ما لم يذكره العوا عن الهضيبي
بقلم/ الشيخ عصام تليمة
مقدمة
سمعت محاضرة أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا الثالثة عن الإخوان المسلمين، والتي ألقاها في جمعية مصر للثقافة والحوار، وأعيد بثها على الجزيرة مباشر، وهي وإن دلت تدل على عمق ثقافة الدكتور العوا بما يتكلم فيه، وبخاصة المدارس الفكرية التي تناولها في هذه السلسلة، إضافة إلى إنصافه الشديد في تناوله للإخوان، ولعل كتابة هذه المحاضرات كمادة علمية في كتاب يكون أنفع وأجدى، من حيث النفع، وسهولة الرجوع إليها عند الحاجة، لما اتسمت به المحاضرات من مادة علمية قوية، وجهد مبذول في الإعداد لها، وإنصاف شديد في التناول لهذه المدارس.ولكن استوقفني في محاضرته الثالثة عن الإخوان المسلمين نقطة مهمة، وهي كلامه عن المرحوم الأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان المسلمين الثاني، ومقابلته للملك فاروق، وكيف اتسم لقاءه به، رادا ذلك إلى أنه كان رجلا من أصل بدوي، بما في البدوي من تواضع، وعدم تكلف، وربما لا يتناسب هذا الوضع في لقاء ملك، لمقابلته أصول، وبرتوكولات ترعى، وتوضع في الاعتبار، ثم تكلم عن كتابه (دعاة لا قضاة) وأنه أشرف على الكتاب، بعد أن وضعته لجنة من الإخوان، إلى آخر ما ذكر أستاذنا الجليل. إستمع إلى:
* المدارس الفكرية الإسلامية.. للدكتور سليم العوا
ويطيب لي أن أقف لأذكر مواقف كان حريا بأستاذنا العوا وهو الفقيه القانوني البارع أن يذكرها عند حديثه عن الهضيبي الأب، وبخاصة أنه أسهب في ذكر ما للبنا من مواقف وإنجازات حضارية، وكما جلى مواقف السنهوري باشا القانونية وية والحضارية، في المحاضرة التالية، فقد كان للهضيبي مواقف لو استفاد منها الإخوان، وأحسنوا توظيفها لخرجوا بفهم للدعوة ليس يضاهيه فهم، ولانطلقوا يسطرون تاريخا مضيئا مشرقا، يجعل هامة جماعتهم فوق الذرى، ولكن كان الهضيبي رحمه الله واسع الصدر، عميق الفكر، فقيها، قانونيا، لولا أن بعض من حوله من أهل النفوذ في الجماعة غلبوه على رأيهم، وضاع رأيه في ركام تاريخ جماعة الإخوان. وأذكر للقراء، وقبلهم لأستاذنا الدكتور العوا بعض هذا المواقف، وأنا أعي جيدا أنه يعلم معظمها، إن لم يكن يعلمها كلها.
1ـ الهضيبي وتطبيق الشريعة بقانون: كان للهضيبي رحمه الله موقف من مسألة تطبيق الشريعة على الأمة، فهو يرى أن تطبيق الشريعة ينبغي أن يكون نابعا من رغبة الشعب، لا أن يفرض عليه بقرار، وأن الحرية تسبق تطبيق الشريعة، وسبحان الله كان موقف الهضيبي الأب مغايرا تماما لموقف الهضيبي الابن (مأمون)، عندما صرح في برنامج الشريعة والحياة، بأن تطبيق الشريعة يسبق الحرية، مخالفا في ذلك رأي الشيخ القرضاوي، الذي كان قد تبنى رأي الأب، دون أن يدري القرضاوي ومأمون الهضيبي، أن رأي الهضيبي الأب يوافق رأي القرضاوي، بأولوية الحرية على تطبيق الشريعة، وأن الحرية هي التي ستأتي بتطبيق الشريعة باختيار الناس.
أعلن الرئيس اللواء محمد نجيب إلغاء الدستور المصري، وقد كانت النيات المعلنة تتجه إلى إعلان تطبيق الشريعة، وأن الدستور الجديد سيستند في كل ما فيه للشريعة الإسلامية، فصرح فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين: (أنه يرى أن تستفتى الأمة أولا في دستورها الجديد؛ وهل هي تختار شرائع الإسلام أم شرائع الغرب، فإذا رأت الأمة أن تُحكم بRTENOTITLE، كان على اللجنة التي تشكل لصياغة الدستور أن تنفذ ذلك، وأن تلتزم به، ولم تعد مطالبتها بالتزام الشريعة استجداء لا يليق بRTENOTITLE، ولا بRTENOTITLE المسلمة، وإذا رأت الأمة أن تُحكم بشرائع الغرب، وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم، عرفنا أنفسنا، وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها).[1]
وموقف الهضيبي هنا من استفتاء الناس على تطبيق الشريعة، أعلم أنه لن يروق لكثير من مخالفي هذا الرأي، الذين يرون أن الشريعة واجبة التطبيق، ولا خيار للناس فيها، بل تفرض عليهم فرضا، ولكن موقف الهضيبي ورأيه ينطلق من فقه القرآن الكريم، وقد رأينا رسولا من أولي العزم من الرسل وهو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، يمارس الاستفتاء على تنفيذ أمر من أوامر الله عز وجل، بالحوار والإقناع، وذلك عندما رأى نبي الله إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده الوحيد إسماعيل، يقول تعالى: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) الصافات: 102.
فقد رأى إبراهيم عليه السلام رؤيا أنه يذبح ولده إسماعيل، ورؤى الأنبياء حق، وواجبة التنفيذ لو كانت على هيئة أمر، فلم يكن من نبي الله إبراهيم أن سلم وحده فقط، بل عرض الأمر باستفتاء على ابنه، وذلك واضح وبين في قوله: (فانظر ماذا ترى؟)، ومما لا شك فيه أن الاستفتاء وارد فيه إجابتان، إما نعم، وإما لا، ومتوقع ممن يستفتى أن يجيب بإحداهما، وإن جاءت إجابة نبي الله إسماعيل، بقوله: (يا أبت افعل ما تؤمر)، وبدلالة الموافقة من جميع الأطراف التي تم معها الاستفتاء، (فلما أسلما وتله للجبين) فأسلما هنا بضمير مثنى، لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو دليل واضح وبين على جواز الاستفتاء على القضايا المعروضة على الناس، لا أن تنزل عليهم الأوامر بلا تمهيد، وإقناع.
وما قال به الهضيبي هو نفس ما نادى العلامة السلفي المحدث الشيخ أحمد شاكر، الذي يشرح خطته في تغيير القوانين في مصر لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، فيقول: (وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السليم: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها، ونجاهد بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخابات، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارا، بل سنجعل من إخفاقنا ـ إن أخفقنا في أول أمرنا ـ مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصر لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله، وفي سبيل الله.
فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب إذا فاز أحدها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة!).[2 ]
2ـ ومن مواقف الهضيبي المهمة، والتي تتناغم مع تقديسه للحرية، واحترامه لسيادة القانون: موقفه من المحاكمات العسكرية لخصوم الإخوان، حينما أراد رجال الثورة أن يثبتوا حسن نيتهم تجاه الإخوان، فقرروا محاكمة إبراهيم عبد الهادي محاكمة عسكرية، وهو رئيس وزراء مصر في عهد فاروق، والذي تلطخت يده بدم حسن البنا، وكان له يد وتخطيط في اغتيال الإمام الشهيد، ولكن الهضيبي أبى أن يحاكم مدني أمام قاض عسكري، ونادى بأن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي المدني، وحذر الإخوان الذين فرحوا بقرار الثورة، بأن تجاوز القانون لو سكتنا عنه، وأيدناه، سيأتي يوم نقدم نحن أيضا لمحاكمة عسكرية دون أي اعتراض، وبذلك نسن سنة محاكمة المدني محاكمة عسكرية.
3ـ إسراعه ومبادراته الفكرية والقانونية، فقد سارع في إصدار دستور 53م، وعدت بذلك الجماعة أول من تقدم سياسيا بمشروع دستور، جعل عنوانه: (مشروع دستور إسلامي للدولة المصرية) وقد أصدرته الشعبة القانونية بجماعة الإخوان المسلمين، وقد صوتت عليه الهيئة التأسيسية للإخوان بتاريخ 16 من سبتمبر سنة 1952م، أي بعد قيام الثورة بأقل من شهرين!![3 ] وفي هذه الرسالة القانونية من الرؤى الناضجة، والطرح القانوني الذي يبين مدى سبق الإخوان في عهد الهضيبي في المجال القانوني والسياسي.
وليس هذا على النطاق القانوني فقط، بل كذلك على النطاق الفكري، فلم يكن من منهج الرجل عندما يصدر كتاب يخالف الإسلام، أو يصادم ثوابته، أو يهاجمه كدين، أن يلجأ إلى التظاهر بمنعه، أو إحداث ضجيج حوله، مما يؤدي إلى انتشار الكتاب أكثر مما يتوقع كاتبه، وهذا حدث عدة مرات، مرة حينما أصدر جاك تاجر كتابه (مسلمون وأقباط)، وقد ملأه بآراء غير صحيحة عن الإسلام، واحتفى بالكتاب المستشرقون وكل حاقد على الإسلام.
لم يثر حسن الهضيبي، يطالب بمنع الكتاب، وقد كان للإخوان وقتها كلمة مسموعة، بل بكل هدوء لجأ رحمه الله إلى العلامة الشيخ محمد الغزالي، وقال له: يا شيخ محمد هل في صنع خير؟ قال: على الرحب والسعة يا مولانا. قال: هذا كتاب لجاك تاجر وقد هاجم فيه الفتح الإسلامي ونظام الإسلام، لا بد من كتابة رد عليه، ولكن لا تشر إلى مؤلفه، ولا تضخم من حجمه، اذكر الحقائق فقط، ولا تشتط في الكتابة، ولا تكن ساخرا كعادتك، ولا تجرح فيه، فقط اكتف بذكر حقائق الإسلام، ورد كل باطل مما ذكره بالحق الذي يشرق به إسلامنا. واستجاب الشيخ الغزالي وألف كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام)، وأشار الغزالي في مقدمة الكتاب إلى هذا دون أن يذكر من اقترح عليه تأليف الكتاب. وكتاب البهي الخولي عن المرأة، وقد كان باقتراح منه، وقد كتب مقدمة له، ولكنها حذفت من الطبعات التي تلت محنة الإخوان للأسف.
4ـ من مؤلف (دعاة لا قضاة)؟
بقيت نقطة أحب أن أقف عندها، وهي مشهورة عند الكثير، كما ذكرها أستاذنا الدكتور العوا، وهي عن كتاب (دعاة لا قضاة) وأنه من تأليف لجنة شكلت من الإخوان في السجن، وأن دور الهضيبي فيه مجرد المراجعة، وإسباغ الشرعية عليه، بوضع اسمه كمرشد للإخوان على الكتاب، وهذه معلومة كنت أقع فيها كما يقع فيها غيري، ولكن بعد طول تأمل ودراسة للهضيبي وشخصيته العلمية، أجزم بدلائل قوية أن الكتاب من تأليفه كاملا، وأن دور لجنة الإخوان هو المراجعة، وقد أملى الكتاب على ابنه مأمون الهضيبي في السجن، وهذا عائد إلى أن الهضيبي ليس معروفا للباحثين بعقليته الفقهية والبحثية الرصينة، وأدلل هنا بعدة أدلة مختصرة.
أبدأ بشهادات من حول الهضيبي له بعقليته الفقهية، ومن هذا قول العلامة الشيخ محمد أبي زهرة في مقال له عن الربا، وقد جمعه فيما بعد في رسالة: (وددت أن أبتدئ القول بالكلام في الربا الاصطلاحي، أو الربا الذي جاءت به السنة، وقد ظننت أني بلغت ما أقصد من الكلام في ربا النسيئة، وهو في معناه حقيقة لغوية عند العرب، وجاء به القرآن، وأجمع المسلمون على تحريمه، ولم يختلفوا فيه قط. وددت ذلك، ولكن في ندوة علمية للإخوان المسلمين ـ أعز الله بهم الإسلام ـ عقب محاضرة قيمة ألقاها الأستاذ الكبير الدكتور محمد عبد الله العربي، جرت مناقشات حول جواز الربا للضرورة، اشترك فيها فضيلة المرشد العام حفظه الله (يقصد الهضيبي)، وبعض كبار شيوخ المغرب، فحق علينا أن نسجل ما انتهت إليه المناقشة العلمية الدينية المخلصة النيرة.
لقد تحدثنا في الضرورات التي تبيح المحظورات، ولم نتصور أن ثمة ضرورة اقتصادية أو اجتماعية تجعل المسلمين في حال اضطرار إلى التعامل بالربا، وجعله نظاما قائما ولو على سبيل التوقيت؛ وقلنا: إن أساس الضرورة ألا تكون منجاة إلا بارتكاب المحرم؛ فإن الربا من السحت كما وردت بذلك الآثار، وكما هو الحق الذي تدركه العقول).[4 ]
وقد عقب الهضيبي تعقيبا يدل على عمقه وتبصره بالفقه الإسلامي، فقال: (اطلعت في مجلة (المسلمون) على مقال في (الربا) لفضيلة الأستاذ محمد أبي زهرة، ذكر فيه ما دار من مناقشة حول الموضوع في ندوة الإخوان المسلمين.
وحاصل المسألة أني ذكرت لبعض الباحثين: أن الربا لا يجوز إلا إذا قضت به ضرورة، واضطررنا إليه اضطرارا، وحينئذ ينطبق علينا قول الله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه). ولم يخطر بالبال أن يكون الربا نظاما معترفا به، وليس له وجه من وجوه الحل، وقد وافق الأستاذ أبو زهرة على حالة المضطر إلى قرض ولم يجد من يقرضه إياه إلا بربا لإجراء جراحة.. الخ فثبت ما قلنا.
وقد ضربت له وضرب له الحاضرون أمثالا؛ من ذلك: ديوان البنك العقاري المعقودة قبل العودة إلى كتاب الله: ما شأنها؟ لم يقل أحد باحترام هذه العقود لأن العقد شريعة المتعاقدين، فنحن نعلم أنه ليس للعاقدين شريعة إلا شريعة الله. وكل عقد خالف ذلك فهو باطل شرعا لا يجوز تنفيذه عند إمكان عدم التنفيذ. وإنما كان السؤال ماذا نصنع إذا لم يمكنا لسبب من الأسباب التي ربما لا تخفى على أحد.
والجواب على ذلك واضح لا يحتاج إلى تكلف. والمسألة بعد مسألة تقدير الضرورات؛ وعلى المكلف بتقديرها أن يبذل قصارى جهده في تحري حكم الله فيها. والله أعلم).[5 ]
كما علق الهضيبي على مقال كتبه حسن البنا، ضمن سلسلة (مشكلات الحكم)، فكتب يقول: (كتب إلينا المستشار الفاضل والقانوني البارع الأستاذ حسن الهضيبي بك الخطاب التالي:
حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام الأخ الشيخ حسن البنا. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد:
فقرأت اليوم مقالكم الثاني (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) وقد استوقفني منه عبارة جاءت في مقام الرد على اعتراض فرضتموه ممن يجهل حقيقة الإسلام، وما فيه من مرونة في الأحكام تتسع لما يجد من الأحداث، ومؤدى هذه العبارة: أن تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتي في الموسم في القضية من القضايا برأي فيقال له في ذلك، فيقول: ذلك على ما علمنا وهذا على ما نعلم. إلخ.
كما يحدثنا أن الشافعي رضي الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد، نزولا على حكم البيئة، وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة، من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الإسلامية الكلية... إلخ[6 ]
وقد يتوهم متوهم من هذه العبارة أن ابن عمر والشافعي رضي الله عنهما، أخضعا حكم الدين لأحكام الزمان! ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك، فإن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله، مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل الإخضاع، فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس، كما وضع السنن الكونية الأخرى للشمس والقمر والحيوان والنبات وكل ما في السماء وما في الأرض وما عليها.
وفي ظني أن ابن عمر لم يغير فتواه نزولا على حكم الحوادث، بل لأنه ازداد بصرا بحكم الدين في المسألة، لذلك قال: ذاك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم. كما إني أظن من استقراء سابق لي بسبب تغير رأي الشافعي بين قديمه وحديثه، أنه حين جاء إلى مصر سمع من رواة الحديث بمساجد الفسطاط ما لم يكن قد سمع بالعراق فأقام عليه رأيه الجديد، وكان رضي الله عنه يقول: إذا صح عندي الحديث فهو رأيي.
هذا ولا منازعة في أن على المسلمين أن يجتهدوا في استنباط أحكام لم تكن من قبل لحوادث لم تكن من قبل، بل لكل مجتهد أن يستنبط ما يهديه الله له من أحكام الدين لجميع الحوادث جديدها وقديمها، وهذه هي المرونة التي جعلها الله من خصائص الدين الإسلامي، ولله الحمد والمنة.
فبودي أيها الأخ الكريم لو أعدت النظر في هذه الجملة بما يزيل الشبهة، أو لعلي مخطئ وأنتم بذلك أعلم مني بلا ريب.
ولقد كنت أود أن أفضي إليكم بهذا الحديث في زيارة، لولا أن انحراف صحتي في الأسبوع الماضي لا زال منه بعض الأثر، وأسأل الله تعالى أن يعينكم، وأن يهدي أمة محمد إلى العمل بكتاب الله، وسنة رسوله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من المخلص: حسن الهضيبي.
فعقب حسن البنا قائلا: وإنا لنشكر لحضرته هذه الغيرة الجليلة على دين الله، والدقة الجميلة في البحث والتمحيص، وجميل جدا أن نرى في كبار رجال التقنين المصريين من يحمل مثل هذا القلب المؤمن، والذهن الصافي المستنير، مع الدأب على الدرس والإلمام بكل أطراف الموضوع. فجزى الله الأستاذ حسن الهضيبي بك عن الدين والحق والعدالة خير الجزاء، وأكثر فينا من أمثاله، وما ذكره في خطابه حق لا شك فيه، والذي أردته بكلمتي هو الإشارة إلى أن من مرونة التشريع الإسلامي أن العرف والاجتهاد قاعدتان من قواعده فيما لا نص فيه، أما حين يكون النص فلا اجتهاد معه طبعا. حسن البنا).[7 ]
ما سلف ذكره ينم عن عقلية الهضيبي الفقهية، والتي تؤهله للتصدي لموضع خطير كموضوع التكفير، كما أن اللغة التي كتب بها الكتاب هي لغة حسن الهضيبي، والأسئلة التي وجهت له وأجاب عنها، هي إجابات حسن الهضيبي، فكيف يجيب إنسان على أسئلة مبنية على كتاب مكتوب، ليس هو كاتبه؟!
أخيرا: من الواضح جدا كثرة الاستشهاد بفقه ابن حزم، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، ولم يكن في ذلك الوقت من ثقافة الإخوان قراءة فقه ولا فكر ابن حزم، بل كان الوحيد المعروف بذلك في الإخوان المسلمين جمعيا هو حسن الهضيبي، ثم خلفه من بعده: مأمون الهضيبي. وهو ما شهد به حسن البنا حينما أراد أن يعرف قراء مجلة (الشهاب) بحسن الهضيبي، فقال: وله اطلاع واسع على فقه ابن حزم، وله دراسات وبحوث غير منشورة.
كل هذه الأدلة السابقة تجعلني أميل إلى القول بأن (دعاة لا قضاة) من تأليف حسن الهضيبي، سواء أملاه على أحد، أم كتبه بخط يده. والله أعلم.
وهناك مواقف أخرى للهضيبي لا يتسع المكان المخصص للمقالات في الموقع للإسهاب فيه، منها اختصارا: رفضه إلغاء الأحزاب، والإبقاء على الإخوان، مخافة أن يفعل بجماعته ما فعل بالأحزاب، وهو ما كان. ودعوته للحياة النيابية وعودة العسكر للثكنات العسكرية. وتحجيمه للتنظيم الخاص، والحد من سلطاته، وتوجيهه لصدر المحتلين فقط، وتطعيمه بالجانب الشرعي والتربوي. والخروج بالجماعة من حالة العسكرة، وتحويلها إلى جماعة مدنية، ونفي العسكرية عنها. وقوله لعبد الناصر عند خلافه مع الإخوان: أسلمك مفاتيح المركز العام للإخوان المسلمين، بدل أن تحدث فتنة تعم بلادنا.
تعقيب أخير: ذكر أستاذنا الدكتور العوا ما حدث مع الهضيبي والملك فاروق، نقلا عمن حضروا معه، ولم يذكر أن مآخذه ومآخذ الكثيرين على سياسة الهضيبي وصدامه مع الثورة، كان بسبب هذه المجموعة التي كانت حول الهضيبي، وهي مجموعة مسماة (بمجموعة الستة) إشارة إلى عددهم، وقد كانوا يهمشون مكتب الإرشاد تهميشا غير لائق، كما شكى الكثير من ذلك، وبخاصة من خرجوا من الإخوان فيما بعد، ومن قابل هؤلاء يسمع منهم كلاما شديدا في اختطاف الجماعة، والقفز على الشورى الصحيحة، وتحويل أعضاء مكتب الإرشاد إلى مجموعة مهمشة، أو مجموعة من الجرادل على حد قول الشيخ عبد المعز عبد الستار، وإجراء تحالفات ونقاشات مع عبد الناصر من خلف ظهر المكتب، وهو الجهة المخولة الإدارية والشرعية بالعلم بكل هذا.
فكل مقابلاتهم بعبد الناصر كانت بدون علم مكتب الإرشاد، الذين يجمع بينهم عدة جوامع،اليسار فكلهم من طبقة الأغنياء، والنسب والمصاهرة، فكلهم بينهم نسب ومصاهرة، والقانون فمعظمهم دارس للقانون، ومع ذلك التفوا على قانون الجماعة، وهمشوه بل ألغوه.[8] وهو ما عبر عنه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بقوله: فوجئت بأن سبعة أو ثمانية من الحقوقيين الفاشلين كانوا هم الذين يمسكون بزمام الجماعة في عدة مجالات حساسة، وكذلك الشأن في بقية أنحاء النشاط الأخرى[9] وقد كانت رغبة هذه المجموعة التي سمع منها أستاذنا الدكتور العوا كما ذكر الغزالي ـ إصلاح الأوضاع بين الإخوان والقصر.[10 ]
مع كل تقديري لنوايا هذه المجموعة الحسنة، ولكن النية الحسنة لا تبرر الخطأ مهما كان، ورحم الله الجميع، وغفر لنا ولهم ما بدر من أخطاء نتجت عن حسن نية، وإن أدت إلى سوء عمل.
تخرج من كلية الدعوة الإسلامية وله أنشطة في الدعوة بشتى فروعها، ومجالاتها .
للمزيد
[1] انظر: مجلة (المسلمون) الشهرية العدد الثاني من السنة الثانية الصادر في ربيع الآخر سنة 1372هـ ـ ديسمبر سنة 1952م. ص 103.
[2] انظر: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين للشيخ أحمد شاكر ص 41،40، طبعة مكتبة السنة بالقاهرة.
[3] انظر: الإخوان المسلمون.. أوراق تاريخية لإبراهيم زهمول ص 43-159. ففيه عرض لمواد الدستور بالكامل، وشرح لها.
[4] انظر: مقال (الربا) للشيخ محمد أبي زهرة المنشور في مجلة (المسلمون) الشهرية في العدد الخامس من السنة الثانية الصادر في رجب سنة 1372هـ ـ مارس سنة 1953م. ص 11.
[5] انظر: (تعقيب.. للأستاذ حسن الهضيبي) المنشور في مجلة (المسلمون) الشهرية في العدد السادس من السنة الثانية الصادر في شعبان سنة 1372هـ ـ إبريل سنة 1953م. ص6.
[6] انظر: مجموعة رساائل حسن البنا رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) ص 305. طبعة: المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة ـ بيروت.
[7] انظر: جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية السنة الثانية العدد (488) الصادر في 21 من محرم سنة 1367هـ ـ 4 من ديسمبر سنة 1947م. ص 3.
[8] من مقابلة مع الشيخ عبد المعز عبد الستار في منزله بالدوحة.
[9] انظر: من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث للشيخ محمد الغزالي ص 225.
[10] انظر: مقتطفات من مذكرات الغزالي (قصة حياة) ص184. المنشورة في مجلة (إسلامية المعرفة) العدد السابع من السنة الثانية. رمضان سنة 1417 هـ ـ [يناير] سنة 1997م
- المصدر: موقع إسلام أون لاين
