ما معنى أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل «وطناً قومياً لليهود»؟
بقلم : إياد مسعود
خطت حكومة إيهود أولمرت خطوة، هي أقرب إلى القفزة، في اشتراطاتها لتبادل الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ففي المباحثات التمهيدية للقاء أنابوليس، التي عقدت في 12/10/2007، طالبت رئيسة الوفد الإسرائيلي، وزيرة الخارجية تسيبي ليفني، الفريق الفلسطيني المفاوض، بضرورة الاعتراف بإسرائيل «وطناً قومياً لليهود» مقابل أن تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية «وطناً قومياً للفلسطينيين».
ولقد أثار هذا الموقف استغراب الوفد الفلسطيني واستهجانه، لما فيه من تطور خطير في الأهداف التفاوضية الإسرائيلية، ولأنه يقود إلى نقل العلاقات بين الجانبين إلى مرحلة جديدة، تتجاوز كل المراحل الماضية.
ويمكن القول إن هذا الموقف الإسرائيلي ينقل مسألة الاعتراف إلى النقلة الثالثة.
فما هي النقلة الأولى، والثانية، وما هو الفارق بين كل من هذه النقلات؟
النقلة الأولى: الاعتراف..
عندما وضعت الحرب الإسرائيلية العربية، عام 1948 ، أوزارها ودخل العرب والإسرائيليون في هدنة عسكرية، تحركت الدبلوماسية الأميركية باتجاه كسر عزلة إسرائيل في المنطقة، والطلب إلى الدول العربية أن تعترف بها كدولة من دول الشرق الأوسط، وأن تعلن إنهاء حالة الحرب معها، والتسليم بوجودها كأمر واقع، لا يمكن إنكاره، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وكان واضحاً أن ثمن هذا الاعتراف هو القبول بالنتائج السياسية للهزيمة العربية على يد إسرائيل، والقبول بمبدأ التعايش معها، والتخلي، في السياق عن حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم.
وتؤكد الوقائع التاريخية أن عدداً من زعماء العرب لم يكن يرغب في إغضاب الولايات المتحدة ورفض طلبها الخاص بإسرائيل.
لكن الزعامة العربية كانت تنظر بعين القلق إلى رد فعل الشارع العربي إن هي أقدمت على الاعتراف بإسرائيل.
لذلك طالبت الأنظمة العربية الولايات المتحدة بحل قضية اللاجئين، عبر السماح لأعداد منهم بالعودة إلى ديارهم (على الأقل سكان المناطق التي «احتلتها» إسرائيل في حرب 1948 وتجاوزت بها حدود التقسيم ووسعت مساحتها من 54.5% من مساحة فلسطين إلى 77.5% منها).
وقد «تفهمت» إدارة البيت الأبيض آنذاك الموقف العربي، وطلبت إلى إسرائيل السماح بعودة 100 ألف لاجئ فلسطيني إلى داخل إسرائيل، على أن يلي ذلك اعتراف العرب بالدولة العبرية والقبول بتوطين حوالي 700 ألف لاجئ فلسطيني، في مناطق تواجدهم أو في مناطق أخرى.
لكن إسرائيل رفضت الطلب الأميركي، مما أغضب البيت الأبيض، دون أن يتحول هذا الغضب إلى موقف عملي للضغط على حكومة إسرائيل، وقد حملت الولايات المتحدة آنذاك حكومة تل أبيب مسؤولية قطع الطريق على إمكانية الوصول إلى سلام في الشرق الأوسط.
هنا، علينا، استطراداً، أن نعي أن الموقف الأميركي لم يكن ينطلق من خلفية الحرص على حقوق اللاجئين الفلسطينيين، أو إرضاء العرب.
بل من رؤية تتخوف، إذا ما بقي الشرق الأوسط منطقة ملتهبة، أن يوفر ذلك الظروف المناسبة لما يسمى بالتغلغل السوفييتي إلى المنطقة ليزاحم الولايات المتحدة على نفوذها ومصالحها النفطية والاستعمارية بشكل عام.
لذلك أرادت واشنطن أن تغلق ملف الصراع في الشرق الأوسط لتغلق المنطقة في وجه موسكو.
إذن، ما كانت تطالب به الولايات المتحدة هو الاعتراف العربي بإسرائيل، أي بشكل عام إعلان انتهاء حالة الحرب، وإقامة سلام بحدوده الدنيا.
وقد لعب المد الناصري دوراً رئيسياً في استبعاد هذه الفكرة.
وقد كان من المستحيل على المخيلة العربية أن تتصور يوماً ما أن عأغضتنتصب سارية في عاصمة عربية يرفرف فوقها علم إسرائيل.
كما كان من المستحيل عليها أن تتخيل الوفود العربية وهي تتفاوض مع الوفود الإسرائيلية.
مثل هذه التطورات، لو حصلت، لاعتبرت آنذاك خيانة وطنية ليس بعدها خيانة، يستحق من يقدم عليها عقوبة الإعدام.
وحتى عندما انتصرت إسرائيل على الدول العربية في حرب 1967، بقي الموقف العربي، الرسمي والشعبي، على حالة من رفض الاعتراف بإسرائيل، والإصرار على أنها دولة عدوة للعرب، ومغتصبة للأرض العربية لذلك لم يكن غريباً، وفي ظل النفوذ الناصري في عموم المنطقة، أن تخرج قمة الخرطوم باللاءات الثلاث:
«لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف»، مع أن الدبابات الإسرائيلية كانت تقف على بعد أمتار من القاهرة.
إذن، الاعتراف بإسرائيل، كما أرداه الأميركيون هو إعلان انتهاء الحرب، وفك الحصار عن إسرائيل، دون أن يقود ذلك بالضرورة إلى تبادل البعثات الدبلوماسية، أو إقامة علاقات تجارية واقتصادية، أو تعاون مشترك في أي من الميادين.
حتى هذا الاعتراف بحده الأدنى كان مرفوضاً، إلى أن رحل عبد الناصر، وشهدت المنطقة ما شهدته من متغيرات..
فدخلت القضية نقلتها الثانية.
النقلة الثانية: الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود
بعد وصول أنور السادات إلى الرئاسة في القاهرة طرأت على السياسة المصرية تغيرات تراكمية قادت إلى الاعتراف بأن 99% من أوراق الحل في المنطقة هي بيد الولايات المتحدة (في رؤية شطبت ـ زوراً ـ التوازنات الدولية وإرادة الصمود والكفاح لدى العرب) وبأن من يقاتل إسرائيل يتوجب عليه أن يقاتل الولايات المتحدة.
ولأن القتال ضد الولايات المتحدة أمر مستحيل (من جهة نظر النظام الساداتي) يتوجب على العرب البحث عن مداخل للوصول إلى سلام مع إسرائيل.
وهكذا كانت زيارة السادات إلى القدس (في تفريط فاقع بالنتائج الباهرة لحرب تشرين (أكتوبر) 73، وفي تفريط فاقع بالتضامن العربي)، ثم كانت اتفاقيات كامب ديفيد بين السادات وبيغن، في شقيها الفلسطيني والمصري والتي قادت إلى تبادل الاعتراف بالدولتين، وتبادل البعثات الدبلوماسية، في كل من القاهرة وتل أبيب، ومع ذلك بقيت العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية خاصة بعد مقتل السادات، في أدنى مستوياتها، بل إن بعض الوزارات المصرية (كوزارة الثقافة والدفاع وغيرها) رفضت الإقرار بهذا الواقع الجديد.
أما على الصعيد الشعبي فقد تصاعدت حدة الرفض للتطبيع مع إسرائيل، خاصة في صفوف النقابات المهنية كالصحفيين والمحامين والمهندسين، وحتى في صفوف الرياضيين.
ويمكن القول إن الاعتراف المتبادل بين مصر وإسرائيل لم يلزم مصر بأكثر مما تقرره مصالحها السيادية.
من هنا على سبيل المثال، لجأت مصر، أكثر من مرة، إلى سحب سفيرها من تل أبيب، احتجاجاً على حدة القمع الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، دون أن يمس ذلك قضية الاعتراف المتبادل في جوهرها.
أي أن الاعتراف المتبادل لا يتطلب، البعثات الدبلوماسية بين البلدين، ويمكن لأي منهما أن يغلق سفارته في البلد الآخر، إما لأسباب مالية، أو سياسية يرى أن مصالحه العليا تتطلبها.
اتفاقيات أوسلو السرية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادت إلى اعتراف متبادل بين م. ت. ف. وبين إسرائيل.
وإذا كانت إسرائيل قد اعترفت بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً «للفلسطينيين» (وليس للشعب الفلسطيني): فإن وثيقة الاعتراف في 9/9/ 1993 نصت على اعتراف الفلسطينيين بـ «حق إسرائيل بالوجود»، وليس الاعتراف بإسرائيل، كما هو العرف السائد بين الدول.
وقد لفت هذا الأمر نظر الرأي العام، بما في ذلك رجال القانون الدولي ورجال السياسة.
فقد التقى الجانبان على أن الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود، هو بدعة قانونية لا سابق لها في العلاقات الدولية.
لأن هذا يعني فيما يعنيه التزاماً فلسطينياً ليس في منع «الاعتداءات» على إسرائيل من داخل مناطق السلطة الفلسطينية، بل والالتزام أيضاً بالدفاع عن إسرائيل ضد كل ما يهدد وجودها.
فضلاً عن ذلك تم توقيع الاتفاق في وقت ما زالت إسرائيل تحتل أرضاً عربية (الضفة والقطاع وجنوب لبنان والجولان ومناطق في الضفة الشرقية من غور الأردن » دون أن ترسم الدولة العبرية حدودها الدولية.
ويمكن لها والحال هكذا، أن تدعي أن أي انسحاب من شبر واحد من هذه الأرض المحتلة يهدد «حقها» في الوجود، الأمر الذي يعني الدفاع عن «حق» إسرائيل في احتلال الأرض العربية بل واحتلال المزيد من الأرض العربية، إذا ما كانت هذه الخطوة، تشكل من وجهة نظر تل أبيب ضرورة أمنية تضمن «حقها» في الوجود.
وفي السياق نفسه، «يحق» لإسرائيل أن تدعي أن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم داخل مناطق 48 يهدد «حقها» في الوجود.
وفي السياق نفسه، أن تدعي أن بقاء أكثر من مليون فلسطيني داخل أراضيها، ويحملون الجنسية الإسرائيلية، يهدد «حقها» في الوجود.
الأمر ذاته ينطبق على القدس ، والمستوطنات، والمواقع العسكرية الإسرائيلية في المراكز الاستراتيجية العربية في الأراضي الفلسطينية، وعن تحليق طائراتها التجسسية والحربية في الأجواء العربية.
كما يحق لها أن تدعي أن تسليح الجيوش العربية وأن برامج التعبئة القومية في المدارس والجامعات العربية، وأن ما ورد في القرآن الكريم عن اليهود وبني إسرائيل، وعن الإعلام العربي الرسمي والخاص المعادي لإسرائيل، كلها عناصر تهدد «حقها» في الوجود.
ويصبح عندها الجانب الفلسطيني ملزماً بتنفيذ تعهداته حول اعترافه بـ «حق» إسرائيل بالوجود.
ومهما عمل الجانب الفلسطيني، في هذا السياق، سيبقى في موقع المخل بالتزاماته والمقصر في تعهداته.
الأمر الذي يعطي إسرائيل، من موقع الندية والتبادلية، «الحق» في الإخلال بالالتزامات الأخرى، والتي يمكن القول إنها لصالح الجانب الفلسطيني.
إذن، بقبوله التوقيع على الاعتراف بـ «حق» إسرائيل في الوجود، يكون الجانب الفلسطيني قد سجل سابقة خطيرة، تفتح الباب واسعاً لتحقيق الأطماع الإسرائيلية من البوابة الفلسطينية باعتبارها أطماعاً مشروعة ولا اعتراض عليها.
النقلة الثالثة: إسرائيل وطن قومي لليهود النقلة الثالثة حين طلبت ليفني من الجانب الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل «وطناً قومياً لليهود«، مقابل الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية «وطناً قومياً للفلسطينيين».
إن خطورة مثل هذا الموقف تنبع من التالي:
@ لا جدية في أن يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وطناً قومياً للفلسطينيين لأن فلسطين عبر التاريخ، هي الوطن القومي للفلسطينيين. وأن تعترف إسرائيل بهذا الأمر، فإنه لا يضيف إلى الموضوع شيئاً.
لماذا؟
@ لأن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل وطناً قومياً لليهود، ينسف فكرة فلسطين من أساسها، وينقل الفلسطينيين ليس للاعتراف بإسرائيل فقط، بل للتسليم بمشروعية المشروع الصهيوني بآفاقه غير المحدودة.
والذي يقوم على مبدأ «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
ويهدف إلى تجميع يهود العالم في إسرائيل: إسرائيل الدولة التي لم ترسم حدودها بعد، مقابل فلسطين التي ترفض إسرائيل الاعتراف بحدودها (أي حدود الرابع من حزيران (يونيو) 67 وب القدس عاصمة للدولة الفلسطينية).
ولا يستبعد، في هذا السياق، أن يستعيد الإسرائيليون نغمتهم القديمة (الجديدة) بأن الأردن هو دولة الفلسطينيين.
وهذا ما جاء صريحاً في كتاب «مكان تحت الشمس» لبنيامين نتنياهو حين اعتبر أن إسرائيل، حين قبلت بقيام المملكة الأردنية في الضفة الشرقية، فإنها تكون قد قدمت تنازلاً عن أجزاء من أرض «إسرائيل الكبرى» كذلك يدعو نتنياهو (وكذلك أفيغدور ليبرمان الوزير في حكومة أولمرت الحالية).
وإذا كان الاعتراف بـ «حق إسرائيل» في الوجود قد يقود إلى البحث في إبعاد الفلسطينيين، من حملة الجنسية الإسرائيلية، فإن الاعتراف بإسرائيل وطناً قومياً لليهود، مقابل الدولة الفلسطينية وطناً قومياً للفلسطينيين، يحتم بالضرورة طرد الفلسطينيين إلى خارج إسرائيل.
أما اليهود في المستوطنات في الضفة «فتعالج» قضيتهم بضم المستوطنات إلى إسرائيل.
وهكذا يتضح أن المغالاة الإسرائيلية في محاولاتها فرض الشروط على الفلسطينيين، هو أمر ليس من شأنه سوى الإبقاء على عوامل التفجير كامنة.
ملاحظة أخيرة: نحن نفترض أن اعتراف الدولة الفلسطينية بإسرائيل هو أمر سيادي يخص الدولة الفلسطينية المستقلة.
لذلك نقرأ في محاولات إسرائيل فرض طبيعة الاعتراف المتبادل، حتى قبل قيام الدولة الفلسطينية، مناورة مكشوفة هدفها أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل، دون أية ضمانات بقيام دولة فلسطينية معترف بها من قبل إسرائيل، خاصة إذا ما كانت هذه الدولة، مستقلة حقاً، وذات سيادة حقاً.
المصدر
- مقال:ما معنى أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل «وطناً قومياً لليهود»؟المركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات