ما بين خروج موسى وهجرة محمد .. دروس وعبر
بقلم : حسين عبد الظاهر
تحتفي الأمة الإسلامية هذه الأيام بيوم عاشوراء وهو اليوم الذي نجا الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون، وفي بداية شهر محرم من كل عام تحتفي الأمة بذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وسلام، و ما بين خروج نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة المكرمة مهاجرا إلي الله تعالى، وخروج كليم الله موسى (عليه السلام) من مصر، نجد أوجه تشابه وأوجه تباين، تحتاج لأن نقف أمامها مليا؛ لنتأملها ونلتقط منها الدروس والعبر.
تفكيك دولة وقيام أخرى
خروج نبي الله موسي (عليه السلام) من مصر يمكن أن نعتبره بمثابة إعلان انهيار دولة الظلم، الدولة الشمولية التي قامت على تأليه الفرد الواحد فجعلت منه طاغية ينادي في قومه \" أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي\"، وكان نجاح موسى (عليه السلام) في الخروج ببني إسرائيل من مصر انهيار لهذه الدولة، وتفكيك لمراكز الفساد التي لم تتمكن من استرجاع بني إسرائيل أو الصمود في مواجهة الحق، لقد انهارت دولة فرعون وفق نواميس وقوانين إلهية تتناسب مع المرحلة التي عاشتها البشرية في تلك الأزمان.
أما خروج النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة فكان بمثابة إعلان قيام دولة جديدة، دولة تقوم على القيم والمبادئ الربانية، تقوم على غير العصبيات الجاهلية التي عرفها العرب وبعض الدول والحضارات القريبة من جزيرتهم، دولة مسلمة تبصر النور وسط غياب الجاهلية، فتعلم الناس قيم العدل والمساواة وحقوق الجوار.. إلخ
والملاحظ أن \"البناء\".. بناء النفوس وبناء المجتمعات والدول والحضارات، مهمة تتناسب مع طبيعة رسالة وشخصية خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم)، بينما \"الهدم\".. هدم صروح الكفر وضرب مراكز الفساد وتفكيك دولة الطاغية المستبد، مهمة تتناسب مع طبيعة وشخصية نبي الله موسى (عليه السلام).
حسم الصراع
والخروج من مصر كان نهاية الصراع بين كليم الله وعدو الله، فقد حسم الأمر بهلاك فرعون وجنوده، أما خروج خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) من مكة لم يكن نهاية الصراع بين معسكري المسلمين والقرشيين، بل أعطت الهجرة لقانون \"التدافع بين الحق والباطل\" أشكالا جديدة، وفتحت ساحات أخرى للمواجهة، تنوعت بين الإعلامية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وبمرور الوقت أصبح معسكر الحق يكسب الجولة تلو الأخرى؛ فيزداد توسعا على حساب المعسكر الثاني، حتى انضم القرشيون جميعهم - في نهاية المطاف- إلى معسكر المسلمين، وانخرطوا فيهم وأصبحوا حماة الدعوة والمنافحين عنها، بعد أن كانوا بالأمس القريب أشد أعدائها.
ذروة التصعيد
خروج كل من نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) ونبي الله موسى (عليه السلام) شهد قمة التصعيد الإعلامي والسياسي من قبل أعداء الدعوتين، حتى وصل الأمر إلى التصعيد العسكري، فخرج فرعون تحدو به الغطرسة ويقوده الطغيان، حاشدا جيوشه مستهدفا حسم المواجهة بالطرق العسكرية، بعد أن فشل قبل ذلك في حسمها بشتى الوسائل والحيل.
وقريش تلجأ للخيار ذاته، ولكن بطريقة تتماشى مع إمكانياتها القبلية (وليس كدولة مركزية كما هو الحال مع فرعون) فخططت ودبرت واستقرت على تنفيذ عملية اغتيال محمد (صلى الله عليه وسلم).
وكان كل من نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) وكليم الله موسى (عليه السلام) قد واجه حربا إعلامية وسياسية على مستويات متفاوت من التصعيد، قبل \"خروجيهما\" .. إلا أن قمة التصعيد الإعلامي والسياسي والعسكري جاء مصاحبا لعملية \"الخروج\"، ففرعون يقبل على خيار الحسم العسكري مع موسي ، والقرشيون يحشدون قواهم لتنفيذ الاغتيال، وعندما يدركون أن النبي (صلى الله لعيه وسلم) قد أفلت منهم، يرصدون المكافآت والعطايا لمن يلقى عليه القبض أو من يدلي بمعلومات تفيد في العثور عليه، وبعد هذا التصعيد غير المسبوق ..
يأتي النصر المبين في كلا الحالتين.
الجنود.. عون أو عبء
ونتوقف هنا عند دور الأتباع في مناصرة دعوتهم، فالصحابة الكرام (رضى الله عنهم أجمعين) كانوا عونا لنبيهم (صلى الله عليه وسلم) في جميع الشدائد والمحن لا سيما في حادث الهجرة، يبذلون معه الغالي والنفيس، ويضحون بالأوطان والأموال والأهل، كل صحابي وصحابية لديه من الإيجابية والذاتية ما يجعله يعلم الدور المناط به في مشروع الهجرة، فيقوم بأدائه على خير وجه، دون أن يحمل القائد (صلى الله عليه وسلم) أعباء أخرى غير ما يتحمله، فكل يتدبر أمره بنفسه، بل ويتدبر أمر من يستطيع معاونته من الأصحاب، فكانوا نعم الأصحاب لسيد الأنبياء.
في المقابل نجد أن بني إسرائيل..\"لما لحق فرعون بجمعه جمعَ موسى وقرب منهم، ورأت بنو إسرائيل العدو القوي والبحر أمامهم ساءت ظنونهم، وقالوا لموسى، على جهة التوبيخ والجفاء: \"إنا لمدركون\" فرد عليهم قولهم وزجرهم وذكرهم وعد الله سبحانه له بالهداية والظفر \"كلا\" أي لم يدركوكم \"إن معي ربي\" أي بالنصر على العدو. \"سيهدين\" أي سيدلني على طريق النجاة\" (القرطبي) بل أكثر من هذا \"قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا\" وقد ذكر الإمام الطبري في تفسيره (من بين ما ورد في تفسير هذه الآية) \"قيل : إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون, وقد تراءى الجمعان , فـ \"قالوا\" له يا موسى \"أوذينا من قبل أن تأتينا\" كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا, \"ومن بعد ما جئتنا\" اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا).
والموقف بين أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) عند الهجرة وهم عون لنبيهم، وأتباع موسي (عليه السلام) عند الخروج من مصر لا يحتاج إلى كثير تعليق.
الثقة وصناعة التفاؤل
في خروج موسى (عليه السلام) من مصر وهجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة، شارفت الدعوة على حافة خطر عظيم، كاد أن يقضى فيها على صاحبيها، فنبي الله موسى (عليه السلام) ليس أمامه سوى البحر، ومن ورائه فرعون وجنوده، ولا تبدو في أفق الواقع المادي أي بارقة أمل تبشر بنجاة موسى وقومه، وقد عبر بنو إسرائيل عن ذلك بجزمهم اليقيني \"إنا لمدركون\".
وتواجه الدعوة المحمدية موقفا مماثلا، فيصل مشركو قريش إلى غار ثور حيث النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر الصديق (رضى الله عنه)، الذي لا يجزم بأن المشركين سينالون منهما - كما قال بنو إسرائيل- إنما يكتفي بقوله: \" لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا\"، والواقع بأسبابه المادية - هنا أيضا- لا يبشر بأي بارقة نجاة.
وفي كلا الموقفين نجد الثقة في نصر الله وتأييده تتجلى في أنبل معانيها على لسان كليم الرحمن: \"كلا إن معي ربي سيهدين\"، وعلى لسان خير البشر (صلى الله عليه وسلم) : \"ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!\"، إنها الثقة في الله، الثقة التي تشرق من قلب صاحب الدعوة لتصل إلى أفئدة أتباعه وجنوده؛ فتبعث فيهم الطمأنينة وتشيع بين جنباتهم السكينة، بل إن الثقة في الله الراسخة في نفس صاحب الرسالة، تنبعث من قلبه لتؤثر في نفوس الآخرين، حتى وإن كانوا من الأعداء، فنرى سراقة بن مالك، الذي خرج وهدفه إلقاء القبض على محمد (صلى الله عليه وسلم) للفوز بمكافأة مالية من شأنها أن تغير مجرى حياته، نراه يضحي بالمال الحاضر، مقابل وعد في علم الغيب من رجل لم يكن يؤمن به وقتئذ، إنها الثقة التي تنبعث من قلب الصاحب الرسالة حتى وإن كان مطاردا أو مستضعفا، أو لا يملك مقومات النصر كما يراها الناس، لكنه يملك ما هو أنجع وأنفع من ذلك، يمتلك قوة إيمان، وثقة بنصر الله تعالى، فيتحدث عن يقين يؤثر في الآخرين، فيجعلهم يغيرون وجهتهم، ويعيدون ترتيب حساباتهم، حتى وإن كانوا أعداء كافرين.
وعندما تنفذ الأسباب من بين يدي موسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وسلم)، في هذه اللحظات العصيبة الحاسمة، هنا تتدخل العناية الإلهية ويتم حسم الصراع مع فرعون وجنوده \"فغشيهم من اليم ما غشيهم\" على النحو المعجز الذي نعرفه، وينصرف سراقة، ومن بعده كفار قريش، من أمام الغار الذي ضرب عليه العنكبوت بخيوطه.. على النحو المعجز الذي نعرفه أيضا.
إن حادث \"خروج\" موسى (عليه السلام) وهجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهما الكثير من العبر والدروس التي تحتاج دوما لإعادة قراءة؛ لنكتشف في كل مرة معاني جديدة تستفيد منها الأمة، عسى أن تبادر بالخروج من حالة الاستضعاف والهجرة إلى رحاب العزة والكرامة
المصدر
- مقال:ما بين خروج موسى وهجرة محمد .. دروس وعبرموقع:الشبكة الدعوية