لكي تنجح جهود وقف العنف
بقلم : فهمي هويدي
مع ميلاد السنة الجديدة هذا العام، كتبت مقالاً نشرته «الشرق الأوسط» احتفاء بالمناسبة، كان عنوانه هو: ليكن عام المراجعات، قلت فيه إن «ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) كان جرس انذار عالي الصوت، لم يترك مجالاً لممارسة ترف تأجيل المراجعة أو التسويف فيها». وزعمت أن تلك المراجعة مطلوبة من أطراف ثلاثة: الناشطون الاسلاميون والأنظمة والحكومات العربية، والحكومات الغربية. ثم اضفت ان لكل سلوك شروطه ولكل موقف تكاليفه والتزاماته، فأنت حين تطالب الناشطين الاسلاميين بأن يكونوا ديمقراطيين، وأن ينخرطوا في سلك مؤسسات المجتمع المدني، فينبغي أن تكون هناك أولاً ديمقراطية حقيقية لكي يتمثلوا قيمتها، ثم ينبغي أن تكون للمجتمع المدني مؤسسات فاعلة لكي ينخرطوا فيها. وغير هذا وذاك، فينبغي أن يسمح لهم بتلك المشاركة، اذا ما رغبوا في ذلك. أما اذا لم تتوفر تلك الشروط، فإن الدعوة الى ما يسمى بالاسلام المدني أو غيره، ستظل نوعاً من النفخ في الهواء والاطلاق المجاني للشعارات.
قلت أيضاً فيما يخص الناشطين الاسلاميين، فانه يتعين عليهم جميعاً أن يعلنوا البراءة من العنف بكافة صوره، وهو العنف الذي «أدى إلى تدمير وابادة أو تضييع أجيال من الشباب المؤمن والمخلص، الذي كان يمكن أن يضيف الكثير إلى رصيد دينه ودنياه، لو أن طاقاته وظفت بطريقة رشيدة، على الجبهة الصحيحة». وتمنيت على الجماعات المتطرفة ان تدرك ان الجهاد الحقيقي الذي يتعين عليها أن تخوضه في هذه المرحلة، هو جهاد البناء والتنمية، حيث لن يكسب المسلمون شيئاً، وسيخسرون الكثير لاريب، حين يقوم نفر منهم بخطف طائرة وتدمير بناية على من فيها من الأبرياء، لكنهم سيحققون قفزات مهمة الى الامام، وسيثبتون جدارتهم ويرهبون عدو الله وعدوهم، لو أنهم «جاهدوا» لكي يصنعوا طائرة أو ينتجوا طعامهم بأيديهم.
لم تمض أسابيع على نشر تلك المقالة، حتى صدرت في القاهرة أربع رسائل كتبها القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية، الذين يقضون احكاماً بالسجن تراوحت بين 10 و25 سنة. وكان العنوان الثابت لتلك الرسائل هو: سلسلة تصحيح المفاهيم. اما موضوعاتها فكانت كالتالي: مبادرة وقف العنف، رؤية واقعه ونظرة شرعية.. حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين ـ النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين ـ وأخيراً: تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء. كانت الرسائل بمثابة اشهار لنقد الذات، ومراجعة مختلف الأفكار التي تبناها وانطلق منها اعضاء تلك الجماعة قبل ثلاثة عقود، ان شئت فقل انها كانت بياناً الى الأمة يعلن عدول تلك الجماعة عن تلك الأفكار.
لا يخطر على بالي ان يكون اصدار تلك الرسائل نوعاً من الاستجابة لما دعوت اليه فيما كتبت، خصوصاً أنني أعلم أن الأمر ليس مفاجئاً تماماً، وانما لبعض العناصر القيادية في تلك الجماعة موقف سابق شجاع في عام 1997، أعلنوا فيه ما سمي بمبادرة وقف العنف، وهي المبادرة التي تزامنت مع جهد آخر بذله نفر من العلماء والمثقفين للوساطة بين الحكومة والجماعة ومحاولة ايقاف دوامة العنف التي عانى منها المجتمع المصري آنذاك. ولأنني كنت واحداً من الذين سعوا في تلك الوساطة، فبوسعي أن أقول إن الوساطة تمت بناء على طلب وترتيب مع تلك القيادات، وما زلت احتفظ بنص خطاب مكتوب بعثه بهذا الخصوص إلينا من محبسه صفوت عبد الغني، أحد أولئك القادة، عبر أحد المحامين الذين كانوا يتولون الدفاع عنهم في قضاياهم.
ورغم أن فكرة المراجعة كانت واردة في محيط قيادات الجماعة الإسلامية في عام 1997 إلا أن توسيع نطاق تلك المراجعة، وشمولها لمختلف الأفكار الأساسية للجماعة، ثم اعلان النتائج على الملأ في وثائق مكتوبة وممهورة بأسماء أغلب أعضاء القيادة، ذلك كله ما كان له أن يتم، لولا الأجواء التي أعقبت حادث الحادي عشر من سبتمبر. بعد عدة أسابيع من صدور تلك السلسلة ظهر بيان المثقفين السعوديين، الذي وقعه لأول مرة 170 من عناصر النخبة السعودية، الرجال والنساء. وكان له صداه الكبير داخل المملكة وخارجها، على النحو الذي تبدى في الكتابات التي عالجته، ونشر جزء غير قليل منها على صفحات «الشرق الأوسط». وقارئ البيان يدرك على الفور أنه بدوره نوع من المراجعة لفكرة العلاقة مع الآخر، والنقد غير المباشر للآراء التي رفضت التعايش أو القبول بالحوار مع غير المسلمين، وهو من هذه الناحية مختلف في موضوعه عن مراجعات قادة الجماعة الإسلامية التي انصبت أساساً على فكرة العنف سواء بحق المخالفين أو كأسلوب في التغيير. ورغم ذلك التفاوت في الموضوع فان ما يهمنا في ذلك التطور هو مبدأ المراجعة ونقد الذات، الذي تحركت موجاته في أوساط الناشطين الاسلاميين.
خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة وصلت مراجعات قادة الجماعة الإسلامية الى ذروتها حيث لم يكتف أولئك القادة بما سبق أن أعلنوه عن نقد لأفكارهم، وانما ذهبوا الى حد الاعلان عن ادانة الأفعال التي ترتبت على تلك الأفكار، وفي المقدمة منها اغتيال الرئيس أنور السادات، وابداء الرغبة في توجيه بيان اعتذار من جانب أولئك القادة الى الشعب المصري، عن الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها بحقه خلال السنوات التي خلت، بل انهم تمنوا لو ان حصيلة بيع الكتب التي أصدروها مكنتهم من دفع الدِّية الى عوائل الذين أضيروا أو فقدوا حياتهم من جراء العمليات التي قاموا بها.
كانت مجلة «المصور» القاهرية هي التي سجلت ذلك التطور الهام، حين أجرى رئيس تحريرها الاستاذ مكرم محمد أحمد حوارات مع أولئك القادة، طرح عليهم خلالها قائمة طويلة من الأسئلة حول كافة الأفكار التي تبنوها، ثم تابع لقاءات ومناقشات القادة مع عناصر الجماعة المحتجزين في بعض السجون المصرية، وهو ما أعطانا انطباعاً بأن المسألة لم تعد مجرد آراء عبر عنها قادة الجماعة الإسلامية، وانما تحولت الى مشروع فكري جديد صار يبشر به هؤلاء، ويدعون اليه اتباعهم في داخل السجون وخارجها.
من المبالغة القول إن صفحة العنف طويت في مصر بعد الذي جرى، ذلك ان موقف قادة حركة الجهاد، التي التزمت بنهج العنف من البداية، لا يزال غامضاً. كما أن من يسمون بقيادات الخارج اختلفوا مع قيادات الداخل في الموضوع، لأسباب مفهومة يطول شرحها. مع ذلك فالقدر المتيقن ان التحول الفكري حدث بين قيادات الجماعة الإسلامية، التي تعد أقوى الجماعات «المتطرفة» في مصر، والمعروف بأنها أكبر حجماً وأثقل وزناً من جماعة الجهاد.
لقد كنت أحد الذين ألحوا طيلة السنوات التي مضت على الدعوة الى وقف العنف، غير أن القلق لم يتوقف عندي حين وجدت ان قادة الجماعة الإسلامية اختاروا ان يعدلوا عن ذلك الطريق، ذلك ان السؤال الكبير الذي يشغلني الآن هو: ماذا بعد؟
ـ وفي ندوة عقدت بالقاهرة مؤخراً تطرق الحديث الى ما سجلته مجلة المصور من تطورات خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وحين جاء عليّ الدور في الكلام قلت ان هؤلاء اذا ما كانوا قد عدلوا عن العنف، واختاروا ان يشاركوا في العمل العام ملتزمين بهدف التغيير السلمي من خلال قنوات العمل السياسي المتاحة، واذا ما اكتشفوا انسداد تلك القنوات فان المشكلة ستكون أكبر، والصدى ربما صار أخطر، حيث يخشى في هذه الحالة ان «يرتدوا» مرة أخرى الى العنف. وعند الحد الأدنى فان أولئك القادة سوف يفقدون ثقة اتباعهم، ولربما كان قد استخدم ذلك لتصديق ما يشاع الآن من أن الأمر كله مرتب مع أجهزة الأمن لتفكيك الجماعة وهدم بنائها الفكري، تمهيداً لاخراجها من ساحة العمل العام، ومن ثم لانهاء وجودها الى الأبد.
ما أريد أن أقوله إن عدول الجماعة عن فكرة العنف منعطف مهم للغاية، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون نهاية الطريق وانما لا يعدو ان يكون مجرد شوط فيه، حيث من الضروري ان تتوفر بالتوازي مع ذلك الأدعية التي تسمح باستقطاب جهد هؤلاء، وتوفر لهم البديل الذي يسمح لهم بالمشاركة في اطار القانون والدستور، وتلك مسؤولية أهل السياسة بالدرجة الأولى، التي كنت قد أشرت إليها في مقالة بداية العام.
ان شيوخنا درجوا على القول إن تحريم الحرام لا يحقق المراد منه الا بتيسير الحلال، وهو ما ينطبق على ما نحن بصدده الآن، لأننا اذا ما طلبنا من الشباب ان يتحولوا من العنف الى السياسة، فينبغي ان تكون هناك سياسة أصلا، واذا ما غابت السياسة فان الأمر في هذه الحالة يتجاوز حدود مشكلة جماعة بذاتها ليصبح محنة مجتمع بأسره.
المصدر
- مقال:لكي تنجح جهود وقف العنفموقع:الشبكة الدعوية