متطلبات سياسة مصر فى أفريقيا.. بعد الثورة
صورة مصر الجديدة

قرأ الكثيرون منا عن صورة مصر الجديدة فى أفريقيا بعد ثورة 25 يناير 2011؛ من القول بإعادة اكتشاف مصر، إلى الفرح بانتماء مثل هذه الثورة لأفريقيا، إلى تأمل الذات الأفريقية واعتبار أن «ذلك ممكن عندنا أيضا»، بل وحديث كاتب نيجيرى عن مصر «أم الدنيا»!
ويطرح ذلك مسئولية كبيرة على المسئول المصرى، والدبلوماسية المصرية، بل على قوى الشباب والتنظيمات السياسية والاجتماعية المصرية والعربية لاستعادة مكانة مصر فى القارة، بعد أن سخر وزير خارجية ما قبل 25 يناير من «الأفكار القديمة» حول العمل الأفريقى المصرى!
وذلك مقابل تجاهله لمختلف أبعاد هذا العمل وتدميره لصورة مصر فى أفريقيا، هو ومن عملوا فى خدمة سياسة السادات ومبارك لعدة عقود فى إطار السياسات الأمريكية والأوروبية فى أفريقيا.
أما فى ظل دبلوماسية جديدة توحى بالتقدير؛ فإننى أتوقع هنا سرعة مراجعة عناصر العلاقة التى افتقدناها مع دول القارة، بأمل الاستفادة من تجدد صورة مصر بفضل ثورة 25 يناير لنبعث بمكانتنا مجددا، ومعالجة خطوات حضورنا فى المواقع الحيوية، وهى أمور سوف تحتاج لاستراتيجية بعيدة المدى حتى لا نعود بشكل «هجومى» أو «احتفالى» إلى أخطاء المرحلة السابقة.
وسأعرض هنا باختصار ما يمكن العودة له تفصيلا بعد اتساع دائرة الحوار فى الدوائر التى يعنيها أمر علاقتنا الخارجية، رسمية كانت أو شعبية:
غياب الدرو المصري
● فهناك غياب للدور المصرى فى معظم القضايا والتنظيمات الإقليمية فى القارة اللهم إلا ما يلوح البعض به دائما عن «تجارة مصر» فى دائرة «كوميسا» ببضع مئات الملايين، بينما غبنا عن الاقتراب المناسب من قضايا حيوية فى الصومال ثم دارفور بل وما يجرى حول القرن الأفريقى وتوغل إثيوبيا وبوروندى فيه، وترك «الإيجاد» ـ (منظمة شرقى أفريقيا) تعالج وحدها مشكلة جنوب السودان.
بل تركنا ليبيا فى بلدان الساحل والصحراء الممتدة من السنغال إلى جيبوتى، بكل سلبيات الأسلوب الليبى على الصورة العربية كلها.
وارتبط بهذا الغياب فتور غير مفهوم ـــ إلا لأسباب «رئاسية» ـــ تجاه العلاقة مع أكبر القوى المؤثرة مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا، والكونغو، كما ارتبط بذلك ضعف الموقف الجماعى فى منظمة التجارة العالمية، مع ما سجله الأفريقيون علينا من موقف سلبى إزاء شروطها المجحفة.
● ولو أردنا تعميما حول فلسفة العجز المصرى فى معظم هذه القضايا لأشرنا إلى هزال وضعنا العام فى حركة بلدان الجنوب وأشك أن عزلتنا كانت فقط بسبب ضعف أجهزتنا فى العمل الخارجى بقدر ما يحيل ذلك إلى سياسة خضوع مصر لطلب صمتها فى القضايا الحيوية.
كان حضور مصر فى أفريقيا يتطلب العمل مع الهند والبرازيل وفنزويلا وغيرها والحضور النشط فى المنتديات الاجتماعية والسياسية العالمية لإحياء الأصول السابقة فى الحركة الأفريقية الآسيوية وتمثلها الحالى فى مجموعة الـ77 للدول النامية، وكلها ذات جذر فى السياسة المصرية التحررية.
لذلك يبقى على الوضع الراهن فى مصر أن يعيد النظر بفلسفة جديدة لاستعادة دورنا فى كتلة الجنوب فى مواجهة العولمة الطاغية خاصة أن ذلك لابد أن يرتبط بوثائق جديدة حول الانتماء العربى والأفريقى لمصر تطويرا لأفكار سابقة عن الدوائر التقليدية ولست فى حاجة هنا للقول بأن هذا الإطار «لفلسفة جديدة» هو الذى يؤدى إلى معالجات «براجماتية» تجاه نفوذ دول كبرى ومتوسطة فى مناطق مصالحنا من السودان والقرن الأفريقى إلى شمال القارة وجنوبها.
وقد تكون إعادة النظر فى فلسفة التعاون الأفريقى نفسه نافذة على المراجعات المختلفة لوضع العرب بعامة فى دائرة الجنوب، سواء استجابة لتطورات ثورية مماثلة تحدث فى عدد من البلدان العربية، أو للاستفادة العربية التقليدية والمألوفة من مركز مصر نفسها فى المحاور المختلفة للمصالح العربية الأفريقية اقتصادية وسياسية.
تحديات عظيمة
● إن مصر ستواجه فى أشهر قليلة قادمة أثر انفصال الجنوب السودانى على العلاقات مع دول «حوض النيل» والقرن الأفريقى وإمكان تحرير صورة العرب الذين بدوا عنصريين «وجلابة» طوال فترة التوتر فى وادى النيل، ولذا يلزم الانتقال لفلسفة خاصة «بالحوض» وليس مجرد «الوادى» ولعل حسن علاقتنا نسبيا مع «الجنوبيين» منذ فترة قد تدعم توجها جماعيا جديدا فى هذه المنطقة.
لذا سوف يصبح على الدبلوماسية الجديدة أن تعيد النظر فى منطلقاتنا مع دول «حوض النيل» لبحث مشروعات التنمية المتكاملة، وليس مجرد تاريخية الاتفاقات أو الحقوق المكتسبة..
كما سنبحث تأثير دخول دولة جنوب السودان كدولة منبع وليس مجرد دولة مصب. إن العودة لمشروع قناة جونجلى، كمصدر جديد للمياه، تختلف عن مشروعات «توليد الكهرباء» «والطاقة» فى إثيوبيا وعن تطهير بحيرة فيكتوريا. وتشكل كلها تنويعات تختلف عن الأوهام حول «الاستيلاء على مصادرنا المائية»!
● وتواجه مصر ــ منذ اليوم ــ أثر الكارثة الليبية التى كان «ملك الملوك» يديرها بالشكل الذى أساء للجميع، ولا ندرى حتى الآن كيف سنحتوى الموقف وفق أية تطورات ليبية، سلبا أو إيجابا!
وأظن أنه من الممكن إذا استمر الموقف فى ليبيا كما يبدو حتى منتصف مارس 2011 أن تدعو الدول العربية الأفريقية ومصر فى مقدمتها إلى اجتماع مشترك بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقى لمعالجة الموقف معا، خاصة أن المادة 4 هـ من دستور الاتحاد تعطيه «الحق للتدخل فى الدول الأعضاء فى الظروف الخطرة..».
● إننا بحاجة ملحة إلى تصورات كلية ــ حيث لا أحب كثيرا تعبير «الاستراتيجية» ــ قد تكون هى الجديدة للعمل المصرى الأفريقى فى أطاره الأوسع كجزء من التحرك مع بلدان الجنوب، والكتلة العربية الأفريقية.
إننى أتصور أن تشرع الحكومة الجديدة (مارس 2011) فى إصدار بيان عام يعبر عن توجهاتها الشعبية تعرب به عن نواياها الخارجية وتفهمها لمطلب تحرير سياسة مصر حتى فى الحدود المتاحة، وأن يتحول ذلك من قبل الكتاب والصحفيين إلى حملة توعية لإيجاد ثقافة سياسية جديدة فى مصر نفسها نحو بلدان العالم الثالث تتفق مع الصورة التى خلقتها ثورة مصر فى هذه البلدان، ولا يمكننا تصور سياسة خارجية بارزة دون أرضية ثقافية وطنية معمقة فى هذا الاتجاه أو ذلك، تستطيع أن تلتقى بالصور الإيجابية الجديدة لمصر فى أفريقيا.
● وأتصور هنا أن نشرع فى إعداد وفد رسمى وشعبى، أو عدة وفود، تحت شعار «تجديد الصورة» مثل حملات «طرق الأبواب» وغيرها، سواء للتعبير عن الوجه الجديد لمصر، أو لإعداد الرأى العام على مستوى العالم الثالث بشأن التطور المحتمل لمعالجة قضايانا الحيوية مثل قضية فلسطين (التى قد تعرض على الأمم المتحدة قريبا) أو لإيجاد روح جديدة للتفاوض بشأن مياه النيل والحاجة لاستثمارات قوى نعرفها مثل الهند وتركيا وجنوب أفريقيا والبرازيل... الخ بتفهم أكثر لمصالحنا فى «حوض النيل»، والمواقع الإقليمية المختلفة.
مراجعات
● ولابد أن ذلك سوف يلحق به مراجعة وضعنا فى الاتحاد الأفريقى (الذى لم يعين به أى مسئول كبير لسنوات!) ودورنا فى توثيق علاقته بالجامعة العربية والمنظمات الإقليمية الأخرى بعد ما أصابه من جراء السلوك الليبى خاصة أن النظام الليبى قد تحرك بسرعة خلال أزمته لجلب قوات بشرية (وقد تكون عسكرية) من عدد من البلدان الأفريقية، ستصبح عنصر تفتت فى الموقف الأفريقى.
وأتصور أن يعاد النظر فى دور (الصندوق المصرى للمعونة الفنية لأفريقيا) ليصبح أداة تمويل للنشاط الثقافى والشعبى، وداعما لأدوار كل التنظيمات السياسية والاجتماعية فى مصر نحو أفريقيا بدلا من خدمته الحالية للتعاون اليابانى والكورى والماليزى...
وغيرهم وانحساره فى بعض أشكال المعونة الفنية، بينما نريده أداة لأنشطة جماعية موسعة تقودها قوى المجتمع المدنى المصرى، التنموى منها والثقافى والحقوقى والسياسى وذلك للمساعدة فى تجديد صورة مصر التى نتحدث عن مضمونها الجديد.
● إن القضايا العديدة التى طرحناها هنا تتطلب حشد الأفكار والقوى السياسية حولها وليس مجرد الزيارات والتصريحات أو العمل المنفرد، تتطلب اجتماعات تنسيقية بين الأجهزة المختلفة العاملة أو التى كانت عاملة فى اتجاه القارة، بدءا من الوزارات الفنية وأجيال العلاقات القديمة، والهيئات العلمية والثقافية والمؤسسات الاقتصادية والتحاما برؤى الشباب، والمنظمات السياسية فيما يشبه «المؤتمر الوطنى» للعلاقات الخارجية.
لقد حضر ويحضر إلى مصر الآن العديد من شخصيات من هيئات ذات أهمية فى تشكيل وعى القارة، تذكر منها المجلس الأفريقى للبحوث الاجتماعية ومنظمة بحوث شرقى وجنوب أفريقيا، والمنتدى الاجتماعى العالمى والأفريقى، ومركز دراسات السلم والأمن الأفريقى، ومختلف الهيئات الأكاديمية لجامعات جنوب أفريقيا التى تبدى أكبر اهتمام بشئون القارة الآن، ولا أعرف أن جهة مصرية مسئولة أو سفارات قد اهتمت بحضور أو ترتيب النقاشات مع هؤلاء.
إننا لم نعرف إلا موجات من «زيارات كرنفالية» لمسئولين لم يذكروا للرأى العام كيف تم استقبالهم هناك! كما لا يعرف الرأى العام ما يقال إزاء غياب مسئولينا بل ومثقفينا عن معظم اللقاءات الأفريقية...
ومن هنا يمكننا أن نعرف لماذا بهتت صورة مصر فى القارة. أكرر هنا أن الحكومة الشعبية الحالية ليست مطالبة بإنجاز المعجزات، ولكنها فى الأشهر القليلة المتاحة يمكنها أن تطلق المبادرات المبدئية لعمل طويل المدى لصالح مستقبل مصر فى أفريقيا والخارج عموما.
المصدر
- مقال: متطلبات سياسة مصر فى أفريقيا.. بعد الثورة الشروق