لك الله يا دعوة الخالدين
بقلم / إسماعيل حامد
طريق الدعوة طريق واحدة، سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من قبل، وسار الدعاة عليها بتوفيق من الله من بعد إيمان وعمل ومحبة وإخاء، فقد دعا الإمام البنا إخوانه بما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الإيمان والعمل، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة، وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لا بد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها، وإن ناوأها أهل الأرض جميعًا، ولقد ربت هذه الدعوة أبناءها كي يعيشونها واقعًا ملموسًا كما عاشها الجيل الأول من الصحابة الكرام، يعيشونها من حيث تطبيق هذا الدين في واقع الحياة بين مكة والمدينة، فتارة تكون مكية وأخرى تكون مدنية، فهم يعيشون في دار الأرقم مثلما يعيشون في المسجد النبوي، يعيشون الاضطهاد تارة والتمكين أخرى، ويعيشون مشحونين بالثقة في وعد الله لعباده المؤمنين بالتمكين وبإذلال أعداء الله من الكافرين والظالمين والمستكبرين الذين يناوئون الدعوة ويقهرون أبناءها، ويعيشون مدركين أن الغلبة في النهاية لأولياء الله وحملة رسالاته الذين ربوا أنفسهم؛ فارتقوا بخصائصهم وثقافتهم والتزامهم ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُم الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55).
صور ثلاث
إن دعوة الله هي دعوة الخالدين، جعلها الله في حفظه وحمايته، حتى قال أحد أساتذة الدعوة: "هذه الجماعة يحفظها الله، وإن عشرات المواقف عبر التاريخ لتبين ذلك"، ولقد سخر الله لها من المؤمنين من يقومون على حراستها من بعد الأنبياء والمرسلين، من الأصفياء المجاهدين, الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، ويتمثل حفظ هؤلاء لدعوتهم وتتمثل مهمتهم فيما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
لقد شهد تاريخ الدعوة الكثير والكثير من تلك الصور الثلاث "تحريف الغالين- انتحال المبطلين- تأويل الجاهلين"، وإن الجماعة لتتعرض دائمًا لمثل هذه الحملات بين الحين والآخر، بغرض هز الصف وإحداث تشقق فيه، وإن الإثارة الإعلامية على دعوة الإخوان لم ولن تتوقف، وهذه هي حقيقة الصراع بين دعوة الله ومن عاداها، ومن أجل ذلك كانت تلك الوقفات مع هذه الصور الثلاث.
تحريف الغالين
لقد نصح الله أهل الكتاب قائلاً: ﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ (المائدة: من الآية 77)، وهي نصيحة لازمة لأصحاب الدعوات أيضًا، وقد ابتليت دعوة الله عبر تاريخها ببعض من هؤلاء الذين مالوا عن الوسطية، وخرجوا عن حدود الاعتدال، وانصرفوا عن المعنى الأصيل الصحيح، وحادوا عن الإطار الشرعي الذين وضعته الدعوة لفهم الإسلام، فتشددوا فيه وجاوزوا الحد وأفرطوا، فهذا نوع مما ابتليت به دعوة الله، وسماه الحبيب "تحريف الغالين"، وإن هذا الغلو لهو آفة وبيلة، ولا تنتشر إلا حينما يغيب الدعاة الربانيون الراسخون في العلم والتربية والتكوين، وما زال سمت هذه الدعوة بل ومن أخص خصائصها الوسطية والاعتدال والبعد عن التطرف في الفكر أو القول أو العمل أو السلوك، فلا غلو في دعوتنا ولا تطرف ولا مغالاة، بل اعتدال وتوازن وتوسط، وإن أنصار الدعوة وحملة الرسالة الحقيقيين من يقومون بتنقية هذه الدعوة من كل ما هو رديء من القول والعمل في الأفكار أو السلوك أو الممارسة الدعوية اليومية، ويقومون بتنحية وإبعاد هذا الصنف من طريق الدعوة؛ ليتم لها التمايز بين الدعوات بصفاء الفهم ونقاء العمل، وما كان كتاب "دعاة لا قضاة" إلا خطوة على طريق تصحيح المسار للغالين وردهم إلى جادة الطريق ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108).
انتحال المبطلين
وقد تتعرض الدعوة وتبتلى بصورة أخرى من صور الابتلاء الواقعي، والذي يتمثل في هذه الشريحة التي تقبل عليها بشبهاتها وأباطيلها، والتي يبغي أصحابها أن يخرجوا بالدعوة عن حقيقتها إلى الزور والبهتان؛ ليلبسوا على أصحاب الدعوات دعوتهم ومنهجهم الأصيل، وذلك بما يدخلونه على الدعوة من أباطيل وشبهات، بأن يأتوا إليها بأفكار وأطروحات غير الحق المبين، وإن شريحة المبطلين لتعمل ليل نهار من أجل إطفاء نور الله ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ (الصف: من الآية 8) من خلال إثارة الشبهات حول الدعوة، ووضع أحاديث مكذوبة عليها وعلى قادتها وأبنائها، أو إدخال بعض الأفكار التي ليست منها، وابتداع أفكار مغايرة لنهج الإخوان ودعوة الناس إليها، وتحميل أفكار الدعوة ما لا تحتمله من معانٍ، ولكن ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ (التوبة: من الآية 32)، وواجب أصحاب الدعوات هنا نفي مزاعم المبطلين من المدعين على الإسلام والدعوة، وكشف صور انتحالهم المختلفة وفضح أمرهم، وأقوى صور القضاء عليهم يكون بتمسك الدعاة بثوابت دعوتهم، والبقاء في فلك الإطار الفكري والشرعي والتنظيمي لدعوتهم، وعدم الخروج عنه قيد أنملة.
تأويل الجاهلين
وقد تبتلى دعوة الله بما يمكن أن نسميه تأويل أهل الجهل الذين يحاولون تشويه حقيقة الدعوة؛ فيحرفون الكلم عن موضعه، وينتقصون من الدعوة بعضًا من أطرافها، فيخرجون منها ما هو من صلبها، ويقدمون فيها ما حقه أن يتأخر، ويؤخرون ما حقه أن يتقدم، وغالبًا ما يكون الجهل مقترنًا بفقدان الأدب واتباع الهوى والتطاول على قادة الدعوة، وهذا سمت من لم يشرب روح الدعوة ولم يعش لها وبها، ولم يكن لهم رسوخ في علوم الدعوة ولا مناهجها التربوية، ولم يكن لهم من أركانها العشرة حظ ونصيب، فلا صحة في الفهم، ولا تجرد للحق، ولا تضحية بلا طمع أو بخل، ولا إرادة بلا ضعف، ولا وفاء بلا تلون أو غدر، فكان التساقط على الطريق والانحراف في الفهم، والإعراض عن المحكمات واتباع المتشابهات، قال تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (آل عمران: من الآية 7)، وقد يزداد البلاء حينما يحاول هؤلاء لي أعناق مبادئ وأفكار الدعوة وتأويلها بالهوى، دون مراعاة لضوابط وقواعد وأصول الدعوة، وربما ساندهم في ذلك المبطلون والمضللون فآووهم وسلطوا الضوء عليهم، وربما وضعت أفكارهم وتأويلاتهم في محل الدراسة والنقاش وتلقين الناس إياها، تلك هي مهام حفاظ هذه الدعوة من القائمين على أمرها من الدعاة المربين المورثين لها والناشرين لفكرها والمبلغين لرسالتها والساعين لتحقيق أهدافها؛ مهام ثلاثة بها نصون مبادئ هذه الدعوة، ونحافظ على ثوابتها، وإن دعوة الله اليوم بحاجة إلى أنصار الدعوة وحراس الفكرة الذين يحملونها ويحمونها ويبصرون الناس بها من غير زيادة أو نقصان، فلا تتغير عبر الأيام، ولا ينحرف بها عن مسارها ولا يعكر صفو نقائها أحد من الغالين أو المبطلين أو الجاهلين، وبذلك يحقق أنصار الدعوة لها الحماية اللازمة والتوريث الجيد والبقاء والخلود؛ حتى تكون بحق "دعوة الخالدين"، وإن دعوة الله بحاجة اليوم إلى الصادقين من الإخوان المسلمين، كي يدفعوا عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فيميزوا هذه الدعوة بالربانية والفهم الصحيح الشامل، ويقدمونها للعالم بيضاء نقية كي يفتحوا بها البلاد وقلوب العباد.
إن الدعوة باقية وستظل باقية بحفظ الله لها وبتمسكنا بثوابتها وبتحقق الأخوة الصادقة فيما بيننا، وبأن نعيش الدعوة وفق ما تربينا عليه، وبأن نركز دائمًا على حسن صلتنا بالله، وبألا نلتفت لما يردد هنا أو هناك، وأن نقوي ثقتنا في الله وفي دعوتنا وقادتنا وفي أنفسنا، والله أكبر ولله الحمد
المصدر : نافذة مصر