالت ذلك الكابوس المرعب من ذاكرتهم (6).
وقد قدرت الحكومة العدد بثمانية قتلى، بينما ذكر آخرون أن إجمالي عدد الوفيات بلغ 30 قتيلاً أو أكثر، ورجحت جريدة الوطن في وقت لاحق بأن يكون عدد القتلى قد بلغ 200 قتيلاً (7).
المراجع
- ويكييديا الإخوان المسلمون: الإخوان في الجزائر، الرابط
- يحيى بوكليخة: الجبهة الإسلامية للإنقاذ انتصار ثم انتحار: الحزب الإسلامي الجزائري، حقوق الطبع محفوظة، 2006م، صـ 54.
- الجرائد الرسمية الجزائرية لسنة 1992، الموقع الرسمي: الرابط
- من شهادات النقيب أحمد شوشان: قناة الجزائر، [١]
- المرجع السابق
- المرجع السابق
- ويكيبيديا: الرابط