لا تحولوا عذابات البارد إلى سلعة سياسية
بقلم : راضي رحيم
تشهد العاصمة اللبنانية، بيروت، جدالاً صاخباً حول مستقبل المخيمات الفلسطينية بعد الانتهاء من معركة نهر البارد، والقضاء على عصابة العبسي وشركاه. فبعد أن كانت حكومة فؤاد السنيورة تسرب مواقفها، إزاء مستقبل أوضاع المخيمات، بالتقسيط، بانتظار ما سوف تسفر عنه معركة البارد، اتخذت في اليومين الأخيرين مواقف أكثر وضوحاً مستندة في ذلك إلى أن معركة البارد باتت في أيامها الأخيرة، وأن الجيش اللبناني تجاوز نقطة اللاعودة، وأن الخيار الوحيد الذي بات ممكناً بين يديه هو الحسم العسكري، والقضاء على عصابة العبسي، مهما كلف ذلك من تضحيات بين صفوف العسكريين.
علماً أن القرار اللبناني بالحسم جاء عن خلفية عدد من التطورات من بينها افتقار الفلسطينيين إلى الاتفاق على وظيفة القوة العسكرية الفلسطينية التي كان مقرراً أن تدخل مخيم البارد.
فحركة فتح وحسب رأي رئيس ممثلية م.ت.ف. وعضو اللجنة المركزية للحركة عباس زكي أرادتها قوة للحسم العسكري مع عصابة العبسي، بينما، أرادتها باقي الفصائل، ومواقع سياسية متباينة، قوة تنتشر في مربع أمني داخل المخيم، يلجأ إليه السكان المدنيون، ويمنع على مسلحي العبسي الاقتراب منه.
والهدف من المربع الأمني، كان آنذاك، الحفاظ على منطقة من المخيم، سالمة، لا تتعرض للقصف والتدمير، وتشكل نقطة انطلاق لإعادة إعمار المخيم، والحفاظ على نسيجه الاجتماعي، بعد الفراغ من معالجة ظاهرة العبسي ومسلحيه.
إذن، قرار الحسم العسكري، كان في جوهره قراراً سياسياً، إذ أوضح المسؤولون اللبنانيون، في سياقه، أن الوضع في نهر البارد، وبعد الحسم، لن يعود إلى ما كان عليه، قبل المعركة.
والمقصود هنا، ليس بالطبع ظاهرة العبسي إلى المخيم، بل المقصود، وبوضوح شديد، إلغاء الإدارة الذاتية للمخيم، وإعادة إخضاع المخيم للسلطة اللبنانية المباشرة، ولسان حال الحكومة يقول إن من ينهي ظاهرة العبسي، يفوز بالمخيم ويسيطر عليه.
وبما أن الفصائل «تقاعست» عن أداء دورها ـ يقول لسان الحكومة ـ فمن الطبيعي أن تقصى من لعب أي دور لها في إدارة المخيم بعد الفراغ من الحسم العسكري والقضاء على ظاهرة العبسي.
ثم ما لبث النقاش أن تطور، ليمتد خارج المخيم.
فصار الحديث عن نهر البارد ليس باعتباره حالة خاصة، بل باعتباره سيشكل نموذجاً لما سوف تكون عليه بقية المخيمات الفلسطينية في لبنان .
ليس على صعيد الإعمار، أي تحويل مساكنه الرثة إلى أبراج وبنايات فخمة، كما وعد المسؤولون اللبنانيون في محادثاتهم مع الفلسطينيين، بل على صعيد الإدارة الذاتية لباقي المخيمات.
أي أن الصيغة التي سوف يخضع لها مخيم نهر البارد، تحت إشراف القوى الأمنية اللبنانية مباشرة، سوف تخضع لها بقية المخيمات.
وما كان يقال همساً، وأحياناًَ بشكل غامض، أخذ رئيس الفريق اللبناني إلى الحوار مع الفلسطينيين السفير خليل مكاوي، يتحدث عنه علناً وبوضوح، خاصة في زيارته إلى البطاركة في لبنان، إذ أخذ يتحدث عن ضرورة المباشرة في تنظيم أوضاع السلاح في المخيمات الفلسطينية كواحدة من استحقاقات معارك نهر البارد.
ويستند الجانب اللبناني في موقفه هذا، بشأن السلاح في المخيمات، إلى الحوار اللبناني ـ اللبناني الذي دار بين القوى السياسية المختلفة في بيروت العام الماضي، وإلى أن الجميع أجمع على مسألة تنظيم السلاح الفلسطيني في المخيمات، كما أجمع على إنهاء المظاهر المسلحة في المواقع الفلسطينية خارج المخيمات.
ولعل البعض أراد لقضية سلاح المخيمات أن تتحول إلى قضية رئيسية، بل ربما إلى القضية الرئيسية في العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية مستغلاً المعركة الدائرة في زواريب نهر البارد وعلى تخومه، وما يقدمه الجيش اللبناني من خسائر، وكأن حسم ومنع السلاح في المخيمات، هو الثمن الواجب على الفلسطينيين أن يقدموه، مقابل تضحيات قوى الجيش اللبناني، وخسائرها البشرية.
الأمر الواجب التأكيد عليه، في هذا السياق، هو أن تضحيات الجيش اللبناني، يجب ألا تتحول إلى مادة استهلاكية في السياسات المحلية، وألا تتحول إلى سلعة سياسية للمقايضة بينها وبين سلعة سياسية أخرى.
فالجيش اللبناني، حين التزم قراراً سياسياً، بضرورة إنهاء ظاهرة العبسي، نأى بنفسه عن التجاذبات اللبنانية الداخلية، ويخطئ رجال السياسة اللبنانيون إن هم حاولوا أن يزجوا بتداعيات البارد، في لعبتهم المحلية.
كذلك من الواجب القول إن سكان نهر البارد، ضحوا هم أيضاً إلى جانب الجيش اللبناني.
فهم، كانوا أولاً، ضحية لمعركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فعصابات العبسي غريبة عن النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وأجندة عملها السياسية، غريبة عن أجندة الحركة الوطنية الفلسطينية السياسية، إن على الصعيد الوطني، أو على الصعيد الفلسطيني ـ اللبناني.
كذلك دفع سكان نهر البارد غالياً ثمن الزج بمخيمهم في المعركة فقد سقط من بين صفوفهم حوالي 30 شهيداً وحوالي 170 جريحاً وهم يبحثون عن الأمان من المعارك في مساكنهم الرثة داخل المخيم.
كذلك دفع سكان البارد غالياً ثمن الزج بمخيمهم في المعركة من خلال التهجير الجماعي الذي أصابهم.
فخرجوا عراة حفاة من المخيم إلى البداوي وباقي المناطق في لبنان، خلفوا وراءهم ما يملكون من منازل وأثاث وملابس ومحلات تجارية ودكاكين ومؤسسات خاصة.
ولا يعرف معاناة الهجرة والنزوح إلى من جرب هذه الحالة الاجتماعية شديدة القسوة.
يزيد من معاناتهم أن مخيمهم قد دمر دماراً كاملاً، وأن عودتهم إليه باتت في عالم المجهول، وأن تهجيرهم سوف يطول أكثر مما كانوا يتوقعون بكل ما في هذا من آلام وأوجاع وانهيارات اجتماعية ونفسية وعائلية واقتصادية.
يزيد من الآلام أن بعض وسائل الإعلام، لعبت دوراً غير نظيف في تحريض سكان المناطق اللبنانية المجاورة لمخيم نهر البارد، والتي طالها قصف صواريخ عصابة العبسي.
كما لعبت دوراً غير نظيف في تحريض أهالي العسكريين الذين قضوا في معارك البارد وطرابلس، وكأن الفلسطينيين من أبناء المخيم هم الذين تسببوا بكل هذا الضرر للبنانيين، علماًَ أن القوى السياسية الفلسطينية على اختلاف اتجاهاتها، وأن أهالي البارد والبداوي، كانوا جميعاً حريصين إلى أبعد حدود الحرص على التأكيد أن لا علاقة لهم بعصابات العبسي، وأن الحالة الفلسطينية هي واحدة من ضحايا هذه الظاهرة المرفوضة جملةً وتفصيلاً.
وبالعودة إلى السلاح الفلسطيني داخل المخيمات، فإن القوى الفلسطينية كانت واضحة على اختلاف اتجاهاتها، في موقفها من هذه القضية. إذ سبق لها وأن أوضحت استعدادها، بل رغبتها في تنظيم كل جوانب العلاقة اللبنانية ـ الفلسطينية، بما يضمن ويؤكد سيادة لبنان على أراضيه كاملة، ويضمن في الوقت نفسه الحقوق المدنية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين ويعزز قدرتهم على النضال لأجل حقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها، والتصدي لكل مشاريع التوطين وإعادة التهجير.
ويرى الفلسطينيون بالمقابل أن إثارة السلاح الفلسطيني دون غيره، واجتزاءه من ملف العلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية بهذا الشكل التعسفي، إنما هي محاولة للقفز عن الواقع الحقيقي لأوضاع اللاجئين، وأوضاع المخيمات، وإعادة تقديمها على أنها جزر أمنية تحتاج إلى معالجات أمنية بحتة.
علماً أن الوقائع التي تلمسها حكومة السنيورة، حين قام وزراء منها بزيارة المخيمات، أكدت أن المخيمات هي جزر بؤس، أهملها المجتمع الدولي، كما أهملتها الدولة اللبنانية نفسها، بذرائع مختلفة، من بينها أن وكالة الغوث وحدها هي المعنية بتلبية احتياجات المخيمات.
وقد تجاهلت الدولة اللبنانية في هذا السياق، أن تجاهلها للحقوق الاجتماعية والإنسانية للاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك حق العمل، وامتلاك عقار، وغير ذلك ساهم في تعميق مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وتعميق حالة البؤس والحرمان التي يعيشونها،
لذلك يبدو عادلاً ومحقاً وطبيعياً أن يتوجس الفلسطينيون من عدد من التصريحات على لسان بعض المسؤولين اللبنانيين، لأنها جاءت في الوقت الخاطئ وغير المناسب، فضلاً عن كونها خالفت روح التفاهم المبدئي الذي ساد المباحثات الفلسطينية مع الرئيس السنيورة في لقاءات سابقة.
كذلك يبدو محقاً أن يتخوف الفلسطينيون من الزج بقضية العلاقات اللبنانية ـ الفلسطينية في زواريب التجاذبات اللبنانية الداخلية عشية الاستحقاقات الدستورية التي سيواجهها لبنان، والتي لا يرى الفلسطينيون أنهم معنيون بها إلا بقدر حرصهم على وحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات وعلى تجاوزه استحقاقاته السياسية، على مختلف مستوياتها، بنجاح وهدوء.
المصدر
- مقال:لا تحولوا عذابات البارد إلى سلعة سياسيةالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات