محمد سعيد النجار

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الدكتور محمد سعيد النجار .. الطبيب الإنسان

مركز الدراسات التاريخية (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

إعداد:أشرف عيد العنتبلي باحث دكتوراه بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

أولا:المقدمة

الدكتور محمد سعيد النجار في حفل مدرسي بالكويت في الخمسينات

إن من يقرأ عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب مما حباه الله لهم من جوانب إيمانية جعلتهم يتحركون بها فى الحياة ، فيعجب المرء كيف يتأتى لبشر أن تجتمع فيه تلك الخلال ، لكن الخير فى أمة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة .

وقد يظن الناس أن تلك النماذج قد انتهت فى عصرنا الذى غلبت عليه الحياة المادية وأصبح الناس يحسبون كل شىء بالمقابل المادى ، وترى التحاسد والتباغض والاجتهاد فى جمع المال منتشر بين الناس ، ولعلك تعجب عندما تجد رجلا فيه سمات الصالحين يعيش ويجتهد ليهلك ماله فى الحق فى سرّيّة وتجرد تام من الأهواء، فهى لذته ومتعته . تعجب حينما تجد رجلا يتفانى ويتحسس أحوال الناس ليساعدهم ويرفع عنهم أغلال الحياة .

تعجب عندما تجد الناس يشكون ضيق الوقت وكثرة الأعمال والأعباء يدفعون به عن تقصيرهم وإهمالهم، ولعل هؤلاء يخجلون حينما يرون أكثر منهم شغلا ، وأضيق منهم وقتا ، وأكثرهم صلة لأرحامه ، وعيادة للمرضى ، لا يفوته شيئا مما يحتاجه الناس سواء من عرفهم ومن لم يعرفهم .

تجده عند ظن من يطلبه ومن لم يطلبه ، ومن هؤلاء الدكتور محمد سعيد النجار الذى شهد له معاصروه بأوصاف كثيرة،منها : (الطبيب الإنسان)، (الرجل الربانى)،(رجل من أهل الجنة يمشى على الأرض)، (رجل تغضب لغضبه ملائكة السماء )، (رجل من أولياء الله الصالحين)، (الرجل الأسطورة) .

حقيقة إن الدكتور سعيد النجار لم يبذل ذلك طلبا لمغنم دنيوى، فما عند الله خير وأبقى، ولم يركن إلى الزهد والانقطاع للعبادة والبعد عن الناس ، لكنه كان داعيا إلى الله بسلوكه وعمله الصالح الذى ظل أثره بعد موته عطرا ذكيا يتبعه على مر الزمان .

كان طبيبا يتعجب الأطباء والمرضى من إتقانه لعمله وحبه للمرضى وحرصه على رعايتهم وخدماته لهم لدرجة أنهما ظنوه سمسارا للمرضى ، ومدرسا فى كلية الطب أسر قلوب طلابه بإنسانيته وتفانيه وحبه وإخلاصه ورحمته، وأسر قلوب الناس جميعا الذين خالطوه أو رأوه حتى ظنوا أنه لا يوجد بشر بهذه الأخلاق والصفات .

ثانيا:نشأته

الدكتور محمد سعيد محمد علي عبدالوهاب النجار، من أعلام الحركة الإسلامية فى مصر ،ولد يوم 27/1/1916م فى مدينة دمنهوربمحافظة البحيرة بمصر فى أسرة ذات مكانة مرموقة ، فكان والده مهندسا ، وجده الشيخ العلامة عبد الوهاب النجار من مشايخ الأزهر الشريف ،واسمه مركب (محمد سعيد) ،وكذلك والده (محمد علي) . التحق بمدرسة دمنهورالابتدائية ثم المرحلة الثانوية ، والتحق بكلية الطب بجامعة القاهرة فى الثلاثينات من القرن العشرين .

تخرج فى كلية الطب جامعة عين شمس بتفوق ، وعين مدرسا بها تقريبا سنة 1944.وعاصر حركة الكفاح الشعبى ضد الإنجليز فى أعقاب الحرب العالمية ،والمخطط الصهيونى لتهويد فلسطين،وكانت حركة الإخوان المسلمين فى ذلك الوقت ملأ السمع والبصرفى القاهرة ، ولها فروع منتشرة فى القطر المصرى ، وقد تعرف عليها من قرب وارتبط بها .

وقد شارك فى الكفاح الوطنى فى حرب فلسطين 1948، وفى معارك القناة 1951، ولما قامت الثورة 1952 وحدث فيما بعد صدام بين الإخوان وضباط الثورة وما تلاها من اعتقالات للإخوان فى أعقاب1954، فهاجر إلى الكويت سنة 1957 بعد أن كثر التضييق على الإخوان ، ولم يعد إلى مصر إلا مرتين ، الأولى زيارة قصيرة ، والأخيرة ليدفن بها سنة 1972 عن عمر يبلغ 56 سنة .

وكان الدكتور محمد سعيد النجار فى الكويت مقيما في المساكن التي خصصت لسكن الأطباء، والذي يعرفه أبناء الكويت الذين عاشوا في تلك الأيام لخدماته الجُلَّى التي لا تُنسى.

ثالثا:مشاركته فى حرب فلسطين والقناة

شارك فى حرب فلسطين 1948، وكان له دور كبير فى تأمين ما يحتاج إليه المتطوعون من عتاد وأسلحة ومؤونة ، إضافة إلى مشاركته كطبيب يعالج الجرحى .وقد التقى به فى تلك الحرب كل من الدكتور حسان حتحوت؛

وكذلك المستشار عبد الله العقيل الذى يقول عنه:

عرفت الأخ الدكتور محمد سعيد النجار من خلال نشاط إخواننا الأطباء بمصر، ودورهم في حرب فلسطين سنة 1948م ومحاربة الإنجليز في قناة السويس .

أما مشاركته فى الأعمال الفدائية فى القناة سنة 1951،فتشير المراجع:

(الإخوان المسلمين بين إرهاب فاروق وعبد الناصر لعلي صديق،صفحات من جهاد الشباب المسلم لحسن دوح،والأستاذ مهدى عاكف فى ذكرياته)

التى تؤرخ للأعمال الفدائية فى القناة والتدريبات فى المعسكرات إلى أن معسكر تدريب جامعة عين شمس كان يشرف عليه الدكتور سعيد النجار والدكتور وائل شاهين والأستاذ حسن عبد الغني المحامي والأستاذ محمد مهدي عاكف،ونشط مدربو الجامعات في التدريب نشاطا فاق كل وصف حتى أنهم دربوا على استعمال جميع الأسلحة والمفرقعات وحرب العصابات وتكونت الكتائب القتالية وتحدد لها مواعيد التحرك ودخول المعركة .

يتحدث حسن دوح عن الدور العسكرى الذى قام به أساتذة الجامعة فى التدريبات، فيشير إلى أن معسكر جامعة عين شمس كان يشرف عليه الأستاذ "محمد مهدي عاكف" والأخ د."سعيد النجار"، و "وائل شاهين" .

ويشيد بالدكتور سعيد النجار خاصة،فيقول تحت عنوان (الجامعة معسكر حربي):

وانتظم التدريب وانتظمت الدراسة، كان عدد الذين يتدربون لا يقل عن عشرة آلاف طالب عدا الأساتذة الذين أذكر منهم ... الدكتور عبد المنعم بدر عميد الحقوق، والدكتور أمين الخولي الأستاذ بكلية الآداب، والدكتور حسن فهمي الأستاذ بكلية الهندسة، ومن الذين شاركوا بجهد مشكور الدكتور حسني عباس ... وهنا يقفز إلى القمة رجل وهب نفسه وماله وجهده لقضية وطنه وهو الدكتور سعيد النجار المدرس بكلية الطب.

ويشيرإلى الجهد الذى يبذله الدكتور سعيد النجار فى موضع آخر تحت عنوان:(روح الشعب)بقوله :

وكانت جامعة إبراهيم (عين شمس) وعلى رأسها الدكتور محمد كامل حسين لا تقل نشاطا عن جامعة القاهرة ... كان يتولى الإشراف على التدريب فيها محمد عاكف ووائل شاهين، وعدد كبير من الشباب الذين سبق لهم التدريب في فلسطين أو في أجهزة الإخوان،وكان من أنشط أساتذة جامعة عين شمس الذين شاركوا في معسكر الجامعة الدكتور حسن مرعي (الذي صار وزيرا فيما بعد) والدكتور سعيد النجار.

أما الدور السياسى الذى لعبه الدكتور سعيد النجار وأساتذة الجامعات ، فيشيرحسن دوح إلى تكوين هيئة من كبارأساتذة الجامعات المصرية الثلاثة جامعة الإسكندرية وجامعة القاهرة وجامعة عين شمس، بقصد دعم الحركة الوطنية، وبلورة فكرها. وكان أول لقاء لها في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكانت هيئة التدريب تجمع بين شباب المدرسين وشيوخ الأساتذة ..

ومن ألمع الأسماء التي أذكرها الدكتور حسن مرعي (الوزير السابق والأستاذ بجامعة عين شمس)، والدكتور علي فتحي عميد كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، والدكتور عثمان خليل عميد كلية الحقوق والخبير الدستوري بالكويت، والدكتور رشوان محفوظ نقيب الأطباء وأستاذ العيون بجامعة الإسكندرية، والدكتور غراب أستاذ العيون بالإسكندرية، أما الدكتور سعيد النجار المدرس بكلية الطب بجامعة عين شمس ، فقد كان قاسما مشتركا بين الأساتذة والطلبة .. وكان الحركة الدائبة النشيطة ..

واستطاع أساتذة الجامعة أن يرتفعوا بمستوى المعركة إلى درجة أثارت اهتمام الرأي العام كله، وفي الوقت نفسه أزعجت القصر .

ويضيف:

وقبل أن أنهي حديثي عن أساتذة الجامعة لا يسعني إلا أن أسجل موقفا أو حادثة بطلها قائم بيننا وهو الدكتور سعيد النجار .. وهي إلى جوار أنها تكشف عن معدن الرجل الكريم، فإنها تصور مدى الصراع الذي كان يعانيه الملك وأعوانه في محاولة للإبقاء على العرش، بدأت القصة بلقاء عابر اصطنعه أحد مدرسي الجامعة مع الدكتور سعيد الذي كان يعمل مدرسا بجامعة عين شمس ...
قال المدرس للدكتور سعيد إنكم لم تفكروا في ضم هذا التركي (يعني الملك فاروق) إلى صفوفكم في مواجهة الإنجليز !! وعلى الرغم من المفاجأة الذي أخذ بها الدكتور سعيد إلا أنه أبدى استعداده لتفهم الموقف أكثر من ذلك ..
وبعد أن رجع الدكتور سعيد لزملائه الأساتذة كتب مذكرة شخصية مفصلة للملك طالبه فيها بعدة مطالب .. أهمها تأييد العمل الفدائي صراحة والتنازل عن نصف ممتلكاته على الأقل لصالح الشعب كما طالبه بإقصاء شركاء السوء المحيطين به أمثال بولي وكريم ثابت.
وبدأت اتصالات موسعة بالدكتور سعيد في محاولة من الملك لإظهار استعداده للتجاوب مع الشعب ... ولكن الدكتور بدأ كما يقول يشم رائحة التآمر من وراء هذه الاتصالات، إلا أنه أحس بمدى ضعف القصر تحت الضغط الشعبي الكبير ... وانكشف الأمر أكثر وأكثر أمام الدكتور سعيد عندما جاءه زميله رسول الملك ، وقال له إنك سوف تسمع غدا ردا عليك بشأن مطالبك.
ويقول الدكتور سعيد مبتسما .. أما ما سمعته في الغد فكان إيذانا بنهاية الملكية في مصر .. فقد أعلن المذياع أن الملك فاروق ينتمي حسبا ونسبا إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

ويقول الأستاذ مهدى عاكف:

وكانت تقام معسكرات تربوية للطلاب بالتنسيق بين قسم التربية الرياضية وقسم الطلاب في الإخوان، ويتم إعداده للطلاب بما يتناسب معهم، وظللنا نعمل حتى خرجنا أفواجًا كثيرة دون أن يشعر بنا أحد غير بعض الأساتذة ومنهم دكتور مصطفى كمال حلمي، وكان مدرس كيمياء في كلية الهندسة؛
ودكتور حسن مرعي، وكان نعم الرجل، ودكتور عثمان خليل عميد كلية الحقوق، وكثير من الأساتذة كانوا يشجعوننا، وعلى رأس هؤلاء جميعًا الدكتور سعيد النجار، وكان مدرسًا بكلية الطب ويكاد يكون معي خطوة بخطوة.

رابعا:جهود الخدمية فى الرعاية الصحية

يقول الدكتور حسان حتحوت:

وإنما لفت نظري إليه وميّزه عندي وعند غيري صفة من أظهر صفاته، هي التفاني في خدمة الغير، كنت لا ألقاه في المستشفى إلا وهو ممسك بذراع مريض فقير يسعى به إلى الطبيب ويوصيه به خيراً.
وظننتُ أول الأمر كما ظنَّ غيري أن هؤلاء المرضى لا بد أن يكونوا من أبناء قريته، وسألته عن هذا المعين الذي لا ينضب من المرضى الفقراء، فعلمت أن زميلنا لا تربطه بهم صلة ولا معرفة، ولكنه كلما وجد في المستشفى عاجزاً يؤوده أن ينهض، أو ضالاً لا يجد الطريق، أو ضعيفاً حيل بينه وبين الطبيب، أو مغترباً لا أهل له، توقف ركبه ليعين أخاه في الإنسانية، وليؤدي حق الله عليه في الفقراء والضعفاء، فإن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وتزور المستشفيات في حرّ الظهيرة فتجده يوصل مريضاً أو يعود مريضاً، وأيام كان طالباً في الطب لفت نظر الأساتذة بالأعداد الكبيرة من المرضى الذين كان يحضرهم ويوصي عليهم وحسبوه سمسار مرضى، فأخذوا يسألون المرضى فعلموا والحقيقة لا تقبل الشك والتأويل أن ذلك الرجل الإنسان كان ظاهرة نادرة في مجتمعنا قل ما تجد إنساناً في مثل وضعه. وهذه الظاهرة النادرة الجميلة بوفاته تختفي من المجتمع، رحم الله الدكتور الإنسان محمد سعيد النجار.

وقد شارك الدكتور سعيد النجار فى حملة صحية للتوعية والإرشاد بالكويت،وقد رصدت مجلة (تراث دائرة معارف الكويت) جهوده ، وصدر العدد الخامس منها ، بتاريخ 1/3/ 1960 حتى العدد السابع ، وهو الأخير من تلك السنة بتاريخ 1/5/ 1960.

ونجد فى المجلة صورتين من حفل تكريمي أقامته مدرسة سعد بن أبي وقاص للدكتور محمد سعيد النجار الذي كان من أهم العاملين في مجال الصحة الوقائية والتوعية الصحية؛

وقد كتبت عنه المجلة ما يلي:

احتفلت مدرستا سعد ابن أبي وقاص وابن زيدون بتكريم الدكتور محمد سعيد النجار واشتركت لجنة التثقيف الصحي بتكريمه، وقام الدكتور حسان حتحوت فكرَّم فيه إنسانيته التي آثرها على نفسه وعلى عائلته وكرَّمت المدرستان تضحياته التي أحيت صحة الجيل، كما هنأه المراقب الفني بدائرة معارف الكويت الأستاذ كامل بنقسلي على سيرته الحسنة.

وفي شهر أكتوبر لسنة 1960م (تشرين أول) صدر العدد الأول من السنة الثانية لمجلة الصحة المدرسية، وفي كلمة العدد ومقالات كتبها الكتاب الذين سبق لنا ذكر بعضهم. وقد أضيف إلى هذا العدد " ركن المرأة الصحي"، وباشر الدكتور محمد سعيد النجار بالكتابة في المجلة تحت عنوان عام هو " شخصيات لا تسنى".

خامسا:مواقف تربوية وأخلاقية

حقيقة إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الدكتور سعيد النجار مدرسة تربوية إيمانية،رجل يمشى فى الأرض بنور الله،يدرك أن أهمية وجوده فى هذه الدنيا ليتفانى فى خدمة للناس وقضاء حوائجهم فى سبيل الله،فهى هدفه فى هذه الحياة،لذلك فقد كثرت مواقفه التى لا يعلمها إلا الله ،واجتهد ألا يعلم بها أحد ،وما كان لا مفر منه،فقد علمه الناس وتحدثوا به ، وهو غيض من فيض عطائه وجوده مما أكرمه الله به .

زهده وإنفاق من لايخشى فاقه

وفى أعقاب استشهاد سيد قطب ورفاقه سعى المستشار عبد الله العقيل وبعض الإخوان إلى مساعدة أسر الإخوان المسجونيين ، وكان التحرك يشمل الإخوان المسلمين من الكويتيين والمقيمين على حد سواء بالتعاون مع الإخوان الآخرين من الأقطار العربية الأخرى وفي المهاجر.

أقول بينما نحن كذلك، وإذا بالدكتور سعيد النجار يسهم بالمال دون توقف منه ومن الآخرين بوساطته، وإذا به يفاجئنا: أرجو ألا تتحدثوا أمامي في أي أمر ترون كتمانه فإنني أخشى أن ينزلق لساني، واطلبوا مني ما شئتم من المال أو الجهد فأنا جندي أنتظر الأمر.

يقول الدكتور حسان حتحوت:

حدث أن اتفقت مع السيدة زوجته على الشروع في شراء فيلا في مصر.. يدفع عربوناً ويفي بالباقي على أقساط.. وهي تجتهد في الادخار ومع ذلك تراه يعطي الناس حتى ظنَّت أنه لابد يدّخر مبلغاً من المال، فأرادت أن تطمئن على ذلك، ولكنه في بساطته قال لها عن النقود:«أبداً.. أنا مش شايلهم إلا عند ربنا..».ولما مات وجدوا في أوراقه أكداساً من كعوب الشيكات لا تنبئ كيف صرفت ولا كم ولا لمن..»

شجاعة فى الحق

ويقول تلميذه وزميله الدكتور عصام الشربيني:

ولقد عرفته مدرساً لي بكلية الطب المصرية سنة 1944م ثم لم أره بعدها إلا في المحكمة العسكرية في أوائل الخمسينيات، ومصر تمر بأعنف إرهاب بوليسي لم تشهده من قبل حتى كان من يسأل عن هؤلاء المتهمين يعرض نفسه لأشد أنواع الأذى.
في هذا الجو المشحون كان الدكتور سعيد النجار يدخل قاعة المحكمة العسكرية، وهي تحاكم بعض المتهمين الإسلاميين، ليدلي بشهادته وسط ذهول الحاضرين وهمس القضاة، ليقول عن التعذيب في السجون والزنازين، الذي شاهده حين استدعي لعلاج أحد المعذبين، وأصرَّ على نقله إلى المستشفى للعلاج رغم معارضة ضابط السجن.

من أقواله:

"أضيئوا الأنوار يتبين لكم الخبيث من الطيب، واعلموا أن الشعب الذي يخاف من العصا لن يثبت أمام الدبابة ".

قال هذا الكلام في اجتماع لأعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة بحضور عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، في الوقت الذي كان صاحب الرأي لا يستطيع الجهر برأيه من شدة الظلم والطغيان العسكري بمصر.

علو همته

ويروى المستشار عبد الله العقيل عن تلميذه وزميله الدكتور عصام الشربيني قوله:

" إن الدكتور محمد سعيد النجار ظاهرة فذة جديرة بالتسجيل، لأنه لم يكد يعرفه أحد إلا كان لسعيد يد عليه في نفسه أو أهله أو أصدقائه، صورة تقفز إلى ذهني حين كان الطبيب منا يكاد يهلك من العمل في الحر القائظ، ويسرع الواحد منا إلى غرفة باردة، حتى نرى الدكتور سعيد النجار قد جاء بمريضه للمستشفى الأميري واستمر في علاجه ورعايته فننهض معه مستحيين من أنفسنا.

مروءته

ويروى أنه كان يركب الترام في القاهرة يوماً فإذا بشاب يعاكس إحدى الفتيات فيسمعها عبارات غير مهذبة، ويبدو أن الشاب ظن أنه في مأمن من الناس، لأنه كان ضخم الجسم، بارز العضل، فكأنه مصارع، وبالفعل سكت الناس عنه فلم يتصد له إلا سعيد النجار؛

بدأ بالحسنى معه وبصوته الناعم الخفيض يذكره أن المروءة تقتضي أن يعتبر كل فتاة كأخته، فيحافظ عليها ولا يرضى لها ما لا يرضاه لأخته، وهذا الأسلوب اللين الرقيق من الدكتور سعيد النجار أغرى الشاب به، فأقذع له القول والدكتور سعيد يزيد رقّة، وهو يحاول أن يقنع الشاب دون أن يحرجه أو يجرح كرامته؛

ولكن الشاب زاد نزقاً، فدفع سعيداً في صدره وهنا كانت المفاجأة، وفي لمحة طرف كان الشاب العملاق كالعصفورة في يد سعيد النجار، وذراعه ملوية وراءه وهو يتأوه من الألم، وسعيد يهمس في أذنه معتذراً بأنه هو الذي اضطره إلى هذا، ويستفسره إن كان في نيته أن يكف عن معاكسة الفتاة، وكانت الصدمة بالغة على نفس الشاب العملاق، فما أفلت سعيد يده حتى قفز الشاب من الترام أثناء سيره ليخفي خجلته وسوأته.

فى حاجة الناس

يقول المستشار عبد الله العقيل:

ويذكر من مواقفه النبيلة التى يتحسس فيها أحوال الناس ويسد حاجتهم،فيقول:إني مرة في أول الشهر وبعد أن قبض الموظفون رواتبهم، وكان الوقت ظهراً، وعقب عودتي من العمل، طرق جرس البيت، وحين استقبلته قال لي: يا أبا مصطفى.. هذا مبلغ بسيط أرجو أن توصله لفلان لعله يسهم في فك ضائقته، وهو من روَّاد الديوانية عندكم مساء الجمعة، وأرجو ألا يعلم مصدر العطاء.
فذهلت لذلك وجادلته في الأمر، لأن الشخص المذكور معرفته بالدكتور قليلة، وأنا أعرف به منه، لأنه من المواظبين على حضور الندوة الأسبوعية مساء الجمعة في منزلنا، فكيف عرف عن أحواله وضائقته ولم أعرف أنا، وهو من الزوَّار الدائمين لنا؟! وبالفعل تبيَّن أن الدكتور سعيد النجار على صواب وأنه سبّاق في الخير لا يجاريه أمثالي.
ولقد مات سعيد النجار.. والأحرى أن نقول استشهد لأنه مات وهو يسعى على حاجات المحتاجين ويبحث عن عمل للعاطل، ومال للمدين، وحل لكل مشكلة.
ويُروى أنه حين كان معيداً في كلية الطب تسامع أن أربعة من طلبته سطا على مسكنهم لص وسرق ما كان منشوراً على حبل الغسيل من ثيابهم، ويفاجأ الطلبة في المساء بالدكتور النجار يطرق بابهم ، وقد حمل لكل منهم ثياباً جمعها من بيته.
ويطلب منه بعض طلبته أن يشرح لهم أحد الموضوعات ويضيق الوقت الرسمي، فيدعوهم إلى بيته ويشرح لهم الدرس ويطول الوقت فيقدم لهم العشاء المتيسر ثم يستأنف الشرح حتى يفهموا الدرس على خير وجه وينصرفوا.
تدخل بيته الفجر فتراه مليئاً.. وتذهب للمطار في الليل فتجده يودع أو يستقبل من يعرف ومن لا يعرف..

ومن المواقف النبيلة التى صنعها الدكتور سعيد النجار مع الناس أن أحد الإخوان سُجن فأهمه أمر عياله،فيقول:

«مرت بي ظروف ذات مرة فإذا أنا مودَع في السجن وأهمني أمر العيال ولا عائل لهم إلا ما أتكسبه من عملي يوماً بيوم، فلما خرجت من السجن وجدت أن طعامهم كان يأتي إليهم كل يوم من بيت الدكتور سعيد النجار».

وقال آخر:

«جمعنا مجلس مرة مع الدكتور سعيد النجار ودار الحديث بصدفة غير هادفة، فعلم أن ابني التلميذ يجد صعوبة في مادة الرياضيات.. وفوجئت بعد أيام بمدرس يطرق الباب ليعطي ابني درساً خصوصياً ويقول: إن حسابه خالص من سعيد النجار».

يقول الأديب الكبير عبد الله خلف:

وكان يرفض أخذ المكافأة المالية المخصصة لرجال الثقافة والدين كان يزاول عمله في الطرقات والدواوين يحمل الشنطة والختم والوصفات وعند انصرافه من الإذاعة كان يقف بسيارته أمام باب الخروج فيطلب من المنتظرين مرور الحافلة أن يوصلهم، منهم من هو في العاصمة وآخر في إحدى الضواحي ويوصلهم إلى أن يدركه ميقات صلاة العصر فيصلي في أي مسجد ويعود لمنزله متأخراً ، وهذا نهجه كل يوم . رحم الله الطبيب الإنسان سعيد النجار.

سادسا:الدكتور سعيد النجار فى عيون معاصريه

ولقد أثنى عليه الكثيرون ممن عرفوه فضلاً عن زملائه الأطباء ومن هؤلاء:الأخ الدكتور يعقوب يوسف الغنيم والدكتور عبدالوهاب راشد والأستاذ محمد محمود صيام والشيخ عبدالرحمن البرغوثي والأستاذ سعد الناهض وغيرهم كثير في الكويت وخارجها.

ولعلنا نعرج على رؤيتهم له:

يقول عنه الأستاذ البهي الخولي صاحب كتاب «تذكرة الدعاة»: «هذا رجل يغضب له كل ملاك في السماء وكل ملاك على الأرض».

يقول رفيق دربه الدكتور حسان حتحوت مؤلف كتاب «الطبيب الإنسان»:

إن سعيد النجار هو القمة الوحيدة المتفرِّدة، وأشعر أن أمثاله كانوا قلة محدودة منذ الفترة التي تلت صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
عرفت غربته في هذا الزمان منذ عرفته، وامتدت معرفتي به اثنتين وثلاثين سنة ويوم عرفته أبصرتُ رجلاً من أهل الجنة يمشي على الأرض، ويوم ودعته أبصرت رجلاً من أهل الأرض يمشي إلى الجنة.

وكتب الدكتور أحمد شوقي الفنجري في 20/10/1972م بجريدة «الرأي العام الكويتية» تحت عنوان:

«من الأولياء الصالحين» ما خلاصته: إذا كان ممكناً في عصرنا هذا أن يوجد على الأرض إنسان ممن نسميهم أولياء الله الصالحين، فلا ريب أنه كان المغفور له بإذن الله الدكتور محمد سعيد النجار.

ويروى المستشار عبد الله العقيل عن الأستاذ الدكتور عبد الفتاح طيرة صديق عمره منذ الطفولة قوله عن الدكتور محمد سعيد النجار:

«كانت حياته أسطورة لا يكاد يصدقها الناس، لولا أنهم يرونها وينعمون بها.. كان مجرد وجوده في مجتمع ما كفيلاً بأن يجعل كل من فيه يشعر بالطمأنينة وعدم الخوف، وكأنه حصن يحمي كلاً منهم من الحاجة والضيم والمرض والوحدة واليأس والحزن.
عرفته منذ الدراسة الثانوية، ودخلنا معاً كلية الطب، فكنا رفيقين وصديقين حتى آخر حياته، كانت لديه مقدرة عجيبة على أن يؤلف بين قلوب الناس، ويقنعهم بأسلوب ما على التزاور وعلى أن يحب بعضهم بعضاً، وكانت صفة «قريب أو صديق محمد سعيد النجار»

تصريح دخول إلى قلوب الناس وشهادة ثقة، وضماناً كنا نقضي نهارنا معاً في الكلية، ونقضي الليل معاً ساهرين نذاكر وندرس، وأشهد الله أنه لم ينطق عيباً ولا غيبة ولا نميمة، كان يعطي الفقير بعض المال أو يشتري له الدواء، وكان المرضى يلقبونه بالشيخ سعيد.

يقول الأديب الكبير عبد الله خلف:

كنت مسؤولاً عن (القسم الأدبي) في إذاعة الكويت ثم البرامج الأدبية والثقافية، وكانت البرامج الدينية تابعة للمراقبة التي أترأسها.. قبل إنشاء إذاعة القرآن الكريم، ومن المحدثين النشطين كان الدكتور سعيد النجار ، وكانت أحاديثه ثقافية طبية في إطار ديني، محبب لسامعيه..
في وزارة الصحة أطباء نماذج في الطيبة والإنسانية، على رأسهم المرحوم د. سعيد النجار، أطلق عليه لقب «الطبيب الانسان»، الدكتور حسان حتحوت في كتابه (الطبيب الإنسان سعيد النجار) وذلك بعد وفاته.. رحم الله الاثنين، الطبيبين النجار وحتحوت.
في مراجعاتي لطب الأذن وجدت طبيباً يثني عليه الجميع ذا سماحة، طلق المحيا تسبقه ابتسامته قبل أن يباشرك بالكلام ، ومن الذين لايفارقون عياداتهم إلا بعد أوقات انتهاء الدوام في «مركز الاتصالات للأذن والحنجرة»..
بقيت زمناً طويلاً لا أعرف غير اسمه الثنائي أشرف النجار، حتى علمت أخيرا أنه ابن المرحوم الصديق سعيد النجار فأدركت ساعتها حقيقة المثل القائل (من شابه أباه فما ظلم) طيبة وسماحة وإخلاص في العمل واهتمام كبير بكل مريض.. وقلت ساعتها إن سعيد النجار لم يمت إذ خلف ابنا صالحاً كسبته الكويت كما كسبت أباه..
وفى مجلة (دائرة معارف الكويت) نشر فى العدد السابع بتاريخ 1/5/1960 حفل تكريم أقامته مدرسة سعد بن أبى وقاص للدكتور محمد سعيد النجار الذى كان أهم العاملين فى مجال الصحة الوقائية والتوعية الصحية؛

وقد كتبت عنه المجلة ما يلى:

"احتفلت مدرستا سعد بن أبى وقاص وابن خلدون بتكريم الدكتور محمد سعيد النجار واشتركت لجنة التثقيف الصحى بتكريمه، وقام الدكتور حسان حتحوت فكرم فيه إنسانيته التى آثرها على نفسه وعلى عائلته ، وكرمت المدرستان تضحياته التى أحيت صحة الجيل،كما هنأه المراقب الفنى بدائرة معارف الكويت الأستاذ كامل بنقسلى على سيرته الحسنة."

وفى شهر أكتوبر (تشرين أول) 1960 صدر العدد الثانى من من السنة الثانية لمجلة الصحة المدرسية ، وقد باشر الدكتور محمد سعيد النجار بالكتابة فى المجلة تحت عنوان (شخصيات لا تنسى).

وقد تم الإشادة بجهود الدكتور محمد سعيد النجار الذى تقول عنها المجلة إنها تلقت كثيرا من رسائل الشكر من المواطنين الذين يشيدون بالجهد الذى تبذله الهيئة المشرفة على المجلة،ومنهم:الدكتور محمد سعيد النجار، وهو طبيب إنسان لا ينساه أبناء جيلى الذى أسعدهم وجوده بينهم ، وكان يجوب الكويت كلها فى سبيل أداء الخدمة الطبية للمحتاجين إليها ويقوم بتقديم العون إلى كل من يتقدم إليهم بطلب وهو منشىء برنامج التليفزيون الصحى ، وكان يقدمه للمشاهدين فترة طويلة من الزمن رحمه الله .

نعت الدكتور سعيد النجار مجلة الجمعية الطبية الكويتية في عددها السادس لعام 1972 قائلة:

«كان رحمه الله أقرب إلى الأسطورة منه إلى رجل يعيش بين الناس.. وكان طاقة.. عجبنا كيف احتواه وعاء آدمي واحد.. وكانت حياته قصصاً تروى وأمثالاً تضرب ومروءات تأخذ بالألباب، تناقلته الألسنة أحاديث وأسماراً وأخباراً، لا ذكريات عن ميت توفاه الله ولكن إعجاباً براحلٍ حي» .

سابعا:وفاته

يأتيه رسول ملك الموت فيصاب بمرض القلب فيتصرف تصرف من لا يخاف الموت ولا يتمسك بأهداب الحياة ولا يغير من منهاجه شيئاً، فمما يخاف إنه يعمل فى الدنيا وهو يعيش فى الآخرة، فإذا جاءته الآخرة فقد استراح من الدنيا .

وبقي في الكويت إلى أن توفاه الله في شهر أكتوبر سنة 1972م، دون أن يزور مصر سوى مرة واحدة، عاد بعدها سريعاً إلى الكويت وقد أعيد إلى مصر ليدفن فيها بعد غربة طويلة عن الوطن ، وغربة طويلة فى الحياة، وبكاه الجميع وحزنوا لفقده، فكان لخدماته الجُلَّى لا تُنسى، فقده الغنى والفقير، السليم والسقيم ، ولا غرو فقد أوحشت منه الدنيا وبكاه كل شىء فيها، لكنه لقى ربه بنفس راضية مطمئنة ترى أن ما عند الله خير وأبقى .. رحمه الله رحمة واسعة وندعو الله أن يسكنه فسيح جناته .

ثامنا:المراجع

  1. المستشار عبد الله العقيل:من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية ،الدكتور محمد سعيد النجار،ص870،وما بعدها.
  2. د. يعقوب الغنيم:من تراث دائرة معارف الكويت،جريدة الوطن الكويتية:الوطن 27/ 10/ 2010
  3. عبدالله خلف:الطبيب الإنسان سعيد النجار،جريدة الوطن الكويتية، 4/1/2011.
  4. مجلة الجمعية الطبية الكويتية ، 1972 ،العدد السادس .
  5. الأستاذ عاكف يفتح دفتر ذكريات 80 عامًا ،إخوان أون لاين ،3/8/ 2011.
  6. حسن دوح:صفحات من جهاد الشباب المسلم،نسخة الكترونية على موقع إخوان ويكي .