لَوْ تَكاشَفْتُم ما تَدافَنْتُم
بقلم: الشيخ نزيه مطرجي
العمر في إدبار والموت في إِقبال، وما أسرعَ المُلتقى! فكيف تطيبُ الدنيا لمن لا يَأْمنُ الموتَ ساعةً من ليلهِ أو نهارهِ، ولمن لا يتمّ له سرورُ يوم من أيامه.
يُقبل الشَّيبُ فيَعِدُ بالوَداع، ويَهِنُ العظمُ فيُنذر بالفَناء، وإذا المرءُ يترقَّب قابض الأرواح كلما سمع صوتَ نَعْيٍ أو نُواح!
إنها دنيا العجائب والغرائب، لا يفرُغ منها إلا من زَهد فيها، ولا يَشبع منها إلا من اطَّرَحها، فما قضى أحدٌ منها لُبانتَه، ولا انتهى أَرِبٌ إلى أَرَب.
إن ما في القبور من الشدائد والأهوال، ومن ألوان العذاب والنِّكال ما قلقلَ قلوبَ الأتقياء! فإن مَلَكيْ القبر مُنكَراً وَنكيراً أصواتُهما كالرَّعد القاصف، وأبصارُهما كالبَرق الخاطف!
ولقد ثبتَ عذاب القبر بما لا يدع مجالاً للرَّيب، ورد في الحديث: «إن القبر أَوَّلُ منازِل الآخرة، فإن نجا منه أحد، فما بعده أيسرُ منه، وإن لم ينجُ منه فما بعده أشدُّ منه» أخرجه ابن ماجه.
إن من نعم الله الظاهرة والباطنة علينا نعمتين جليلتين تتعلّقان بواجب دفن الموتى، الأولى تتجلَّى في ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو تكاشَفْتُم ما تَدافَنْتُم» ذكره ابن الأثير, وذكر في تفسير معناه أن المرء مخبوءٌ في سرائره، وما تُخفي نفسه، وما يتوارى في صدره، ولو علم بعضُكم سريرةَ بعض لتألّم منها، وضاق بها وبصاحبها، ولما استطاع أن يبقى على مصاحبته، ولأعرض عن تشييع جنازته ودَفْنه.
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن الله لا يؤاخذُهم بما تُحدّثهم به نفوسهم، ما لم يتكلَّموا أو يعملوا.
والنعمة الثانية تتجسّد في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم حين كان في حائطٍ لبني النجّار على بغلة والصحابة معه، فكادت تُلقيه من رُعب أصابها، وإذا أَقْبُرٌ ستة... فقال: من يعرف أصحاب هذه الأَقبر؟
فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإِشراك، فقال: «إن هذه الأُمّة تُبْتَلى في قبورها، فلولا أن لا تَدافنوا لدعوتُ الله أن يُسْمِعكم من عذاب القبر الذي أسمع!» أخرجه مسلم. ثم دعا أصحابه إلى التعوّذ بالله من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومن الفِتن ما ظهر منا وما بَطَن.
وكيف يُطيق المؤمنون أن يتدافَنوا حين يسمعون من يُضرَب في القبر بمطارقَ من حَديد ضربة فيصيح صيحةً، فيسمعها كل من يليه غيرَ الثَّقلين.
إن الله تعالى كتم عنّا هذه الأصوات المدوِّية، بحكمته الإلهيّة، ولطائفه الربّانيّة، حتى نتدافن، لِغَلبة الخوف علينا عند سَماعها، فلا نقدر على أن ندنو من المدافن، ولأن الحيّ يُصعق عند سماع ذلك ويَهْلك! إذ لا يُطاق شيء من عذاب الله في هذه الدار، لضعف القوى البشريّة، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صَعْقَةَ الرّعد القاصف أو الزلزال الهائل، هلك كثير من البشر؟ وأين صعقة الرّعد من صيحات الذين يُضرَبون بمطارقَ من حديد، ليس لمِثلها شبيه في الدنيا من قريب أو بعيد.
ولو كنّا نسمع أو نرى ما في القبور، لكان يُرعبنا التَّدافُن، فكيف لا يُرعبنا الدخول، والخوض في غَمرات العذاب؟!
إن أفضل الناس إيماناً أعظمهم خُلقاً، وإن أكيس الناس أكثرُهم للموت ذكراً، وأكثرهم له استعداداً، أولئك الأَكْياس قد ذهبوا بشَرف الدنيا وكرامة الآخرة.
ينبغي أن لا يفوت المؤمن الذكيّ، والتقيّ النّقيّ، أن عليه أن لا يقع في المعاصي التي تؤدّي إلى الأخذ بالنّواصي، وأن لا يُفَرِّط في الطاعات والعبادات التي تنجيه من غضب ربّ الأرض والسماوات، ومن عذابِ القبر، والمعيشة الضَّنْك.
إن العصاة من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم يُعذَّبون في قبورهم، وإن أشهرَ ما جاء ذِكرُه في السنّة النبويّة من أسباب العذاب: ترك فرائض الإسلام وبخاصة ترك الصّلاة التي لا تسقُط عن أحد من المكلَّفين، وحينما يُقال لهم يوم القيامة: {ما سَلَكَكُمْ في سَقَر}، يقولونَ: {لم نَكُ مِنَ المُصلِّين}، وعدم التطهّر والمشيُ بالنَّميمة بين الناس، وهو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم عندما مرّ على قَبْرَيْن فقال: «إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير، أما هذا فكان لا يَستترُ من بوله، وأما هذا فكان يمشي بالنّميمة!» أخرجه البخاري، وهذان القبران كانا في البَقيع في قبور المسلمين.
والنّمّام يوقِع العداوة والبغضاء بين الناس بنقل الأخبار والأسرار، ويزيد عليها من الزور والبهتان من أجل التفريق والإضرار.
وفي أمثال هؤلاء يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: «وهل يكبُّ النّاسَ على وجوههم في النار إلا حصائدُ أَلسنتِهم» أخرجه ابن ماجه. يقول الشاعر:
كم في المقابرِ من قَتيل لسانِهِ
- كانت تخافُ لِقاءَه الشُّجْعانُ
فعليك تقوم عِمارةُ دارِك في رَمْسك وبَرْزَخِك، فإنه كما يقول الإمام علي:
لا دارَ للمرءِ بعد الموتِ يَسْكُنها
- إلا التي كان قبلَ الموتِ يَبْنيها
فَإن بَناها بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُها
- وإن بَنَاها بشرٍّ خابَ بَانِيها
المصدر
- مقال:لَوْ تَكاشَفْتُم ما تَدافَنْتُمموقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان